المجلد التاسع - ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة

ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة

ذكر أن أبا الساج وإسماعيل بن فراشة ويحيى بن حفص، لما خلع عليهم للشخوص نحو المدائن، وعسكروا بسوق الثلاثاء؛ فلما كان يوم الأحد لعشر بقين من شعر ربيع الأول، حمل رجالته على البغال، وصار إلى المدائن ثم إلى الصيادة؛ وابتدأ في حفر خندق المدائن - وهو خندق كسرى - وكتب يستمد؛ فوجه إليه خمسمائة رجل من رجالة الجيشية؛ وكتان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل، ثم استمده فأمده، فحصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل، ثم أمد بمائتي راجل من الشاكرية القدماء، وحملوا في السفن، وانحدروا إليه يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة.

ذكر الخبر عن أمر الأنبار وما كان فيها من هذه الفتنة فمما كان بها أن محمد بن عبد الله وجه بحونة بن قيس في الأعراب إلى الأنبار، وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، ففرض قوماً منهم ومن المشبهة بهم نحواً من ألفي رجل؛ فأقام بالأنبار وضبطها؛ فبلغه أن قوماً من الأتراك قد قصدوه، فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار، فامتلأ الخدق لزيادة الماء، وفاض على ما يليه من الصحارى؛ فصار الماء إلى السالحين فصار ما يلي الأنبار بطيحة واحدةً، وقطع القناطر التي توصل إلى الأنبار؛ وكتب يستمد. فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين، وضم إليه ممن كان معه من رجاله تتمة ألف رجل، خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، فشخص وعسكر في قصر عبدويه، وأمده ابن طاهر بثلثمائة راجل من الملطيين القادمين من الثغور، وانتخبوا، ودفع إليهم استحقاقهم، ونفذوا إليه يوم الثلاثاء. ورحل من قصر عبدويه يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر في نحو من ألف وخمسمائة رجل، وأخرج المعتز أبا نصر بن بغا من سامرا على طريق الإسحاقي يوم الثلاثاء، فسار يومه وليلته، فصبح الأنبار ساعة نزلها رشيه بن كاوس.

وكان بخونة نازلاً في المدينة ورشيد خارجها فلما وافى أبو نصر عاجل رشيداً وأصحابه وهم غارون على غير تعبية، فوضع أصحابه فيهم السيف، ورموهم بالنشاب فقتلوه عدة، وثار بعض أصحاب رشيد إلى أسلحتهم، فقاتلوا الأتراك والمغاربة قتالاً شديداً وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا به منصرفين إلى بغداد.

ولما بلغ بحونة ما لقيه أصحاب الرشيد، وأن الأتراك قد مالوا عند انهزام رشيد إلى الأنبار عبر إلى الجانب الغربي، وقطع جسر الأنبار وعبر معه جماعة من أصحابه، وصار الرشيد إلى المحول في ليلته، وسار بحونة في الجانب الغربي حتى وافى بغداد يوم الخميس بالعشى، ثم دخل رشيد في هذه العشية إلى دار ابن طاهر، فأعلم بحونة محمد بن عبد الله أنه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجه إلى رشيد يسأله أن يوجه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتبهم قدام أصحابه، فامتنع من ذلك، وسأله أن يضم إليه ناشبة من الفرسان والرجالة ليصير إلى بني عمه، وذكر أنهم مقيمون هنالك في الجانب الغربي على الطاعة وانتظار أمير المؤمنين، وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضم إليه ثلثمائة رجل من فرسان الشاكرية الناشبة ورجالتهم وخلع عليه خمس خلع، ومضى إلى قصر ابن هبيرة يستعد هنالك.

ثم اختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار، ووجه محمد بن رجاء الحضاري معه وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس ومحمد بن يحيى وجماعة من الناس، وأمر بإخراج المال لم يخرج مع الحسين ومع هؤلاء القوم؛ فامتنع من كان قدم من ملطية من الشاكرية وهم عظم الناس من قبض رزق أربعة أشهر؛ لأن أكثرهم كان بغير دواب، وقالوا: نحتاج إلى أن نقوى في أنفسنا، ونشتري الدواب. وكان الذي أطلق لهم أربعة آلاف دينار، ثم رضوا بقبض أربعة أشهر؛ فجلس الحسين في مجلس على باب محمد بن عبد الله، وتقدم في تصحيح الجرائد، ليكون عرضه الناس وأصحابه في مدينة أبي جعفر، فأعطى في ذلك اليوم جماعة من خاصته ثم صار الحسين وأصحاب الدواوين بعد ذلك إلى مدينة أبي جعفر، ووضع العطاء لمن يخرج معه من الجند في ثلاثة مجالس؛ واستم إعطاؤهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى.

فلما كان يوم الاثنين أحضر الحسين بن إسماعيل الدار ومعه القواد الخارجون معه: رشيد بن كاوس، ومحمد بن رجاء، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وأرمش الفرغاني، ومحمد بن يعقوب أخو حزام، ويوسف بن منصور بن يوسف البرم، والحسين بن علي بن يحيى الأرمني، والفضل بن محمد بن الفضل، ومحمد بن هرثمة بن النصر، وخلع على الحسين؛ وقدمت مرتبته إلى الفوج الثاني - وكان في الفوج الرابع - وخلع على هؤلاء القواد، وصير رشيد بن كاوس على المقدمة، ومحمد بن رجاء على الساقة، ومضى الحسين ومن ضم إليه من عشيرته وقواده إلى معسكرهم، وأمر وصيف وبغا أن يسبقا الحسين إلى معسكره، وشيعته عبيد الله وجميع قواد ابن طاهر وكتابه وبنو هاشم والوجوه إلى الياسرية، وأخرج لأهل العسكر من المال ستة وثلاثون ألف دينار، تمام استحقاقهم.
فلما كان يوم الخميس سارت مقدمة الحسين والمقلد لها عبد الله بن نصر ومحمد بن يعقوب في ألف فارس، فنزلوا البثق المعروف بالقاطونة؛ وكان الأتراك قد وجهوا إلى المنصورية على خمسة فراسخ من بغداد جماعة منهم ومن المغاربة والغوغاء زهاء مائة إنسان، فظفر بسبعة من المغاربة، فوجه بهم إلى الحسين، فأنفذهم إلى الباب، وسار الحسين يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى. وقد كان أهل الأنبار حين تنحى بحونة ورشيد، وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا الأمان؛ فأعطوه وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوق فيها والانتشار في أمورهم، واطمأنوا إلى ذلك منهم وسكنوا، وطمعوا فيهم أن بفوالهم؛ فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا، وكان في وقت غلبتهم عليها وافتهم سفن من الرقة فيها دقيق وأطواف فيها زيت وغير ذلك؛ فأخذوه وجمعوا ما وجدوا فيها من إبل ودواب وبغال وحمير، ووجهوا بذلك مع من يؤديه إلى منازلهم بسامراً، وانتهبوا ما وجدوا، ووجهوا برءوس من قتل من أصحاب رشيد وبحونة وأهل بغداد وبمن أسروا وكانوا مائة وعشرين رجلاً.

