المجلد التاسع - ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر استئمان جعفر بن إبراهيم إلى أبي أحمد الموفق

فمن ذلك ما كان من استئمان جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان إلى أبي أحمد الموفق في يوم الثلاثاء في غرة المحرم منها، وذكر أن السبب كان في ذلك الوقعة التي كانت لأبي أحمد في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين التي ذكرناها قبل؛ وهرب ريحان بن صالح المغربي من عسكر الفاجر وأصحابه ولحاقه بأبي أحمد، فنخب قلب الخبيث لذلك؛ وذلك أن السجان كان - فيما قيل - أحد ثقاته، فأمر أبو أحمد للسجان هذا بخلع وجوائز وصلات وحملان وأرزاق، وأقيمت له أنزال، وضم إلى أبي العباس، وأمره بحمله في الشذاة إلى إزاء قصر الفاسق؛ حتى رآه وأصحابه، وكلمهم السجان، وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم ما قد وقف عليه من كذبه وفجوره؛ فاستأمن في هذا اليوم الذي حمل فيه السجان من عسكر الخبيث خلق كثير من قواده الزنج وغيرهم، وأحسن إليهم، وتتابع الناس في طلب الأمان والخروج من عند الخبيث، ثم أقام أبو أحمد بعد الوقعة التي ذكرت أنها كانت لليلة بقيت من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين، لا يعبر إلى الخبيث لحرب، يجم بذلك أصحابه إلى شهر ربيع الآخر.

وفي هذه السنة صار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عامله محمد بن الليث عليها؛ فهزمه عمرو، واستباح عسكر، وأفلت محمد بن الليث في نفر، ودخل عمرو إصطخر، فانتهبها أصحابه، ووجه عمرو في طلب محمد بن الليث فظفر به، وأتى به أسيراً، ثم صار عمرو إلى شيراز فأقام بها.

وفي شهر ربيع الأول منها زلزلت بغداد لثمان خلون منه، وكان بعد ذلك ثلاثة أيام مطر شديد، ووقعت بها أربع صواعق.

وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه، فخرج إليه أبوه أحمد إلى الاسكندرية، فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها.

ذكر خبر عبور الموفق إلى مدينة الزنج

ولأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر، بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينة الموفقية، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه؛ حتى استأمن إليه خلق كثير من أصحابه؛ فلما أراد العبور إليها أمر - فيما ذكر - ابنه العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعاً من السور فيما بين النهر المعروف بمنكى والنهر المعروف بابن سمعان، وأمر صاعداً وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجرى كور، وتقدم إلى زيرك في مكانفته، وأمر مسروراً البلخي بالقصد لنهر الغربي، وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور، وتقدم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث. ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماد، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلم كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب أبي أحمد، وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، وفرقت بينهم السكك والفجاج، فانتهوا إلى أبعد من الموضع الذي كانوا وصلوا إليه في المرة التي قبلها، وحرقوا وقتلوا.

ثم تراجع أصحاب الخبيث، فشدوا على أصحاب أبي أحمد، وخرج كمناؤهم من نواح يهتدون لها ولا يعرفونها الآخرون، فتحير من كان داخل المدينة من أصحاب أبي أحمد، ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحو دجلة حتى وافاها أكثرهم، فمنهم من دخل السفينة، ومنهم من قذف نفسه في الماء، فأخذه أصحاب الشذا، ومنهم من قتل وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلاباً، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد بحضرة دار ابن سمعان، ومعهم راشد وموسى بن أخت مفلح، في جماعة من قواد الغلمان كانوا آخر من ثبت من الناس، ثم أحاط بهم الزنج وكثروهم، وحالوا بينهم وبين الشذا، فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا فركبوها.

وأقام نحو من ثلاثين غلاماً من الديلمة في وجوه الزنج وغيرهم، يحمون الناس، ويدفعون عنهم حتى سلموا، وقتل الثلاثون من الديلمة عن آخرهم، بعد ما نالوا من الفجار ما أحبوا، وعظم على الناس ما نالهم في هذه الوقعة، وانصرف أبو أحمد بمن معه إلى مدينته الموفقية، وأمر يجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وأمر بإحصاء المفقودين من أصحابه فأحصوا له، فأتى بأسمائهم، وأقر ما كان جارياً على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأو من حياطته خلف من أصيب في طاعته.

ذكر وقعة أبي العباس بمن كان يمد الزنج من الأعراب

زفيها كانت لأبي العباس وقعة بقوم من الأعراب الذين كانوا يميرون الفاسق اجتاحهم فيها.

ذكر الخبر عن السبب الذي كانت من أجله هذه الوقعة

ذكر أن الفاسق لما خرب البصرة ولاها رجلاً من قدماء أصحابه يقال له أحمد بن موسى بن سعيد المعروف بالقلوص؛ فكان يتولى أمرها، وصارت فرصة للفاسق يردها الأعراب والتجار، ويأتونها بالمير وأنواع التجارات، ويحمل ما يردها إلى عسكر الخبيث، حتى فتح أبو أحمد طهيثا، وأسر القلوص، فولى الخبيث ابن أخت القلوص - يقال له ملك بن بشران - البصرة وما يليها. فلما نزل أبو أحمد فرات البصرة خاف الفاجر إيقاع أبي أحمد بمالك هذا، وهو يومئذ نازل بسيحان على نهر يعرف بنهر ابن عتبة. فكتب إلى مالك يأمره بنقل عسكره إلى النهر المعروف بالديناري، وأن ينفذ جماعة ممن معه لصيد السمك وإدرار حمله إلى عسكره، وأن يوجه قوماً إلى الطريق التي يأتي منها الأعراب من البادية، ليعرف ورود من يرد منهم بالمير، فإذا وردت رفقة من الأعراب خرج إليها بأصحابه، حتى يجمل ما تأتي به إلى الخبيث؛ ففعل ذلك مالك ابن أخت القلوص، ووجه إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما بالريان والآخر الخليل، كانا مقيمين بعسكر الخبيث، فنهض الخليل والريان وجمعا جماعة من أهل الطف، وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولاً أولاً إلى عسكر الخبيث في الزواريق الصغار التي تسلك بها الأنهار الضيقة والأرخنجان التي لا تسلكها الشذا والسميريات، فكانت مواد سمك البطيحة متصلة إلى عسكر الخبيث بمقام هذين الرجلين بحيث ذكرنا؛ واتصلت أيضاً مير الأعراب وما كانوا يأتون به من البادية، فاتسع أهل عسكره، ودام ذلك إلى أن استأمن إلى الموفق رجل من أصحاب الفاجر الذين كانوا مضمومين إلى القلوص، يقال له علي بن عمر، ويعرف بالنقاب، فأخبر بخبر مالك بن بشران ومقامه بالنهر المعروف بالديناري، وما يصل إلى عسكر الخبيث بمقامه هناك من سمك البطيحة وجلب الأعراب. فوجه الموفق زيرك مولاه في الشذا والسميرايات إلى الموضع الذي به ابن أخت القلوص، فأوقع به وبأهل عسكره، فقتل منهم فريقاً وأسر فريقاً، وتفرق أهل ذلك العسكر، وانصرف مالك إلى الخبيث مفلولاً، فرده الخبيث في جمع إلى مؤخر النهر المعروف باليهودي، فعسكر هنالك بموضع قريب من النهر المعروف بالفياض، فكانت المير تتصل بعسكر الخبيث مما يلي سبخة الفياض، فانتهى خبر مالك ومقامه بمؤخر نهر اليهودي ووقع المير من تلك الناحية إلى عسكر الفاجر إلى الموفق، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى نهر الأمير، والنهر المعروف بالفياض لتعرف حقيقة ما انتهى إليه من ذلك، فنفذ الجيش، فوافق جماعة من الأعراب يرأسهم رجل قد أورد من البادية إبلاً وغنماً وطعاماً، فأوقع بهم أبو العباس، فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، ولم يفلت من القوم إلا رئيسهم؛ فإنه سبق على حجر كانت تحته، فأمعن هرباً، وأخذ كل ما كان أولئك الأعراب أتوا به من الإبل والغنم والطعام؛ وقطع أبو العباس يد أحد الأسرى وأطلقه، فصار إلى معسكر الخبيث، فأخبرهم بما نزل به، فريع مالك بن أخت القلوص بما كان من إيقاع أبي العباس بهؤلاء الأعراب؛ فاستأمن إلى أبي أحمد، فأومن وحبى وكسى وضم إلى أبي العباس وأجريت له الأرزاق، وأقيمت له الأنزال. وأقام الخبيث مقام مالك رجلاً كان من أصحاب القلوص، ويقال له أحمد بن الجنيد وأمره أن يعسكر بالموضع المعروف بالدهرشير ومؤخر نهر أبي الخصيب، وأن يصير في أصحابه إلى ما يقبل من سمك البطيحة، فيحمله إلى عسكر الخبيث، وتأدى إلى أبي أحمد خبر أحمد بن الجنيد، فوجه قائداً من قواد الموالي يقال له الترمدان في جيش، فعسكر بالجزيرة المعروفة بالروحية، فانقطع ما كان يأتي إلى عسكر الخبيث من سمك البطيحة، ووجه الموفق شهاب بن العلاء ومحمد بن الحسن العنبريين في خيل لمنع الأعراب من حمل المير إلى عسكر الخبيث، وأمر بإطلاق السوق لهم بالبصرة، وحمل ما يريدون امتياره من التمر؛ إذ كان ذلك سبب مصيرهم إلى عسكر الخبيث، فتقدم شهاب ومحمد لما أمر به، فأقاما بالموضع المعروف بقصر عيسى؛ فكان الأعراب يوردون إليهما ما يجلبونه من البادية ويمتارون التمر مما قبلهما.

ثم صرف أبو أحمد الترمدان عن البصرة، ووجه مكانه قائداً من قواد الفراعنة، يقال له قيصر بن أرخوز إخشاد فرغانة، ووجه نصيراً المعروف بأبي حمزة في الشذا والسميريات، وأمره بالمقام بفيض البصرة ونهر دبيس وأن يخترق نهر الأبلة ونهر معقل ونهر غربي، ففعل ذلك.

قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد، قال: لما انقطعت المير عن الخبيث وأشياعه بمقام نصير وقيصر بالبصرة، ومنعهم الميرة من البطيحة والبحر بالشذا، صرفوا الحيلة إلى سلوك نهر الأمير إلى القندل، ثم سلوك المسيحي إلى الطريق المؤدية إلى البر والبحر؛ فكانت ميرهم من البر والبحر، وامتيارهم سمك البحر من هذه الجهة، فانتهى ذلك إلى الموفق، فأمر رشيقاً غلام أبي العباس باتخاذ عسكر بجويث بارويه في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء نهر الأمير، وأن يحفر له خندقاً حصيناً، وأمر أبا العباس أن يضم إلى رشيق من خيار أصحابه خمسة آلاف رجل وثلاثين شذاة، وتقدم إلى رشيق في ترتيب هذه الشذاة على فوهة نهر الأمير، وأن يجعل على كل خمس عشرة شذاة منها نوبة يلج فيها نهر الأمير، حتى ينتهي إلى المعترض الذي كان الزنج يسلكزنه إلى دبا والقندل والنهر المعروف بالمسيحي؛ فيكون هناك؛ فإن طلع عليهم من الخبثاء طالع أوقعوا به؛ فإذا انقضت نوبتهم انصرفوا وعاقبهم أصحابهم المقيمون على فوهة النهر ففعلوا مثل هذا الفعل فعسكر رشيق في الوضع الذي أمر بترتيبه به، فانقطعت طرق الفجرة التي كانوا يسلكونها إلى دبا والقندل والمسيحي؛ فلم يكن لهم سبيل إلى بر ولا بحر، فضاقت عليهم المذاهب، واشتد عليهم الحصار.

وفيها أوقع أخو شركب بالخجستاني وأخذ منه.

وفيها وثب ابن شبث بن الحسن، فأخذ عمر بن سيما والي حلوان.

وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبغ من عند عمرو بن الليث، وكان عمرو قد وجهه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فوجه عمرو مما صودر عليه ثلثمائة ألف دينار وهدية فيها خمسون منا مسكاً وخمسون مناً عنبراً، ومائتا من عوداً، وثلثمائة ثوب وشئ وغيره، وآنية ذهب وفضة ودواب وغلمان يقيمة مائتي ألف دينار؛ فكان ما حمل وأهدى بقيمة خمسمائة ألف دينار.

