المجلد التاسع - ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من إدخال العلوي المعروف بالحرون عسكر أبي أحمد في المحرم على جمل، وعليه قباء ديباج وقلنسوة طويلة، ثم حمل في شذاة، ومضى به حتى وقف به حيث يراه صاحب الزنج، ويسمع كلام الرسل.
وفي المحرم منها قطع الأعراب على قافلة من الحاج بين توز وسميراء، فسلبوهم واستاقوا نحواً من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناساً كثيرين.

وفي المحرم منها في ليلة أربع عشرة انخسف القمر وغاب منخسفاً، وانكسفت الشمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم وقت المغيب، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوف الشمس والقمر.

وفي صفر منها كان ببغداد وثوب العامة بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره؛ وكان السبب في ذلك أن غلاماً له رمى امرأة بسهم فقتلها، فاستعدى السلطان عليه؛ فبعث إليه في إخراج الغلام، فامتنع ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعة وجرحوا جماعة؛ فمنعهم من أعوان السلطان رجلان، فهرب وأخذ غلمانه، ونهب منزله ودوابه، فجمع محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر - وكان على الجسر من قبل أبيه - دواب إبراهيم، وما قدر عليه مما نهب له، وأمر عبيد الله بتسليم ذلك إليه، وأشهد عليه برده عليه.

وفيها وجه ابن أبي الساج بعدما صار إلى الطائف منصرفاً من مكة إلى جدة جيشاً، فأخذوا للمخزومي مركبين فيهما مالٌ وسلاح.

وفيها أخذ رومي بن حسنج ثلاثة نفر من قواد الفراغنة، يقال لأحدهم صديق، والآخر طخشي، وللثالث طغان، فقيدهم، وجرح صديق جراحات وأفلت.

وفيها كان وثوب خلف صاحب أحمد بن طولون في شهر ربيع الأول منها بالثغور الشأمية؛ وهو عامله عليها، بيازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه، فوثبت جماعة من أهل الثغر بخلف، وتخلصوا يازمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، ولعنوه على المنابر؛ فبلغ ذلك ابن طولون فخرج من مصر، حتى صار إلى دمشق، ثم صار إلى الثغور الشأمية، فنزل أذنة، وسد يازمان وأهل طرسوس أبوابها، خلا باب الجهاد وباب البحر، وبثقوا الماء، فجرى إلى قرب أذنة وما حولها، فتحصنوا بها، فأقام ابن طولون بأذنة، ثم انصرف فرجع إلى أنطاكية، ثم مضى إلى حمص، ثم إلى دمشق فأقام بها.

وفيها خالف لؤلؤ غلام ابن طولون مولاه؛ وفي يده حين خالفه حمص وحلب وقنسرين وديار مضر، وسار لؤلؤ إلى بالس فنهبها، وأسر سعيداً وأخاه ابني العباس الكلابي. ثم كاتب لؤلؤ أبا أحمد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، ويشترط لنفسه شروطاً، فأجابه أبو أحمد إلى ما سأله؛ وكان مقيماً بالرقة، فشخص عنها، وحمل جماعة من أهل الرافقة وغيرهم معه، وصار إلى قرقيسيا، وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه فأخذ لؤلؤ قرقيسيا، وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وهرب ابن صفوان، وأقبل لؤلؤ يريد بغداد.

ذكر خبر إصابة الموفق

وفيها رمي أبو أحمد الموفق بسهم - رماه غلام رومي، يقال له قرطاس - للخبيث بعدما دخل أبو أحمد مدينته التي كان بناها لهدم سورها، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن الخبيث بهبوذ لما هلك، طمع الزنج فيما كان بهبوذ قد جمع من الكنوز والأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهراً وذهباً وفضة لها قدر، فطلب ذلك بكل حيلة، وحرص عليه، وحبس أولياءه وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دوراً من دوره، وهدم أبنيةً؛ طمعاً في أن يجد في شيء منها دفيناً، فلم يجد من ذلك شيئاً؛ وكان فعله الذي فعله بأولياء بهبوذ في طلب المال أحد ما أفسد قلوب أصحابه، ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته، فأمر الموفق بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان، فنودي بذلك، فسارعوا إليه راغبين فيه، فألحقوا في الصلات والجوائز والخلع والأرزاق بنظرائهم. ورأى أبو أحمد لما كان يتعذر عليه من العبور إلى عسكر الفاجر في الأوقات التي تهب فيها الرياح وتحرك فيها الأمواج في دجلة أن يوسع لنفسه وأصحابه موضعاً في الجانب الغربي من دجلة ليعسكر به فيما بين دير جابيل ونهر المغيرة، وأمر بقطع النخل وإصلاح موضع الخندق، وأن يحف بالخنادق، ويحصن بالسور ليأمن بيات الفجار واغتيالهم إياه، وجعل على قواده نوائب؛ فكان لكل واحد منهم نوبة يغدو إليها برجاله، ومعه العمال في كل يوم لإحكام أمر العسكر الذي عزم على اتخاذه هنالك، فقابل الفاسق ذلك بأن جعل على علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني نوباً، فكان لكل واحد منهم يوم ينوب فيه.
وكان ابن الخبيث المعروف بأنكلاي يحضر في كل يوم نوبة سليمان، وربما حضر في نوبة إبراهيم. ثم أقامه الخبيث مقام إبراهيم بن جعفر، وكان سليمان بن جامع يحضر معه في نوبته، وضم إليه الخبيث سليمان بن موسى الشعراني وأخويه، وكانوا يحضرون بحضوره، ويغيبون بغيبته. وعلم الخبيث أن الموفق إذا جاوره في محاربته، وقرب على من يريد اللحاق به المسافة فيما يحاول من الهرب إليه، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الرهبة بتقارب العسكرين أن في ذلك انتقاض تدبيره، وفساد جميع أموره؛ فأمر أصحابه بمحاربة من يعبر من القواد في كل يوم، ومنعهم من إصلاح ما يحاولون إصلاحه من أمر عسكرهم الذي يريدون الانتقال إليه، وعصفت الرياح في بعض تلك الأيام وبعض قواد الموفق في الجانب الغربي لما كان يعبر له. فانتهز الفاسق الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاعه عن أصحابه، وامتناع دجلة بعصوف الريح من أن يرام عبورها، فرمى القائد المقيم في غربي دجلة بجميع جيشه، وكاثره برجاله، ولم تجد الشذوات التي كانت تكون مع القائد الموجه سبيلاً إلى الوقوف بحيث كانت تقف لحمل الرياح إياها على الحجارة، وما خاف أصحابها عليها من التكسر، فقوي الزنج على ذلك القائد وأصحابه، فأزالوهم من موضعهم، وأدركوا طائفةً منهم، فثبتوا فقتلوا عن آخرهم؛ ولجأت طائفاٌ إلى الماء، فتبعهم الزنج، فأسروا منهم أسارى، وقتلوا منهم نفراً، وأفلت أكثرهم، وأدركوا سفنهم، فألقوا أنفسهم فيها، وعبروا إلى المدينة الموفقية، فاشتد جزع الناس لما تهيأ للفسقة، وعظم بذلك اهتمامهم. وتأمل أبو أحمد فيما كان دبر من النزول في الجانب الغربي من دجلة أنه أكدى، وما لا يؤمن من حيلة الفاسق وأصحابه في انتهاز فرصة، فيوقع بالعسكر بياتاً، أو يجد مساغاً إلى شيء مما يكون له فيه متنفس؛ لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك، وأن الزنج على التوغل إلى المواضع الوحشة أقدر، وهو عليهم أسهل من أصحابه.

فانصرف عن رأيه في نزول غربي دجلة، وجعل قصده لهدم سور الفاسق وتوسعه الطرق والمسالك منها لأصحابه، فأمر عند ذلك أن يبدأ بهدم السور مما يلي النهر المعروف بمنكى؛ فكان تدبير الخبيث في ذلك توجيه ابنه المعروف بأنكلاي وعلي بن أبان وسليمان بن جامع للمنع من ذلك؛ كل واحد منهم في نوبته في ذلك اليوم، فإذا كثر عليهم أصحاب الموفق اجتمعوا جميعاً لمدافعة من يأتيهم.

فلما رأى الموفق تحاشد الخبثاء وتعاونهم على المنع من الهدم للسور، أزمع على مباشرة ذلك وحضوره ليستدعى به جد أصحابه واجتهادهم، ويزيد في عنايتهم ومجاهدتهم؛ ففعل ذلك، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين؛ وكثر القتلى والجراح في الحزبين كليهما، فأقام الموفق أياماً يغادي الفسقة ويراوحهم؛ فكانوا لا يفترون من الحرب في يوم من الأيام، وكان أصحاب أبي أحمد لا يستطيعون الولوج على الخبثة لقنطرتين كانتا على نهر منكى كان الزنج يسلكونهما في وقت استعار الحرب، فينتهون منهما إلى طريق يخرجهم في ظهور أصحاب أبي أحمد، فيناولون منهم، ويحجزونهم عن استتمام ما يحاولون من هدم السور، فرأى الموفق إعمال الحيلة في هدم هاتين القنطرتين ليمنع الفسقة عن الطريق الذي كانوا يصيرون منه إلى استدبار أصحابه في وقت احتدام الحرب؛ فأمر قواداً من قواد غلمانه بقصد هاتين القنطرتين، وأن يختلوا الزنج، وينتهزوا الفرصة في غفلتهم عن حراستهما؛ وتقدم إليهم في أن يعدوا لهما من الفؤوس والمناشير والآلات التي يحتاج إليها لقطعهما ما يكون عوناً لهم على الإسراع فيما يقصدون له من ذلك.

فانتهى الغلمان إلى ما أمروا به، وصاروا إلى نهر منكى وقت نصف النهار، فبرز لهم الزنج، فبادروا وتسرعوا، فكان ممن تسرع إليهم أبو النداء في جماعة من أصحابه يزيدون على الخمسمائة، ونشبت الحرب بين أصحاب الموفق والزنج، فاقتتلوا صدر النهار، ثم ظهر غلمان أبي أحمد على الفسقة فكشفوهم عن القنطرتين، فأصاب المعروف بأبي النداء سهمٌ في صدره وصل إلى قلبه فصرعه، وحامى أصابه على جيفته فاحتملوها، وولوا منهزمين، وتمكن قواد غلمان الموفق من قطع القنطرتين، فقطعوهما وأخرجوهما إلى دجلة، وحملوا خشبهما إلى أبي أحمد، وانصرفوا على حال سلامة، وأخبروا الموفق بقتل أبي النداء وقطع القنطرتين، فعظم سروره وسرور أهل العسكر بذلك، وأمر لرامي أبي النداء بصلة وافرة.

وألح أبو أحمد على الخبيث وأشياعه بالحرب، وهدم من السور ما أمكنهم به الولوج عليهم، فشغلوهم بالحرب في مدينتهم عن المدافعة عن سورهم، فأسرع الهدم فيه، وانتهى منه إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فصار ذلك أجمع في أيدي أصحاب الموفق، لا يستطيع الفسقة دفعهم عنه ولا منعهم من الوصول إليه، وهدمت هاتان الداران، وانتهب ما فيهما، وانتهى أصحاب الموفق إلى سوق لصاحب الزنج كان اتخذها مظلة على دجلة، سماها الميمونة، فأمر الموفق زيرك صاحب مقدمة أبي العباس بالقصد لهذه السوق، فقصد بأصحابه لذلك، وأكب عليها فهدمت تلك السوق وأخربت، فقصد الموفق الدار التي كان صاحب الزنج اتخذها للجبائي فهدمها، وانتهب ما كان فيها وفي خزائن الفاسق كانت متصلة بها.

وأمر أصحابه بالقصد إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذ فيه بناء سماه مسجد الجامع، فاشتدت محاماة الفسقة عن ذلك والذب عنه؛ بما كان الخبيث يحضهم عليه، ويوهمهم أنه يجب عليهم من نصرة المسجد وتعظيمه؛ فيصدقون قوله في ذلك، ويتبعون فيه رأيه. وصعب على أصحاب الموفق ما كانوا يرمون من ذلك؛ وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع. والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالهم والموطنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموا جهدهم؛ حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقاً من أن يخلو موقف رجل منهم؛ فيدخل الخلل على سائر أصحابه.

فلما رأى أبو أحمد صبر هذه العصبة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها، أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجداً، وأن يندب لذلك أنجاد أصحابه وغلمانه، وأضاف إليهم الفعلة الذين كانوا أعدوا للهدم، فإذا تهيأ لهم هدم شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم على السور فوضعوها، وصعد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حد الدار المعروفة بالجبائي إلى الموضع الذي رتب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقه ودور أصحابه، فتسهل ما كان يصعب بعد محاربة طويلة وشدة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجداً، ووصل إلى منبره فاحتمل، فأتي به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقية جذلاً مسروراً. ثم عاد الموفق لهدم السور فهدمه من حد الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجبائي. وأفضى أصحاب الموفق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه؛ فانتهبت وأحرقت وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعض الناس عن بعض؛ فما يكاد الرجل يبصره صاحبه. فظهر في هذا اليوم للموفق تباشير الفتح، فإنهم لعلي ذلك؛ حتى وصل سهمٌ من سهام الفسقة إلى الموفق، رماه به غلام رومي كان مع الفاسق يقال له قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين، فستر الموفق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف إلى المدينة مع الموفقية، فعولج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح، يشد بذلك قلوب أوليائه من أن يدخلها وهم أو ضعف، فزاد ما حمل نفسه عليه من الحركة في قوة علته، فغلظت وعظم أمرها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالج به الجراح؛ واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الفاسق عليهم؛ حتى خرج عن مدينته جماعةٌ ممن كان مقيماً بها، لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة، وحدثت في حال صعوبة العلة عليه حادثة في سلطانه، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى مدينة السلام، ويخلف من يقوم مقامه؛ فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلاف ما قد تفرق من شمل الخبيث. فأقام على صعوبة علته عليه، وغلظ الأمر الحادث في سلطانه؛ فمن الله بعافيته، وظهر لقواده وخاصته؛ وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت بذلك منتهم، وأقام متماثلاً مودعاً نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوي على النهوض لحرب الفاسق، تيقظ لذلك، وعاود ما كان مواظباً عليه من الحرب، وجعل الخبيث لما صح عنده الخبر عما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات، ويمنيهم الأماني الكاذبة، وجعل يحلف على منبره - بعدما اتصل به الخبر بظهور أبي أحمد وركوبه الشذا - أن ذلك باطلٌ لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه لهم وشبه لهم.

ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصر

وفيها في يوم السبت للنصف من جمادى الأولى، شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد؛ ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون - يقال لأحدهما أحمد بن جبغويه وللآخر محمد بن عباس الكلابي - الرقة، فلما صار المعتد إلى عمل إسحاق بن كنداج - وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة - وثب ابن كنداج بمن شخص مع المعتمد من سامرا يريد مصر، وهم تينك وأحمد بن خاقان وخطارمش، فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم ورقيقهم. وكان قد كتب إليه بالقبض عليهم وعلى المعتمد، وأقطع إسحاق بن كنداج ضياعهم وضياع فارس بن بغا.
وكان سبب وصوله إلى القبض على من ذكرت، أن ابن كنداج لما صار إلى عمله، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، أظهر أنه معهم، وعلى مثل رأيهم في طاعة المعتمد؛ إذ كان الخليفة، وأنه غير جائز له الخلاف عليه. وقد كان من مع المعتمد من القواد حروا المعتمد المرور به، وخوفوه وثوبه بهم؛ فأبى إلا المرور به - فيما ذكر - وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي، وأريد أن أتصيد؛ فإن في الطريق إليه صيداً كثيراً. فلما صاروا في عمله، لقيهم وسار معهم كي يرد المعتمد - فيما ذكر - منزلاً قبل وصوله إلى عمل ابن طولون، فلما أصبح ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد ومن شخص معه من سامرا، وخلا ابن كنداج بالقواد الذين مع المعتمد، فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده؛ وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون؛ فالأمر أمره، وأتم من تحت يده ومن جنده؛ أفترضون بذلك؛ وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم! وجرت بينه وبينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد بعد لاشتغال القواد بالمناظرة بينهم بين يديه، ولم يجتمع رأيهم بعد على شيء. فقال لهم ابن كنداج: قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت فيه. فأخذ بأيديهم، وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه؛ لأنه لم يكن بقي مضرب إلا قد مضى به غير مضربه؛ لما كان من تقدمه إلى فراشيه وغلمانه وحاشيته وأصحابه في ذلك اليوم ألا تبرحوا إلا ببراحه. فلما صاروا إلى مضربه دخل عليه وعلى من معه من القواد جلة غلمانه وأصحابه، وأحضرت القيوم، وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد، فقيدوهم؛ فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد، فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو بها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا.

وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من كور خراسان وقراها؛ وكان رافع بن هرثمة قد اجتبى عدةً من كور خراسان خراجها سلفاً لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وخربها.

وفيها كانت وقعة بين الحسينيين والحسنيين والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وعلا الجعفريون فتخلصوا الفصل بن العباس العباسي العامل على المدينة.

وفي جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق، وولى أحمد بن محمد الطائي الطوفة وسوادها المعاون والخراج، فصير المعاون باسم علي بن الحسين المعروف بكفتمر، فلقي أحمد بن محمد الهيصم العجلي فيها، فاهزم الهيصم واستباح الطائي أمواله وضياعه.

ولأربع خلون من شعبان منها رد إسحاق بن كنداج المعتمد إلى سامرا فنزل الجوسق المطل على الحير.

ولثمان خلون من شعبان خلع على ابن كنداج، وقلّد سيفين بحمائل: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وسمي ذا السيفين، وخلع عليه بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان، وتوج بتاج، وقلد سيفاً كل ذلك مفصص بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الموفق وصاعد بن مخلد والقواد، وتغدوا عنده.

ذكر الخبر عن إحراق قصر صاحب الزنج

وفي شعبان من هذه السنة أحرق أصحاب قصر الفاسق، وانتهبوا ما فيه.

ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه: ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته؛ وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر؛ وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوت أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه؛ حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب؛ ففعلوا ذلك؛ فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة، فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتلة وولجوا النهر؛ فقتلوا فيه مقتلةً عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنفذوا عدداً من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلاً من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي؛ وكانت متصلة بدار الخبيث؛ فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه؛ ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلاً، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم؛ ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقاً حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره. فرأى الموفق بعدما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنداق والأنهار والمواضع العورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة. فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة. ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمرٌ عظيم؛ حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح؛ وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم. فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره؛ فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم؛ فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا؛ فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلي بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعاً شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعاً من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج.

فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استئمانه - فيما ذكر محمد بن الحسن - أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كارهٌ على علم منه بضلالته. قال: وكنت له على ذلك مواصلاً، وكنا جميعاً ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره؛ شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفساً بألا أستصحب ولداً و أهلاً، وأن أنجوا وحيداً؛ فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له، الرأي لك ما رأيت؛ إذ كنت إنما تخلف ولداً صغيراً لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيد حدثاً يلزمك عاره، فأما أنا معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعرضهن لسطوة الفاجر، فامض شأنك؛ فأخبره عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معاً وصبرنا.

فوجه محمد بن سمعان وكيلاً له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق. وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان؛ وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطلية بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته، فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة، فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد إلى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظلة بالقصد، لما كان مطلاً على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سبباً لتمكنها من دار الخبيث.

وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظلة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شئ مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هارباً، وترك ذلك كله. وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم؛ فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنفذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها ناراً، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم، فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك. وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراح شديدة في بطنه أشفى منه على التلف.