المجلد التاسع - ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة

ذكر خبر مسير يعقوب بن الليث إلى فارس وانصرافه عنها

فمن ذلك ما كان من مصير يعقوب بن الليث إلى فارس، وبعثة المعتمد إليه ظغتا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري في شعبان منها، وكتاب أبي أحمد بن المتوكل إليه بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها، وما جعل له من المال في كل سنة، وقبوله ذلك وانصرافه.

وفي ربيع الآخر منها قدم رسول يعقوب بن الليث بأصنام ذكر أنه أخذها من كابل.

ولاثنتي عشرة خلت من صفر عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له أيضاً بعد ذلك لسبع خلون من شهر رمضان على بغداد والسواد وواسط وكرر دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأمر أن يولي صاحب بغداد أعماله، وأن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح، فولي يارجوخ منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة إلى ما يلي الأهواز.

ذكر خبر انهزام الزنج أمام سعيد بن الحاجب

وفيها أمر بغراج باستحثاث سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة بإزاء عسكر صاحب الزنج، ففعل ذلك بغراج - فيما قيل - ومضى سعيد الحاجب لما أمر به من ذلك في رجب من هذه السنة.

فذكر أن سعيداً لما صار إلى نهر معقل وجد هنالك جيشاً لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب - وهو أحد الأنهار المعترضة في نهر معقل - فأوقع بهم فهزمهم، واستنفذ ما في أيديهم من النساء والنهب، وأصابت سعيداً في تلك الوقعة جراحات، منها جراحة في فيه. ثم سار سعيد حتى صار إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر المنصور، فأقام به ليلة، ثم سار حتى أناخ بموضع يقال له هطمة من أرض الفرات، فأام هنالك أياماً يعبي أصحابه، ويستعد للقاء صاحب الزنج. وبلغه في أيام مقامه هنالك، أن جيشاً لصاحب الزنج بالفرات، فقصد لهم بجماعة من أصحابه، فهزمهم، وكان فيهم عمران زوج جدة ابن صاحب الزنج المعروف بأنكلاي، فاستأمن عمران هذا إلى بغراج، وتفرق ذلك الجمع. قال محمد بن الحسن: فلقد رأيت المرأة من سكان الفرات تجد الزنجي مستتراً بتلك الأدغال، فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به منهما امتناع. ثم قصد سيد حرب الخبيث فعبر إلى غربي دجلة، فأوقع به وقعات في أيام متوالية، ثم انصرف سعيد إلى معسكره بهطمة، فأقام به يحربه باقي رجب وعامة شعبان.

خلاص ابن المدبر من صاحب الزنج

وفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الخبيث، وكان سبب تخلصه منه - فيما ذكر - أنه كان محبوساً في غرفة في منزل يحيى بن محمد البحراني، فضاق مكانه على البحراني، فأنزله إلى بيت من أبيات داره، فحبسه فيه، وكان موكلاً به رجلان، ملاصق مسكنهما المنزل الذي فيه إبراهيم، فبذل لهما، ورغبهما، فسربا له سرباً إلى الموضع الذي فيه إبراهيم من ناحيتهما، فخرج هو وابن أخ له يعرف بأبي غالب ورجل من بني هاشم كان محبوساً معهما.

ذكر خبر إيقاع صاحب الزنج بسعيد وأصحابه

وفيها أصحاب الخبيث بسعيد وأصحابه فقتلوه ومن معه.

ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر أن الخبيث وجه إلى يحيى بن محمد البحراني وهو مقيم بنهر معقل في جيش كثيف يأمره بالتوجه بألف رجل من أصحابه، يرئس عليهم سليمان ابن جامع وأبا الليث، يأمرهما بالقصد لعسكر سعيد ليلاً حتى يوقعا به في وقت طلوع الفجر. ففعل ذلك، فصارا إلى عسكر سعيد، فصادفا منهم غرةً وغفلة، فأوقعا بهم وقعةً، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وأحرق الزنج يومئذ عسكر سعيد، فضعف سعيد ومن معه، ودخل أمرهم خلل للبيات الذي تهيأ عليهم، ولاحتباس الأرزاق عنهم، وكانت سببت لهم من مال الأهواز؛ فأبطأ بها عليهم منصور بن جعفر الخياط، وكان إليه يومئذ حرب الأهواز، وله من ذلك يد في الخراج.

ولما كان من أمر سعيد صالح ما كان، أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش الذي معه وما إليه من العمل هنالك إلى منصور بن جعفر؛ وذلك أن سعيداً ترك بعد ما كان من بيات الزنج أصحابه وإحراقهم عسكره؛ فلم يكن له حركة إلى أن صرف عما كان إليه من العمل هنالك.

خبر الوقعة بين منصور بن جعفر وصاحب الزنج

وفيها كانت وقعة بين منصور بن جعفر الخياط وبين صاحب الزنج، قتل فيها من أصحاب منصور جماعة كثيرة.

ذكر الخبر عن صفة هذه الوقعة ذكر أن سعيداً الحاجب لما صرف عن البصرة، أقام بغراخ يحمى أهلها، وجعل منصور يجمع السفن التي تأتي بالميرة، ثم يبذرقها في الشذا إلى البصرة، فضاق بالزنج الميرة، ثم عبأ منصور أصحابه، وجمع إلى الشذا التي كانت معه الشذا الجنابيات والسفن، وقصد صاحب الزنج في عسكره، فصعد قصراً على دجلة، فأحرقه وما حوله، ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج، وكمنوا له كميناً، فقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة؛ وألجئ الباقون إلى الماء، فغرق منهم خلق كثير؛ وحمل من الرءوس يومئذ - فيما ذكر - زهاء خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل، وأمر بنصبها هنالك.

وفيها ظهر من بغداد بموضع يقال له بركة زلزل، على خناق، وقد قتل خلقاً كثيراً من النساء ودفنهن في دار كان فيها ساكناً، فحمل إلى المعتمد؛ فبلغني أنه أمر بضربه، ألفي سوط وأربعمائة أرزن فلم يمت حتى ضرب الجلادون أنثييه بخشب العقابين، فمات، فرد إلى بغداد فصلب بها ثم أحرقت جثته.

خبر مقتل شاهين بن بسطام وهزيمة إبراهيم بن سيما

وفيها قتل شاهين بن بسطام وهزم إبراهيم بن سيما ذكر الخبر عن سبب مقتل شاهين وانهزام إبراهيم ذكر أن البحراني كان كتب إلى الخبيث يشير ليه بتوجيه جيش إلى الأهواز للمقام بها، ويرغبه في ذلك، وأن يبدأ بقطع قنطرة أربك؛ لئلا يصل الخيل إلى الجيش. وإن الخبيث وجه علي بن أبان لقطع القنطرة، فليقه إبراهيم بن سيما منصرفاً من فارس؛ وكان بها مع الحارث بن سيما في الصحراء المعروفة بدست أربك، وهي صحراء بين الأهواز والقتطرة. فلما انتهى علي بن أبان إلى القنطرة، أقام مخفياً نفسه ومن معه، فلما أصحرت الخيل، خرجت عليه من جهات، فقتلت من الزنج خلقاً كثيراً وانهزم علي، وتبعته الخيل إلى الفندم، وأصابته طعنة في أخمصه، فأسمك عن التوجه إلى الأهواز، وانصرف على وجهه إلى جبي؛ وصرف سعيد بن بكسين وولي إبراهيم بن سيما، وكاتبه شاهين، فأقبلا جميعاً، إبراهيم بن سيما على طريق الفرات قاصداً لذنابة نهر جبي، وعلي بن أبان بالخيزرانية؛ فأقبل شاهين بن بسطام على طريق نهر موسى، يقدر لقاء إبراهيم في الموضع الذي قصد إليه، وقد اتعدا لمواقعة علي بن أبان، فسبق شاهين. وأتى علي بن أبان رجلٌ من نهر موسى فأخبره بإقبال شاهين إليه؛ فوجه علي نحوه، فالتقيا في وقت العصر على نهر يعرف بأبي العباس - وهو نهر بين نهر موسى ونهر جبي - ونشبت الحرب بينهما، وثبت أصحاب شاهين، وقاتلوا قتالاً شديداً، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة، فولوا منهزمين؛ فكان أول من قتل يومئذ شاهين وابن عم له يقال حيان، وذلك أنه كان في مقدمة القوم، وقتل معه من أصحابه بشر كثير. وأتى علي بن أبان مخبر فأخبره بورود إبراهيم بن سيما؛ وذلك بعد فراغه من أمر شاهين، فسار من فوره إلى نهر جبي، وإبراهيم بن سيما معسكر هنالك لا يعلم خبر شاهين، فوافاه علي في وقت العشاء الآخرة، فأوقع بهم وقعة غليظة قتل فيها جمعاً كثيراً؛ وكان قتل شاهين والإيقاع بإبراهيم فيما بين العصر والعشاء والآخرة.

قال محمد بن الحسن: فسمت علي بن أبان يحدث عن ذلك، قال: لقد رأيتني يومئذ، وقد ركبني حمى نافض كانت تعتادني، وقد كان أصحابي حين نالوا ما نالوا من شاهين تفرقوا عني، فلم يصر إلى عسكر إبراهيم بن سيما معي إلا نحو من خمسين رجلاً، فوصلت إلى العسكر، فألقيت نفسي قريباً منه، وجعلت أسمع ضجيج أهل العسكر وكلامهم؛ فلما سكنت حركتهم، نهضت فأوقعت بهم.

ثم انصرف علي ابن أبان عن جبسي لما قتل شاهين، وهزم إبراهيم بن سيما، لورود كتاب عليه بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها.

ذكر خبر دخول الزنج البصرة هذا العام

وفيها دخل أصحاب الخبيث البصرة.

ذكر الخبر عن سبب وصولهم إلى ذلك وما عملوا بها حين دخلوها ذكر أن سيد بن صالح لما شخص من البصرة ضم السلطان عمله إلى منصور بن جعفر الخياط؛ وكان من أمر منصور وأمر أصحاب الخبيث ما قد ذكرناه قبل، وضعف أمر المنصور، ولم يعد لقتال الخبيث في عسكره، واقتصر على بذرقة القيروانات، واتسع أهل البصرة لوصول المير إليهم؛ وكان انقطاع ذلك عنهم قد أضر بهم، وانتهى إلى الخبيث الخبر بذلك، واتساع أهل البصرة. فعظم ذلك على الخبيث، فوجه علي بن أبان إلى نواحي جبسي، فعسكر بالخيزرانية، وشغل منصور بن جعفر عن بذرقة القيروانات إلى البصرة، فعاد حال أهل البصرة إلى ما كانت عليه من الضيق. وألح أصحاب الخبيث على أهل البصرة بالحرب صباحاً ومساء.

فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، وإضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها من القرى؛ وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر.

فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول: اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت، فقيل لي: إنما البصرة خبزةٌ لك تأكلها من جوانبها؛ فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة؛ فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده.

قال: فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإحالته إياه بينم.

ثم ندب محمد بن يزيد الدرامي؛ وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى الأعراب، وأنفذه فأتاه منهم خلق كثير، فأناخو بالقندل، ووجه إليهم الخبيث سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة، والإيقاع بها، وتقدم إلى سليمان بن موسى في تمرين الأعراب على ذلك؛ فلما وقع الكسوف أنهض على بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة ممايلي بني سعد، وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني - وهو يومئذ محاصر أهل البصرة - في إيتانها ممايلي نهر عدي، وضم سائر الأعراب إليه. قال محمد بن الحسن: قال شبل: فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، ومال الناس نحوه.

وأقبل يحيى بمن معه مما يلي قصر أنس قاصداً نحو الجسر، فدخل على ابن أبان المهلبي وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت، وعادى يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بغراج وبرية في جمع فرداه، فرجع فأقام يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الاثنين، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب بريه، وانحاز بغراج بمن معه، فلم يكن في وجهه أحدٌ يدافعه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم، ونادى منادي إبراهيم بن يحيى: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبةً حتى ملئوا الرحاب. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة في ذلك منهم، فأمر بأخذ السكك والطرق والدروب لئلا يتفرقوا، وغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد إلا الشاذ، ثن انصرف يومه ذلك، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخريبة.

قال محمد: وحدثني الفضل بن عدي الدارمي، قال: أنا حين وجه الخائن لحرب أهل البصرة في حيز أهل البصرة مقيم في بني سعد، قال: فأتانا آت في الليل؛ فذكر أنه رأى خيلاً مجتازة تؤم قصر عيسى بالخربية، فقال لي أصحابي: اخرج فتعرف لنا خبر هذه الخيل؛ فخرجت فإذا جماعة من بني تميم وبني أسد، فسألتهم عن حالهم، فزموا أنهم أصحاب العلوي المضمومون إلى علي بن أبان، وأن علياً يوافى البصرة في غد تلك الليلة، وأن قصده لناحية بني سعد، وأن يحيى بن محمد بجمعه قاصد لناحية آل المهلب. فقالوا: قل لأصحابك من بني سعد، إن كنتم تريدون تحصين حرمكم، فبادروا إخراجهم قبل إحاطة الجيش بكم.

