ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر قتل باغر التركي
فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الضغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي.
ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع؛ فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي - رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك - بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيّد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا؛ فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال؛ لمكانه من بغا. وكان ابن مارمة صديقاً لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة؛ وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الأتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره.
فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بدّ ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى أصير مكانه إنساناً، وشأنك به. ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب؛ وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلاً؛ فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين الدليل وباغر، وباغر يتهدد دليلاً بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه؛ فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلاً، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك؛ وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك؛ فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني؛ وإنما باغر عبدٌ من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك. فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له أنه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه؛ ويخلع عليه، ويُجلس في الدار مجلس بغا ووصيف - وهما يسميان الأميرين - ودافعوه بذلك. وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم؛ فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال: الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفاً، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء؛ فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين. فبعث إلى بغا ووصيف؛ وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة؛ وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم نريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر.
وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكّر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه؛ فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا.
فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضراً دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعُطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود؛ فامتنع عليهم؛ فحبسوه في الحمام؛ وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إسطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح؛ فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة؛ فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه؛ فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعاً، وتراكض الناس يومهم - وهو يوم الثلاثاء وليلته - بالسلاح جائين وذاهبين؛ فقال لهم وصيف: ترفقوا حتى تنظروا؛ فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه. فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى عملوا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد؛ وقد كان وصيف أعطى قوماً من المغاربة فرساناً ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور؛ وقد كان عدةٌ من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا.
فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد - وكان أحد خلفاء وصف من الأتراك - أنه كان المتولى مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين؛ فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك إلى دور دليل بن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه؛ فانتبهوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات؛ وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب؛ ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها؛ من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار؛ لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
لعمري لئن قتلـوا بـاغـراً
لقد هاج باغر حرباً طحونـا
وفرّ الـخـلـيفة والـقـائدا
ن بالليل يلتسمان السـفـينـا
وصاحوا بميسان مـلاحـهـم
فجاءهم يسبق النـاظـرينـا
فألزمـهـم بـطـن حـراقةٍ
وصرت مجاذيفهم سـائرينـا
وما كان قـدر ابـن مـارمةٍ
فتسكب فيه الحروب الزبونا
ولكن دليلٌ سـعـى سـعـيةً
فأخزى الإله بها العالمـينـا
فحل ببغداد قبـل الـشـروق
فحل بها منه ما يكرهـونـا
فليت السفـينة لـم تـأتـنـا
وغرقها الله والـراكـبـينـا
وأقبلت الترك والمغـربـون
وجاء الفراغنة الدارعـونـا
تسير كراديسهم في السـلاح
يروحون خيلاً ورجلاً ثبينـا
فقام بـحـربـهـم عـالـمٌ
بأمر الحروب تولاه حـينـا
فجدد سوراً على الـجـانـب
ين حتى أحاطهم أجمعـينـا
وأحكم أبوابها المصـمـتـات
على السور بها المستعـينـا
وهيا مـجـانـيق خـطـارةً تفيت
النفوس وتحمي العرينا
وعبى فـروضـاً وجـيشـية ألوف
ألوفٍ إذ تحسـبـونـا
وعبى المجانيق مـنـظـومةً
على السور حتى أغار العيونا
فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له، ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل: لئن عقرك القيد؛ لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة. ومات ابن مارمة في تلك الأيام؛ فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
ما زال إلا لزوال ملكه وحتفه من بعده وهلكه
ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحاً قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار إلا سراً أو بمؤنة ثقيلة.