والرءوس سبعون رأساً، وجعلوا في الجوالقات، قد أخرجوا منها رءوسهم حتى صاروا إلى سامرا، وصار الأتراك إلى فم الأستانة، وحاولوا سدها ليقطعوا ماء الفرات عن بغداد؛ فوجهوا رجلاً، ودفعوا إليه مالاً لآلة السكر وسده مع القلوس والصواري، ففطن به ويبتاع ذلك، فحمل إلى دار ابن طاهر بعد أن نالته العامة بالضرب والشتم؛ حتى أشفى على الموت، فسئل عن أمره فصدق، فوجه به إلى الحبس.

وكان ابن طاهر قد وجه الحارث خليفة أبي الساج؛ فكان على طريق مكة إلى قصر ابن هبيرة، وضم إليه خمسمائة رجل من فرسان الشاكرية القادمين معه؛ فنفذ ومن معه لسبع خلون من جمادى الأولى، ووجه ابن أبي دلف هشام بن القاسم في مائتي راجل وفارس إلى السيبين، ليقيم هناك؛ فلما توجه الحسين إلى الأنبار كُتب إليه باللحاق بعسكر الحسين ليصير معه إلى الأنبار، ونودي ببغداد في أصحاب الحسين ومزاحم بن خاقان أن يلحقوا بقوادهم. فسار الحسين، وتقدم خالد بن عمران حتى نزل دمما؛ فأراد أن يعقد على نهر أنق جسراً ليعبر عليه أصحابه، فمانعه الأتراك، فهبر إليهم جماعة من الرجالة فكشفوهم، وعقد خالد الجسر، فعبر هو وأصحابه، وصار الحسين إلى دمما، فعسكر خارجها، وأقام في معسكره يوماً، ووافته طلائع الأتراك مما يلي نهر أنق ونهر رفيل فوق قرية دمما، فصف الحسين أصحابه من جانب النهر والأتراك من الجانب الآخر، وهم زهاء ألف رجل، وتراشقوا بالسهام؛ فجرح بينهم عداد، وانصرف الأتراك إلى الأنبار.

وكان بحونة مقيماً بقصر ابن هبيرة، فانضم إلى الحسين في جميع من كان معه من الأعراب وغيرهم، وكتب بحونة يسأل مالاً لإعطاء أصحابه؛ فأمر أن يحمل إلى معسكر الحسين لإعطاء أصحاب بحون ثلاثة آلاف دينار، وحمل إلى الحسين مال وأطواق وأسورة وجوائز لمن أبلى في الحرب، وكان الحسين وُعد أن يمد بالرجال حتى يكمل عسكره عشرة آلاف رجل، فكتب ينتجز ذلك؛ فأمر بتوجيه أبي السنا محمد بن عبدوس الغنوي والجحاف بن سواد في ألف فارس وراجل من المكليين وجند انتخبوا من قيادات شتى، فقبضوا أنزالهم لليلتين بقيتا من جمادى. وساروا مع أبي السناء والجحاف على نهر كرخايا إلى المحول، ثم إلى دمما، ونزل الحسين بعسكره في موضع يعرف بالقطيعة واسع يحتمل العسكر. فأقام فيه يومه، ثم عزم على الراحلة منه إلى قرب الأنبار، فأشار عليه رشيد والقواد أن ينزل عسكره بهذا الموضع لسعته وحصانته، ويسير هو وقواده في خيلٍ جريدةً، فإن كان الأمر كان قادراً أن ينقل عسكره؛ وإن كان عليه انحاز إلى عسكره واجع عدوه؛ فلم يقبل الرأي، وحملهم على المسير من موضعهم، فساروا وبين الموضعين فرسخان أو نحوهما. فلما بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه، أمر الناس بالنزول؛ وكان جواسيس الأتراك في عسكر الحسين، فساروا إليهم، وأعلموهم رحلة الحسين، وضيق العسكر بالموضع الذي نزل فيه، فوافوهم والناس يحطون أثقالهم، فسار أهل العسكر، ونادوا السلاح، فصافوهم؛ فكانت بينهم قتلى من الفريقين، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفاً قبيحاً، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الفرات. وكان الأتراك قد كمنوا قوماً، فخرج الكمين عند ذلك على بقية العسكر؛ فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات. وغرق من أصحاب الحسين خلق كثير، وقُتل جماعة وأسر من الرجالة جماعة؛ وأما الفرسان فضربوا دوابهم هرباً لا يلوون على شيء، والقواد ينادونهم يسألونهم الرجعة، فلم يرجع منهم أحد، وأبلى محمد بن رجاء ورشيد يومئذ بلاء حسناً، ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد، فلم يملك القواد أمور أصحابهم، فأشفقوا حينئذ على أنفسهم، فانثنوا راجعين وراءهم، يحمونهم من أدبارهم أن يُتبعوا، وحوى الأتراك جميع عسكر الحسين بما فيه من المضارب وأثاث الجند وتجارات أهل السوق؛ وكان معه في السفن سلاح سليم؛ لأن الملاحين حرزوا سفنهم، فسلم ما كان معهم من السلاح ومن تجارات التجار.

وذكر عن ابن زنبور كاتب الحسين أنه أخذ للحسين اثنا عشر صندوقاً فيها كسوة ومال من مال السلطان مبلغه ثمانية آلاف دينار، ونحو من أربعة آلاف دينار لنفسه، ونحو من مائة بغل؛ وانتهب فروض الحسين مضارب الحسين وأصحابه، وطاروا مع من طار، فوافوا الياسرية؛ وكان أكثر النهب مع أصحاب أبي السنا.

ووافى الحسين والفل الياسرية يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة. ولقي الحسين رجل من التجار في جماعة ممن هبت أموالهم في عسكره، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهك! أصعدت في اثني عشر يوماً، وانصرفت في يوم واحد! فتغافل عنه.

قال أبو جعفر: ومما انتهى إلينا من خبر الحسين بن إسماعيل ومن كان معه من القواد والجند الذين كان محمد بن عبد الله بن طاهر استنهضهم من بغداد في هذه السنة لحرب من كان قصد الأنبار وما اتصل بها من البلاد من الأتراك والمغاربة، أنه لما صار إلى الياسرية منصرفه مهزوماً من دمما، أقام بها في بستان ابن الحروري، وأقام من وافى الياسرية من المنهزمة في الجانب الغربي من الياسرية، ومُنعوا من العبور، ونُودي ببغداد فيمن دخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في معسكره، وأجلوا ثلاثة أيام؛ فمن وجد منهم ببغداد بعد ثلاثة ضُرب ثلثمائة سوط، ومُحي اسمه من الديوان. فخرج الناس، وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر في أصحابه بالمحول، وأعطى أصحابه أرزاقهم في تلك الليلة في الشرج، ونودي في أصحابه بالمحول باللحاق به.

ونودي في الفرض القدماء الذين كانوا فرضوا بسبب أبي الحسين يحيى بن عمر بالكوفة خمسمائة رجل، وأصحاب خالد وهم نحو من ألف رجل، فعسكروا بالمحول يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد. فلقيه في الطريق، فرده إلى بستان ابن الحروري، وأقاموا يومهم؛ فلما كان الليل صاروا إلى دار ابن طاهر، فوبخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية لينفذ إلى الأنبار مع من ينفذ إليها من الجند؛ فصار من ليلته إلى الياسرية. ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لآل هذا العسكر فحمل تسعة آلاف دينار، وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسرية لعرض الجند وإعطائهم.

فلما كان يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الآخرة وتوجه خالد بن عمران مصعداً إلى قنطرة بهلايا - وهي موضع السكر - وخرجت معه نحو من عشرين سفينة، وركب عبيد الله بن عبد الله وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد إلى عسكر الحسين بن إسماعيل بالياسرية، فقرءوا على الحسين والقواد كتاباً كُتب به عن المستعين، يخبرهم فيه بسوء طاعتهم وما ركبوا من العصيان والتخاذل؛ فقرئ عليهم والعسكر مقيم، والعراض يعرضونهم ليتعرفوا من قُتل ومن غرق من كل قيادة، ونودي باللحاق بعسكرهم؛ فخرجوا وأتاهم كتاب بعض عيونهم بالأنبار يخبر أن القتلى كانت من الأتراك أكثر من مائتين، والجرحى نحواً من أربعمائة؛ وأن جميع من أسره الأتراك من أهل بغداد الجيشية والفروض من الرجالة مائتان وعشرون إنساناً، وأنه عدّ رءوس من قتل فوجدها سبعين رأساً؛ وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق. فصاحوا لأبي نصر: نحن أهل السوق، فقال: ما بالكم معهم! فقالوا: أكرهنا فخرجنا، شئنا "أو أبينا" فأطلق من كان منهم يشبه السوقة. وأمر بحبس الأسرى في القطيفة.

وذُكر عن صاحب بغال السلطان: أن جميع ما ذهب من بغال السلطان مائة وعشرون بغلاً.

ورحل الحسين يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة. وكتب إلى خالد بن عمران وهو مقيم على السكر، أن يرحل متقدماً أمامه، فامتنع خالد من ذلك؛ وذكر أنه لا يبرح من موضعه إلا أن يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه، لأنه يتخوف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم بناحية قطربل. وأمر ابن طاهر بمال، فحمل إلى الحسين بن إسماعيل لإعطاء جميع من في عسكره رزق شهر واحد؛ ليفرق فيهم بدمما. وأمر أن يخرج معه الكتاب والعراض لأصحابه هنالك، وقلد أمر نفقات عسكره وإعطاء الجند من قبل ديوان الخراج الفضل بن مظفر السبعي، وحمل المال مع السبعي إلى معسكر الحسين، لينفذ معه إذا نفذ.

وقد قيل: إن الحسين ارتحل إلى الأنبار في النصف من ليلة الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، فسار وتبعه من في عسكره يوم الأربعاء؟، ونودي في أصحابه باللحاق به، فسار حتى نزل دمما، وأراد أن يعقد على نهر أنق جسراً ليعبر عليه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من أصحابه من الرجالة، فحاربوهم حتى كشفوهم. وعقد خالد الجسر، فعبر أصحابه ووجه محمد بن عبد الله بكاتبه محمد بن عيسى بشيء تافهه به، فيقال: إنه حمل معه أطواقاً وأسورة، وانصرف إلى منزله، وصار إلى الحسين يوم السبت لثمان خلون من رجب رجل، فأخبره أن الأتراك قد دلوا على عدة مواضع في الفرات، تُخاض إلى عسكره، فأمر بضرب الرجل مائتي سوط، ووكل بالمخاوض رجلاً من قواده، يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائة راجل ومائة فارس؛ فطلع أول القوم، فخرج عليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علماً، فقاتل أحصابه ساعةً، ووكل بالقنطرة أبا السنا، وأمره أن يمنع من انهزم من العبور، فأتى الأتراك المخاضة، فرأوا الموكل بها، فتركوه واقفاً، وصاروا إلى مخاضة أخرى خلف الموكل فقاتلوهم، فصبر الحسين بن علي وقاتل، فقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه، ولم يصل إليه حتى انهزم، وانهزم خالد بن عمران معه ومن معه، ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات، فغرق من لم يحسن السباحة، وعبر من كان يحسن السباحة، فنجا عرياناً، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشط، لما على الشط من الأتراك، فذكر عن بعض جند الحسين، أنه قال: بعض الحسين بن علي الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة، فأتاه الرسول، فقيل: الأمير نائم، فرجع الرسول فأعلمه، فرد آخر، فقال له الحاجب: الأمير في المخرج، فرجع فأخبره. فرد رسولاً ثالثاً، فقال: قد خرج من المخرج ونام؛ فعلت الصيحة فعبر الأتراك، فقعد الحسين في زورق أو شبارة، وانحرد. واستأثر قوم من الخراسانية، ورموا ثيابهم وسلاحهم، وقعدوا على الشط عراةً، وشد أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين بن إسماعيل، واقتطعوا السوق، وانحدرت عامة السفن، فسلمت إلا ما كان موكلاً به منها، ولحق الأتراك أصحاب الحسين، فوضعوا فيهم السيف؛ فقتلوا وأسروا نحواً من مائتين، وغرق خلقٌ كثير؛ ووافى الحسين والمنهزمة بغداد نصف الليل. ووافى فلهم وبقيتهم في النهار؛ وفيهم جرحى كثيرة؛ فلم يزالوا إلى نصف النهار يتتابعون عراة مجرحين، وفقد من قواد الحسين بن يوسف البرم وغيره. ثم جاء كتابه أنه أسير في أيدي الأتراك عند مفلح؛ وأن عدة الأسرى من وقعة الحسين الثانية مائة ونيف وسبعون إنساناً، والقتلى مائة، والدواب نحو من ألفي دابة ومائتي بغل وأكثر، وقيمة السلاح والثياب وغير ذلك أكثر من مائة ألف دينار؛ فقال الهندواني في الحسين بن إسماعيل.

يا أحزم الناس رأياً في تـخـلـفـه          عن القتال خلطت لصفو بالـكـدر
لما رأيت سيوف الترك مـصـلـتةً          علمت ما في سيوف الترك من قدر
فصرت منحجزاً ذلاً ومـنـقـصةً              والنجح يذهب بين العجز والضجر

ولحق بالمعتز في جمادى الآخرة منها من بغداد جماعة من الكتاب وبني هاشم، ومن القواد مزاحم بن خاقان أرطوج، ومن الكتاب عيسى بن إبراهيم بن نوح ويعقوب بن إسحاق ونمارى ويعقوب بن صالح بن مرشد ومقلة وابنٌ لأبي مزاحم بن يحيى بن خاقان ومن بني هاشم علي ومحمد ابنا الواثق، ومحمد بن هارون بن عيسى بن جعفر، ومحمد بن سليمان من ولد عبد الصمد بن علي، وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد بالسكير من أرض بني تغلب، وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، وانهزم محمد بن خالد، وانتهب الآخرون متاعه، وهدم أيوب دور آل هارون بن معمر، وقتل من ظفر به من رجالهم.

وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح - فيما ذكر - فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين.

وفي يوم السبت لثمان بقين من رجب من هذه السنة كانت وقعة بين محمد بن رجاء وإسماعيل بن فرشاة وبين جعلان التركي بناحية بادرايا وباكسايا، فهزم ابن رجاء وابن فراشة جعلان، وقتلا من أصحابه جماعة وأسرا جماعة.

وفي رجب منها كان - فيما ذكر - وقعة بين ديوداود أبي الساج وبين بايكباك بناحية جرجرايا، قتل فيها أبو الساج بايكباك، وقتل من رجاله جماعة، وأسر منهم جماعة، وغرق منهم في النهروان جماعة.

وفي النصف من رجب منها اجتمع من كان ببغداد من بني هاشم من العباسيين، فصاروا إلى الجزيرة التي بإزاء دار محمد بن عبد الله، فصاحوا بالمستعين وتناولوا محمد بن عبد الله بالشم القبيح، وقالوا: منعنا أرزاقنا، وتدفع الأموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها، ونحن نموت هزلاً وجوعاً! فإن دفعت إلينا أرزاقنا وإلا قصدنا إلى الأبواب ففتحناها، وأدخلنا الأتراك؛ فليس يخالفنا أحد من أهل بغداد. فعبر إليهم الشاه بن ميكال، فكلمهم ورفق بهم، وسألهم أن يعبر معه منهم ثلاثة أنفس ليدخلهم على ابن طاهر؛ فامتنعوا من ذلك، وأبوا إلا الصياح وشتم محمد بن عبد الله؛ فانصرف عنهم الشاه؛ فلم يزالوا على حالهم إلى قرب الليل، ثم انصرفوا واجتمعوا من غد ذلك اليوم، فوجه إليهم محمد بن عبد الله، فأمرهم بحضور الدار يوم الاثنين ليأمر من يناظرهم، فصاروا إلى الدار، فأمر محمد بن داود الطوسي بمناظرتهم؛ وبذل لهم رزق شهر واحد؛ وأمرهم أن يقبضوا ذلك، ولا يكلفوا الخليفة أكثر من هذا؛ فأبوا أن يقبضوا رزق شهر، وانصرفوا.

خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل إليه أمره

وفيها خرج بالكوفة رجلٌ من الطالبيين يقال له الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن علي بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، فاستخلف بها رجلاً منهم يقال له محمد بن جعفر بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن حسن، ويكنى أبا أحمد، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان أرطوج؛ وكان العلوي بسواد الكوفة في ثلثمائة رجل من بني أسد وثلثمائة رجل من الجارودية والزيدية وعامتهم صوافية؛ وكان العامل يومئذ بالكوفة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، فقتل العلوي من أصحاب ابن نصر أحد عشر رجلاً، منهم من جند الكوفة أربعة، وهرب أحمد بن نصر إلى قصر ابن هبيرة؛ فاجتمع هو وهشام بن أبي دلف؛ وكان يلي بعض سواد الكوفة - فلما صار مزاحم إلى قرية شاهى كتب إليه في المقام حتى يوجه إلى العلوي من يرده إلى الفيئة والرجوع. فوجه إليه داود بن القاسم الجعفري، وأمر له بمالٍ، فتوجه إليه وأبطأ داود وخبره على مزاحم، فزحف مزاحم إلى الكوفة من قرية شاهى، فدخلها وقصد العلوى فهرب، فوجه في طلبه قائداً، وكتب بفتحه الكوفة في خريطة مريشة.

وقد ذكر أن أهل الكوفة عند ورود مزاحم حملوا العلوي على قتاله، ووعدوه النصر، فخرج في غربي الفرات؛ فوجه مزاحم قائداً من قواده في الشرقي من الفرات، وأمره أن يمضي حتى يعبر قنطرة الكوفة ثم يرجع، فمضى القائد لذلك، وأمر مزاحم بعض أصاحبه الذين بقوا معه أن يعبروا مخاضة الفرات في قرية شاهى، وأن يتقدموا حتى يحاربوا أهل الكوفة ويصافوهم من أمامهم فساروا ومعهم مزاحم، وعبر الفرات، وخلف أثقاله ومن بقي معه من أصحابه؛ فلما رآهم أهل الكوفة ناوشوهم الحرب، ووافاهم قائد مزاحم، فقاتلهم من ورائهم ومزاحم من أمامهم؛ فأطبقوا عليهم جميعاً فلم يفلت منهم أحد.

وذكر عن ابن الكردية أن مزاحماً قتل من أصحابه قبل دخوله الكوفة ثلاثة عشر رجلاً، وقتل من الزيدية أصحاب الصوف سبعة عشر رجلاً، ومن الأعراب ثلثمائة رجل؛ وأنه لما دخل الكوفة رمي بالحجارة فضرب ناحيتي الكوفة بالنار، وأحرق سبعة أسواق؛ حتى خرجت النار إلى السبيع، وهجم على الدار التي فيها العلوى فهرب؛ ثم أتى به وقتل في المعركة من العلوية رجل وذكر أنه حبس جميع من بالكوفة من العلوية، وحبس أبناء هاشم، وكان العلوي فيهم.

وذكر عن أبي إسماعيل العلوي أن مزاحماً أحرق بالكوفة ألف دار، وأنه أخذ ابنة الرجل منهم فعنفها.

وذكر أنه أخذ للعلوي جوارٍ، فيهم امرأة حرة مضمومة، فأقامها على باب المسجد ونادى عليها.

وفي النصف من رجب من هذه السنة، ورد على مزاحم كتاب من المعتز يأمره بالمصير إليه، ويعده وأصحابه ما يحب ويحبون. فقرأ الكتاب مزاحم على أصحابه؛ فأجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة، وأبي الشاكرية ذلك، فمضى فيمن أطاعه منهم وهم زهاء أربعمائة إنسان. وقد كان أبو نوح تقدمه إلى سامرا، فأشار بالكتاب إليه، وكان مزاحم ينتظر أمر الحسين بن إسماعيل؛ فلما انهزم الحسين مضى إلى سامرا؛ وقد كان المستعين وجه إلى مزاحم عند فتح الكوفة عشرة آلاف دينار وخمس خلع وسيفاً، ونفذ الرسول إليه، وألفى الجند الذين كانوا معه في الطريق؛ فردوا جميع ذلك معهم، وصاروا إلى باب محمد بن عبد الله، وأعلموه ما فعل مزاحم. وكان في الجند والشاكرية خليفة الحسين بن يزيد الحراني وهشام بن أبي دلف والحارث خليفة أبي الساج، فأمر ابن طاهر أن يخلع على كل واحد منهم ثلاث خلع.

وذكر أن هذا العلوي كان قد ظهر بنينوى في آخر جمادى الآخرة من هذه السنة؛ فاجتمع إليه جماعة من الأعراب، وفيهم قومٌ ممن كان خرج مع يحيى بن عمر في سنة خمسين ومائتين، وقد كان قدم إلى تلك الناحية هشام بن أبي دلف، فواقعهم العلوي في جماعة نحو من خمسين رجلاً، فهزمه وقتل عدة من أصحابه، وأسر عشرين رجلاً وغلاماً، وهرب العلوي إلى الكوفة؛ فاختفى بها، ثم ظهر بعد ذلك. وحمل الأسرى والرءوس إلى بغداد، فعرف خمسة نفر ممن كان مع أصحاب أبي الحسين يحيى بن عمر، فأطلقوا، وأمر محمد بن عبد الله أن يضرب كل واحد ممن أطلق وعاد خمسمائة سوط، فضربوا في آخر يوم من جمادى الآخرة.

وذكر أن كتب أبي الساج لما وردت بما كان من إيقاعه ببايكباك؛ وذلك لاثنتي عشرة بقيت من رجب من هذه السنة، وجه إليه بعشرة آلاف دينار معونة له، وبخلعة فيها خمسة أثواب وسيف.

وفيها كانت وقعة - فيما ذكر - بين منكجور بن خيدر وبين جماعة من الأتراك بباب المدائن هزمهم فيها منكجور، وقتل منهم جماعة.
وفيها كانت لبلكاجور صائفة، فتح فيها فتوحاً فيما ذكر.

وفيها كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قُتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبو الحسين بن قريش.

وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان كانت بباب بغواريا وقعة بين الأتراك وأصحاب ابن طاهر؛ وكان السبب في ذلك أن الموكل كان بباب بغواريا إبراهيم بن محمد بن حاتم والقائد المعروف بالنساوي في نحو من ثلثمائة فارس وراجل، فجاءت الأتراك والمغاربة في جمع كبير. فنقبوا السور في موضعين، فدخلوا منهما، فقاتلهم النساوي فهزموه، ووافوا باب الأنبار، وعليه إبراهيم بن مصعب وابن أبي خالد وابن أسد بن داودسياه، وهم لا يعلمون بدخولهم باب بغواريا، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل من الفريقين جماعة. ثم إن من كان على باب الأنبار من أهل بغداد انهزموا لا يلوون على شيء، فضرب الأتراك والمغاربة باب الأنبار بالنار فاحترق، وأحرقوا ما كان على باب الأنبار من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد ومقابر الرهينة ومن ناحية الشارع إلى موضع أصحاب الدواليب، فأحرقوا ما هنالك وأحرقوا كل ما قرب من ذلك من أمامهم وورائهم، ونصبوا أعلامهم على الحوانيت التي تقرب من ذلك الموضع، واهزم الناس؛ حتى لم يقف بين أيديهم أحد؛ وكان ذلك مع صلاة الغداة، فوجه ابن طاهر إلى القواد، ثم ركب في السلاح فوقف على باب درب صالح المسكين، ووافاه القواد، فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي، وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف، فتوجه بغا في أصحابه وولده إلى باب بغواريا، وصار الشاه بن ميكال والعباس بن قارن والحسين بن إسماعيل إلى باب الأنبار والغوغاء، فالتقوا والأتراك في داخل الباب، فبادرهم العباس بن قارن، فقتل - فيما ذكر - في مقام واحد جماعة من الأتراك، ووجه برءوسهم إلى باب ابن طاهر، وكاثرهم الناس على هذه الأبواب، فدفعوهم حتى أخرجوهم بعد أن قتل منهم جماعة؛ وكان بغا الشرابي خرج إلى باب بغواريا في جمع كثير، فوافاهم وهم غارون، فقتل منهم جماعة كثيرة، وهرب الباقون، فخرجوا من الباب؛ فلم يزل بغا يحاربهم إلى العصر؛ ثم انهزموا وانصرفوا، ووكل بالباب من يحفظه، وانصرف إلى باب الأنبار، ووجه في حمل الجص والآجر، وأمر بسده.

وفي هذا اليوم أيضاً كانت حرب شديدة بباب الشماسية، قتل من الفريقين - فيما ذكر - جماعة كثيرة، وجرح آخرون؛ وكان الذي قاتل الأتراك في هذا اليوم - فيما ذكر - يوسف بن يعقوب قوصرة.

وفيها أمر محمد بن عبد الله المظفر بن سيسل أن يعسكر بالياسرية، ففعل ذلك، ثم انتقل إلى الكناسة إلى أن وافاه بالفردل بن إيزنكجيك الأشروسني؛ فأمر له بفرض، وضم إليه رجالاً من الشاكرية وغيرهم، وأمر أن يضام المظفر ويعسكر بالكناسة، ويكون أمرهما واحداً، ويضبط تلك الناحية؛ فأقاما هنالك حيناً، ثم أمر بالفردل المظفر بالمضي، ليعرف خبر الأتراك ليدبر في أمرهم بما يراه؛ فامتنع من ذلك المظفر، وزعم أن الأمير لم يأمره بشيء مما سأله، وكتب كل واحد منهما يشكو صاحبه، وكتب المظفر يستعفى من المقام بالكناسة، ويزعم أنه ليس بصاحب حرب، فأعفي، وأمر بالانصراف ولزوم البيت؛ وقلد أمر ذلك العسكر ومن فيه من الجند النائبة والأثبات بالفردل، وضم إليه أثبات المظفر وأفرد بالناحية.

وفي شهر رمضان من هذه السنة التقى هشام بن أبي دلف والعلوي الخارج بنينوى، ومعه رجل من بني أسد، فاقتتلوا فقتل من أصحاب العلوي - فيما ذكر - نحو من أربعين رجلاً، ثم افترقا، فدخل العلوي الكوفة فبايع أهلها المعتز، ودخل هشام بن أبي دلف بغداد.

وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت بين أبي الساج والأتراك وقعة بناحية جرجرايا، وهزمهم فيها أبو الساج، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر منهم جماعة آخر.

ذكر خبر قتل بالفردل

ولليلة بقيت من شهر رمضان منها قتل بالفردل؛ وكان سبب قتله أن أبا نصر بن بغا لما غلب على الأنبار وما قرب منها، وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية وأجلاهم عنها، بث خيله ورجاله في أطراف بغداد من الجانب الغربي، وصار إلى قصر ابن هبيرة، وبها بحونة بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال جرى بينه وبينه، ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر، واتصل بابن طاهر خبره وخبر الوقعة التي كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه من الفروض إياه عند احمرار البأس. فندب بالفردل إلى اللحاق بأبي الساج والمسير بمن معه إليه، فسار بالفردل فيمن معه غداة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فسار يومه وصبح المدائن، فوافاها مع موافاة الأتراك ومن هو مضموم إليهم من غيرهم، وبالمدائن رجال ابن طاهر وقواده، فقاتلهم الأتراك، فانهزموا. ولحق من فيها من القواد بأبي الساج، وقاتل قتالاً شديداً؛ ولما رأى انهزام من هنالك من أصحاب ابن طاهر مضى متوجهاً نحو أبي الساج بمن معه فأدرك فقتل.وذكر عن ابن القواريريّ - وكان أحد القوّاد - قال: كنت وأبو الحسن ابن هشام موكّلين بباب بغداد ومنكجور منفرد بباب ساباط، وكان بقرب بابه ثلمة في سور المدائن، فسألت منكجور أن يسدّها فأبى. فدخل الأتراك منها، وتفرّق أصحابه. قال: وبقيت في نحو من عشرة أنفس، ووافى بالفردل هو وأصحابه، فقال: أنا الأمير، أنا فارس ومعي فرسان، نمضي على الشطّ، وتكون الرّجالة على السفن، فدافع ساعة ثم مضى لوجهه وعسكره في السفن على حالهم يريد أبا الساج، أو تلك الناحية، وأقمت بعده ساعة تامة.

وتحتى أشقر عليه حلية، فصرت إلى نهر فعثر بي، فسقطت عنه؛ وقصدوني يقولون: صاحب الأشقر! فخرجت من تانهر راجلاً قد طرحت عني السلاح.فنجوت.

وغضب ابن طاهر على ابن القواريريّ وأصحابه، وأمرهم بلزوم منازلهم، وغرق بالفردل.

ولأربع خلون من شوّال من هذه السنة، جمع - فيما ذكر - محمد بن عبد اللّه بن طاهر جميع قوّاده الموكلين بأبواب بغداد وغيرهم؛ فشاورهم جميعاً في الأمور، وأعلمهم ما ورد عليهم من الهزائم؛ فكلٌ أجاب بما أحبّ من بذل النفس والدم والأموال، فجازهم خيراً وأدخلهم إلى المستعين، وأعلمه ما ناظرهم فيه وما ردّوا عليه من الجواب، فقال لهم المستعين: واللّه يا معشر القّواد، لئن قاتلت عن نفسي وسلطاني ما أقاتل إلاّ عن دولتكم وعامتكم، وأن يردّ اللّه إليكم أموركم قبل مجيء الأتراك وأشباههم؛ فقد يجب عليكم المناصحة والجهد في قتال هؤلاء الفسقة؛ فردوا أحسن مردّ، وجزاهم الخير، وأمرهم بالانصراف إلى مراكزهم فانصرفوا.

ذكر خبر هزيمة الأتراك ببغداد

وفي يوم الإثنين لأيام خلت من ذي العقدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم؛ وكان سبب ذلك أن الأبوابكلّها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرّادات في الأبواب كلها والشيّرات في دجلة، وخرج منها الجند كلّهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدّت الحرب إلى باب لبقطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسيّة، وقعد ابن طاهر في قبّة ضربت له، وأقبلت الرّماة من بغداد بالناوكيّة في الزواريق؛ ربما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقاً لهم كان يقال له الحديديّ، كان آفةً على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبّارتين؛ وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب واللّه الموالي. واتّبعهم أهل بغداد إلى الرّوذبار، ووقف أبو أحمد بن المتكل يردّ الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة؛ وأن القوم يتبعونهم إلى سامرّا. فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحزّ رءوس من قتل؛ وجعل محمد بن عبد اللّه يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي؛ ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق، وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علمٌ أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسى أن ينكّسه؛ فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه"، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا؛ وأراد بعض منوقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين؛ وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحمّلوا عليهم؛ فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض.

خبر وقعة أبي السلاسل مع المغاربة

وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سب ذلك - فيما ذكر - أنّ رجلاص من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، والنتهت هو وأصحابه ما هنالك من القوى؛ فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجّه أبو الساج إليه - فيما ذكر - بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل؛ فلمّا صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم ىتسعة، وأسر عشرين. وأفلت نصر سهلب سارياً.

ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر

ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر؛ فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أنّ ابن طاهر قد كان كاتب المعتزّ قبل ذلك في الصلح؛ فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه؛ فكتب إليه؛ فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه؛ ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها؛ فاشتّد عليهم الحصار، فصاحوا في أوّل ذي العقدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر؛ فأرسل إليهم ابن طاهر: وجّهوا إليّ منكم خمسة مشايخ، فوجّهوا بهم، فأدخلوا عليه؛ فقال لهم: إنّ من الأمور أموراً لا يعلم بها العامّة؛ وأنا عليل، ولعلي أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوّكم. فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتّجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر؛ فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكّنهم؛ ووعدهم ومنّاهم. وأرسل ابن طاهر إلى المعتزّ في الصلح. واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي العقدة من هذه السنة حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجّه مكانه أبو سعيد الأنصاريّ إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقيّ حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما. ثم انصرف حماد ألى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاريّ، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حمّاد.

ولتسع بقين من ذي العقدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد اللّه بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح.

ولسبع بقين من ذي العقدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه. ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت؛ وإما تركتنا؛ فوعدهم أيضاً الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم. فانصرفوا.

فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم على بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه؛ فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر؛ فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا.

ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعة للمعتز

ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه. ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى ابن أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وأن المعتز ولى عهده.

خروج العامة ونصرة المستعين على ابن طاهر ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس - وكان موكلاً بباب السلامة - مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بإنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس؛ فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم؛ على أن الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره؛ فلما كان يوم الأثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: إن أمير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم؛ فشتمه العامة. ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشتم في كل باب، ويشتم المعتز. فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر؛ فصاحوا به وشتموه أقبح شتم؛ ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك؛ فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوامن عليه وردهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا ناراً، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولونه بالقبيح.
وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان؛ حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال: يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم؛ ولا بد من ذلك. فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا؛ فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم! فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه؛ فحلف لهم بالله ما أتهمه؛ وإني لفي عافية ما على منه بأس وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت.

ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دوابعلى بن جهشيار - وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي - وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب؛ وما زال الناس وقوفاً على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين؛ فصار الناس جميعاً إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال؛ فأذن لهم بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامة ما نحن عليه؛ ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون، فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر إليه وإدخاله الأتراك والمغاربة بغداد. فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك من أهل بغداد، واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم؛ وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه، فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم: فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم؛ فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم - وقد كان عرف كثرة الناس - أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد بردة النبي صلى الله، ومعه القضيب؛ فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا؛ فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد؛ بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له في دار محمد بن عبد الله؛ فانصرف أكثر الناس. وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها، وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعاً؛ يعتذرون إليه ويسألونه الصفح عما كان منهم؛ ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها ةالفاقة التي نالتهم، فرد عليهم - فيما ذكر - مرداً جميلاً، وقال لهم قولاً حسناً وأثنى عليهم وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخرة.

ذكر خبر انتقال المستعين إلى دار رزق الخادم بالرصافة

ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وركب منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومن بدار علي بن المعتصم، فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده؛ فأمر بالركوب، فلما صار إلى دار رزق الخادم نزلها، فوصل إليها - فيما ذكر - مساء، فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل. وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه، والقواد خلفه، وأقام - فيما ذكر - مع المستعين ليلة انتقل إلى ديار رزق محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل ثم انصرف وبات عنده وصيف وببغا حتى السحر ثم انصرفا إلى منازلهما.

ولما كانت صبيحة اللليلة التي انتقل المستعين فيها من دلر ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة وأمر القوادّ وبنوها هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة فصاروا إليه فلما كان الضحى الأكبر من ذلم اليوم، ركب ابن طاهر وجميع قواده في تعبئة وحوله ناشبة رجالة؛ فلما خرج من داره وقف للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين - أعزه الله - ولا لولى ولأحد من الناس سوءاً، وأنه لما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس، فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح بن وصيف بباب الشماسية. وذكر أن المستعين كان كارهاً لنقله عن دار محمد؛ ولكنه انتقل عنها من أجل الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لمّا صعد بابه فتح بابه يوم الجمعة.