قال الفضل: فرجعت إلى أصحابي، فأعلمتهم خبر الأعراب فاستعدوا، فوجهوا إلى بريه يعلمونه الخبر، فوافاهم فيمن كان بقي من الخول وجماعة من الجند وقت طلوع الفجر، فساروا حتى انتهوا إلى خندق يعرف ببني حمان، ووافاهم بنو تميم ومقاتلة السعدية، فلم يلبثوا أن طل عليهم، على ابن أبان في جماعة الزنج والأعراب على متون الخيل، فذهل بريه قبل لقاءهالقوم، فرجع إلى منزله، فكانت هزيمة، وتفرق من كان اجتمع من بني تميم، ووافى علي فلم يدفعه أحدٌ، ومر قاصداً إلى المربد، ووجه بريه إلى بني تميم يستصرخهم، فنهض إليه منهم جماعة، فكان القتال بالمربد بحضرة دار بريه، ثم انهزم بريه عن داره، وتفرق الناس لانهزامه، فأحرقت الزنج داره، وانتهبوا ما كان فيها، فأقام الناس يقتلون هناك، وقد ضعف أهل البصرة، وقوى عليهم الزنج، واتصلت الحرب بينهم إلى آخر ذلك اليوم، ودخل على المسجد الجامع فأحرقه، وأدركه فتح غلام أبي شيث في جماعة من البصرتين، فانكشف علي وأصحابه عنهم، وقتل من الزنج قوم، ورجع علي فعسكر في الموضع المعروف بمقبرة بني شيبان، فطلب الناس سلطاناً يقاتلون معه فلم يجدوه، وطلبوا بريهاً، فوجدوه قد هرب، وأصبح أهل البصرة يوم السبت، فلم يأتهم علي بن أبان، وغاداهم يوم الأحد فلم يقف له أحد، وظفر بالبصرة.

قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن سمعان، قال: كنت مقيماً بالبصرة في الوقت الذي دخلها الزنج، وكنت أحضر مجلس إبراهيم بن محمد ابن اسماعيل المعروف ببريه، فحضرته وحضر يوم الجمعة لعشر ليال خلون من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين وعنده شهاب بن العلاء العنبري، فسمعت شهاباً يحدثه أن الخائن قد وجه بالأموال إلى البادية ليعرض بها رجال العرب، وأنه قد جمع جمعاً كثيراً من الخيل، وهو يريد تورد البصرة بهم وبرجالته من الزنج، وليس بالبصرة يومئذ من جند السلطان إلا نيف وخمسون فارساً مع بغراج، فقال بريه لشهاب، إن العرب لا تقدم علي بمساءة؛ وكان بريه مطاعاً في العرب، محبباً إليهم.

قال ابن سمعان: فانصرفت من مجلس بريه، فلقيت أحمد بن أيوب الكاتب، فسمعته يحكى عن هارون بن عبد الرحيم الشيعي، وهو يومئذ يلي البصرة، أنه صح عنده أن الخائن جمع لثلاث خلون من شوال في تسعة أنفس؛ فكان وجوه أهل البصرة وسلطانها المقيم بها، من الغبا عن حقيقة خبرالخائن على ما وصفت. وقد كان الحصار عض أهل البصرة، وكثر الوباء بها، واستعرت الحرب فيها بين الحزبين المعروفين بالبلالية والسعدية.

فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، أغارت خيل الخائن على البصرة صبحاً في هذا اليوم، من ثلاثة أوجه من ناحية بني سعد والمربد والحربية؛ فكان يقود الجيش الذي سار إلى المربد علي بن أبان، وقد جعل أصحابه فرقتين، فرقة ولى عليها رفيقاً غلام يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، وأمرهم بالمصير إلى بني سعد، والفرقة الأخرى سار هو فيها إلى المربد، وكان يقود الجبل التي أتت من ناحية الخربية يحيى بن محمد الأزرق البحراني، وقد جمع أصحابه من جهة واحدة، وهو فيهم؛ فخرج إلى كل فرقة من هؤلاء من خف من ضعفاء أهل البصرة، وقد جهدهم الجوع والحصار، وتفرقت الخيل التي كانت مع بغراج فرقتين: فرقة صارت إلى ناحية المربد، وفرقة صارت إلى ناحية الخربية، وقاتل من ورد ناحية بني سعد جماعة من مقاتلة السعدية فتح غلام أبي شيث وصحبه، فلم يغن قليل من أهل البصرة إلى جموع الخبيث شيئاً، وهجم القوم بخيلهم ورجلهم.

قال ابن سمعان: فإني يومئذ لفي المسجد الجامع، إذا ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبني حمدان في وقت واحد،، كأن موقد بها كانوا لى ميعاد؛ وذلك صدر يوم الجمعة، وجل الخطب، وأيقن أهل البصرة بالهلاك، وسعى من كان في المسجد الجامع إلى منازلهم، ومضيت مبادراً إلى منزلي؛ وهو يومئذ في سكة المربد، فلقيني منهزموا أهل البصرة في السكة راجعين نحو المسجد الجامع، وفي أخراهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي، وهو علي بن بغل متقلد سيفاً يصيح بالناس، ويحكم! أتسلمون بلدكم وحرمكم! هذا عدوكم قد دخل البلد، فلم يلووا عليه: ولم يسمعوا منه، فمضى وانكشف سكة المربد؛ فصار بين المهزمين والزنج فيها فضاء يسافر فيه البصر.

قال محمد: فلما رأيت ذلك دخلت منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فإذا خيل من الأعراب ورجالة الزنج، تقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، عليه عذبة صفراء؛ فسألت بعد أن صير بي إلى مدينة الخائن عن ذلك الرجل، فادعى علي بن أبان أنه ذلك الرجل، وأن الراية الصفراء رايته، ودخل القوم، فغابوا في سكة المربد إلى أن بلغوا باب عثمان، وذلك بعد الزوال ثم انصرفوا، فظن الناس من رعاع أهل البصرة وجهالهم أن القوم قد مضوا لصلاة الجمعة، وكان الذي صرفهم أنهم خشوا أن يخرج عليهم جمع السعدية والبلالية من المربعة، وخافوا الكناء هناك، فانصرفوا وانصرف من كان بناحية زهران وبني حصن؛ وذلك بعد أن أحرقوا وأنهبوا واقتدروا على البلد، وعلموا أنه لا مانع لهم منه، فأغبوا السبت والأحد، ثم عادوا البصرة يوم الاثنين، فلم يجدوا عنها مدافعاً، وجمع الناس إلى باب إبراهيم بن يحيى المهلبي وأعطوا الأمان.

قال محمد بن سمعان: فحدثني الحسن بن عثمان المهلبي الملقب بمندلقة - وكان من أصحاب يحيى بن محمد - قال: أمرني يحيى في تلك الليلة الغداة بالمصير إلى مقبرة بني يشكر، وحمل ما كان هناك من التنانير، فصرت إليها، فحملت نيفاً وعشرين تنوراً على رءوس الرجال، حتى أتيت بها دار إبراهيم ابن يحيى، والناس يطنّون أنها تعدّ لاتخاذ طعام لهم؛ وهم من الجوع وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، وكثر الجمع بباب إبراهيم بن يحيى، وجعلوا ينوبون ويزدادون؛ حتى أصبحوا وارتفعت الشمس.

قال ابن سمعان: وأنا يومئذ قد انتقلت من سكة المربد من منزلي إلى دار جدّ أمي هشام المعروف بالدافّ، وكانت فير بني تميم، وذلك للذي استفاض في الناس من دخول بني تميم في سلم الخائن؛ فإني لهناك إذ أتى المخبرون بخير الوقعة بحضرة دار إبراهيم بن يحيى، فذكروا أن يحيى بن محمد البخرانيّ أمر الزّنج، فأحاطوا بذلك الجمع، ثم قال: من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى، فدخلت جماة قليلة، وأغلقوا الباب دونهم. ثم قيل للزّنج: دونكم الناس فاقتلوهم، ولا تبقوا منهم أحداً. فخرج إليهم محمد بن عبد اللّه المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فقال للزّنج: كيلوا - وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله - فأخذ الناس السيف.

قال الحسن بن عثمان: فإني لأسمع تشهّدهم وضجيجهم، وهم يقتلون، ولقد ارتفعت أصواتهم بالتشهّد؛ حتى لقد سمعت بالطفّارة، وهم لى بعد من الموضع الذي كانوا به. قال: ولما أتى لى الجمع الذي ذكرنا أبل الزّنج على قتل من أصابوا، ودخل عليّ بن أبان يومئذ، فأحرق المسجد الجامع، وراح إلى الكلاء، فأحرقه من الجبل إلى الجسر، والنار في كلّ ذلك تأخذ في كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحّوا بالغدوّ والرّواح على من وجدوا يسوقونهم إلى يحيى بن محمد؛ وهو يومئذ نازلٌ بسيحان؛ فمن كان ذا مال قررّه حتى يستخرج ماله، ويقتله، ومن كان مملقاً قتله.

وذكر عن شبل أنه قال: باكر يحيى البصرة يوم الثلاثاء بعد قتل من قتل بباب إبراهيم بن يحيى، فجعل ينادي بالأمان في الناس ليظهروا، فلم يظهر له أحدٌ، وانتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف عليّ بن أبان عن البصرة، وأفرد يحيى بها الموافقة ما كان أتى يحيى من القتل إياه ووقوعه لمحبّته، وأنه استقصر ما كان من عليّ بن أبان المهلبيّ من الإمساك عن العيث بناحية بني سعد.

وقد كان عليّ بن أبان أوفد إلى الخبيث من بني سعد وفداً، فصاروا إليه، فلم يجدوا عنده خيراً، فخرجوا إلى عبّادان، وأقام يحيى بالبصرة، فكتب إليه الخبيث يأمره بإظهار استخلاف شبل على البصرة ليسكن الناس، ويظهر المستخفي ومن قد عرف بكثرة المال، فإذا ظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم. ففعل ذلك يحيى؛ فكان لا يخلو في يوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم، فمن عرف منهم باليسار استنظف ما عنده وقتله، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل؛ حتى لم يدع أحداً ظهر له إلا أتى عليه، وهرب الناس على وجوههم، وصرف الخبيث جيشه عن البصرة.

قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة، وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه فيها، سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعر، وسجدت، وجعلت أدعو في سجودي، فرفعت إلى البصرة، فرأيتها أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلاً واقفاً في الهواء في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامرا، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخراجها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها، وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي. قال محمد بن الحسن: وانتسب الخبيث إلى يحيى بن زيد بن علي بعد إخراجه بالبصرة، وذلك لمصير جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة إليه، وأنه كان فيمن أتاه منهم علي بن أحمد بن عيسى بن زيد، وعبد الله بن علي في جماعة من نسائهم وحرمهم، فلما جاءوه ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى وانتسب إلى يحبى بن زيد. قال محمد بن الحسن: سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين، فقال القاسم بن الحسن النوفلي: إنه قد كان انتهى إلينا أنك من ولد أحمد بن عيسى بن زيد، فقال: لست من ولد عيسى، أنا من ولد يحيى بن زيد. وهو في ذلك كاذب، لأن الإجماع في يحيى أنه لم يعقب إلا بنتاً ماتت وهي ترضع.

ذكر الخبر عن الحرب بين محمد المولد والزنج

وفيها أشخص السلطان محمداً المولد إلى البصرة لحرب صاحب الزنج، فشخص من سامرا يوم الجمعة لليلة خلت من ذي القعدة.

ذكر الخبر عما كان من أمر المولد هناك ذكر أن محمداً المعروف بالمولد لما صار إلى هنالك نزل الأبلة، وجاء بريه، فنزل البصرة، واجتمع إلى بريه من أهل البصرة خلق كثير ممن كان هرب؛ وكان يحيى حين انصرف عن البصرة أقام بالنهر المعروف بالغوثي.

قال محمد: قال شبل: فلما قدم محمد المولد كتب الخبيث إلى يحيى يأمره بالمصير إلى نهر أوا، فصار إليه بالجيش، وأقام يحارب المولد عشرة أيام، ثم أوطن المولد المقام، واستقر وفتر عن الحرب، فكتب الخبيث إلى يحيى يأمره بتبييته، ووجه إليه الشذا مع المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فبيته ونهض المولد بأصحابه، فقاتلهم بقية ليلته ومن غدٍ إلى العصر، ثم ولى منصرفاً، ودخل الزنج عسكره، فغنموا ما فيه، فكتب يحيى إلى الخبيث بخبره، فكتب إليه يأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، وانصرف، فمر بالجامدة فأوقع بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك الرى، وسفك ما در على سفكه من الدماء، ثم سكر بالجالة، فأقام هناك مدة، ثم عاد إلى نهر معقل.

وفيها أخذ محمد المولد سعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، هو وأصحابه من باهلة وأفسدوا الطريق.

وفها خالف محمد بن واصل السلطان بفارس، وغلب عليها.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.

وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلي - وقيل له الصقلي وهو من أهل بيت المملكة، لأن صقلبية - على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله، وكان ميخائيل منفرداً بالمملكة أربعاً وعشرين سنة، وتملك الصقلي بعده على الروم.