المجلد التاسع - ذكر الخبر عن مفارقة كنجور علي بن الحسين بن قريش

ذكر الخبر عن مفارقة كنجور علي بن الحسين بن قريش

وفي هذه السنة فارق كنجور علي بن الحسين بن قريش، وكان قد نفي أيالم المعتز إلى فارس، فوكل به علي بن الحسين، وحبسه؛ فلما أراد علي ابن الحسين محاربة يعقوب بن الليث أخرجه من الحبس، وضم إليه خيلاً ورجالاً، فلما انهزم الناس عن علي بن الحسين لحق كنجور بناحية الأهواز، فأثر في ناحية رامهرمز أثراً، ثم لحق بابن دلف، فوافاه بهمذان، وأساء السيرة في أسباب وصيف وضياعه ووكلائه في تلك الناحية، ثم لح بعد ذلك بعسكر موسى، فلما أقبل موسى فيمن ضمه العسكر، بلغ ذلك صالحاً،فكتب عن المهتدي في حمل كنجور إلى الباب ميداً، فأبى ذلك الموالي، ثم لم نزل الكتب تختلف فيه إلى أن أنزل العسكر القاطول. ثم ظهر أن صالحاً قعد لمراغمته، وأن موسى ترحل إلى سامرا على المباينة لصالح ومن مال إليه، ولحق بايكباك بعسكر موسى، وأقام موسى هناك يومين، ووجه المهتدي إليه أخاه إبراهيم لأمه في أمر كنجور يعلمه أن الموالي بسامرا قد أبوا أن يقاروا على دخول كنجور، ويأمره بتقييده وحمله إلى مدينة السلام؛ فلم يتهيأ في ذلك ما قدره صالح، وكان جوابهم أن قالوا: إذا دخلنا سامرا امتثلنا ما أمر به أمير المؤمنين في كنجور وغيره.

خروج أول علوي بالبصرة وللنصف من شوال من هذه السنة، ظهر في فرات البصرة رجل زعم أنه علي بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، ثم عبر دجلة، فنزل الديناري.

ذكر الخبر عن أمره والسبب الذي بعثه على الخروج هنالك

وكان اسمه ونسبه - فيما ذكر - علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد اليس، وأمه رة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم، من بني أسد ابن خزيمة، من ساكني قرية من رى الري، يال لها ورزنين، بها مولده ومنشؤه؛ فذكر عنه أنه كان يول: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين. فلما قتل زيد هرب فلحق بالري، فلجأ إلى ورزنين، فأقام بها. وأن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، وأنه قدم العراق فأقام بها، واشترى جارية سندية، فأولدها محمداً أباه، فهو علي بن محمد هذا، وأنه كان متصلاً قبل بجماعة من آل المنتصر ؛ منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير ويسر الخادم؛ وكان منهم معاشه ومن قوم من أصحاب السلطان وكتابه يمدحهم ويستميحهم بشعره.
ثم إنه شخص - فيما ذكر - من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، واتبعه جماعة كثيرة من أهلها، وأبته جماعة أخر، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية قتلت بينهم جماعة، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد، يال لهم بنو الشماس؛ فكان بينهم مقامه. وقد كان من أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي - فيما ذكر حتى جبى له الخراج هنالك ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ووتر منهم جماعة كثيرة، فتنكروا له فتحول عنهم إلى البادية.

ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين، منهم رجل كيال من أهل الأحساء يقال له يحيى بن محمد الأزرق المعروف بالبحراني، مولى لبني دارم ويحيى بن أبي ثعلب، وكان تاجراً من أهل هجر، وبعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع؛ وهو قائد جيشه، ثم كان ينتقل في البادية من حي إلى حي، ذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس منها - فيما ذكر عنه - أنه قال: إني لقيت سوراً من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها سبحان والكهف وص. قال: ومن ذلك أني لقيت نفسي على فراشي،فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له،وأجعل مقامي به ؛إذنبت بي البادية،وضقت بسوء طاعة أهلها،فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني: إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة.

وذكر أنه عند مصيره إلى البادية أو هم أهلها أنه يحيى بن عمرو أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، فاختدع بذلك قوماً منهم، حتى اجتمع بها منهم جماعة كثيرة فزحف بهم إلى موضع بالبحرين يال له الردم، فكانت بينهم وقعة عظيمة، كانت الدائرة فيها عليه وعلى أصحابه، قتلوا فيها تلاً ذريعاً، فنفرت عنه العرب وكرهته، وتجنبت صحبته، فلما تفرت عنه العرب، ونبت به البادية، شخص عنها إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة؛ منهم علي بن أبان المعروف، بالمهلبي وأخواه محمد والخليل وغيرهم. وكان دومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، ومحمد بن رجاء الحضاري عامل السلطان بها، وواف ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية، فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأمر بأربعة نفر من أصحابه، فخرجوا بمسجد عباد، أحدهم يسمى محمد بن سلم القصاب الهجري، والآخر بريش القريعي والثالث على الضراب، والرابع الحسين الصيدناني، وهم الذين كانوا صحبوه بالبحرين، فدعوا إليه، فلم يجبه من أهل البلد أحد، وثاب إليهم الجند فتفرقوا ولم يظفر بأحد منهم، فخرج من البصرة هارباً، فطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه، وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه، فأخذهم فحبسهم؛ فكان فيمن حبس يحيى بن أبي ثعلب ومحمد بن الحسن الأيادي وابن صاحب الزنج علي بن محمد الأكبر وزوجته أم ابنه ومعها ابنة له وجارية حامل، فحسبهم ومضى هو لوجهه يريد بغداد، ومعه من أصحابه محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع وبريش القريعي، فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، يال له عمير بن عمار، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون، وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده، ثم صار إلى مدينة السلام، فأقام بها حولاً، وانتسب فيها إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه بها آيات، وعرف ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم؛ وأنه سأل ربه بها آية أن يعلم حقيقة أمره، فرأى كتاباً يكتب له، وهو ينظر إليه على حائط، ولا يرى شخص كاتبه.

وذكر عن بعض تباعه أنه بمقامه بمدينة السلام استمال جماعة، منهم جعفر بن محمد الصوحاني - كان ينتسب إلى زيد بن صوحان - ومحمد بن القاسم وغلاماً يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان: مشر ورفيق، فسمى مشرقاً حمزة وكناه أبا أحمد، وسمى رفيقاً جعفراً وكناه أبا الفضل. ثم لم يزل عامه ذلك بمدينة السلام حتى عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فخرج عنها، فوثب رؤساء الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا المجالس، وأطلقوا من كان فيها؛ فتخلصوا فيمن تخلص. فلما بلغه خلاص أهله، شخص إلى البصرة، فكان رجوه إليها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه علي بن أبان - وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام - ويحيى بن محمد، ومحمد بن سلم، وسليمان بن جامع، وغلاماً يحيى بن عبد الرحمن: مشرق ورفيق؛ وكان يحضر هؤلاء الستة رجلٌ من الجند يكنى أبا يعوب، ولب نفسه بعد ذلك بجربان، فساروا جميعاً حتى وافوا برنخل، فنزلوا صراً هنالك يعرف بصر القرشي، على نهر يعرف بعمود ابن المنجم؛ كان بنو موسى بن المنجم احتفروه؛ وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ وأمر أصحابه أن ينحلوه ذلك، فأقام هنالك.

فذكر عن ريحان بن الح أحد غلمان الشورجيين - وهو أول من صحبه منهم - أنه قال: كنت موكلاً بغلمان مولاي، أنل الدي إليهم من البصرة، وأفره فيهم، فحملت ذلك إليهم كما كنت أفعل، فممرت به وهو مقيم ببرنخل في قصر القرشي، فأخذني أصحابه، فصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من البصرة فال: هل سمعت لنا بالبصرة خبراً؟ قلت: لا قال: فما خبر الزينبي؟ قلت: لا علم لي به، قال: فخبر البلالية والسعديةّ؟ قلت: ولا أعرف أخبارهم أيضاً، فسألني عن أخبار غلمان الشورجيين وما يجري لكل غلام منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه، فأجبته، فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم إلي. ووعدني أن يودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي؛ واستخلفني ألا أعلم أحداً بموضعه، وأن أرجع إليه. فخلى سبيلي، فأتيت بالديق الذي معي الموضع الذي كنت قصدته به، وأمت عنده يومي، ثم رجعت إليه من غد، فوافيته وقد قدم عليه رفيق غلام يحيى بن عبد الرحمن، وكان وجه إلى البصرة في حوائج من حوائجه، ووافاه بشبل بن سالم - وكان من غلمان الدباسين - وبحريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء؛ فكتب فيها بحمزة وحضرة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله" إلى آخر الآية، وكتب اسمه واسم أبيه، وعلقها في رأس مردى، وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان.

فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار، متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذهم فأخذوا، وكتف وكيلهم، وأخذ معهم، وكانوا خمسين غلاماً، ثم صار إلى الموضع الذي يعمل فيه السنائي، فأخذ منه خمسمائة غلام، فيهم المعروف بأبي حديد، وأمر بوكيلهم فأخذ معم مكتوفاً، وكانوا في نهر يعرف بنهر المكاثر، ثم مضى إلى موضع السيرافي، فأخذ منه خمسين ومائة غلام، فيهم زريق وأبو الخنجر ثم صار إلى موضع ابن عطاء، وأخذ معهم ثمانين غلاماً. ثم أتى موضع إسماعيل المعروف بغلام سهل الطحان، ثم لم يزل يفعل ذلك كذلك في يومه، حتى اجتمع إليه بشر كثير من غلمان الشورخيين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيباً، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم، ويملكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئاً من الإحسان إلا أتى إليهم. ثم دعا مواليهم، فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون فكلمني، أصحابي فيكم، فرأيت إطلاقكم، فقالوا: إن هؤلاء الغلمان أباق، وهم يهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا، فخذ منا مالاً وأطلقهم لنا. فأمر غلمانهم فأحضروا شطباً ثم بطح كل قوم مولاهم ووكيلهم، فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحداً بموضعه، ولا بعدد أصحابه، وأطلقهم. فمضوا نحو البصرة.

ومضى رجل منهم يقال له عبد الله، ويعرف بكريخا، حتى عبر دجيلاً، فأنذر الشورجيين ليحرزوا غلمانهم، وكان هناك خمسة عشر ألف غلام.

ثم سار بعدما صلى العصر حتى وافى دجيلاً، فوجد سفن سماد تدخل في المد، فقدمها، فركب فيها، وركب أصحابه حتى عبروا دجيلاً، وصاروا إلى نهر ميمون، فنزل المسجد الذي في وسط السوق الشارع على نهر ميمون، وأقام هناك. ولم يزل ذلك دأبه، يجتمع إليه السودان إلى يوم الفطر. فلما أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا، وركز المردي الذي عليه لؤلؤة، وصلى بهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عله من سوء الحال، وأن اللد قد استنقذهم به من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أدارهم، وبملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك. فلما فرغ من صلاته وخطبته، أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطبب بذلك أنفسهم، ففعلوا ذلك، ودخل القصر. فلما كان بعد يوم قصد نهر بور، فوافى جماعة من أصحابه هناك الحميري في جماعة، فدفعوهم حتى حتى أخرجوهم إلى الصحراء، فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه، فأوقع بالحميري وأصحابه، فانهزموا حتى صاروا إلى بطن دجلة. واستأمن إليه رجل من رؤساء يكنى بأبي صالح، يعرف بالقصير، في ثلثمائة من الزنج، فمناهم ووعدهم.

فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده، وقال لهم: كل من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه. وقيل إنه لم يقود قواده إلا بعد مواقعة الخول ببيان ومصيره إلى سبخة القندل.

وكان ابن أبي عون نقل عن ولاية واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، فذكر أنه انتهى إليه في اليوم الذي قود فيه أقواده أن الحميري وعقيلاً مع خليفة ابن أبي عون المقيم كان بالأبلة، قد أقبلوا نحوه، ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الزريقية وهي في مؤخر الباذاورد، فصار إليها في وقت صلاة الظهر، فصلوا بها، واستعدوا للقتال، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف: سيفه، وسيف علي بن أبان، وسيف محمد بن سلم، ونهض بأصحابه فيما بين الظهر والعصر راجعاً نحو المحمدية، وجعل علي بن أبان في آخر أصحابه، وأمره أن يعرف خبر من يأتيه من ورائه، وتقدم في أوائل الناس حتى وافى المحمدية، فقعد على النهر، وأمر الناس فشربوا منه، وتوافى إليه أصحابه، فقال له علي بن أبان: قد كنا نرى من ورائنا بارقةً ونسمع حس قوم يتبعوننا، فلسنا ندري: أرجعوا عنا أم هم قاصدون إلينا؟ فلم يستم كلامه حتى لحق القوم، وتنادى الزنج السلاح، فبدر مفرج النوبي المكنى بأبي صالح، وريحان ابن صالح، وفتح الحجام - وكان فتح يأكل - فلما نهض تناول طبقاً كان بين يديه، وتقدم أصحابه، فليقه رجل من الشورجيين، يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، فرمى بلبل بسلاحه، وولى هارباً، وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف رجل، فذهبوا على وجوههم، وقتل من قتل منهم، ومات بعضهم عطشاً، وأسر منهم قوم، فأتى بهم صاحب الزنج، فأمر بضرب أعناقهم فضربت، وحملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين، كانت تنقل الشورج؛ ومضى حتى وافى القادسية؛ وذلك وقت المغرب، فخرج من القرية رجل من موالي بعض الهاشميين على أصحابه، فقتل رجلاً من السودان، فأتاه الخبر، فقال له أصحابه: ائذن لنا في انتهاب الرية وطلب قاتل صاحبنا، فقال: لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلا ساغ لنا قتالهم.

وأعجلهم المسير، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين، فأقام في المسجد الذي كان أقام فيه في بدأته وأمر بالرءوس المحمولة معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبي فأذن، وسلم عليه بالإمرة، فقام فصلى بأصحابه العشاء الآخرة، وبات ليلته بها، ثم مضى من الغد حتى مر بالكرخ فطراها، وأتى قرية تعرف بحبى في وقت صلاة الظهر، فعبر دجيلاً من مخاضة دل عليها، ولم يدخل القرية، وأقام خارجاً منها، وأرسل إلى من فيها، فأتاه كبراؤهم وكبراء أهل الكرخ، فأمرهم بإقامة الأنزال له ولأصحابه فأقيم له ما أراد، وبات عندهم ليلته تلك، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل جبى فرساً كميتاً، فلم يجد سرجاً ولا لجاماً، فركبه بحبل وسنفه بليف، وسار حتى انتهى إلى المعروف بالعباسي العتيق، فأخذ منه دليلاً إلى السيب، وهو نهر القرية المعروفة بالجعفرية، ونذر به أهل القرية، فهربوا عنها، ودخلها فنزل برجل وجدوه، فسأله عن وكلاء الهاشميين، فأخبره أنهم في الأجمة، فوجه الملقب بجربان، فأتاه برئيسهم وهو يحيى بن يحيى المعروف بالزبيري أحد موالي الزياديين، فسأله عن المال، فقال: لا مال عندي، فأمر بضرب عنقه، فلما خاف القتل أقر بشيء قد كان أخفاه، فوجه معه، فأتاه بمائتي دينار وخمسين ديناراً وألف درهم، فكان هذا أول ما صار إليه، ثم سأله عن دواب وكلاء الهاشميين فدله على ثلاثة براذين: كميت، وأشقر، وأشهب؛ فدفع أحدهما إلى ابن سلم، والآخر إلى يحيى بن محمد، وأعطى مشرقاً غلام يحيى بن عبد الرحمن الثالث.

وكان رفيق يركب بغلاً كان يحمل عليه الثقل، ووجد بعض السودان داراً لبعض بني هاشم فيها سلاح، فانتهبوه، فجاء النوبي الصغير بسيف، فأخذه صاحب الزنج، فدفعه إلى يحيى بن محمد، فصار في أيدي الزنج سيوفٌ وبالات وزقايات وتراس، وبات ليلته تلك بالسيب؛ فلما أصبح أتاه الخبر أن رميساً والحميري وعقيلاً الأبلي قد وافوا السيب، فوجه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل، فيهم سليمان وريحان بن صالح وأبو صالح النوبي الصغير، فلقوا القوم فهزموهم، وأخذوا سميرية وسلاحاً، وهرب من كان هنالك، ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر، فأقام يومه، وسار من غد يريد المذار، بعد أن اتخذ على أهل الجعفرية ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحداً، ولا يستروا عنه. فلما عبر السيب صار إلى قرية تعرف بقرية اليهود شارعة على دجلة، فوافق هنالك رميساً في جمع، فلم يزل يقاتلهم يومه ذلك، وأسر من أصحابه عدة، وعقر منهم جماعة بالنشاب. وقتل غلام لمحمد بن أبي عون كان مع رمسيس، وغرقت سميرية كان فيها ملاحها، فأخذ وضربت عنقه، وسار من ذلك الموضع يريد المذار. فلما صار إلى النهر المعروف بباب مداد جاوزه حتى أصحر، فرأى بستاناً، وتلا يعرف بجبل الشياطين، فقصد للتل فقعد عليه، وأثبت أصحابه في الصحراء، وجعل لنفسه طليعة.

فذكر عن شبل أنه قال: أنا كنت طليعته على دجلة، فأرسلت إليه أخبره أن رميساً بشاطئ دجلة يطلب رجلاً يؤدي عنه رسالة، فوجه إليه علي بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلما أتوه قال لهم: اقرءوا على صاحبكم السلام، وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض؛ لا يعرض لك أحدٌ، واردد هؤلاء العبيد على مواليهم، وآخذ لك عن كل رأس خمسة دنانير. فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس، فغضب من ذلك وآلى ليرجعن فليبقرن بطن امرأة رمسيس، وليحرقن داره، وليخوضن الدماء هنالك. فانصرفوا إليه، فأجابوه بما أمروا به، فانصرف إلى مقابل الموضع الذي هو به من دجلة، فأقام به، فوافاه في ذلك اليوم إبراهيم بن جعفر المعروف بالهمذاني؛ ولم يكن لحق به إلا في ذلك الوقت، وأتاه بكتب فقرأها، فلما صلى العشاء الآخرة، أتاه إبراهيم، فقال له: ليس الرأي لك إتيان المذار، قال: فما الرأي؟ قال: ترجع، فقد بايع لك أهل عبادان وميان ورذان وسليمانان، وحلفت جمعاً من البلالية بفوهة القندل وأبرسان ينتظرونك. فلما سمع السودان ذلك من قول إبراهيم مع ما كان رمسيس عرض عليه في ذلك اليوم خافوا أن يكون احتال عليهم ليردهم إلى مواليهم، فهرب بعضهم، واضطرب الباقون. فجاءه محمد بن سلم فأعلمه اضطرابهم، وهرب منهم، فأمر بجمعهم في ليلته تلك، ودعا مصلحاً، وميز الزنج من الفراتية. ثم أمر مصلحاً أن يعلمهم أنه لا يردهم ولا أحداً منهم إلى مواليهم، وحلف لهم على ذلك بالأيمان الغلاظ، وقال: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدراً فتكوا بي. ثم جمع الباقين؛ وهم الفراتية والقرماطيون والنوبة وغيرهم ممن يفصح بلسان العرب، فحلف لهم على مثل ذلك، وضمن ووثق من نفسه، وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض من أعراض الدنيا، وما خرج إلا غضباً لله، ولما رأى ما عليه الناس من الفساد في الدين، وقال: ها أنا ذا معكم في كل حرب، أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي. فرضوا ودعوا له بخير. فلما أسحر أمر غلاماً من الشورجيين يكنى أبا منارة، فنفخ في بوق لهم كانوا يجتمعون بصوته، وسار حتى أتى السيب راجعاً، فألقى هناك الحميري ورميساً وصاحب ابن أبي عون، فوجه إليهم مشرقاً برسالة أخفاها، فرجع إليه بجوابها، فصار صاحب الزنج إلى النهر، فتقدم صاحب محمد بن أبي عون، فسلم عليه، وقال له: لم يكن جزاء صاحبنا منك أن تفسد عليه عمله، وقد كان منه إليك ما قد علمت بواسط، فقال: لم آت لقتالكم، فقل لأصحابك يوسعون لي في الطريق، حتى أجاوزكم.

فخرج من النهر إلى دجلة، ولم يثبت أن جاء الجند معهم أهل الجعفرية في السلاح الشاك؛ فتقدم المكنى بأبي يعقوب المعروف بجربان، فقال لهم: يا أهل الجعفرية، أما علمتم ما أعطيتمونا من الأيمان المغلظة ألا تقاتلونا، ولا تعينوا علينا أحداً، وأن تعينونا متى اجتاز بكم أحد منا! فارتفعت أصواتهم بالنعير والضجيج، ورموه الحجارة والنشاب. وكان هناك موضع فيه زهاء ثلثمائة زرنوق، فأمر بأخذها فأخذت، وقرن بعضها ببعض حتى صارت كالشاشات، وطرحت إلى الماء، وركبها المقاتلة فلحقوا القوم، فقال بعضهم: عبر علي بن أبان يومئذ قبل أخذ الزرانيق سباحة، ثم جمعت الزرانيق، وعبر الزنج وقد زالوا عن شاطئ النهر فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وأتى منهم بأسرى، فوبخهم وخلى سبيلهم، ووجه غلاماً من غلمان الشورجيين يقال له سالم يعرف بالزغاوي، إلى من كان دخل الجعفرية من أصحابه، فردهم، ونادى: ألا برئت الذمة ممن انتهب شيئاً من هذه القرية، أو سبى منها أحداً، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة الموجعة.

ثم عبر من غربي السيب إلى شرقيه، واجتمع أصحابه الرؤساء حتى إذا جاوز القرية بمقدار غلوة سمع النعير من ورائه في بطن النهر، فتراجع الزنج، فإذا رمسيس والحميري وصاحب ابن أبي عون قد وافوه لما بلغهم حال أهل الجعفرية. فألقى السودان أنفسهم عليهم، فأخذوا منهم أربع سميريات بملاحيها مقاتليها، فأخرجوا السميريات بمن فيها، ودعا بالمقاتلة فسألهم، فأخبروه أن رميساً وصاحب ابن أبي عون لم يدعاهم حتى حملاهم على المصير إليه، وأن أهل القرى حرضوا رميساً وضمنوا له ولصاحب ابن أبي عون مالاً جليلاً، وضمن له الشورجييون على رد غلمانهم؛ لكل غلام خمسة دنانير، فسألهم عن الغلام المعروف بالنميري المأسور والمعروف بالحجام، فقالوا: أما النميري فأسير في أيديهم، وأما الحجام فإن أهل الناحية ذكروا أنه كان يتلصلص في ناحيتهم، ويسفك الداء، فضربت عنقه، وصلب على نهر أبي الأسد. فلما عرف خبرهم أمر بضرب أعناقهم، فضربت إلا رجلاً يقال له محمد بن الحسن البغدادي، فإنه حلف له أنه جاء في الأمان، لم يشهر عليه سيفاً، ولا نصب له حرباً، فأطلقه. وحمل الرءوس والأعلام على البغال، وأمر بإحراق سفنهم فأحرقت.

وسار حتى أتى نهر فريد، فانتهى إلى نهر يعرف بالحسن بن محمد القاضي وعليه مسناة تعترض بين الجعفرية ورستاق القفص، فجاءه قوم من أهل القرية من بني عجل، فعرضوا عليه أنفسهم، وبذلوا له ما لديهم، فجزاهم خيراً، وأمر بترك العرض لهم.

وسار حتى أتى نهراً يعرف بباقثا، فنزل خارجاً من القرية التي على النهر وهي قرية تشرع على دجيل فأتاه أهل الكرخ، فسلموا عليه ودعوا له بخير، وأمدوه من الأنزال بما أراد. وجاء رجل يهودي خيبري يقال له ماندويه فقبل يده، وسجد له - زعم - شكراً لرؤيته إياه، ثم سأله عن مسائل كثيرة، فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله عن علامات في بدنه ذكر أنه عرفها فيه، فأقأم معه ليلته تلك يحادثه.

وكان إذا نزل اعتزل عسكره بأصحابه الستة، ولم يكن يومئذ ينكر النبيذ على أحد من أصحابه، وكان يتقدم إلى محمد بن سلم في حفظ عسكره؛ فلما كان في تلك الليلة أتاه في آخر الليل رجلٌ من أهل الكرخ، فأعلمه أن رميساً وأهل المفتح والقرى التي تتصل بها وعقيلاً وأهل الأبلة قد أتوه ومعهم الدبيلا بالسلاح الشاك، وأن الحميري في جمع من أهل الفرات وقد صاروا في تلك الليلة إلى قنطرة نهر ميمون، فقطعوها ليمنعوه العبور. فلما أصبح أمر، فصيح بالزنج، فعبروا دجيلا، وأخذ في مؤخر الكرخ حتى وافى نهر ميمون، فوجد القنطرة مقطوعة، والناس في شرقي النهر والسميريات في بطنه، والدبيلا في السميريات، وأهل القرى في الجريبيات والمجونحات؛ فأمر أصحابه بالإمساك عنهم، وأن يرحلوا عن النهر توقياً للنشاب، ورجع فقعد على مائة ذراع من القرية؛ فلما لم يروا أحداً يقاتلهم خرج منهم قوم ليعرفوا الخبر، وقد كان أمر جماعة من أصحابه، فأتوا القرية، فكمنوا فيها مخفين لأشخاصهم؛ فلما أحسوا خروج من خرج منهم، شدوا عليهم،اثنين وعشرين رجلا،وسعوانحو الباقين،فقتلوا منها جماعة على شاطىءالنهر،ورجعوا إليه بالرؤس والأسرى،فأمر بضرب أعناقهم بعد مناظرة جرت بينه وبينهم، وأمر بالاحتفاظ بالرؤس، وأقام إلى نصف النهار، وهو يسمع أصواتهم،فأتاه رجل من أهل البادية مستامنا، فسأله عن غوور النهر؛فأعلمه أنه يعرف موضعا منه يخاض،وأعلمه أن القوم على معاودته بجمعهم يقاتلونه؛فنهض مع الرجل حتى أتى به موضعا على مقدارميل من المحمدية فخاض النهر بين يديه،وخاض الناس خلفه، وحمله ناصح المعروف بالرملى،وعبر بالدواب؛ فلما صار في شرقي النهر كر راجعا نحو نهر ميمون؛ حتى أتى المسجد فنزل فيه،وأمر بالرؤس فنصبت، وأقام يومه، وانحدر جيش رميس بجمعه في بطن دجيل،فأقاموا بموضع يعرف بأقشى بإزاء النهر المعروف ببرد الخيار، ووجه طليعة فرجع إليه، فأخبره بمقام القوم هناك، فوجه من ساعته ألف رجل، فأقاموا بسبخة هناك على فوهة هذا النهر، وقال لهم: إن أتوكم إلى المغرب؛ وإلا فأعلموني. وكتب كتاباً إلى قيل، يذكره فيه أنه قد بايعه في جماعة من أهل الأبلة، وكتب إلى رمسيس يذكره حلفه له بالسيب أنه لا يقاتله؛ وأنه ينهى أخبار السلطان إليه، ووجه بالكتابين إليهما مع بعض الأكرة بعد أن أحلفه أن يوصلهما.

وسار من نهر ميمون يريد السبخة التي كان هيأ فيها طليعةً؛ فلما صار إلى القادسية والشيفيا، سمع هنالك نعيراً، ورأى رمياً وكان إذا سار يتنكب القرى فلم يدخلها، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى الشيفيا في جماعة؛ فيسأل أهلها أن يسلموا إليه قاتل الرجل من أصحابه في ممرة كان بهم، فرجع إليه، فأخبره أنهم زعموا أنه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميين ومنعهم له؛ فصاح بالغلمان، وأمرهم بانتهاب القريتين، فانتهب منهما مالاً عظيماً؛ عيناً وورقاً وجوهراً وحلياً وأواني ذهب وفضة، وسبي منهما يومئذ غلماناً ونسوة، وذلك أول سبى سبى، ووقفوا على دار فيها أربعة عشر غلاماً من غلمان الشورج، قد سد عليهم باب؛ فأخذهم وأتى بمولى الهاشميين القاتل صاحبه فأمر محمد بن سلم بضرب عنقه، ففعل ذلك، وخرج من القريتين في وقت العصر، فنزل السبخة المعروفة ببرد الخيار.

فلما كان في وقت المغرب أتاه أحد أصحابه الستة، فأعلمه أن أصحابه، قد شغلوا بخمور وأنبذة وجدوها في القادسية، فصار ومعه محمد بن سلم ويحيى ابن محمد إليهم ، فأعلمهم أن ذلك مما لا يجوز لهم، وحرم النبيذ في ذلك، اليوم عليهم، وقال لهم: إنكم تلاقون جيوشاً تقاتلونهم، فدعوا شرب النبيذ والتشاغل به، فأجابوه إلى ذلك؛ فلما أصبح جاءه غلام من السودان، يقال له قاقويه، فأخبره أن أصحاب رميس قد صاروا إلى شرقي دجيل، وخرجوا إلى الشط، فدعا علي بن أبان، فتقدم إليه أن يمضي بالزنج، فيوقع بهم؛ ودعا مشرقاً، فأخد منه اصطرلاباً، فقاس الشمس، ونظر في الوقت، ثم عبر وعبر الناس خلفه القنطرة التي على النهر المعروف ببرد الخيار؛ فلما صاروا في شريه، تلاحق الناس بعلي بن أبان، فوجدوا أصحاب رميس وأصحاب عيل على الشط، والدبيلا في السفن يرمون بالنشاب، فحملوا عليهم فقتلوا منهم متلة عظيمة، وهبت ريح من غربي دجيل، فحملت السفن، فأذنتها من الشط، فنزل السودان إليها، فقتلوا من وجدوا فيها، وانحاز رميس ومن كان معه إلى نهر الدير على طري أقشى، وترك سفنه لم يحركها ليظن أنه ميم، وخرج عقيل وصاحب ابن أبي عون إلى دجلة مباديرين، لا يلويان على شئ.

وأمر صاحب الزنج بإخراج ما في السفن التي فيها الدبيلا؛ وكانت مقروناً بعضها ببعض، فنزل فيها قاقويه ليفتشها، فوجد رجلاً من الدبيلا، فحاول إخراجه فامتنع، وأهوى إليه بسرتى كان معه؛ فضربه ضربة على ساعده، فقطع بعا عرقاً من عروقه، وضربه ضربة على رجله، فقطعت عصبة من عصبه، وأهوى له قاقويه، فضربه ضربة على هامته فسط، فأخذ بشعره، واحتز رأسه؛ فأتى به صاحب الزنج، فأمر له بدينار خفيف، وأمر يحيى بن محمد أن يقوده على مائة من السودان. ثم سار صاحب الزنج إلى قرية تعرف بالمهلبي تقابل قياران، ورجع السودان الذين كانوا اتبعوا عقيلاً وخليفة ابن أبي عون، وقد أخذ سميرية فيها ملاحان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: اتبعناهم فطرحوا أنفسهم ألى الشط، وتركوا هد السميرية، فجئنا بها، فسأل الملاحين، فأخبراه أن عيلاً حملهما على اتباعه قهراً، وحبس نساءهما حتى اتبعاه، فقالا: إن عقيلاً وعدهم مالاً، فتبعوه؛ فسألهما عن السفن الواقعة، فقالا: هذه سفن رميس ود تركها، وهرب في أول النهار، فرجع حتى إذا حاذاها أمر السودان فعبرا، فأتوه بها، فأنهبهم ما كان فيها، وأمر بها فأحرقت، ثم صار إلى القرية المعروفة بالمهلبية واسمها تنغت، فنزل قريباً منها، وأمر بانتهابها وإحراقها؛ فانتهبت وأحرقت، وسار على نهر الماديان، فوجد فيها تموراً، فأمر بإحراقها.

وكان لصاحب الزنج بعد ذلك أمور من عيشه هو وأصحابه في تلك الناحية تركنا ذكرها، إذ لم تكن عظيمة، وإن كان كل أموره كانت عظيمة.

ثم كان من عظيم ما كان له من الوقائع مع أصحاب السطان وقعة كانت مع رجل من الأتراك يكنى أبا هلال في سوق الريان، ذكر عن قائد من قواده يقال له ريحان، أن هذا التركي وافاهم في هذا السوق، ومعه زهاء أربعة آلاف رجل أو يزيدون؛ وفي مقدمته عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول، وأن السودان حملوا عليه حملة صادقة، وأن بعض السودان ألقى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا معه في يده فصرعه، وانهزم القوم، وتلاحق السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال زهاء ألف وخمسمائة. وإن بعضهم اتبع أبا هلال ففاته بنفسه على دابة عرى، وحال بينهم وبين من أفلت ظلمة الليل، وأنه لما أصبح أمر بتتبعهم، ففعلوا ذلك فجاءوا بأسرى ورءوس فقتل الأسرى كلهم، ثم كانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة مع أصحاب السلطان، هزمهم فيها وظفر بهم، وكان مبتدأ الأمر في ذلك - فيما ذكر عن قائد لصاحب الزنج من السودان يقال له ريحان - أنه قال: لما كان في بعض الليل من ليالي هذه السنة التي ذكرنا أنه ظهر فيها، سمع نباح كلب في أبواب تعرف بعمرو بن مسعدة، فأمر بتعرف الموضع الذي يأتي منه النباح، فوجه لذلك رجلاً من أصحابه، ثم رجع فأخبره أنه لم ير شيئاً؛ وعاد النباح. قال: ريحان: فدعاني، فقال لي: صر إلى موضع هذا الكلب النابح، فإنه إنما نبح شخصاً يراه، فصرت فإذا أنا بالكلب على المسناة، ولم أر شيئاً، فأشرفت فإذا برجل قاعد في درجات هنالك، فكلمته فلما سمعني أفصح بالعربية كلمني، فقال: أنا سيران بن عفو الله، أتيت صاحبكم بكتب من شيعته بالبصرة، وكان سيران هذا أحد من صحب صاحب الزنج أيام مقامه بالبصرة، فأخذته فأتيته به، فرأ الكتب التي كانت معه، وسأله عن الزينبي وعن عدة من كان معه، فقال: إن الزينبي قد أعد لك الخول والمطوعة والبلالية والسعدية، وهم خل كثير، وهو علة لقائك بهم ببيان، فقال له: اخفض صوتك، لئلا يرتاع الغلمان بخبرك، وسأله عن الذي يقود هذا الجيش، فقال: قد ندب لذلك المعروف بأبي منصور؛ وهو أحد موالي الهاشميين: قال له: أفرأيت جمعهم؟ قال: نعم؛ وقد أعدّوا الشّرط لكتف من ظفروا به من السودان، فأمره بالانصراف إلى الموضع الذي يكون فيه مامه، فانصرف سيران إلى عليّ بن أبان ومحمد بن سلم ويحيى بن محمد، فجعل يحدّثهم إلى أن أسفر الصبح، ثم سار صاحب الزنّج إلى أن أشرف عليهم. فلما انتهى إلى مؤخّر ترسي وبرسونا وسندادان بيان، عرض له قوم يريدون قتله، فأمر عليّ بن أبان فأتاهم فهزمه، وكان معهم مائة أسود، فظفر بهم. قال ريحان: فسمعته يقول لأصحابه: من أمارات تمام أمركم ما ترون من إتيان هؤلاء القوم بعبيدهم فيسّلمونهم إليكم؛ فيزيد اللّه في عددكم. ثم سار حتى صار إلى بيان.

قال ريحان: فوجّهني وجماعة من أصحابه إلى الحجر لطلب الكاروان وعسكرهم في طرف النخل في الجانب الغربيّ من بيان، فوجّهنا إلى الموضع الذي أمرنا بالمصير إليه، فألفينا هناك ألفاً وتسعمائة سفينة، ومعها قوم من المطوّعة قد احتبسوها، فلما رأونا خلّوا عن السفن، وعبروا سلبان عرايا ماضين نحو جوبك. وسقنا السفن حتى وافيناه بها، فلما أتيناه بها أمر فبسط له على نشز من الأرض وقعد، وكان في السفن قوم حجّاج أرادوا سلوك طريق البصرة؛ فناظرهم بقيّة يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردّهم إلى سفنهم؛ فلما أصبحوا أخرجهم، فأحلفهم ألاّ يخبروا أحداً بعدّة أصحابه، وأن يقللوا أمره عند من سألهم عنه وعرضوا عليه بساطاً كان معهم، فأبدله ببساط كان معه، واستحلفهم أنه لا مال للسلطان معهم ولا تجارة، فلوا: معنا رجل من أصحاب السلطان، فأمر بإحضاره، فأحضر، فحلف الرّجل أنه ليس من أصحاب السلطان، وأنه رجل معه نقل أراد به البصرة، فأحضر صاحب السفينة التي وجد فيها، فحلف له أنه إنما اتّجر فيه، فحمله فخلي سبيله، وأطلق الحجاج فذهبوا، وشرع أهل سليمانان على بيان بإزائه في شرقيّ النهر؛ فكلمهم أصحابه وكان فيهم حسين الصيدنانيّ الذي كان صحبه بالبصرة؛ وهو أحد الأربعة الذين ظهروا بمسجد عبّاد، فلحق به يومئذ؛ فقال له: لم أبطأت عني إلى هذه الغاية؟ قال: كنت مختفياً، فلما خرج هذا الجيش دخلت في سواده. قال: فأخبرني عن هذا الجيش، ما هم؟ وما عدّة أصحابه؟ قال: خرج من الخول بحضرتي ألف ومائتا مقاتل، ومن أصحاب الزينبيّ ألف، ومن البلاليّة والسعديّة زهاء ألفين، والفرسان مائتا فارس. ولما صاروا بالأبلّة وقع بينهم وبين أهلها اختلاف؛ حتى تلاعنوا، وشتم الحول محمد بن أبي عون، وخلفتهم بشاطىء عثمان وأحسبهم مصبّحتك في غد. قال: فكيف يريدون أن يفلوا إذا أتونا؟ قال: هم على إدخال الخيل من سندادان بيان، ويأتيك رجالتهم من جنبّي النهر.

فلما أصبح وجّه طليعةً ليعرف الخبر، واختاره شيخاً ضعيفاً زمناً لئلا يعرض له؛ فلم يرجع إليه طليعته. فلمّا أبطاً عنه وجّه فتحاً الحجام ومعه ثلثمائة رجل، ووجّه يحيى بن محمد إلى سندادان، وأمره أن يخرحج في سوق بيان، فجاءه فتح فأخبره أن القوم مقبلون إليه في جمع كثير، وأنهم قد أخذوا جنتي النهر، فسأل عن المد، فقيل: لم يأت بعد، فقال: لم تدخل خيلهم بعد، وأمر محمد بن سلم وعلي بن أبن أن يقعدا لهم في النخل، وقعد هو على جبل مشرف عليهم، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال حتى صاروا إلى الأرض المعروفة بأبي العلاء البلخي، وهي عطفة على دبيران، فأمر الزنج فكبروا ثم حملوا عليهم فوافوا بهم دبيران، ثم حمل الخول يقدمهم أبو العباس بن أيمن المعروف بأبي الكباش وبشير القيسي، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه، ثم رجعوا عليهم، فثبتوا لهم، وحمل أبو الكباش على فتح الحجام فقتله، وأدرك غلاماً يال له دينار من السودان فضربه، ضربات، ثم حمل السوادن عليهم، فوافوا بهم شاطئ بيان، وأخذتهم السيوف.

قال ريحان: فعهدي بمحمد بن سلم وقد ضرب أبا الكباش، فألى نفسيه في الطين، فلحقه بعض الزنج، فاحتز رأسه. وأما علي بن أبان؛ فإنه كان ينتحل قتل أبي الكباش وبشير القيسي، وكان يتحدث عن ذلك اليوم فيول: كان أول من لقبني بشير القيسي، فضربني وضربته، فوقعت ضربته في ترسي، ووقعت ضربتي في صدره وبطنه؛ فانتظمت جوانح صدره، وفريت بطنه، وسقط فأتيته، فاحترزت رأسه. ولقيني أبو الكباش، فشغل بي، وأتاه بعض السودان من ورائه فضربه بعصا كانت في يده على ساقيه؛ فكسرهما فسقط، فأتيته ولا امتناع به، فقتله واحترزت رأسه، فأتيت بالرأسين صاحب الزنج.

قال محمد بن الحسن بن سهل: سمعت صاحب الزنج يخبر أن علياً أتاه برأس أبي الكباش ورأس بشير القيسي - قال: ولا أعرفهما - فال: كان هذان يقدمان القوم، فقتلهما فانهزم أصحابهما لما رأوا مصرعهما.

قال ريحان - فيما ذكر عنه: وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب، واتبعهم السودان إلى نهر بيان، وقد جزر النهر، فلما وافوه انغمسوا في الوحل، فقتل أكثرهم. قال: وجعل السودان يمرون بصاحبهم دينار الأسود الذي كان أبو الكباش ضربه، وهو جريح ملقى، فيحسبونه من الخول فيضربونه بالمناجل حتى أثخن، ومر به من عرفه، فحمل إلى صاحب الزنج، فأمر بمداواة كلومه.

قال ريحان: فلما صار القوم إلى فوهة نهر بيان، وغرق من غرق وأخذت السفن التي كانت فيها الدواب، إذا ملوح يلوح من سفينة، فأتيناه فقال: ادخلوا النهر المعروف بشريكان، فإن لهم كميناً هناك، فدخل يحيى ابن محمد وعلي بن أبان، فأخذ يحيى في غربي النهر، وسلك علي بن أبان في شرقية؛ فإذا كمين في زهاء ألف من المغاربة، ومعهم حسين الصيداني أسيراًُ قال: فلما رأونا شدوا على الحسين، فقطعوه قطعاً، ثم أقبلوا إلينا، ومدوا رماحهم، فقاتلوا إلى صلاة الظهر، ثم أكب السودان عليهم فقتلوهم أجمعين، وحووا سلاحهم؛ ورجع السودان إلى عسكرههم؛ فوجدوا صاحبهم قاعداً على شاطئ بيان، وقد أتى بنيف وثلاثين علماً وزهاء ألف رأس، فيها رءوس أنجاد الخول وأبطالهم، ولم يلبث أن أتوه بزهير يومئذ.

قال ريحان: فلم أرفه، فأتى بيحيى وهو بين يديه ، فعرفه فقال لي: هذا زهير الخول؛ فما استبقاؤك إياه، فأمر به فضربت عنقه. وأقام صاحب الزنج يومه وليلته، فلما أصبح وجه طليعة إلى شاطئ دجلة، فأتاه طلية، فأعلمه أن بدجلة شذاتين لاصقتين بالجزيرة، والجزيرة يومئذ على فوهة القندل، فرد الطليعة بعد العصر إلى دجلة ليعرف الخبر؛ فلما كان وقت المغرب أتاه المعروف بأبي العباس خال ابنه الأكبر، ومعه رجل من الجند يقال له عمران، وهو زوج أم أبي العباس هذا، فصف لهما أصحابه، ودعا بهما؛ فأدى إليه عمران رسالة ابن أبي عون، وسأله أنيعبر بيانا ليفارق عمله، أنه قد نحى الشذا عن طريقه،فأمر بأخذ السفن التي تخترق بيانا من جبى، فصار أصحابه إلى الحجر، فوجدوا في سلبان مائتي سفينة، فيها أعدل دقيق ، فأخذت، ووجد فيها أكسية بركانات، وفيها عشرة من الزنج، وأمر الناس بركوب السفن، فلما جاء المد - وذلك فيوقت المغرب - عبر وعبرأصحابه حيال فوهة الندل، واشتدت الريح، فانقطع عنه من أصحابه المكنى بأبي دلف، وكان معه السفن التي فيها الدقيق،فلما أصبح وافاه أبو دلف أخبره أن الريح حملته إلى حسكك عمران، وأن اهل القرية هموا به، وبما كان معه، فدفعهم عن ذلك0 وأتاه من السودان خمسون رجلا، فسار عند موافاة السفن والسودان إياه حتى دخل القندل، فصار إلى قرية للمعلى بن أيوب، فنزلها،وانبث أصحابه إلى دبا، فوجدوا هناك ثلثمائة رجل من الزنج، فأتوه بهم، ووجدوا وكيلاً للمعلى بنأيوب، فطالبه بمال، فقال: اعبر إلى برسان،فآتيك بالمال، فأطلقه، فذهب ولم يعد إليه؛ فلما أبطأ عليه أمر بانتهاب القرية فانتهبت. قال ريحان - فيما ذكر عنه: فلقد رأيت صاحب الزنج يومئذ ينتهب معنا، ولقد وفعت يدي ويده على جبة صوف مضربة، فصار بعضها في يده وبعضها في يدي، وحعل يجاذبني عليها حتى تركتها له، ثم سار حتى صار إلى مسلخة الزينبي على شاطئ القندل في غربي النهر، فثبت له القوم الذين كانوا في المسلحة؛ وهم يرون أنهم يطيقونه، فعجزوا عنه، فقتلوا أجمعين؛ وكانوا زهاء مائتين، وبات لياته في القصر، ثم غدا في وقت المد قاصداً إلى سبخة القندل، واكتف أصحابه حافتي النهر حتى وافوا منذران، فدخل أصحابه القرية فانتهبوها، ووجدوا فيها جمعاً من الزنج، فأتوا بهم، ففرقهم على قواده، ثم صار إلى مؤخر القندل، فأدخل السفن النهر المعروف بالحسنى النافذ إلى النهر المعروف بالصالحي؛ وهو نهر يؤدي إلى دبا، فأقام بسبخة هناك.

فذكر عن بعض أصحابه أنه قال: ها هنا قود القواد؛ وأنكر أن يكون قود قبل ذلك. وتفرق أصحابه في الأنهار حتى صاروا إلى مربعة دبا، فوجدوا رجلا من التمارين من اهل البصرة، يقال له محمد بن جعفر المريدي، فأتوه به، فسلم عليه وعرفه، وسأله عن البلالية،فقال: إنما أتيتك برسالتهم، فلقيني السودان، فأتوك بي، وهم يسألونك شروطاً إذا أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا، فأعطأه ماسأل لهم، وضمن القيام له بأمرهم؛ حتى يصيروا في حيزه، ثم خلى سبيله، ووجه معه من صيره إلى الفياض، ورجع عنه، فأقام أربعة أيام ينتظره؛ فلم يأته، فسار في اليوم الخامس وقد سرح السفن التي كانت معه في النهر، وأخذ هو على الظهر فيما بين نهر يقال له الداورداني والنهر المعروف بالحسنى والنهر المعروف بالصالحى، فلم يتعد حتى رأى خيلا مقبلة من نحو الأمير زهاء ستمأئة فارس، فأسرع أصحابه إلى النهر الداورداني، وكان الخيل في غريبه، فكلموهم طويلاً، وإذا هم قوم من الأعراب فيهم عنترة بن حجنا وثمال، فوجه إليهم محمد بن سلم، فكلم ثمالاً وعنترة، وسأل عن صاحب الزنج، فقال: ها هو ذا، فقال: نريد كلامه، فأتاه فأخبره بقولهما، وقال له: لو كلمتهما! فزجره، وقال: إن هذا مكيدة، وأمر السودان بقتالهم، فعبروا النهر، فعدلت الخيل عن السودان، ورفعوا علماً أسود، وظهر سليمان أخر الزينبي - وكان معهم - ورجع أصحاب صاحب الزنج، وانصرف القوم، فقال لمحمد بن سلم: ألم أعلمك أنهم إنما أرادوا كيداً! وسار حتى صار إلى ذبا، وانبث أصحابه في النخل، فجاءوا بالغنم والبقر، فجعلوا يذبحون ويأكلون، وأقام ليلته هناك؛ فلما أصبح سار حتى دخل الأرخنج المعروف بالمطري، وهو أرخنج ينفذ إلى نهر الأمير المقابل للفياض من جانبيه، فوجدوا هناك شهاب بن العلاء العنبري، ومعه قوم من الخول، فأوقعوا به، وأفلت شهاب في نفير ممن كان معه، وقتل من أصحابه جماعة، ولحق شهاب بالمنصف من الفياض، ووجد أصحاب صاحب الزنج ستمائة غلام من غلمان الشورجيين هناك، فأخذوهم، وقتلوا وكلاءهم وأتوه بهم، ومضى حتى انتهى إلى قصر يعرف بالجوهري على السبخة المعروفة بالبرامكة فأقام فيها ليلته تلك، ثم سار حيث أصبح وافى السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالمحدث، فأقام بها، وجمع أصحابه، وأمرهم ألا يعجلوا بالذهاب إلى البصرة حتى يأمرهم وتفرق أصحابه في انتهاب كل ما وجدوا، وبات هناك ليلته تلك