وذكر أنّ قوماً منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسيّة من قبل أبي أحمد، فطلبوا ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى؛ فردّ المستعين الأمر في ذلك إليه؛ وأنّ التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدّم في ذلك بما رأى.

وذكر أنّ عليّ بن يحيى بن أبي منصور المنجم كلّم محمد بن عبد اللّه في ذلك الكلام غليظ، فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله.

وذكر عن سعيد بن حميد أنّ أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد اللّه بن يحيىخلوا بابن طاهر؛ فما زالوا يفتلونه في الذرّوة والغارب، ويشيرون عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح، فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم؛ فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم وحادثهم وشاورهم.

وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يوماً: ما ينبغي إلاّ أن يكون قد كان انطوى على المداهنة في أوّل أمره؛ قال: وددت أنه كان كذلك؛ لا واللّه ما هو إلاّ أ هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادّهم.

وحدّثني أحمد بن يحيى النحويّ - وكان يؤّدب ولد ابن طاهر - أنّ محمد بن عبد اللّه لم يزل جادّاً في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد اللّه بن يحيى ابن خاقان، فقال له: أطال اللّه بقائك! إنّ هذا الذي تنصره وتجدّ في أمره من أشدّ الناس نفاقاً، وأخبثهم ديناً؛ واللّه لقد أمر وصيفاً وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكّاً فيما وصفت من أمره، فسل تخبره؛ وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرّا لا يجهر في صلاته ببسم اللّه الرحمن الرحيم؛ فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاةً لك؛ وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك؛ ونحو ذلك من كلام كلّمه به؛ فقال محمد بن عبد اللّه: أخزى اللّه هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أوّل من تقدّم على صرف محمد بن عبد اللّه عن الحدّ في أمر المستعين عبيد اللّه بن يحيى في هذا المجلس، ثم ظاهر عبيد اللّه بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد؛ فلم يزالوا به حتى صرفوه عمّا كان عليه من الرّأي في نصرة المستعين.

وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلّى بالناس صلاة الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد اللّه بن عبد اللّه، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان، وبغا ووصيف يكنفانه؛ ولم يركب محمد بن عبد اللّه بنطاهر، وصلى عبد اللّه ابن إسحاق في الرّصافة.

ذكر بدء المفاوضة في أمر خلع المستعين

وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد اللّه إلى المستعين، وحضره عدّة من الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على أن تنفذ في كل ما أعزم عليه؛ ولك عندي بخطك رقعة بذلك، فقال للمستعين: أحضر الرقعة. فأحضرها؛ فإذا فيها ذكر الصلح ؛ وليس فيها ذكر الخلع، فقال: نعم، أنفذ الصلح، فقام الخلنجي فقال: ياأمير المؤمنين؛ إنه يسألك أن تخلع قميصاً قمصك به الله، وتكلم علي بن يحيى المنجم فأغلظ لمحمد ابن عبد الله.

ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله - وذلك للنصف من ذي الحجة - إلى المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعاً حتى صاروا إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي أحمد، فاشتروا ما أرادوا؛ فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شئ؛ فمنعوا من الشراء، وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله الشماسية مضرب كبير أحمر؛ وكان مع ابن طاهر بندار الطبري وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل، وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد بن عبد الله،ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن طاهر وأبو أحمد طويلاً، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه إلى داره في زلال؛ فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم انصرف؛ فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون الجند؛ وعلى أن يولى بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما ولاه، ويكون ثلث ما يجئ من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.

وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على أن يكون هو الوزير وعيسى بن فرخانشاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع؛ فاقتسموا الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي أحمد، ثم ركب ابن طاهر - فيما قيل - لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين، وظن المستعين أن بغا ووصيفاً معه، فكاشفاه فقال المستعين: هذا عنقي والسيف والنطع؛ فلما رأى امتناعه انصرف عنه؛ فبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له: اتق الله؛ فإنما جئتك لتدفع عني؛ فإن لن تدفع عني فكف عني. فرد عليه، أما أنا فأقعد في بيتي؛ ولكن لا بد لك من خلعها طائعاً أو مكرهاً وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا بأس؛ فوالله لقد تمزقت تمزقاً لا يرقع؛ وما تركت فيها فضلاً. فلما رأى المستعين ضعف أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع فلما كان يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد الأنصاري وأحمد بن اسرائيل ومحمد بن موسى المنجم إلى عسكر أبي أحمد ليواصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع نفسه. فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل، وكتب الجواب بأن يقطع وينزل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون مضطر به من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة. فأجابه إلى ذلك؛ فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز بذلك، فتوجه ابن الكردية بها، وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع - فيما ذكر - أن وصيفاً وبغا وابن طاهر ناظروه في ذلك وأشاروا عليه؛ فأغلظ لهم، فقال له وصيف: أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن فيه؛ وأنت عرضتنا لقتل أوتامش، وقلت: إن محمداً ليس بناصح؛ وما زالوا بفزعونه ويحتاجون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا يصطلح إلا باستراحتنا من هذين؛ فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع، وكتب بما اشترط لنفسه عليهم؛ وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.

ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجاً فوجاً، وأشهدهم عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر؛ ثم أدخل عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوى من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى قواده في موافاته؛ مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه، فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء. وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده قوماً ليوقع المعتز في ذلك بخطه. ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل، وقلدهم سيوفاً، وانصرفوا بعد جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشئ، وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض ما كان معهم مع سعيد بن صالح؛ فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد؛ فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو ألى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبردة.

وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر؛ واسم الكوكبي الحسين بن أحمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.

وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من أهل مكة نحو من ثلثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل:

عليك ثوبان وأمي عـارية              فألق لي ثوبك يا بن الزانية

فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى.

ذكر خبر خروج إسماعيل بن يوسف بمكة

وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العامل على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحواً من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها، ثم أخرج منها بعد خمسين يوماً، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعاً وعطشاً؛ وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم؛ ولقى أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يوماً إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنظة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف؛ وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة - وكان المعتز وجهها إليها - فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلاً ولا نهاراً، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها.