المجلد التاسع - خلافة ابن الواثق المهتدى بالله

خلافة ابن الواثق المهتدى بالله

وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن الواثق؛ فسمي المهتدي بالله؛ وكان يكنى أبا عبد الله؛ وأمه رومية؛ وكانت تسمى قرب.

وذكر عن بعض من كان شاعداً أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد؛ حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه؛ وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه، ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق؛ وأن المعتز مد يده فبايع الواثق؛ فسموه بالمتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي.

وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا الكتاب؛ شهدوا أن أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحةٍ من عقله، وجوازٍ من أمره؛ طائعاً غير مكره، أنه فيما نظر كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين؛ فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له؛ وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه منها، ضعيف عن ذلك؛ فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منه، وأشهد على نفسه بجميع ما سمى، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسين فيه، وجميع من حضر؛ بعد أن قرئ عليه حرفاً حرفاً، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعاً غير مكره؛ وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين.

فوقع المعتز من ذلك: " أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب بخطه ".

وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى وأحمد بن جناب ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وإبراهيم بن محمد؛ وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين.

قيام الشغب ببغداد ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله

وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله بن طاهر.

ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل؛ وكان أخوه المعتز سيّره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد؛ فلما وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد؛ فكان مقيماً بها، فبعث سليمان بن عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان، وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، خلصوا إلى سليمان في داره، وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في حفظه.

وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد؛ فبلغ الناس الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلف الكتب حتى وجه إلى أهل بغداد بمالٍ رضوا به، ووقت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع ليالٍ خلون من شعبان، ودعى له يوم الجمعة لثمانٍ خلون من شعبان بعد أن كانت ببغداد فتنة، وقتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر؛ ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا.

ذكر خبر ظهور قبيحة أم المعتز

وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال التي عندها والذخائر والجوهر؛ وذلك أنها - فيما ذكر - قد قدرت الفتك بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح؛ فلما أوقع بهم صالح، علمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئاً من الخبر بسبب ما نالهم من العذاب؛ أيقنت بالهلاك؛ فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعالجة إلى ما نزل بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجهاً، فحفرت سرباً من داخل القصر من حجرة لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم؛ حتى صادرت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر؛ فلما فرغ الذين شغبوا في أمر ابنها مما أرادوا إحكامه؛ فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها، وجدوا القصر منها خالياً، وأمرها عنهم مستتراً؛ لا يقفون منه على شيء؛ ولا ما يؤديهم إلى معرفته؛ حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه أوتوا فسلكوه؛ وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا بالفوت، ثم رجعوا الظنون؛ فلم يجدوا لها معقلاً أعز ولا أمنع إن هي لجأت إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها؛ ثم لم يظهرهم عليها؛ فلم يزل الأمر منطوياً عنهم؛ حتى ظهرت في شهر رمضان؛ وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة؛ وكانت تثق بها؛ وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها؛ فاستخرج وحمل منها إلى سامرا.

فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من هذه السنة قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن ببغداد. فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلىالسلطان من ذلك متاعٌ كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلاً ببغداد وسامرا عدة شهور؛ حتى نفدت.

ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت إليها مع رجاء الربابي ووحش مولى المهتدي؛ فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عالٍ تقول: اللهم أخز صالح بن وصيف؛ كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة.

وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه خميسن ألف دينار؛ على أن يقتلوا صالحاً؛ ويستوي لهم الأمر. فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه منهم، فقالت، ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج؛ فلينتظروا حتى نقبض ونعطيهم؛ فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري. قال الرجل: فدخلت إليه وعنده أحمد بن خاقان؛ فقال: ويحك! هوذا ترى ما أنه فيه! وكان صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال؛ ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني أن لقبيحة حزانةً في موضع يرشدك إليه هذا الرجل - وإذا رجلٌ بين يديه - فامض ومعك أحمد بن خاقان؛ فإن أصبتم شيئاً فأثبته عندك، وسلمه إلى أحمد بن خاقان، وصر إلي معه. قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع؛ فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة؛ فدخلنا ففتنشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئاً، ودعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فأساً ينقر به الحيطان يطلب موضعاً قد ستر فيه المال؛ فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته على أن فيه شيئاً، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه؛ فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار زهاء ألف ألف دينار، فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطاً فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره، وسفطاً دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله، وسفطاً دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا؛ فقوّمت الجميع على البيع؛ فكانت قيمته ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح؛ فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك: فعل اللّه بها وفعل؛ عرّضت ابنها في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها! وكانت أم محمد بن الواثقتوفيّت قبل أن يبايع؛ وكانت تحت المستعين؛ فلما قتل المستعين صيرها المعتزّ في قصر الرّصافة الذي فيه الحرم، فلما واى الخلافة المهتدي قال يوماً لجماعة من الموالي: أمّا أنا فليس لي أمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها؛ وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت، وما أريد فضلاً إلاّ لإخوتي فإن الضيّقة قد مسّتهم.

ذكر الخبر عن قتل أحمد بن إسرائيل وأبي نوح

ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.

ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها فأما السبب الذي أدّاهما إلى القتل؛ فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي قتلاً بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن ابن مخلد، وعذّبهم بالضرب والقيد وقرّب كوانين الفحم في شدّة الحرّ منهم، ومنعهم كلّ راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من الخيانة والقصد لذّل السلطان والحرص على الدوام الفتن والسعي في شقّ عصا المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء أنكره من فعله بهم. ثمّ وجّه إليهم الحسن بن سايمان الدوشابيّ في شهر رمضان، ليتولّى استخراج شيء إن كان زوى عنه من أموالهم.

قال: فأخرج إليّ أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظنّ أنّ اللّه يمهلك، وأنّ أمير المؤمنين لا يستحل قتلك؛ وأنت السبب في الفتن، والشريك في الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطويّة! إنّ في أقل من هذا ما تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من اللّه بعفو وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال؛ فاستر نفسك من نزول ما تستحقّ بالصدق عما عندك من المال؛ فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك. قال: فذكر أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة. قال: فدعوت بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني الظفر منه شيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار؛ فأخذت رقعته بها.

قال: ثمّ أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيّاً من الإسلام وأهله! ولا دلالة أدلّ على ذلك ممن لم يزول في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد، ومن كان ذا عقده فقد أباح اللّه دمه.

قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفاً وفقراً.

قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته؛ فلما خاطبته خاطبت رجلاً موضّعاً رخواً، قال: فبكّتّه بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على الشهاريّ وقدّر ما قدّرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضّعاً رطباً ولا مخنّثاً رخواً. قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيّف وثلاثون ألف دينار؛ قال: وردّوا جميعاً إلى موضعهم؛ وانصرفت. فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابيّ لهم آخر مناظرة كانت معهم؛ ولم يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها.

فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف في الدار، ووكلّ بضربهما حمّاد بن محمد بن حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كلّ جلاّد يضربه سوطين، ويتنحّى حتى وفّوه خمسمائة سوط. ثم أقاموا أبا نوح أيضاً فضرب خمسمائة سوطضرب التّلفن ثم حملا على بغلين من بغال السّقائين على بطونهما، منكّسةً رءوسهما، ظاهرة ظهورها للناس. فأما أحمد فحين بلغ خشبة بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات؛ فدفن أحمد بين الحائطين. ويقال إن أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسيّ خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي الحسن بن مخلد في الحبس.

وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حمّاد بن محمد بن حماد دنقش وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة - لا يكني - ويقول: أوجعوا وغيّروا السياط، وبدّلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان؛ فذكر أن الهمتدي لمّا بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم مقام هذا الشيء! أمتا يكفي! إنا للّه وأنا إليه راجعون، يقول ذلك ويسترجع مراراً.

وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم يحضره عبد اللّه بم محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا حضرقال: وكلن يقول لصالح: اضرب وعذّب فإنّ الأصلح من وراء ذلك القتل؛ فأنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب؛ فضلاً عن الواترين؛ ويذكره قبيح ما بلغه عنهم. وكان يسرّ بذلك.

قال: وكان داود بن "أبي" العباس الطوسيّ يحضرنا عند صالح فيقول: وما هؤلاء أعزّك اللّه، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققّهعلينا حتى يقول: على إني واللّه أعلم أنهم إم تخلصوا انتشر منهم شرٌ كبير وفساد في الإسلام عظيم؛ فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا؛ فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظاً، وإلى الإساءة بنا نساً، فسئل بعض من كان بخير أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد مما صلى به صاحباه؟ فقال: بخصلتين إحداهما أنه صدقة عن الخبر في أول وهلة وأوجد الدلائل على ما قاله له إنه حق؛ وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك والأخرى أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأومأ إلى محبته لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه؛ وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يك صالح بن وصيف اقتصر في أمر الكتاب على أخ1ذ أموالهم وأموال أولادهم؛ حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم بأخذ أموالهم، وتخطى إلى المتصلين بهم.

شغب الجند والعامة ببغداد

وولاية سليمان بن عبد الله بن طاهر عليهما

ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية والنائبة ببغداد من جندهما بمحمد بن أوس البلخي: ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل الأمر إليه فيه ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس قدم بغداد مع سليمان ابن عبد الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق، ولا أمر سليمان فيهم بشئ؛ وكانت السنة فيهم أن يقام لم قدم معه من خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي اليمينين ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثة هنالك من مال العامة، بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق، فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق، وجد بيت مال الورثة فارغاً وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عندما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن عبد الله،فأخذ ما كام حاصلاً لورثة أبيه وجده في بيت مالهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين أموال نجوم لم تحل حتى استنظف ذلك أجمع؛ وشخص. فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر حتى صار في غريبها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم، وأدخل في المال تقدير القادمين معه؛ ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب الخراساي كاتبه في ذلك؛ فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم بما يجب للنائبة فضلاً عن القادمين مع النائبة؛ فلم يتهيأ لسلمان الوصول إلى شئ من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب المضر بهم فيه. وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة وتعرضوا للحرم والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان؛ حتى امتلئوا عليهم غيظاً وحنقاً. وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب بنر زريق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله "بن طاهر" ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه. فلما انصرف الحسين ابن إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشأم، ووكل بباب الحسين ابن إسماعيل جنداً من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم؛ لأن سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار؛ فلما حدث ما حدث من بيعة المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في دار سليمان ثلثمائة سوط ضرباً مبرحاً، وحبسه بباب الشأم؛ وكان هذا الرجل من خاصة الحسين بن إسماعيل؛ فلما حدث هذا الحادث احتيج إلى الحسين بن إسماعيل؛ لفضل جلده وإقدامه فنحى من كان ببابه موكلاً فظهر، فتراجع أصحابه من غير أمر؛ وقد كانوا فرقوا على القواد، وضم منهم جمع كبير إلى محمد بن أبي عون القائد؛ فذكر أن المضمومين إلى ابن أبي عون لما صاروا إلى بابه، فرق فيهم من ماله؛ للراجل عشرة دراهم، وللفارس ديناراً؛ فلما رجعوا إلى الحسين رفع ابن أبي عون بذكر ذلك؛ فلم يخرج في ذلك تعيين ولا أمر؛ فلم يزل الحال على هذا والجند والشاكرية يصيحون في طلب مال البعة وما بقي لهم من مال الطمع المتقدم؛ وقد رد أمرهم في تقسيط مالهم؛ وقبضهم إلى الحسين على ما كان الأمر عليه أيام عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وكان الحسين لا يزال يلقى إليهم ما عليه محمد بن أوس ومن قدم مع سليمان من القصد لأخذ أموالهم والفوز بها دونهم؛ حتى امتلأت قلوبهم فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، اجتمع جماعة من الجند والشاكرية، ومعهم جماعة من العامة حتى صاروا إلى سجن باب الشأم ليلاً، فكسروا بابه، وأطلقوا في تلك الليلة أكثر من كان فيه، ولم يبق فيه من أصحاب الجرائم أحدٌ إلا الضعيف والمريض والمثقل؛ فكان ممن خرج في تلك الليلة نفرٌ من أهل بيت مساور بن عبد الحميد الشاري، وخرج معهم المروزي مضروب محمد بن أوس وجماعة ممن قدم لزم السطان إلى أن صاروا إلى قبضته زهاء خمسين ألفاً، وأصبح الناس في يوم الجمعة وباب الحبس مفتوح؛ فمن قدر أن يمشي مشى، ومن لم يقدر اكترى له ما يركبه؛ وما يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع؛ فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب السجن بباب الشأم بآجر وطين؛ ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في هذه الليلة ولا أحد من أصحابه حركة أصلاً؛ فتحدث الناس أن الذي جنى على سجن باب الشأم بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه حتى يخلص. ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس لأصحابه ومنعه الحسين وتجاريا في ذلك كلاماً غلظ بينهما، فخرج محمد متنكراً؛ فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان، وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب سليمان؛ وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت فيها الأصوات؛ فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد النهب فليلحق بنا؛ فقيل: إنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح؛ فوافى أوائل الناس الجزيرة؛ فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فأراده عن شهري كان تحته؛ ثم أخذته السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئاً، وسلب الجريح وحمل في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد اللّه بن طاهر، فألقى هناك.

فذكر بعض من حضر سليمان، أنه لما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، ومهد له، وأحضر له الأطباء، ومضى ابن أوس من وجهه إلى منزله؛ وكان ينزل في دار لآل أحمد بن شيرزاد بالدور، ممايلي قصر جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك. وجد أهل بغداد في آثارهم والقواد معهم حتى تلقوهم، فكانت بينهم وقعة بالدور؛ أولها في آخر الساعة الثانية وآخرها في أول الساعة السابعة؛ فلم يزالوا يتراشقون بالنشاب ويتطاعنون بالرماح، ويتخابطون بالسيوف. وأعان ابن أوس جيرانه من أهل سويقة قطوطا وأصحاب الزواريق من ملاحي الدور. واشتدت الحرب، ووجه أهل بغداد يطلبون نفاطين من دار سليمان. فذكروا أن حاجبه دخل، فأعلمه ذلك؛ فأمر بمنعهم منه؛ وقاتل ابن أوس قتالاً شديداً، فناله جراحٌ من سهام وطعن، فانهزم وأصحابه؛ وقد كان أخرج حرمه من داره؛ فلم يزل أهل بغداد يتبعونهم حتى أخرجوهم من باب الشماسية، ووصل الناس إلى منزل ابن أوس؛ فانتهبوا جميع ما كان فيه؛ فذكر أنه انتهب له بقيمة ألفي درهم؛ والمقلل يقول: ألف ألف وخمسين ألفاً؛ وأنه انتهب له زهاء مائة سراويل مبطن بسمور؛ سوى ما كان مبطناً بغيره من الوبر مما يشاكل ذلك؛ وانتهب له من الفرش الطبري الخام والمقصور والمدرج والمقطوع ما يكون قيمته ألف ألف درهم؛ وانصرف الناس فجعل الجند يدخلون دار سليمان، وهم يكثرون، ومعهم النهب وهم يصيحون، وما لهم مانع ولا زاجر. وأقام ابن أوس ليلته تلك بالشماسية مع من لحق به من أصحابه. وقد كان أهل بغداد وثبوا بمنازل الصعاليك التي كانوا فيها سكاناً فنهبوها، وتعرضوا لمن كان تخلف منهم، فتلاح القوم هراباً، ولم يبق منهم في اليوم الثاني ببغداد أحد ظاهراً.

فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثياباً وفرشاً وطعاماً؛ فيقال: إن محمداً قبله، وقيل: إنه رده. وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه الشاكرية والنائبة وغيرهم؛ فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن طاهر. وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعة. فبعث إليهم سليمان مع محمد بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم، يعلمهم قبح ما ركبوا من مكحمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه، وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعاً وقالوا: لا نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك المنضمين إليه؛ وإنهم إن أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم. ثم استوى جالساً.

وذكر أنه لم يزل مستثقلاً محمد بن أوس ومن لحقه به من الصعاليك وغيرهم، عارفاً بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه؛ إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في الصلاة طلب الراحة من ابن أوس. ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الإنصراف إلى خراسان، وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي شئ من الأمور التي يتولاها لسيلمان.

فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسية، فصار في رقة البردان على دجلة، فأقام بها أياماً حتى اجتمع إليه من تفرق من أصحابه، ثم رحل فنزل النهروان، فلم يزل بها مقيماً. وقد كان كتب إلى بايكباك وصالح ابن وصيف يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به؛ فلم يجد عندهما شيئاً مما قصد؛ وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيماً بسامرا لينجز أمور سليمان، وكان كارهاً لابن أوس، منحرفاً عنه، وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر محمد بن عيسى الكاتب؛ فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان.

فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزاً في مدينة السلام؛ وهي قبة الإسلام، ودار عز السلطان؛ فما استنكار ذلك في الصحارى والبراري! ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في تلك الناحية آثاراً قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك.

وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس إلى النهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفاً على نفسه منه لحضور أبيه كان في يوم الوقعة.

فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام - وعبرتا ضيعته - أن وكيله انصرف عنها هارباً بعد أن أدى إلى ابن تحت العذاب وخوف الموت قريباً من ألف وخمسمائة دينار؛ ولم يزل ابن أوس مقيماً هنالك، يقرب ويباعد، ويقبض ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب؛ حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه بالولاية شهران وخمسة عشر يوماً.

وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعاً للنوشرى بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشرى يذكر ما عاين من قوة عسكر ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشرى ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه، وأمر بكتبه فكتب، وولى طريق خراسان في ذي العقدة من هذه السنة - وهي سنة خمس وخمسين ومائتين - وكان موسى خليفة مساور ابن عبد الحميد الشاري مقيماً بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج السواد.

وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم منها إلى بغداد؛ بعد أمرٍ كان قد تقدّم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وإبطال الملاهي وردّ المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيّا كلها من أرض الإسلام مفتونة.

ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثمّ انصرافه عنها

وفيها شخص موسى بن بغا ومن معه من الموالي وجند السلطان من الرّيّ وانصرف مفلح عن طبرستان بعد أن دخلها، وهزم الحسن بن زيد، وأخرجه عنها إلى أرض الديلم.

ذكر خبر عن شخوصه عنها ذكر أنّ السبب في ذلك أنّ قبيحة أمّ المعتزّن لمّا رأت من الأتراك اضطراباً، وأنكرت أمرهم، كتبت إلى موسى بن بغا تسأله القدوم إلى ما قبلها، وأمّلت وروده عليها قبل حدوث ما حدث عليها وعلى ابنها المعتزّ، فعزم موسى على الإنصراف إليها، وكان ورود كتابها عليه ومفلح بطبرستان. فكتب موسى إلى مفلح يأمره بالإنصراف إليها وهو بالرّيّ، فحدّثني بعض أصحابنا من أهل طبرستان، أنّ كتاب موسى ورد على مفلح بذلك، وقد توجّه نحو أرض الدّيلم في طلب الحسن بن زيد الطالبيّ. فلما ورد عليه الكتاب انصف راجعاً إلى حيث توجه منه، فعظم ذلك على قوم كانوا معه من رؤساء أهل طبرستان ممن كان هارباً قبل مقدم مفلح عليهم من الحسن ابن زيد، لما كانوا قد رجوا من مدمه عليهم وكفايتهم أمر الحسن بن زيد والرجوع إلى منازلهم وأوطانهم؛ وذلك أنّ مفلحاً كان يعدهم اتّباع الحسن ابن زيد حيث توجّه حتى يظفربه أو يخترم دونه ويول لهم- فيما ذكر لي - لو رميت قلنسوتي في أرض الدّيلم ما إجترأ أحد منهم أن يدنو منها. فلما رأى القوم انصرافه عن الوجه الذي توجّهله من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم صدّه، سألوه - فيما ذكر لي - عن السبب الذي صرفه عما كان يعدهم به من اتّباع ابن زيد، وجعلوا يكلمونه - فيما أخبرت - وهو كالمسبوت لا يجيبهم بشيء؛ فلما أكثروا عليه قال لهم: ورد عليّ كتاب الأمير موسى بعزمةٍ منه ألاّ أضع كتابه من يدي بعد ما يصل إليّ حتى أقبل عليه. وأنا مغموم بأمركم؛ ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير. فلم يتهيأ لموسى الشخوص من الرّيّ إلى سامرّا حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدي بعده بالأمر، ففثأه ذلك عمّا كان عزم عليه من الشخوص، لفوته ما قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. ولمّا وردت عليه بيعة المهتدي، امتنع أصحابه عليه من بيعته، ثم بايعوا. فورد خبر بيعتهم سامرّا لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان من هذه السنة.

ثم إنّ الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسباب المعتزّ والمتوكل، فشحّوا بذلك على المقيمين بسامرّا؛ فدعوا موسى إلى الإنصراف بهم إلى سامرّا.

وقدم مفلح على موسى بالرّيّ تاركاً طبرستان على الحسن بن زيد، فذكر عن القاشانيّ أنه قال: كتب إلي ابن أخي من الري يذكر أنه لقى مفلحاً بالري، فسأله عن سبب انصرافه فذكر أن الموالى قد أبوا أن يقيموا، وأنهم إذا انصرفوا لم يغن مقامه شيئاً.

ثم إم موسى افتتح خراج سنة ست وخمسين ومائتين يوم الأحد مستهل شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، فاجتني - فيما ذكر - في يوم الأحد قدر خمسمائة ألف درهم، فاجتمع أهل الري، فقالوا، أعز الله الأمير! إنك تزعم أن الموالى يرجعون إلى سامرا لما يقدرونه من كثرة العطاء هناك، وأنت وأصحابك في أكثر وأوسع مما القوم هناك فيه؛ فإن رأيت أن تسد هذا الثغر، وتحتسب في أهله الأجر والثواب، وتلزمنا من خراجنا في خاص أموالنا لمن معك ما ترى أن نحتمله فلت. فلم يجبهم إلى ما سألوا، فقالوا: أصلح اللله الأمير! فإذا كان الأمير عزم على تركنا، والأنصراف عنا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبتدىء بعمارتها؛ وأكثر غلة سنة خمس وخمسين ومائتين، التي قد أخذ الأمير خراجها في الصحارى لا يمكننا الوصول إليها إن رحل الأمير عنا! فلم يلتفت إلى شيء ما وصفوه له، وسألوه إياه.

واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتباً كثيرة، لم تؤثر أثراً. فلما انتهى إليه قفول موسى من الري، ولم تغن الكتب شيئاً وجه رجلين من بني هاشم، يقال لأحدهما عبد الصمد بن موسى، ويعرف الآخر بأبي عيسى يحيى بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وحملا رسالة إلى موسى وإلى من ضم عسكره من الموالى، يصدقهم فيها عن الحال بالحضرة وضيق الأموال بها، وما يحاذر من ذهاب ما يخلفونه مراء ظهورهم، وغلبة الطالبين عليه واتساع آثارهم إلى ناحية الجبل. فشخص بذلك الهاشميان في جماعة من الموالي "وأتباعهم من الديلم"، وأبل موسى ومن معه وصالح بن وصيف في ذلك يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويبتهل عليه في أكثر ذلك، ويبرأ إلى الله من فعله.

ذكر أن كتاب صاحب البريد بهمذان لما ورد على المهتدي بفصول موسى نها، رفع المهتدي يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو؛ فإني قد أعذرت إليه فيما بيني وبيه اللهم تول كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا اللهم إني شاخص بنيتي واختياري إلى حيث نكب المسلمون فيه، ناصراً لهم ودافعاً عنهم. اللهم فآجرني بنيتي إذ عدمت صالح الأعوان! ثم انحدرت دموعه يبكي.

وذكر عن بعض من حضر المهتدي في بعض مجالسه التي يقول فيها هذا القول، وحضرة سليمان بن وهب، فقال أيأمرني أمير المؤمنين أن أكتب إلى موسى بما أسمع منه؟ فقال له: نعم، اكتب بما تسمع مني؛ وإن أمكنك أن تنفشه في الصخر فافعل فلقيه الهاشميان في الطريق ولم يغنيا شيئاً، وضج الموالي، وكادوا يثبون بالرسل، ورد موسى في جواب الرسالة يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه إن رام التخلف عنهم لم يأمنهم على نفسه، ويحتج بما عاين الرسل الموجهون إليه.

فورد الرسل بذلك. وأوفد مع الرسل موسى وفداً من عسكره، فوافو سامرا لأربع خلون من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين.