المجلد التاسع - ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة

ذكر الخبرعن  وصول موسى بن بغا إلى سامرا واختفاء صالح

فمن ذلك ما كان من موافاة موسى بن بغا سامرا واختفاء صالح بن وصيف لمقدمه، وحمل من كان مع موسى من قواد المهتدى من الجوسق إلى دار ياجور.

ذكر أن دخول موسى بن بغا سامرا بمن معه كان يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من هذة السنة؛ فلما دخلها أخذ في الحير، وعبأ أصحابه ميمنة وميسرة وقلباً في السلاح، حتى صار إلى باب الحيرمما يلي الجوسق والقصر الأحمر؛ وكان ذلك يوماً جلس فيه المهتدى للناس للمظالم؛ فكان ممن أحضره في ذلك اليوم بسبب المظالم أحمد بن المتوكل بن فتيان؛ فكان في الدار إلى أن دخل الموالي، فحملوا المهتدى إلى دار ياجور، واتبعه أحمد بن المتوكل إلى ما هنالك، فلم يزل موكلاً به في مضرب مفلح إلى أن انقطع الأمر، ورد المهتدى إلى الجوسق، ثم أطلق. وكان القيم بأمر دارالخلافة بايكباك، فصيرها إلى ساتكين قبل ذلك بأيام، فظن الناس أنه إنما فعل ذلك لثقيه بساتكين، وأنه على أن يغلب على الدار والخليفة وقت قدوم موسى، فلما كان في ذلك اليوم لزم منزله، وترك الدار خالية، وصار موسى في جيشه إلى الدار، والمهتدى جالس للمظالم، فأعلم بمكأنه، فأمسك ساعة عن الإذن، ثم أذن لهم، فدخلوا فجرى من الكلام نحو ماجرى يوم قدم الوفد والرسل، فلما طال الكلام تراطنوا فيما بينهم بالتركية، وأقاموه من مجلسه، وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق من دواب الخاصة، ومضوا يريدون الكرخ، فلما صاروا عند باب الحير في القطائع عند دار ياجور أدخلوه دار ياجور فذكر عن بعض الموالي ممن حضرهم ذلك اليوم، أن سبب أخذهم المهتدى ذلك اليوم كان أن بضهم قال لبعض: إ هذه المطاولة إما هي حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بن وصيف بجيشه. فخافوا ذلك، فحملوه وذهبوا به إلى الموضع الآخر؛ فذكر عمن سمع المهتدي يقول لموسى: ما تريد ويحك! اتق الله وخفه؛ فإنك تركب أمراً عظيماً. قال: فرد عليه موسى: إنا ما نريد إلا خيراً، ولا وتربة المتوكل لا ناتلك منا شر البتة.

قال الذي ذكر ذلك: فقلت في نفسي: لو أراد خيراً لحلف بتربا المتصم أو الواثق.

ولما صاروا به إلى دار ياجور أخذوا عليه العهود والمواثيق إلا يمايل صالحاً عليهم، ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر؛ ففعل ذلك، فجددوا له البيعة ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وأصبحوا يوم الثلاثاء، فوجهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة، فوعدهم أن يصير إليهم.

فذكر عن بعض رؤساء الفراعنة، أنه يل له، ما الذي تطالبون به صالح ابن وصيف؟ فقال: دماء الكتاب وأموالهم ودم المعتز وأمواله وأسبابه. ثم أقبل القوم على إبرام الأمور وعسكرهم خارج باب الحير عند باب ياجور؛ فلما كانت ليلة الأربعاء استتر صالح؛ فذكر عن طلمجور أنه قال: لما كانت ليلة الأربعاء اجتمعنا عند صالح، وقد مر أن يفرق أرزاق أصحاب النوبة عليهم، فقال لبعض من حضره: اخرج فأعرض من حضر من الناس، فكانوا بالغداة زهاء خمسة آلاف، قال: فعاد إليه، وقال: يكونون ثمانمائة رجل، أكثرهم غلمانك ومواليك، فأطرق ملياً، ثم قام وتركنا، ولم يأمر بشئ وكان آخر العهد.

وذكر عمن سمع بختيشوع يقول وهو يعرض بصالح قبل قدوم موسى.

حركنا هذا الجيش الخشن، وأرغمناه، حتى إذا أقبل إلينا تشاغلنا بالنرد والشرب، كأنا بنا وقد اختفينا إذا ورد القاطول! فكان الأمر كذلك.

وغدا طغتا إلى باب ياجور سحر يوم الأربعاء فلقيه مفلح، فضربه بطبرزين، فشجه في جانب جنبيه الأيمن، فكان الذين أقاموا مع صالح الليلة التي استتر فيها من القواد الكبار طغتا بن الصيغون وطلمجور صاحب المؤيد ومحمد بن تركش وخموش والنوشري، ومن الكتاب الكبار أبو صالح عبد الله ابن محمد بن يزداد وعبد الله بن منصور وأبو الفرج. وأصبح الناس يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من المحرم وقد استتر صالح، وغدا أبو صالح إلى دار ياجور، وجاء عبد الله بن منصور، فدخل الدار مع سليمان بن وهب، وتنصح إليهم أن عنده سفاتج بخمسة آلاف دينار.

وذكر أن صالحاً أراد على حملها، فأبى أن يقر الأمر قراره.

وخلع في هذا اليوم على كنجور ليتولى أمر دار صالح وتفتيشها، ومضى ياجور صاحب موسى فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوساً من دار صالح.

وفي هذا اليوم من هذا الشهر ولى سليمان بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام والسواد، ووجه إليه بخل، وزيد على ما كان يخلع على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر.

وفيه رد المهتدي إلى الجوسق، ودفع عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن ابن مخلد.

وفيه أظهر النداء على صالح.

ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف

ولثمان من صفر من هذه السنة قتل صالح بن وصيف.

ذكر الخبر عن سبب قتله وسبب الوصول إليه بعد اختفائه ذكر أن سبب ذلك كان أن المهتدي لما كان يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين أظهر كتاباً، ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت به مما يلي القصر الأحمر، ودفعته إلى كافور الخادم الموكل بالحرم، وقالت له: إن فيه نصيحة، وإن منزلي في موضع كذا فإن أردتموني فاطلبوني هناك، فأوصل الكتاب إلى المهتدي، فلما طلبت في الموضع الذي وصفت حين احتيج إلى بحثها عن الكتاب لم توجد، ولم يعرف لها خبر.

وقد ذكر أن المهتدي أصاب ذلك الكتاب، ولم يدر من رمى به، فذكر أن المهتدي دعا سليمان بن وهب بحضرة جماعة من الموالي فيهم موسى ابن بغا ومفلح وبايكباك وياجور وبكالبا وغيرهم؛ فدفع الكتاب إلى سليمان، وقال له: تعرفهذا الخط؟ قال: نعم، هذا خط صالح بن وصيف فأمره أن يقرأه عليهم، فإذا صالح يذكر فيه أنه مستخلف بسامرا، وأنه إنما استتر متخيراً للسلامة وإبقاء على الموالي، وخوفاً من إيصال الفتن بحرب إن حدثت بينهم، وقصداً لأن يبيت القوم، ويكون ما يأتونه بعد بصيرة مما ذكر في هذا الباب.

ثم ذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وقال: إن علمتم ذلك عند الحسن ابن مخلد، وهو أحدهم، وهو في أيديكم. ثم ذكر من وصل إليه ذلك المال وتولى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أمر قبيحة، وأشار إلى أن علم ذلك عند أبي صالح بن يزداد وصالح العطار، ثم ذكر أشياء في هذا المعنى، بعضها يتذر به وبعضها يحتج به، ومخرج القول في ذلك يدل على قوة في نفسه.

فلما فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول منه يحث على الصلح والهدنة والألفة والاتفاق، ويكره إليهم الفرقة والتفاني والتباغض، فدعا ذلك القوم إلى تهمته، وأنه يعلم بمكان صالح، وأنه يتقدمهم عنده، فكان بينهم في ذلك، كلام كثير ومناظرات طويلة، ثم أصبحوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين، فصاروا جميعاً إلى دار موسى بن بغا في داخل الجوسق يتراطنون ويتكلمون. واتصل الخبر بالمهتدي.

فذكر عن أحمد بن خاقان الواثقي أنه قال: من ناحيتي انتهى الخبر إلى المهتدي؛ وذلك أنى سمهت بعض من كان حاضر المجلس وهو يقول: أجمع القوم على خلع الرجل.

قال: فصرت إليه أخيه إبراهيم، فأعلمته بذلك، فدخل عليه فأعلمه ذلك، وحكاه عني؛ فلم أزل خائفاً أن يعجل أمير المؤمنين فيخبرهم عني بالخبر، فرزق الله السلامة.

وذكر أن أخا بايكباك قال لهم في هذا المجلس لما أطلعوه على ما كانوا عزموا عليه: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهو حسن الوجه، سخى الكف، فاضل النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بحراسان، ولأشيعن أمركم هناك.

فلما اتصل الخبر بالمهتدي خرج إلى مجلسه متقلداً سيفاً، وقد لبس ثياباً نظافاً، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم إليه، فأبوا ذلك ملياً، ثم دخلوا عليه، فقال لهم: إنه قد بلغني ما أنتم عليه من أمري؛ ولست كمن تقدمني مثل أحمد بن محمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة؛ والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي؛ والله لأضربن به ما استمسك قائمة بيدي؛ والله لئن سقط من شعري من شعرة ليهلكن أو ليذهبن بها أكثركم. أما دين! أما حياء! أما رعة! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بإرطال الشراب فشربها مسروراً بمكروهكم وحباً لبواركم! خبروني عنكم؛ هل تعلمون أنه وصل إلي من دينايكم هذه شيء! أما إنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي؛ وإن أحببت أن تعرف ذلك فانظر: هل ترى في منازلهم فرشاً أو وصائف أو خدماً أو جواري! أو لهم غلات! سوءة لكم! ثم تقولون: إني أعلم علم صالح، وهل صالحٌ إلا رجل من الموالى، وكواحد منكم! فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه! فإن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجمعكم، وإن أبيتم إلا الإامة على ما أنتم عليه فشأنكم؛ فاطلبوا صالحاً، ثم ابلغوا شفاء أنفسكم؛ وأما أنا فما أعلم علمه. قالوا: فاحلف لنا على ذلك. قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم؛ ولكني أؤخرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غداً إذا صليت الجمعة. فكأنهم لانوا قليلاً، ووجه في إحضار الهاشميين فحضروا في عيشتهم، فأذن لهم، فسلموا ولم يذكر لهم شيئاً، وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة، فانصرفوا، وغدا الناس يوم الجمعةولم يحدثوا شيئاً، وصلى المهتدي وسكن الناس وانصرفوا هادنين.

وذكر عن بعض من سم الكلام في يوم الأربعاء يقول: إن المهتدي لما خون صالح قال: إن بايكباك قد كان حاضراً ما عمل به صالح في أمر الكتاب ومال ابن قبيحة، فإن كان صالح قد أخذ من ذلك شيئاً فقد أخذ مثل ذلك بايكباك؛ فكان ذلك الذي أحفظ بايكباك.
وقال آخر: إنه سمع هذا القول، وإنه ذكر محمد بن بغا، وقال: قد كان حاضراً والماً بما أجروا عليه الأمر، والشريك في ذلك أجمع. فأحفظ ذلك أبا نصر.

وقد قيل: إن القوم من لدن قدم موسى كانوا مضمرين هذا المعنى، منطوين على الغل؛ وإنما كان يمنعهم منه خوف الاضطراب ولة الأموال؛ فلما ورد عليهم مال فارس والأهواز تحركوا، وكان ورود ذلك عليهم يوم الأربعاء لثلاث بين من المحرم، ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم.