ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الاحداث
خبر هارون الشاري والظفر به
فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرم منها - بسبب الشاري هارون - إلى ناحية الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به إلى مدينة السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وكان سبب ظفره به أنه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعة من الفرسان والرجالة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه إليه؛ وذكر أن الحسين بن حمدان قال للمعتضد: إن أنا جئت به أمير المؤمنين فلي ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها إطلاق أبي، وحاجتان أسأله إياهما بعد مجيء به إليه.
فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائة فارس مع موشكير، فقال: أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألا يخالفني فيما أمره به، فأمر المعتضد موشكير بذلك.
فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة دجلة، فتقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون؛ فتمنعه العبور، وأجيئك أنا، أو يبلغك أني قد قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا؛ والصواب أن نمضي في أثارهم.
فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون الشاري منهزما إلى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفاً وأصحابه بالموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف هارون خبراً، ولا رأى له أثراً، وجعل يسأل عن هارون حتى وقف عبوره، فعبر في أثره، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسألهم عنه فكتموه أمره، فأراد أن يوقع بهم، وأعلمهم أن المعتضد في أثره؛ فأعلموه أنه اجتاز بهم، فأخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم - وكانت قد كلت وأعيت - واتبع أثره، فلحقه بعد أيام والشاري في نحو من مائة، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى إلا محاربته، فحاربه؛ فذكر أن حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره أصحاب حسين فأخذوه، وجاء به إلى المعتضد سلماً بغير عقد ولا عهد، فأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعة عليه والإحسان إليه أن يقدم فيطلقه ويخلع عليه؛ فلما أسر الشاري وصار في يد المعتضد، انصرف راجعاً إلى مدينة السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فنزل باب الشماسية، وعبأ الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من رؤساء أهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشاري على الفيل كالمحفة، وأقعد فيها، وألبس دراعه الديباج، وجعل على رأسه برنس حرير طويل.
ولعشر بقين من جمادى الأولى منها، أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وصرف عمالها؛ فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر.
وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وأبيه، فقال: اللهم أصلح الداعي إلى الحق؛ فرجع عمرو إلى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصراً أهل نيسابور.
وفي يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأخرى منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق ابن كنداجيق وخاقان المفلحي ومحمد بن كمشجور المعزوف ببندقة وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعة من القواد من مصر في الأمان.
وذكر أن سبب مجيئهم إلى المعتضد في الأمان كان أنهم أرادوا أن يفتكوا بجيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون، فسعى بهم إليه، وكان راكباً وكانوا في موكبه، وعلموا أنه قد وقف على أمرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البرية، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أياماً، ومات منهم جماعة من العطش وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفة بمرحلتين أو ثلاثة.
ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش إلى الكوفة حتى كتب أسماؤهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفة فلما قربوا من بغداد، خرجت إليهم الوظائف والخيم والطعام،ووصلوا إلى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم وحمل كل قائد منهم على دابة بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلاً.
وفي يوم السبت لأربع عشرة بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الجبل لحرب ابن أبي دلف بأصبهان.
خبر حصر الصقالبة القسطنطينية:
وفيها - فيما ذكر - ورد كتاب من طرسوس أن الصقالبة غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيرة حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، وأغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغية الروم إلى ملك الصقالبة أن ديننا ودينكم واحد؛ فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبة أن هذا ملك آبائي، ولست منصرفاً عنك إلا بغلبة أحدنا صاحبه؛ فلما لم يجد ملك الروم خلاصاً من صاحب الصقالبة، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا، وكشفوا الصقالبة،فلما رأى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث إليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح وفرقهم في البلدان، حذراً من أن يجنوا عليه.
خلاف جند جيش بن خمارويه عليه: وللنصف من رجب من هذه السنة ورد الخبر من مصر أن الجند من المغاربة والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرض بك أميراً علنياً فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي، وسألهم أن ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذي ذكروا أنهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بأرؤسهما إليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفي رجب منها أمر المعتضد بكري دجيل
والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبني بذلك من أرباب
الضياع والإقطاعات أربعة آلاف دينار، وكسر - فيما ذكر - وأنفق عليه، وولى
ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي أحمد بن طغان، وذكر أن الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم": أعلمك أن أحمد بن طغان نادي في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لأربع خلون من شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وأنه قد خرج إلى لامس - وهو معسكر المسلمين - يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، وأمر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعة، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة بأحسن زي، فلم يزل الناس خارجين إلى لامس إلى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثني عشر يوماً؛ وكانت جملة من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس، وأطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، وأطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقي رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
وخرج - فيما ذكر
أحمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، أوخلف
دميانه على علمه على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردي على طرسوس ولم
يرجع هو إليها.
