ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر خلع المستعين وبيعة المعتز
فمن ذلك ما كان من خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه الخلافة، وبيعة للمعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، والدعاء للمعتز على منبري بغداد ومسجدي جانبيها الشرقي منها والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة، وأخذ البيعة له بها على كل من كان يومئذ بها من الجندوذكر أن ابن طاهر دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد حين كتب له بشروط الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ قد كتب سعيد كتب الشروط وأكد غاية التأكيد، فنقرؤه عليك فتسمعه؟ فقال له المستعين: لا عليك! ألا تركها يا أبا العباس، فما القوم بأعلم بالله منك؛ قد أكدت على نفسك قبلهم فكان ما قد علمت؛ فما رد عليه محمد شيئاً.
ولما بايع المستعين المعتز، وأخذ عليه البيعة ببغداد، وأشهد عليه الشهود من بني هاشم والقضاة والفقهاء والقواد نقل من الموضع الذي كان به من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمحرم هو وعياله وولده وجواريه، فأنزلوهم فيه جميعاً، ووكل بهم سعيد بن رجاء الحضاري في أصحابه وأخذ المستعين البردة والقضيب والخاتم، ووجّ مع عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر، وكتب معه: أما بعد: فالحمد للّه متممّ النعم برحمته، والهادي إلى شكره بفضله وصلّى اللّه على محمد عبده ورسوله؛ الذي جمع له ما قرّق من الفضل في الرّسل قبله، وجعل تراثه راجعاً إلى من خصّه بخلافته، وسلّم تسليماً. كتابي إلى أمير المؤمنين وقد تممّ اللّه له أمره، وتسلّمت تراث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ممن كان عنده، وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد اللّه بن عبد اللّه مولى أمير المؤمنين وعبده.
ومنع المستعين الخروج إلى مكة، واختار أن ينزل البصرة. فذكر عن سعيد ابن حميد أن محمد بن موسى بن شاكر قال: البصرة وبيّة، فكيف اخترت أن تنزلها! فقال المستعين: هي أوبى ، أو ترك الخلافة! وذكر أنّ قرب جارية قبيحة جاءت برسالة إلى المستعين من المعتزّ.
يسأله أن ينزل عن ثلاث جوارٍ كان المستعين تزوجهّن من جواري المتوكل، فنزل عنهنّ، وجعل أمرهنّ إليهنّ؛ وكان احتبس عنده من الجوهر خاتمين يقال لأحدهما البرج وللآخر الجبل، فوجّه إليه محمد بن عبد اللّه بقرب خاصيّة المعتزّ وجماعة، فدفعهما إليهم، وانصرفوا بذلك إلى محمد بن عبد اللّه، فوجّه به إلى المعتزّ.
ولست خلون من المحرّم دخل - فيما قيل - بغداد أكثر من مائتي سفينة، فيها من صنوف التجارات وغنم كثير، وأشخص المستعين مع محمد بن مظفّر ابن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط في نحو من أربعمائة فرسان ورجّالة. وقدم بعد ذلك على ابن طاهر عيسى بن فرّخانشاه وقرب، فأخبراه أن ياقوتة من جوهر الخلافة قد حبسها أحمد بن محمد عنده؛ فوجّه ابن طاهر الحسين ابن إسماعيل فأخرجها، فإذا ياقوتة بهيّة، أربع أصابع طولاً في عرض مثل ذلك، وإذا هو قد كتب عليها اسمه، فدفعت إلى قرب، فبعثت بها إلى المعتزّ.
واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل، وخلع عليه، ووضع تاجاً على رأسه، وشخص أبو أحمد إلى سامرّا يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من المحرّم منها، وشيّعه محمد بن عبد اللّه والحسن بن مخلد، فخلع على محمد بن عبد اللّه خمس خلع وسيفاً، ورجع من الرّوذباز.
وقال بعض الشعراء في خلع المستعين:
خلع الخلافة أحمد بن محمـدٍ
وسيقتل التالي له أو يخلـع
ويزول ملك بني أبيه ولا يرى
أحدٌ تملك منهم يستـمـتـع
إيهاً بني العباس إنّ سبيلـكـم
في قتل أعبدكم طريقٌ مهيع
رقعتم دنياكم فـتـمـزّقـت
بكم الحياة تمزّقـا لا يرقـع
وقال بعض البغداديين:
إنـي أراك مــن الـــفـــراق جـــزوعـــاً
أضـحـى الإمـام مـسـيراً مـخــلـــوعـــا
كانـت بـه الآفـاق تـضــحـــك بـــهـــجةً
وهـو الـربـيع لـــمـــن أراد ربـــيعـــا
لا تنكري حدث الزمان وريبه إن الزمان يفرق المجموعا
لبس الخلافة واستجد محبةً
يقـضـي أمـور الـمـسـلـمـين جـمــعـــيا
فجـنـت عـلـيه يد الـزمـان بــصـــرفـــه
حربـاً وكـان عـن الـحـروب شـســـوعـــا
وتـجـانـف الأتـراك عـــنـــه تـــمـــرداً
أضـحـــى وكـــان ولا يراع مـــروعـــا
فنـز بـهـم فـنـــزوا بـــه وتـــعـــاورت
أيدي الـكـمـاة مـن الـرءوس نــجـــيعـــا
فأزالـه الـمـقـدار عـن رتـــب الـــعـــلا
فثـوى بـواســـط لا يحـــس رجـــوعـــا
غدروا بـه، مـكـروا بــه، خـــانـــوا بـــه
لزم الـفـراش، وحـالـف الـتـضـجـــيعـــا
وتـكـنـفـوا بـغـداد مـن أقـــطـــارهـــا
قد ذلـلـوا مـا كـان قـبــل مـــنـــيعـــا
ولـو أنـه سـعـر الـحـروب بـنــفـــســـه
متـلـبـبـاً لـــلـــقـــائهـــن دروعـــا
حتى يصادم بالكمـاة كـمـاتـه
فيكون من قصد الحروب صريعا
لغدا على ريب الزمان محـرمـاً
ولكان إذ غدر اللـئام مـنـيعـا
لكن عصى رأى الشفيق وعذلـه &nbnbsp;
وغدا لأمر الناكثين مـطـيعـا
والملك ليس بمالك سـلـطـانـه
من كان للرأي السديد مضـيعـا
ما زال يخدع نفسه عن نفـسـه
حتى غدا عن ملكه مخـدوعـا
باع ابن طاهر دينـه عـن بـيعةٍ
أمسى بها ملك الإمام مـنـيعـا
خلع الخلافة والرعية فاغـتـدى
من دين رب محمد مخـلـوعـا
فليجرعن بـذاك كـأسـاً مـرةً
وليلفين لـتـابـعـيه تـبـيعـا
وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان حين خلع المستعين، وصار إلى واسط:
إن الأمور إلى المعتز قـد رجـعـت
والمستعان إلـى حـالاتـه رجـعـا
وكان يعلـم أن الـمـلـك لـيس لـه
وأنه لك لـكـن نـفـسـه خـدعـا
ومالك المـلـك مـؤتـيه ونـازعـه
آتاك ملكاً ومنه الملـك قـد نـزعـا
إن الـخـلافة كـانـت لا تـلائمـه
كانت كذات حليل زوجـت مـتـعـا
ما كان أقبح عنـد الـنـاس بـيعـتـه
وكان أحسن قول الناس قد خـلـعـا
ليت السفين إلـى قـافٍ دفـعـن بـه
نفسي الفـداء لـمـلاحٍ بـه دفـعـا
كم ساس قبلك أمر الناس مـن مـلـك
لو كان حمل ما حملـتـه ظـلـعـا
أمسى بك الناس بعد الضيق في سـعة واللّه
يجعل بعد الضيق مـتـسـعـا
واللّه يدفع عنك السـوء مـن مـلـك
فإنه بك عنـا الـسـوء قـد دفـعـا
ما ضاع مدحي ولا ضاع اصطناعك لي
وقد وجدت بحمد اللّه مصـطـنـعـاً
فاردد عليّ بنجدٍ ضـيعة قـبـضـت
فإن مثلك مثلي يقـطـع الـضـيعـا
فإن رددت إمام الـعـدل غـلـتـهـا
فاللّه آنـف حـسـادي بـه جـدعـا
وقال يمدح المعتز بعد خلع المستعين:
قد عـادت الـــدنـــيا إلـــى
حـــالـــهـــا
وسـرنـا الــلّـــه بـــإقـــبـــالـــهـــا
دنـيا بـك الـلّــه كـــفـــى أهـــلـــهـــا
ما كـــان مـــن شـــدة أهـــوالـــهــــا
وكـان قــد مـــلـــكـــهـــا جـــاهـــل
لا تـصـلـح الـدنـيا لـــجـــهـــالـــهـــا
قد كـانـت الـــدنـــيا بـــه قـــفـــلـــت
فكـنـت مـفـتــاحـــاً لأقـــفـــالـــهـــا
إن الـــتـــي فـــزت بـــهـــا دونـــــه
عادت إلـــى أحـــســـن أحـــوالـــهــــا
خلافةٌ كـــنـــت حـــقـــيقـــياً بـــهـــا
فضـلـك الـلّـــه بـــســـربـــالـــهـــا
فرده الـــلّـــه إلـــى حــــــالـــــــه
وردهــا الـــلّـــه إلـــى حـــالـــهـــا
ولـــم تـــــكـــــــن أول عـــــــاريةٍ
ردت عـــلـــى رغـــم إلـــى آلـــهــــا
والــلّـــه لـــو كـــان عـــلـــى قـــريةٍ
ما كـان يجـزى بـعــض أعـــمـــالـــهـــا
أدخـــل فـــي الـــمـــلـــك يداً رعــــدةً
أخـرجـهـا مـن بـــعـــد إدخـــالـــهـــا
بدلـــنـــا الـــلّـــه بــــه ســـــــيداً
أسـكـن دنـــيا بـــعـــد زلـــزالـــهـــا
بدلـــــــت الأمة هـــــــذا بــــــــذا
كأنــهـــا فـــي وقـــت دجـــالـــهـــا
وقـام بـــالـــمـــلـــك وأثـــقـــالـــه
وقـام بــالـــحـــرب وأثـــقـــالـــهـــا
أبـطـل مـــا كـــان الـــعـــدا أمـــلـــوا
رمـيك بـالـــخـــيل وأبـــطـــالـــهـــا
تعـمـل خـيلاً طـالـــمـــا نـــجـــحـــت
ما عـمـلـت خـيلٌ كـــأعـــمـــالـــهـــا
وقال الوليد بن عبيد البحتري في خلع المستعين ومدح المعتز:
ألا هل أتاها أن مظلمة الدجى
تجـلـت وأن الـعـيش سـهـــل جـــانـــبـــه
وأنـا رددنـا الـمـسـتــعـــار مـــذمـــمـــاً
علـى أهـلـه واسـتـأنـف الـحـق صـاحــبـــه
عجـبـت لـهـذا الـدهـر أعـــيت صـــروفـــه
ومـا الـدهـر إلا صـرفـــه وعـــجـــائبـــه
متـى أمـل الــدياك أن يصـــطـــفـــى لـــه
عرى الـتـاج أو يثـنـى عـلـيه عــصـــائبـــه
وكـيف ادعـى حـقّ الـــخـــلافة غـــاصـــبٌ
حوى دونــه إرث الـــنـــبـــيّ أقـــاربـــه
بكـى الـمـنـبـر الـشـرقـي إذ خـار فـــوقـــه
علـى الـنـاس ثـور قـد تـدلـت غـبـاغـــبـــه
ثقـيل عـلـى جـنـب الـــثـــريد مـــراقـــبٌ
لشـخـص الـخـوان يبـتـــدي فـــيواثـــبـــه
إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل
أضاء شهاب الملك أم كلّ ثاقـبـه
إذا بكر الفـراش ينـثـو حـديثـه
تضاءل مطريه وأطنـب عـائبـه
تخطى إلى الأمر الذي ليس أهـلـه
فطوراً يناغيه وطوراً يشـاغـبـه
فكيف رأيت الـحـق قـر قـراره
وكيف رأيت الظلم زالت عواقبـه
ولم يكن المغتر بـالـلّـه إذ سـرى
ليعجز والمعتزّ بالـلّـه طـالـبـه
رمى بالقضيب عنوةً وهو صاغـرٌ
وعرى من برد النبيّ مـنـاكـبـه
وقد سرني أن قيل وجه مسـرعـاً
إلى الشرق تحدى سفنه وركـائبـه
إلى كسكرٍ خلف الدجاج ولـم يكـن
لتنشب إلا في الدجاج مخـالـبـه
وما لحية القصار حيث تنـفـشـت
بجالبة خيراً على مـن ينـاسـبـه
يحوز ابن خلادٍ على الشعر عـنـده
ويضحى شجاعٌ وهو للجهل كاتبـه
فأقسمت بالوادي الحرام وما حـوت
أباطحه من محـرمٍ وأخـاشـبـه
لقد حمل المـعـتـز أمة أحـمـدٍ
على سننٍ يسرى إلى الحق لا حبـه
تدارك دين اللّه من بعد ما عـفـت
معالمه فينا وغـارت كـواكـبـه
وضمّ شعاع الملك حتى تجمـعـت
مشارقه مـوفـورةً ومـغـاربـه
وانصرف أبو الساج ديوداد بن ديودست إلى
بغداد لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، فقلده محمد بن عبد اللّه معاون ما
سقى الفرات من السواد، فوجه أبو الساج خليفةً له يقال له كربه إلى الأنبار،
ووجه قوماً من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة مع خليفة له، ووجه الحارث بن أسد
في خمسمائة فارس وراجل، يستقرىء أعماله، ويطرد الأتراك والمغاربة عنها، وقد
كانوا عاثوا في النواحي وتلصصوا. ففرق أصحابه في طساسيج الفرات، ونزل قصر
ابن هبيرة؛ ثم صار إلى الكوفة، ووافى أبو أحمد سامرا منصرفاً من معسكره
إليها لإحدى عشرة بقيت من المحرم، فخلع المعتز عليه ستة أثواب وسيفاً، وتوج
تاج ذهب بقلنسوة مجوهرة، ووشح وشاحي ذهب بجوهر، ولد سيفاً آخر مرصعاً
بالجوهر، وأجلس على كرسي، وخلع على الوجوه من القواد.
ذكرخبر قتل شريح الحبشي
وفيها قتل شريح الحبشي، وكان سبب ذلك أنه حين وقع الصلح، هرب في عدة من الحبشة، فقطع الطريق فيما بين واسط وناحية الجبل والأهواز، ونزل قريةً من قرى أم المتوكل يقال لها ديري، فنزل في خانها في خمسة عشر رجلاً، فشربوا وسكروا، فوثب عليهم أهل القرية فكتفوهم، وحملوهم إلى واسط، إلى منصور بن نصر، فحملهم منصور إلى بغداد، فأنقذهم محمد ابن عبد الله إلى العسكر، فلما وصلوا قام بايكباك إلى شريح فوسطه بالسيف وصلب على خشبة بابك، وضرب أصحابه بالسياط ما بين الخمسمائة إلى الألف.
وفي شهر ربيع الآخر منها توفي عبيد الله
بن يحيى بن خاقان في مدينة أبي جعفر.
ذكر حال بغا ووصيف
وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله في إسقاط اسم بغا ووصيف ومن كان في رسمها من الدواوين.
وذكر أن محمد بن أبي عون أحد قواد محمد بن عبد الله ناظره لما صار أبو أحمد إلى سامرا في قتل بغا ووصيف، فوعده أن يقتلهما، فبعث المعتز إلى محمد ابن عبد الله بلواء، وعقد لمحمد بن أبي عون لواء على البصرة واليمامة والبحرين، فكتب قوم من أصحاب بغا ووصيف إليهما بذلك، وحذروهما محمد بن عبد الله؛ فركب وصيف وبغا إليه يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الأول، فقال له بغا، بلغنا أيها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا؛ والقوم قد غدروا وخالفونا ما فارقونا عليه؛ والله لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا عليه، فحلف لهما أنه ما علم بشئ من ذلك؛ وتكلم بغا بكلام شديد، ووصيف يكفه، وقال وصيف: أيها الأمير، قد غدر القوم ونحن نمسك ونقعد في منازلنا حتى يجئ من يقتلنا! وكانا دخلا مع جماعة، ثم رجعا إلى منازلهما، فجمعا جندهما ومواليهما، وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفريق الأموال في جيرانهما إلى سلخ ربيع. وكان وصيف وبغا قدوم قرب، وجه إليهما محمد ابن عبد الله كاتبه محمد بن عيسى، فأقبلا معه حتى صارا عند دار محمد بن عبد الله بقرب الجسر، فلقيهما جعفر الكردي وابن خالد البرمكي؛ فتعلق كل واحد منهما بلجام واحد منهما، وقال لهما: إنما دعيتما لتحملا إلى العسكر؛ وقد أعد لكما لذلك قومٌ أو لتقتلا، فرجعا وجمعا جمعاً، وأجريا على كل رجل كل يوم درهمين؛ فأقاما في منازلهما.
وكان وصيف وجه أخته سعاد إلى المؤيد، وكان المؤيد في حجرها، فأخرجت من قصر وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه؛ فدفعتها إلى المؤيد؛ فكلم المؤيد المعتز في الرضا عن وصيف؛ فكتب إليه بالرضا عنه؛ فضرب مضاربه بباب الشماسية على أن يخرج، وتكلم أبو أحمد ابن المتوكل في الرضا عن بغا، فكتب إليه بالرضا. واضطرب أمرهما وهما مقيمان ببغداد.
ثم اجتمع على المعتز الأتراك فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا: هما كبيرانا ورئيسانا؛ فكتب إليهما بذلك، فجاء بالكتاب بايكباك في نحو من ثلثمائة رجل؛ فأقام بالبردان، ووجه إليهما الكتاب لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة؛ فكتب إلى محمد بن عبد الله بمنعهما؛ فوجها بكاتبيهما أحمد ابن صالح ودليل بن يعقوب إلى محمد بن عبد الله ليستأذناه؛ فأتاهما جيش من الأتراك، فنزلوا بالمصلى، وخرج وصيف وبغا وأولادهما وفرسانهما في نحو من أربعمائة إنسان، وخلفا في دورهما الثقل والعيال، ودعا أهل بغداد لهما ودعوا لهم.
وقد كان ابن طاهر وجه محمد بن يحيى الواثقي وبندار الطبري إلى باب الشماسية وباب البردان ليمنعوهما، ومضيا من باب خراسان، ونفذا ولم يعلم كاتباهما حتى قال محمد بن عبد الله لأحمد ودليل: ما صنع صاحباكما؟ فقال أحمد ابن صالح: خلفت وصيفاً في منزله. قال: فإنه قد شخص الساعة، قال: ما علمت؛ فلما صار إلى سامرا بكر أحمد بن إسرائيل يوم الأحد لتسع بقين من شوال من هذه السنة في السحر إلى وصيف، وأقام عنده ملياً، ثم انصرف إلى بغا، فأقام عنده ملياً، ثم صار إلى الدار، فاجتمع الموالي وسألوا ردهما إلى مراتبهما، فأجيبوا إلى ذلك، وبعث إليهما، فحضرا ورتبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد، وأمر برد ضياعهما، وخلع عليهما خلع المرتبة. ثم ركب المعتز إلى دار العامة، وعقد لبغا ووصيف على أعمالهما ورد ديوان البريد كما كان قبل إلى موسى بن بغا الكبير، فقبل موسى ذلك.
ذكر الفتنة بين جند بغداد
وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت وقعة بين
جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ورئيس الجند يومئذ ابن الخليل.
وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن المعتز كتب إلى محمد بن عبد الله في بيع
غلة طساسيج ضياع بادوريا وقطربل ومسكين وغيرها، كل كرين بالمعدل بخمسة
وثلاثين ديناراً من غلة سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز ولى بريد
بغداد رجلاً يقال له صالح بن الهيثم، وكان أخوه منقطعاً إلى أتامش أيام
المتوكل، فارتفع أمر صالح هذا أيام المستعين؛ وكان ممن أقام بسامراً؛ وهو
من أهل المخرم، وكان أبوه حائكاً ثم صار يبيع الغزل؛ ثم انتقل أخوه إليه
لما ارتفع. فلما أقام ببغداد كتب إليه يؤمر أن يقرأ الكتاب على قواد أهل
بغداد كعتاب بن عتاب ومحمد بن يحيى الواثقي ومحمد بن هرثمة ومحمد بن رجاء
وشعيب ابن عجيف ونظرائهم، فقرأه عليهم، فصاروا إلى محمد بن عبد الله،
فأخبروه؛ فأمر محمد بن عبد الله فأحضر صالح بن الهيثم، وقال: ما حملك على
هذا بغير علمي! وتهدده وأسمعه. وقال للقواد: انتظروا حتى أرى رأي، وآمركم
بما أعزم عليه، فانصرفوا من عنده على ذلك، وشخص بعد ذلك، واجتمع الفروض
والشاكرية والنائبة إلى باب محمد بن عبد الله يطلبون أرزاقهم لعشر خلون من
شهر رمضان؛ فأخبرهم أن كتاب الخليفة ورد عليه، جواب كتاب له كان كتب بمسألة
أرزاق جند بغداد، إن كنت فرضت الفروض لنفسك فأعطهم أرزاقهم؛ وإن كنت فرضت
لنا فلا حاجة لنا فيهم. فلما ورد الكتاب عليه أخرج لهم بعد شغبهم بيوم ألفي
دينار، فوضعت لهم ثم سكنوا ثم اجتمعوا لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان؛ ومعهم
الأعلام والطبول، وضربوا المضارب والخيم على باب حرب وباب الشماسية
وغيرهما، وبنوا بيوتاً من بواري وقصب، وباتوا ليلتهم. فلما أصبحوا كثر
جمعهم، وبيت ابن طاهر قوماً من خاصته في داره، وأعطاهم درهماً درهماً؛ فلما
أصبحوا مضوا من داره إلى المشغبة، فصاروا معهم فجمع ابن طاهر جنده القادمين
معه من خراسان، وأعطاهم لشهرين، وأعطى جند بغداد القدماء؛ الفارس دينارين
والراجل ديناراً، وشحن داره بالرجال، فلما كان يوم الجمعة اجتمع من المشغبة
خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول، ورئيسهم رجل يقال له عبدان بن
الموفق، ويكنى أبا القاسم؛ وكان من أثبات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان
ديوان عبدان في ديوان وصيف، فقدم بغداد فباع داراً له بمائة ألف دينار،
فشخص إلى سامرا، فلما وثبت الشاكرية بباب العامة كان معهم، فضربه سعيد
الحاجب خمسمائة سوط، وحبسه حبساً طويلاً، ثم أطلق. فلما كان فتنة المستعين
صار إلى بغداد، وانضم إليه هؤلاء المشغبة فحضهم على الطلب بأرزاقهم
وفائتهم، وضمن لهم أن يكون لهم رأساً يدبر أمرهم. فأجابوه إلى ذلك؛ فأنفق
عليهم يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة نحواً من ثلاثين ديناراً فيما
أقام لهم من الطعام، ومن كانت لهم كفاية لم يحتج إلى نفقته؛ فكان ينصرف إلى
منزله، فلما كان يوم الجمعة اجتمعت منهم جماعة كثيرة، وعزموا على المصير
إلى المدينة ليمضوا إلى الأمام فيمنعوه من الصلاة والدعاء للمعتز، فساروا
على تعبية في شارع باب حرب؛ حتى انتهوا إلى باب المدينة في شارع باب الشأم،
وجعل أبو القاسم هذا على كل درب يمر به قوماً من المشغبة، من بين رامح
وصاحب سيف ليحفظوا الدروب؛ كيلا يخرج منها أحد لقتالهم.
ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين
البابين وبين الطلقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعة منهم يكونون
نحواً من ثلثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة؛ ودخل معهم من
العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام،
فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز.
فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه،
وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق،
ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع
الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن إسماعيل
والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من
الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعاً رقيقاً، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة
جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل
من فرض عبيد الله بن يحيى من الشأمين يقال له سعيد الضبابي، وجرحوا المعروف
بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة.
فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر
عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم وكان ابن طاهر قد أعد
سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى؛ ففعل
ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب
الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر، وعبر من الجانب
الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو
بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو
بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من
الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر من الجانب
الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه؛ وكان
فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئاً، وكان كثيراً
جليلاً. وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر
بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة،
ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة؛ فلما
ضربت الحوانيت بالنار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة؛ ثم
انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد
والشاكرية إلى باب الشأم، فوقف على التجار والعامة فوبخهم علة معونتهم
الجند، وقال: هؤلاء قاتلوا على خبزهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب
عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة،
والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك؛
وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى
ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم
في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عبأهم تعبية الحرب، حذاراً من كرة
الجند عليه أياماً؛ فلم يكن لهم عودة؛ فصار في بعض الأيام التي كان من
عودتهم ابن طاهر على وجد - فيما ذكر - رجلان من المشغبة استأمنا إليه،
فأخبراه بعورة أصحابهما فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن مكيال
والحسين بن إسماعيل بعد العشاء والآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى
باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل - وكان من أصحاب محمد
بن أبي عون - فصاروا إلى ما هناك؛ وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل
واحد منهم عند مفارقة الرجلين اللذين صاروا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له
القمى؛ وتفرق الشاكرية عنهما إلى ناحية خوفاً على أنفسهم، فمضى الشاه
والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر
أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن
الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فخرج منهم
عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به
إلى الأرض، فبعجه على بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه
رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضي، وأمر الشاه بطرحه في كنيف في
دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي؛ وأما عبدان بن الموفق فإنه كان
قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر،
وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن
الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلاً. ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس
الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله: هل هو دسيس
لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من
الشاكرية طلب بخبزه. فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك ، فخرج طاهر بن
محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من
القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان،
فكان المخاطب له الحسين، فقال أنت رئيس القوم، فقال: لا؛ إنما أنا رجل
منهم؛ طلبت ما طلبوا فشتمه الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب:
كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب
الشأم، فقال: ما كنت لهم برأس؛ وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا،
فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن
أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره،
وحمل عبدان على بغل؛ ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به
إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها. وأراد
الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطاً على خاصرته؟
فقال له محمد: هذا شهر عظيم؛ ولا يحل لك أن تصنع به هذا؛ فأمر به فصلب
حياً، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب،
فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذاً؛ فسقوه، فترك
مصلوباً إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم
الثالث مع الظهر؛ وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل،
ودفع ابن الخليل إلى أوليائه فدفن،