المجلد التاسع - ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته

ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته

ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعراً، وذكرت الرافضة فيه، فقعد لي على البحرين واليمامة، وخلع على أربع خلع في دار العامة، وخلع على المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعداً الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئاً؛ فجمعاها، فانصرفت بها.

قال: والشعر الذي قال فيه:

ملك الخليفة جعـفـر          للدين والدنـيا سـلامة
لكم تـراث مـحـمـدٍ            وبعدلكم تنفى الظلامه
يرجو التراث بنو البنـا          ت وما لهم فيها قلامه
والصهر ليس بـوارث           والبنت لا ترث الإمامة
ما للذين تـنـحـلـوا             ميراثكم إلا النـدامـه
أخذ الوارثة أهـلـهـا            فغلام لومكم علامـه!

لو كان حقـكـم لـمـا           قامت على الناس القيامة
ليس التراث لـغـيركـم         لا والإله ولا كـرامـه
أصبحت بين محـبـكـم        والمبغضين لكم علامـه

ثم نشر على رأسي - بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى - عشرة آلاف درهم وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة - مدحت فيها ابن أبي داود - إلى ابن أبي داود، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما:

وقيل لي الزيات لاقى حمامه        فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
لقد حفر الزيات بالغدر حفرة          فألقى فيها بالخيانة والغـدر

قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن داود ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هما باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين. قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال: ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامراً، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها:

رحل الشباب وليته لم يرحل       والشيب حل وليته لم يحلل

فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة:

كانت خلافة جعفر كنـبـوة           جاءت بلا طلبٍ ولا بتنحـل
وهب الإله له الخلافة مثل ما      وهب النبوة للنبي المرسـل

أمر له بخمسين ألف درهم.

وذكر عن أبي يحيى بن مروا بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاه العهود، وأنشدته:

سقى الله نجداً والسلام على نجـد         ويا حبذا نجدٌ على النأي والبعـدا
نظرت إلى نجدٍ وبغـداد دونـهـا                  لعلي أرى نجداً وهيهات من نجد!
ونجدُ بها قومٌ هـواهـم زيارتـي                ولا شئ أحلى من زيارتهم عندي

قال: فلما استتمت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوباً وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره:

تخير رب الناس جعفراً     فملكه أمر العباد تخيرا

قال: فلما صرت إلى هذا البيت:

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد        فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا

قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة؛ ذكر ابن المدير أهذا وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها. قال: فإني أقبّلكما في السنة مائة سنة قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدّي درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي. فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السّيوح.

وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظنّ أنه هارون، فكان الواثق؛ وكان يقول: وبعده أصفر الساقين؛ فكان يظن أنه أبو الحنائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه؛ فكانا أصفرين؛ كأنما صبغا بزعفران.

وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولاً كثيراً؛ لم يقع بموافقة بعض من حضر؛ فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وحشة إلى فعل أحد؛ ولا مع البيان والإفهام حجّة لتعلّم، ولا بعد الجحود للبرهان والحقّ إلا السيف لظهور الحجة. فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه؛ فإن المعتصم باللّه يرحمه اللّه كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللّهم إني أحمدك على النّعم التي لا يحصيها أحدٌ غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك. قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئاً أوبشّر بشيء، فقد كان المعتصم باللّه أمر عليّ بن يزداد أن يكتبه لنا؛ فكتبه فعلّمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إنّ ذكر آلاء اللّه ونشرها نعمه والحديث بها فرض من اللّه على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكرٌ له عليها؛ فالحمد اللّه العظيم الآلاء، السابغ النّعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترداف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه. فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كلّه حكم من ذي حنكة وعلم؛ وانقضى المجلس.

وقدم في هذه السنة محمد بن عبد اللّه بن طاهر بغداد منصرفاً من مكة في صفر؛ فشكا ما ناله من الغمّ بما وقع من الخلاف في يوم النّحر؛ فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشّمع مكان الّزيت والنفط.

وفيها ماتتّ أم المتوكل بالجعفرية لستّ خلون من شهر ربيع الآخر وصلّى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع.

خلافة المنتصر محمد بن جعفر وفيها بويع المنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال - وقيل لثلاث خلون منه - وهو ابن خمس وعشرين سنة. وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحّل منه بعياله وقوّاده وجنوده إلى سامرّا.

وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لمّا كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفريّة من القّواد والكتّاب والوجوه والشاكريّة والجند وغيرهم؛ فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتاباً يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر؛ أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفراً المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف.

وذكر عن أبي عثمان سعيد الضغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدّار مع المنتصر؛ فكان كلّما خرج الفتح خرج معه، وكلّما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره؛ وكلّما ركب أخذ بركابه، وسوّى عليه ثيابه في سرج دابته؛ وكان اتّصل بنا الخبر أن عبيد اللّه بن يحيى قد أعدّ له قوماً في طريقه ليغتالوه عند انصرافه؛ وقد كان المتوكل أسمعه وأحفظه قبل إنصرافه، ووثب به؛ فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلّما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصّته - وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ - قال: فلم ألبث أن جاءني الرّسول: أن احضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير؛ وهو على الركوبح فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر؛ وأنه إنما يدعي لذلك؛ فركبت في سلاح وعدّة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون؛ وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب؛ فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إنّ أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه اللّه. فأكبرت ذلك، وشقّ عليّ ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القّواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكّل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلّمت عليه بالخلافة، وقلت: لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشّفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال: أجل؛ فكن أنت من ورائي وسليمان الروميّ. وألقى منديلٌ، فجلس عليهن وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة. فذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم؛ وكلمات. وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكلّ من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتزّ حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك؛ حتى يجتمع الناس. قال أحمد بن الخطيب: ها هنا من يكفيك، فامض؛ فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي؛ فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان؛ فلما صرت إلى باب أبي نوح، والناس يموجون ويذهبون ويحيئون؛ وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم؛ فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟ فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحداً من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقاً من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقاً عنيفاً مفرطاً، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير؛ رسول أمير المؤمنين المنتصر؛ فمضى الرسول، وأبطأ علي: وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض. ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج؛ وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته؛ وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة. فدخل ثم خرج إلي؛ فقال: ادخل، فدخلت على المعتز؛ فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت أفتله في الحبل والغارب؛ ويعينني عليه بيدون الخادم حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقاً غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت هو يأخذ البيعة على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ؛ وإذا بفارس قد لحق بنا؛ وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه؛ فصاح به بيدون؛ فمضى ثم رجع ثلاثاً؛ كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا؛ حتى وافينا باب الخير فاستفتحه فقيل له؛ من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر؛ فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه؛ ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير، ففعل به مثل ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري. فأمر بدفن المتوكل والفتح وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار؛ حتى وهب لي عشرة آلاف درهم.

وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.

وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر.

بسم الله الرحمن الرحيم، تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرّي عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة اللّه وتقواه، وإعزاز دين اللّه وحقه، ومن عموم صلاح عباد اللّه، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمنن العواقب، وعزّ الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن محمداً الإمام المنتصر باللّه عبد اللّه وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكوّن ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون؛ وعلى السّمع له، والطاعة والمسالمة، والنّصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كلّ كل ما يأمر به عبد اللّه الإمام المنتصر باللّه أمير المؤمنين؛ وعلى أنّكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه؛ من خاصٍ وعامً، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمّة العهد؛ سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم؛ راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم. وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديد بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم؛ صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم؛ وعلى ألاّ تسعوا في نقض شيء مما أكد اللّه عليكم، وعلى ألاّ يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألاّ تبدذلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيّته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع اللّه من قلوبكم على اجتنابها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمتّه بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأوّل؛ حتى تلقوا اللّه، موفين بعهده، ومؤدّين حقّه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين إنما يبايعون اللّه؛ يد اللّه فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجراً عظيماً.

عليكم بذلك وبما أكّدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم؛ وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح؛ وعليكم عهد اللّه؛ إنّ عهده كان مسئولاً؛ وذمّة رسوله. وأشدّ ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكّد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة، ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم عليه تمسّك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم؛ لا يلفتكم عن ذلك هوىً ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدىً؛ باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدّمين فيه حقّ الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم؛ لا يقبل اللّه في هذه البيعة إلا الوفاء بها.

فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكدّ عليه مسرّاً أو معلناً، أو مصرّحاً أو محتالاً؛ فادّهن فيما أعطى اللّه من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود اللّه عليه؛ مستعملاً في ذلك الهوينى دون الجدّ، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم؛ فكلّ ما يملك كلّ واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقةٌ على المساكين في وجوه سبيل اللّه، محرمٌ عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدّمها لنفسه، أو يحتال بها. وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيّتهن، ويأتي عليه أجله؛ وكلّ مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه اللّه؛ ونساؤه في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهنّ إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة؛ لا مثنويّة فيه ولا رجعة. وعليه المشي إلى بيت اللّه الحرام ورسوله منه بريئان؛ ولا قبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً؛ واللّه عليكم بذلك شهيد، وكفى باللّه شهيداً.

وذكر أنه لمّا صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة - وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرّاً - بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكريّة بباب العامة بالجعفريذ وغيرهم من الغوغاء والعوامّ، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضاً، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتّاب بن عتّاب - وقيل: إنّ الذي خرج إليهم زرافة- فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون فأسمعوه؛ فدخل إلى المنتصر فأخبره؛ فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم؛ فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض؛ ثم تفرّقوا عن عدّة ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة.

وفيها ولّى المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد - مولى بن هاشم، بعد البيعة له بيوم - المظالم، فقال قائل:

يا ضيعة الإسلام لمّا ولى       مظالم الناس أبو عمره

صيّر مأموناً علـى أمةٍ            وليس مأموناً على بعره

وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر عليّ بن المعتصم من سامرّا إلى بغداد ووكل به.

وحجّ بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبيّ.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر غزاة وصيف التركيّ الروم

فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفاً التركي صائفة أرض الروم.

ذكر الخبر عن سبب ذلك، وما كان في ذلك من وصيف: ذكر أنّ السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض؛ فلمّا استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرّض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازياً إلى الثّغر؛ فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو.

وقد ذكر عن المنتصر أنه لمّا عزم على أن يغزي وصيفاً الثغر الشأميّ، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفاً بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار؛ فأذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه! فإما شخصت وإما شخصت؛ فقال وصيف: بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد؛ انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما تعم! قم الساعة لذلك؛ يا وصيف مركاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه. فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح.

وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفاً وأمره بالغزو، قال له، إن الطاغية - يعني ملك الروم - قد تحرك، ولست آمنة أن يهلك كل ما يمر به من بلاد الإسلام، ويقتل ويسبى الذراري؛ فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك. وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال؛ فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل؛ فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان؛ أخو الفتح بن خاقان؛ وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي؛ واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته؛ وكان على الشرطة بسامراً.

وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفاً مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتاباً نسخته: بسم الرحمن الرحيم: من عبد الله محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين.

سلام عليك؛ فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله. أما بعد: فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلاً نهجياً إلى رحمته، وسبباً إلى مذخور كرامته؛ فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها؛ وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه وأنجحها وسيلة إليه؛ لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل آمراً بالجهاد، ومفترضاً له: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" وليست تمضى بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصباً ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدواً، ولا يقطع بلداً، ولا يطأ أرضاً؛ إلا وله بذلك أمر مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: "ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالحٌ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون" ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً" فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمناً لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها؛ وعداً منه حقاً لا ريب فيه وحكماً عدلاً لا تبديل له، قال الله عز وجل: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون" وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة؛ لأن أهله بذلوا لله أنفسهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو.

وقد رأى أمير المؤمنين - لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته - أن ينهض وصيفاً مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازياً لما عرّف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربة من الله ومن خليفته.

وقد رأى أمير المؤمنين - والله ولي معونته وتوفيقه - أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز؛ فاعلم ذلك واكتب إلى أعمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا؛ ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والحفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وصير على ما ذكرناه على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي.

وكتب معه المنتصر كتاباً إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأيته رأى أمير المؤمنين.