المجلد التاسع - ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج: بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصرة

ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج

بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصرة

ذكر أنه سار من السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالحدث، بعد ما جمع بها أصحابه يريد البصرة؛ حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقةً، فلم يلبث إلا يسيراً حتى تنادى الزنج السلاح، فأمر علي بن أبان بالعبور إليهم، وكان القوم في شري النهر المعروف بالديناري، فعبر في زهاء ثلاثة آلاف، وحبس صاحب الزنج عنده أصحابه، وقال لعلي: إن احتجت إلى مزيد في الرجال فاستمدني. فلما مضى صاح الزنج السلاح! لحركة رأوها من غير الجهة التي صار إليها على، فسأل عن الخبر، فأخبر أنه قد أتاه قوم من ناحية القرية الشارعة على نهر حرب المعروفة بالجعفرية، فوجه محمد بن سلم إلى تلك الناحية.

فذكر عن صاحبه المعروف بريحان، أنه قال: كنت فيمن توجه مع محمد، وذلك في وقت صلاة الظهر، فوافينا القوم بالجعفرية، فنشب التال بيننا وبينهم إلى آخر وقت العصر، ثم حمل السودان عليهم حملة صادقة، فولوا منهزمين وقتل من الجند والأعراب وأهل البصرة البلالية والسعدية خمسمائة رجل، وكان فتح المعروف بغلام أبي شيث معهم يومئذ، فولى هارباً، فاتبعه فيروز الكبير، فلما رآه جاداً في طلبه رماه ببيضة كانت على رأسه، فلم يرجع عنه؛ فرماه بترسه فلم يرجع عنه، فرماه بتنور حديد كان عليه فلم يرجع عنه؛ ووافى به نهر حرب، فألقى فتح نفسه فيه، فأفلت ورجع فيروز، معه ما كان فتح ألقاه من سلاحه؛ حتى أتى به صاحب الزنج.

قال محمد بن الحسن: قال شبل: حكي لنا أن فتحاً طفر يومئذ نهر حرب، قال: فحدثت هذا الحديث الفضل بن عدي الدرامي، فقال: أنا يومئذ مع السعدية، ولم يكن على فتح تنور حديد، وما كان عليه إلا صدره حرير صفراء، ولقد قاتل يومئذ حتى لم يبق أحد يقاتل، وأتى نهر، حرب فوثبه حتى صار إلى الجانب الغربي منه؛ ولم يعرف ما حكى ريحان من خبر فيروز.

قال: وقال ريحان: لقيت فيروز قبل انتهائه إلى صاحب الزنج، فاقتص علي قصته وقصة فتح، وأراني السلاح. وأقبل الزنج على أخذ الأسلاب، وأخذت على النهر المعروف بالديناري؛ فإذا أنا برجل تحت نخلة عليه قلنسوة خز، وخف أحمر ودراعة، فأخذته فأراني كتباً معه، وقال لي: هذه كتبٌ لقوم من أهل البصرة، وجهوني بها، فألقيت في عنقه عمامة، وقدته إليه، وأعلمته خبره، فسأله عن اسمه فقال: أنا محمد بن عبد الله، وأكنى بأبي الليث، من أهل أصبهان؛ وإنما أتيتك راغباً في صحبتك، فقبله ولم يلبث أن سمع تكبيراً؛ فإذا علي بن أبان قد وافاه ومعه رأس البلالي المعروف بأبي الليث القواريري.

قال: وقال شبل الذي قتل أبا الليث القواريري وصيف المعروف بالزهري وهو من مذكوري البلالية، ورأس المعروف بعبدان الكبسي، وكان له في البلالية صوت في رءوس جماعة منهم، فسأله عن الخبر فأخبره أنه لم يكن فيمن قاتله أشد قتالاً من هذين - يعني أبا الليث وعبدان - وأنه هزمهم حتى ألقاهم في نهر نافذ؛ وكانت معهم شذاة فغرقها، ثم جاءه محمد بن سلم ومعه رجل من البلالية أسيراً، أسره شبل يقال له محمد الأزرق القواريري، ومعه رءوس كثيرة، فدعا الأسير فسأله عن أصحاب هذين الجيشين، فقال له، أما الذين كانوا في الرياحي فإن قائدهم كان أبا منصور الزينبي، وأما الذين كانوا مما يلي نهر حرب، فإن قائدهم كان سليمان أخا الزينبيمن ورائهم مصحراً،فسأله عن عددهم فقال له: لاأحصيهم، إلا أنى أعلم أنهم كثير عددهم.فأطلق محمد القواريري، وضمه إلى شبل،وسار حتى وافى سبخة الجعفرية، فأقام ليلته بين القتلى؛ فلما أصبح جمع أصحابه فحذرهم أن يدخل أحد منهم البصرة، وسار فتسرع منهم أنكلويه وزريق وأبوالحنجر - ولم يكن قود يومئذ - وسليم ووصيف الكوفي.فوافوا النهر المعروف بالشاذاني،وأتاهم أهل البصرة، وكثروا عليهم؛ وانتهى الخبر إليه، فوجه محمد بن سلم وعلي بن أبان ومشراً غلام يحيى في خلق كثير، وجاء هو يسايرهم؛ ومعه السفن التي فيعا الدواب المحمولة ونساء الغلمان حتى أقام بقنطرة نهر كثير.

قال ريحان: فأتيته وقد رميت بحجر، فأصاب ساقي، فسألني عن الخبر فأخبرته أن الحرب قائمة، فأمرني بالرجوع، وأقبل معي حتى أشرف على نهر السيايجة. ثم قال لي: امض إلى أصحابنا، فقل لهم يستأخروا عنهما، فقلت له: ابعد عن هذا الموضع فإني لست آمن عليك الخول. فتنحى، ومضيت فأخبرت القواد بما أمر به، فتراجعوا، وأكب أهل البصرة عليهم، وكانت هزيمة وذلك عند العصر، ووقع الناس في النهرين: نهر كثير ونهر شيطان، فجعل يهتف بهم ويردهم فلا يرجعون، وغرق جماعة من أصحابه في نهر كثير، وقتل منهم جماعة على شط النهر وفي الشاذاني؛ فكان ممن غرق يومئذ من قواده أبو الجون ومبارك البحراني وعطاء البربري وسلام الشأمي، ولحقه غلام أبي شيث وحارث القيسي وسحيل، فعلوا القنطرة، فرجع إليهم وانهزموا عنه حتى صاروا إلى الأرض، وهو يومئذ في دراعة وعمامة ونعل وسيف، وترسه في يده؛ ونزل عن القنطرة وصعدها البصريون يطلبونهن فرجع فقتل منهم بيده رجلاً على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق غلام يحيى.

قال ريحان: فكنت معه فرجع؛ حتى صار إلى المعلى، فنزل في غربي نهر شيطان.

قال محمد بن الحسن: فسمعت صاحب الزنج يحدث، قال: لقد رأيتني في بعض نهار هذا اليوم؛ وقد ضللت عن أصحابي، وضلوا عني فلم يبق معي إلا مصلح ورفيق، وفي رجلي نعل سندي، وعلي عمامة قد انحل كور منها فأنا أسحبها من ورائي، ويعجلني المشي عن رفعها، ومعي سيفي وترسي. وأسرع مصلح ورفيق في المشي وقصرت، فغابا عني، ورأيت في أثري رجلين من أهل البصرة؛ في يد أحدهما سيف، وفي يد الآخر حجارة، فلما رأياني عرفاني، فجدا في طلبي، فرجعت إليهما، فانصرفا عني، ومضيت حتى خرجت إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابي؛ وكانوا قد تحيروا لفقدي، فلما رأوني سكنوا إلى رؤيتي.

قال ريحان: فرجع بأصحابه إلى موضع يعرفغ بالمعلي في غربه نهور شيطان، فنزل به، وسأل عغن الرجل؛ فإذا قد هرب كثير منه ونظر فإذا هو من جمي أصحابه في مقدار خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون فلم يرجع إليه أحد وبات ليلته فلم كان في بعض الليل جاء الملقب بجربان وقد كان هرب فيمن هرب، ومعه ثلاثون غلاماً فسأله: أين كانت غيبته؟ فقال: ذهبت إلى الزواقة طليعةً.

قال ريحان: ووجهي لأتعرف له من في قنطرة نهر حرب، فلم أجد هناك أحداً، وقد كان أهل البصرة انتهبوا السفن التي كانت معه، وأخذوا الدواب التي كانت فيها هذا اليوم، وظفروا بمتاع من متاعه، وكتب من كتبه، واصطرلابات كانت معه؛ فلما أصبح من غد هذا اليوم نظر في عدة أصحابه، فإذا هم ألف رجل قد كانوا ثابوا إليه في ليلتهم تلك.

قال ريحان: فكان فيمن هرب شبل، وكان ناصح الرملي ينكر هرب شبل. قال ريحان: فرجع شبل من غد، ومعه عشرة غلمان، فلامه وعنفه، وسأل عن غلام كان يقال له نادر يكنى بأبي نعجة، وعن عنبر البربري؛ فأخبر أنهما هربا فيمن هرب، فأام في موضعه، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى قنطرة نهر كثير، فيعظ الناس ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج، فصار محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد، فوقف سليمان ويحيى، وعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة، وجعل يكلمهم، ورأو منه غرة فانطووا عليه؛ فقتلوه.

قال الفضل بن عدي: عبر محمد بن سلم إلى أهل البصرة ليعظهم وهم مجتمعون في أرض تعرف بالفضل بن ميمون؛ فكان أول من بدر إليه وضربه بالسيف فتحٌ غلام أبي شيث، وأتاه ابن التومني السعدي، فاحتز رأسه، فرجع سليمان ويحيى إليه، فأخبراه الخبر، فأمرهما بطي ذلك عن الناس حتى يكون هو الذي يقوله لهم، فلما صلى العصر نعى محمد بن سلم لأصحابه، وعرف خبره من لم يكن عرفه، فقال لهم: أنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة. ووجه زريقاً وغلاماً له يقال له سقلبتويا، وأمرهما بمنع الناس من العبور؛ وذلك في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين. قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن سمعان الكاتب،قال: لما كان في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة جمع له أهل البصرة، وحشدوا له لما رأوا من ظهورهم عليه في يوم الأحد،وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي - وكان من غزاة البحر - في الشذا، وله علم بركوبها والحرب فيها،فجمع المطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبى البلالية والسعدية، ومن أحب النظر من غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين وسائر أصناف الناس، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا من الرماة، وجعلوا يزدحمون في الشذا حرصاً على حضور ذلك المشهد، ومضى جمهور الناس رجالة، منهم من معه السلاح، ومنهم نظارة لا سلاح معهم، فدخلت الشذا والسفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد. ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفاً وكثرة، وكان صاحب الزنج مقيماً بموضعه من النهر المعروف بشيطان.قال محمد بن الحسن: فأخبرنا صاحب الزنج أنه لما أحس بمصير الجمع إليه، وأتته طلائعه بذلك وجه زريقاً وأبا الليث الأصبهاني في جماعة معهما في الجانب الشرقي من النهر كميناً وشبلاً وحسيناً الحمامي في جماعة من أصحابه في الجانب الغربي بمثل ذلك، وأمر على بن أبان ومن بقي معه من جمعه بتلقى القوم، وأن يجثوا لهم فيمن معه، ويستتروا بتراسهم فلا يثور إليهم منهم ثائر حتى يوافيهم القوم ويوموا إليهم بأسيافهم؛ فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم. وتقدم إلى الكمينين: إذا جاوزهما الجمع وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبى النهر، ويصيحا بالناس. وأمر نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به.

قال: وكان يقول لأصحابه بعد ذلك: لما أقبل إلي الجمع يومئذ وعاينته رأيت أمراً هائلاً راعني، وملأ صدري رهبة وجزعاً، وفزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير؛ منهم مصلح؛ وليس منا أحد إلا وقد خيل له مصرعه في ذلك. فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعلت أومى إليه أن يمسك فلما قرب القوم مني قلت: اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيوراً بيضاً تلقت ذلك الجمع، فلم أستتم كلامي حتى بصرت بسميرية قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا ثم تلتها الشذا، وثار أصحابي إلى القوم الذين قصدوا لهم فصاحوا بهم. وخرج الكمينان عن جنبتي النهر من وراء السفن والرجالة، وخبطوا من ولي من الرجالة والنظارة الذين كانوا على شاطئ النهر المعروف، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشط طمعاً في النجاة، فأدركها السيف؛ فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق، ولجأ من كان على شاطئ النهر من الرجالة إلى النهر فغرقوا وقتلوا، حتى أبير أكثر ذلك الجمع، ولك ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من نسائهم وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظموا ما كان فيه من القتل. وكان فيمن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر بن سليمان وأربعون رجلاً من الرماة الشمهورين؛ في خلق كثير لا يحصى عددهم وانصرف الخبيث وجمعت له الرءوس، فذهب إليه جماعة من أولياء القتلى، فعرضها عليهم، فأخذوا ما عرفوا منها، وعبأ ما بقي عنده من الرءوس التي لم يأت لها طالب في جريبية ملأها منها، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر، وأطلقها. فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة القيار، فجعل الناس يأتون تلك الروءس، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوى عدو الله بعد هذا اليوم، وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه. وكتب إلى السلطان بخبر ما كان منه، فوجه جعلان التركي مدداً لأهل البصرة، وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمصير إلى الأبلة والياً، وأمده برجل من الأتراك يقال له جريح.

فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة، ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومن لا حراك به، فأذن لنا في تقحمها. فزبرهم وهجن آراءهم ، وقال لهم: لا بل ابعدوا عنها؛ فقد أرعبناهم وأخفناهم وأمنتم جانبهم؛ فالرأي الآن أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم. ثم انصرف بأصحابه إلى سبخة بمآخير أنهارهم، إردب يقارب النهر المعروف بالحاجر. قالشبل: هي سبخة أبي قرة وقعها بين النهرين: نهر أبي قرة والنهر المعروف بالحاجر.

فأقام هناك، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ، وهذه السيخة متوسطة النخل والقرى والعمارات، وبث أصحابه يميناً وشمالاً يغير بهم على القرى، ويقتل بهم الأكرة وينهب أموالهم، ويسوق مواشيهم.

فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضع مخرجه في هذه السنة.

ولليلتين بقيتا من ذي القعدة منها حبس الحسن الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وولي عبد الرحمن بن نائل البصري قضاء سامرا في ذي الحجة منها.

وحج بالناس فيها علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد علي.