وفيها ولى كيغلغ الخليل بن ريمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيما وأخذهم بجريرة ابن شيث، فضمنوا له خلاص ابن سيما وإصلاح أمر ابن شيث.

ذكر خبر إيقاع رشيق بمن أعان الزنج من تميم

وفيها أوقع رشيق غلام أبي العباس بن الموفق بقوم من بني تميم، كانوا أعانوا الزنج على دخول البصرة وإحراقها؛ وكان السبب في ذلك أنه كان انتهى إليه أن قوماً من هؤء الأعراب قد جلبوا ميرة من البر إلى مدينة الخبيث؛ طعاماً وإبلاً وغنماً وأنهم في مؤخر نهر الأمير ينتظرون سفناً تأتيهم من مؤخر عسكر الفاجر تحملهم وما معهم. فسرى إليهم رشيق في الشذا فوافى الموضع الذي كانوا حلوا به وهو الهر المعروف بالإسحاقي فأوقع بهم وهم غادرون فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم وهو تجار كانوا خرجوا من عسكر الخبيث لجلب الميرة، وحوى ما كان معهم من أصناف المير والشاة والإبل والحمير التي كانوا عليها الميرة. فحمل الأسرى والرءوس في الشذا وفي سفن كانت معه إلى الموفقية، فأمر الموف فعلقت الرءوس في الشذ، وصلب الأسارى هنالك؛ وأظهر ما صار إلى رشيق وأصحابه، وطيف بذلك في أقطار العسكر، ثم أمر بالرءوس والأسارى فاجتيز بهم على عسكر الخبيث حتى عوفوا ما كان من رشيق من الإيقاع بجالبي المير إليهم، ففعل ذلك. وكان فيمن ظفر به رشيق رجل من الأعراب، كان يسفر بين صاحب الزنج والأعراب في جلب الميرة فأمر به الموفق فقطعت يده ورجله وألقي في عسكر الخبيث. ثم أمر بضرب أعناق الأسارى فضربت، وسوغ أصحاب رشيق ما أصابوا من أموالهم وأمر لرشيق بخلع وصلة، ورده إلى عسكره، فكثر المستأمنون إلى رشيق. فأمر أبو أحمد بضم من خرج منهم إلى رشيق إليه، فكثروا حتى كان كأكثر العساكر جمعاً، وانقطعت عن الخبيث وأصحابه المير من الوجوه كلها وانسد عليهم كل مسلك كان لهم، فأضر بهم الحصار وأضعف أبدانهم؛ فكان الأسير منهم يؤسر والمستأمن يستأمن، فسأل عن عهده بالخبز؛ فيعجب من ذلك؛ ويذكر أن عهده بالخبز مذ سنة وسنتين، فلما صار أصحاب الخائن إلى هذه الحال. رأى الموفق أن يتابع الإيقاع بهم، ليزيدهم بذلك ضراً وجهداً، فخرج إلى أبي أحمد في هذا الوقت في الأمان خلق كثير، واحتاج من كان مقيماً في حيز الفاسق إلى الحيلة لقوته، فنفرقوا في القرى والأنهار النائية عن معسكرهم في طلب القوت، فتأدى الخب بذلك إلى أبي أحمد، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان وعرفائهم بأن يقصدوا المواضع التي يعتادها الزنج، وأن يستميلوهم ويستدعوا طاعتهم، فمن أبى الدخول منهم في ذلك قتلوه وحملوا رأسه، وجعل لهم جعلاً؛ فحرصوا وواظبوا على الغدو والرواح؛ فكانوا لا يخلون في يوم من الأيام من جماعة يجلبونهم، ورءوس يأتون بها، وأسارى يأسرونهم.

قال محمد بن الحسن: قال محمد بن حماد: ولما كثر أسارى الزنج عند الموفق، أمر باعتراضهم، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه؛ وأحسن إليه، وخلطه بغلمانه السودان، وعرفهم ما لهم عنده من البر والإحسان، ومن كان منهم ضعيفاً لاحراك به، أو شيخاً فانياً لا يطيق حمل السح، أو مجروحاً جراحة قد أزمنته، أمر بأن يكسى ثوبين ويوصل بدراهم، ويزود ويحمل إلى عسكر الخبيث؛ فيلقى هناك بعد ما يؤمر بوصف ما عاين من إحسان الموفق إلى كل من يصير إليه؛ وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمناً ويأسره منهم، فتهيأ له من ذلك ما أراد من استمالة أصحاب صاحب الزنج؛ حتى استشعروا الميل إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته؛ وجعل الموفق وابنه أبو العباس يغاديان حرب الخبيث ومن معه، ويراوحانها بأنفسهما ومن معهما، فيقتلان ويأسران ويجرحان، وأصاب أبا العباس في بعض تلك الوقعات سهم جرحه فبرأ منه.

ذكر الخبر عن قتل بهبوذ بن عبد الوهاب

وفي رجب من هذه السنة قتل بهبوذ صاحب الخبيث.

ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن أكثر أصحاب الفاسق غارات، وأرشدهم تعرضاً لقطع السبيل وأخذ الأموال، كان بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان قد جمع من ذلك مالاً جليلاً، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف، فيخترق الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب الموفق أخذها فأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من النهر قوم من أصحابه قد أعد لهم لذلك، فاقتطعوه وأوقعوا به؛ فلما كثر ذلك وتحرز منه ركب شذاة، وشبهها بشذوات الموفق، ونصب عليها مثل أعلامه، وسار بها في دجلة، فإذا ظفر بغرة من أهل العسكر أوقع بهم، فقتل وأسر، ويتجاوز إلى نهر الأبلة ونهر معقل وبثق شيرين ونهر الدير فيقطع السبل، ويعبث في أموال السابلة ودمائهم، فرأى الموفق عندما انتهى إليه من أفعال بهبوذ أن يسكر جميع الأنهار التي يخف سكرها، ويرتب الشذاة على فةهة الأنهار العظام، ليأمن عبث بهبوذ وأشياعه، ويأمن سبل الناس ومسالكهم، فلما حرست هذه المسالك وسكر ما أمكن سكره من الأنهار، وحيل بين بهبوذ وبين ما كان يفعل، أقام منتهزاً فرصة في غفلة أصحاب الشذا الموكلين بفوهة نهر الأبلة، حتى وجد ذلك اجتاز من مؤخر نهر أبي الخصيب في شذوات مثل أصحاب الموفق وسميرياتهم، ونصب عليها مثل أعمهم، وشحنها بجلد أصحابه وشجعانهم، واعترض بها في معترض يؤدي إلى النهر المعروف باليهودي، ثم سلك نهر نافذ حتى خرج منه إلى نهر الأبلة، وانتهى إلى الشذوات والسميريات المرتبة لحفظ النهر، وأهلها غارون غافلون، فأوقع بهم، وقتل جمعاً، وأسر أسرى وأخذ ست شذوات، وكر راجعاً في نهر الأبلة وانتهى الخبر بما كان من يهود إلى الموفق فأمر أبا العباس بمعارضته في الشذا من النهر المعروف باليهودي ورجا أن يسبقه إلى المعترض قيفطعه عن الطريق المؤدي إلى مأمنه.

فوافى أبو العباس الموضع المعروف بالمطوعة، وقد سبق بهبوذ فولج النهر المعروف بالسعيدي؛ وهو نهر يؤدي إلى نهر أبي الخصيب. وبصر أبو العباس بشذوات بهبوذ، وطمع في ادراكها فجد في طلبها فأدركها ونشبت الحرب فقتل أبو العباس من أصحاب بهبوذ جمعاً وأسر جمعاً، وأستأمن إليه فريق منهم، وتلقى من أشياعه خلق كثير فعاووه ودافعوا عنه دفعاً شديداً، وقد كان المال جزر، فجرت شذواته في الطين في المواضع التي نضب الماء عنها من تلك الأنهار والمعترضات، فأفلت بهبوذ والباقون من أصحابه بجريعة الذقن.

وأقام الموفق على حصار الخبيث ومن معه، وسد المسالك التي كانت المير تأتيهم منها، وكثر المستأمنون منهم، فأمر الموفق لهم بالخلع والجوائز، وحملوا على الخيل الجياد بسروجها ولجمها وآلتها، وأجريت لهم الأرزاق، وانتهى الخبر إلى الموفق بعد ذلك أن الضر والبؤس قد أحوج جماعةً من أصحاب الخبيث إلى التفرق في القرى لطلب القوت من السمك والتمر، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى تلك القرى والنواحي والإسراع إليها في الشذا والسميريات، وما خف من الزواريق وأن يستصحب جلد أصحابه وشجعانهم وأبطالهم ليحول بين هؤلاء الرجال والرجوع إلى مدينة صاحب الزنج؛ فتوجه أبو العباس لذلك، وعلم الخبيث بمسير أبي العباس له، فأمر بهبوذ أن يسير في أصحابه في المعترضات والأنهار الغامضة ليخفى خبره، إلى أن يوافى القندل وأبراسان ونواحيها، فنهض بهبوذ لما أمره به الخبيث من ذلك فاعترضت له في طريقه سميرية من سميريات أبي العباس، فيها غلمان من غلمانه الناشبة في جماعة الزنج، فقصد بهبوذ لهذه السميرية طامعاً فيها، فحاربه أهلها، فأصابته طعنة في بطنه من يد غلام من مقاتلة السميرية أسود، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه، وولوا منهزمين إلى عسكر الخبيث، فلم يصلوا به إليه؛ حتى أراح الله منه؛ فعظمت الفجيعة به على الفاسق وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وكان قتله الخبيث من أعظم الفتوح، وخفى هلاكه على أبي أحمد؛ حتى استأمن رجلٌ من الملاحين، فأنهى إليه الخبر، فسر بذلك، وأمر بإحضار الغلام الذي ولي قتله، فأحضر، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في أرزاقه، وأمر لجميع من كان في تلك السميرية بجوائز وخلع وصلات.

وفي هذه السنة كان أول شهر رمضان منها يوم الأحد، وكان الأحد الثاني من السعانين وفي الأحد الثالث الفصح، وفي الأحد الرابع النيروز، وفي الأحد الخامس انسلاخ الشهر.

وفيها ظفر أبو أحمد بالذوائبي، وكان ممايلاً لصاحب الزنج.

وفيها كانت وقعة بين يدكوتكين بن إستاتكين وأحمد بن عبد العزيز، فهزمه يدكوكتين وغلبه على قم.

وفيها وجه عمرو بن الليث قائداً بأمر أبي أحمد إلى محمد بن عبيد الله بن أزار مرد الكردي، فأسره القائد وحمله إليه.

وفي ذي القعدة منها خرج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي بالشام يقال له بكاريين سلمية وحلب وحمص؛ فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً يقال له بوذن في عسكر وجيش كثيف، فرجع وليس معه كثر أحد.

وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على ابن طولون.

وفيها قتل صاحب الزنج ابن ملك الزنج، وكان بلغه أنه يريد اللحاق بأبي أحمد.

وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، قتله غلام له في ذي الحجة.

وفيها قتل أصحاب ابن أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية ناحية واسط، ونصيب رأسه ببغداد.

وفيها حارب محمد بن كمشجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ابن كمشجور كفتمر ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة.

وفيها أسر العلوي الذي يعرف بالحرون، وذلك أنه اتعرض الخريطة التي يوجه بها بخبر الموسم فأخذها، فوجه خليفة ابن أبي الساج على طريق مكة من أخذ الحرون، ووجهه إلى الموفق.

وفيها كان مصير أبي المغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، فجمع هارون جمعاً نحواً من ألفين، فامتنع بهم منه فصار المخزومي إلى عين مشاش فعورها، وإلى جدة، فنهب الطعام، وحرق بيوت أهلها، فصار الخبز بمكة أوقيتان بدرهم.

وفيها خرج ابن الصقلبية طاغية الروم، فأناخ على ملطية، وأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم الطاغية، وتبعوه إلى السريع.

وغزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً، وغنم الناس، فبلغ السهم أربعين ديناراً.

وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.