المجلد التاسع - ثم دخلت سنة خمسين وأربعين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة خمسين وأربعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر بناء الماحوزة

ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجدّ في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها - فيما قيل - أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم؛ وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصراً سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمي يكون شرباً لما حولها من فوهة النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدّر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصيّر النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه؛ فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب؛ حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر.

وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر؛ فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن.

وبعث ملك الروم فيها بأسى من المسلمين؛ وبعث يسأل المفاداة بمن عنده؛ وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولاً إلى المتوكل شيخاً يدعى أطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلاً من أسرى المسلمين، أهداهم ميخائيل بن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم. ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين.

وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلفاً كثيراً، وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمعوا أصواتاً هائلة لا يحسنون وصفها من كوى المنازل، وهرب ألها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر؛ فهاج البحر في ذلك اليوم؛ وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب.

وسمع فيها - فيما قيل - أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير.

وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة وأذنة وسواحل الشأم. ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.

وفيها غارت مشاش - عين مكة - حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهماً، فبعثت أم المتوكل فأنفقت عليها.

وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازي.

ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمة

وفيها هلك نجاح بن سلمة.

ذكر الخبر عن سبب هلاكه حدّثني الحارث بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره؛ أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري؛ وكان على الضياع؛ فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه؛ ولا يقدرون على منعه من شيء يريده؛ وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل؛ وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج؛ فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرّا فيما هما بسبيله؛ وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم؛ فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح؛ خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غداً حتى أدفعهما إليك؛ فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى؛ فغذا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل؛ فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر؛ وأنا أشير عليك بأمرٍ لك فيه صلاح؛ قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما؛ وتكتب رقعة تذكر فيها أنك شارباً، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين؛ فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قال البارحة؛ وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا؛ فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريباً مما ضمن لك عنهما.

فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما؛ فانصرفا به؛ وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاّ، فوجد البرد، فقال: ويحك يا حسن! قد وجدت البرد؛ فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب - وكان انقطاعه إلى نجاح - فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بفبض ذلك كله، وضرب مراراً بالمقارع في غير موضع الضرب نحواً من مائتي مقرعة، وغُمز وخُنق، خنقه موسى الفران والمعلوف.

فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات؛ فأصبح ميتاً يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلاً؛ وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحواً من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقرّ عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار - وقيل عشرين ألف دينار.

وكان ابنه أحمد ابن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد؛ وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار. وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا.

وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وكان عبيد الله متمكناً من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله؛ وإلى نجاح توقيع العامة - فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح - وكان في الندماء - يا أمير المؤمنين؛ أسمى لك قوماً تدفعهم إليّ حتى أستخرج لك منهم أموالاً تبني بها مدينتك هذه؛ إنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره. فقال له: سمّهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرّخانشاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء، وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى؛ وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفراً المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً؛ فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه، وقال له: اغد غدوةً، فلما أصبح لم يشك في ذلك. وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتباً ولا قائداً إلا أوقع بهم؛ فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح؛ فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إ دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان؛ ولكن اكتبانّ إلى أمير المؤمنين رقعة تقبّلان به فيها بألفي دينار؛ فكتبا رقعة بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله بن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والسحن بن مخلد؛ فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن؛ ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك؛ وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً؛ والناس جميعاً الخواص والعوام؛ وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح؛ للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد - وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد - أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلّف على ذلك، وقال: إنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً؛ حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً كما أخذ فضلاً. فحبس ونجّم عليه في ثلاثة أنجم؛ ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار. ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل - وكان أحد حجاب المتوكل - وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وُصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك؛ فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت. وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات. وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج - وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد - وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه؛ فكان المتوكل كثيراً ما يقول لهما كلما شرب: ردّوا علي كاتبي؛ وإلا فهاتوا المال؛ وضمّ توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح؛ فما أتى على ذلك إلا يسيراً حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري. وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق؛ فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعاً؛ فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه: خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجاً، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصيّر على ديوان الخراج أيضاً عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز؛ وكان أيضاً خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي:

ما كان يخشى نجاحٌ صولة الزمن         حتى أديل لموسى منه والحسـن

غدا على نعم الأحرار يسلبهـا         فراح وهو سليب المال والبدن

وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب.

غارة الروم على سميساط

وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحواً من خمسمائة.

وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوماً، فبعث ملك الروم إليهم بطريقاً يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلوة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة؛ وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور. وقيل إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم؛ وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين.

وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزيني؛ وهو والي مكة.

وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي:

إن يوم النيروز عاد إلى العه          د الذي كان سنه أردشـير