ذكر أمر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز
بن أبي دلف وأخيه بكر
وفي يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنة قرىء كتاب على المنبر بمدينة السلام في مسجد جامعها؛ بأن عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إلى بدر وعبيد الله بن سليمان في الأمان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعاً مطيعاً منقاداً لأمير المؤمنين، مذعناً بالطاعة والمصير معهما إلى بابه، وأن عبيد الله بن سلمان خرج إليه فتلقاه، وصار به إلى مضرب بدر، وأخذ عليه وعلى أهل بيته وأصحابه البيعة لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من أهل بيته، فانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الأمان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على أن يخرج إليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في طاعة السلطان؛ وإنما كنا وليناك عمله على أنه عاص، والآن فأمير المؤمنين أعلى عيناً فيما يرى من أمركما، فامضيا إلى بابه.
وولى عيسى النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في أصحابه، فكتب بذلك إلى المعتضد، فكتب إلى بدر يأمره بالمقام بموضعه إلى أن يعرف خبر بكر وما إليه يصير أمره؛ فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى محمد علي بن المعتضد بالرى، ولحق بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالأهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفاً موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه - فيما ذكر - ولم يواقعه، وباتا؛ وكل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر إلى أصبهان، ورجع وصيف إلى بغداد، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بكر وعربه، فتقدم بدر إلى عيسى النوشري بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز:
عني ملامك لـيس حـين مـلام
هيهـات أحـدث زائداً لـلـوام
طارت غيايات الصبا عن مفرقـي
ومضى أوان شراستي وعرامـي
ألقى الأحبة بالعراق عـصـيهـم
وبقيت نـصـب حـوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمـت بـه
مرمـى الـبـعـيد الأرحــام
وتشعب العرب الذين تصـدعـوا
فذببت عن أحسابهم بحـسـامـي
فيه تماسك ما وهي من أمـرهـم
والسمر عنـد تـصـادم الأقـوام
فلأقرعن صفاة دهـر نـابـهـم
قرعـاً يهـد رواسـي الأعـلام
ولأضربن الهام دون حـريمـهـم
ضرب القدار نـقـيعة الـقـدام
ولأتركن الـواردين حـياضـهـم
بقـرارة لـمـواطـىء الأقـدام
يا بدر إنك لو شهدت مـواقـفـي
والموت يلحظ والصفاح دوامـي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتـي
ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السـكـون وإنـمـا
حركت من حصني جبال تـهـام
وعجمتني فعجمت مني مـرجـمـاً
خشن المنـاكـب كـل يوم زحـام
قل للأمـير أبـي مـحـمـد الـذي
يخلـو بـغـرتـه دجـى الإظـلام
أسكنتني ظل العـلا فـسـكـنـتـه
في عـيشة رغـد وعـز نـامـي
حتى إذا حلـئت عـنـه نـابـنـي
ما نـابـنـي وتـنـكـرت أيامـي
فلأشكرن جمـيل مـا أولـيتـنـي
ما غردت في الأيك ورق حـمـام
هذا أبو حـفـص يدي وذخـيرتـي
للنائبـات وعـدتـي وسـنـامـي
ناديتـه فـأجـابـنـي، وهـززتـه
فهززت حد الصارم الصـمـصـام
من رام أن يغضي الجفون على القذى
أو يسـتـكـين يروم غـير مـرام
ويخيم حـين يرى الأسـنة شـرعـاً
والبيض مصلته لـضـرب الـهـام
وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشري منبين يديه ويعير وصيفا بالأحجام عنه ويتهدد بدراً:
قالت البيض قد تغير بـكـر
وبدا بعد وصله منه هـجـر
ليس كالسيف مونس حين يعرو
حادث معضل ويفـدح أمـر
أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها
ثم حاصوا، فأين منها المفر!
وبغوا شـرنـا فـهـذا أوان
قد بدا شـره ويتـلـوه شـر
قد رأى النوشري لما التقـينـا
من إذا أشرع الرمـاح يفـر
جاء في قسطل لهام فصلـنـا
صولة دونها الكمـاة تـهـر
ولواء الموشجير أفضى إلينـا
رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدراً حلمي وفضل أناتـي
واحتمالي، وذاك ممـا يغـر
سوف يأتينـه شـوذاب قـب
لاحقات البطون جون وشقـر
يتبارين كالسعالـي عـلـيهـا
من بني وائل أسـود تـكـر
لست بكراً إن لم أدعهم حديثـاً
ما سرى كوكب وما كر دهر
وفي يوم الجمعة لسبع خلون من شوال من هذه السنة مات علي بن محمد ابن أبي الشوارب، فحمل إلى سامراً من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينة أبي جعفر ستة أشهر.
وفي يوم الاثنين لأربع من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف قادماً من أصبهان، فأمر المعتضد - فيما ذكر - القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل إليه، وخلع عليه، وحمله على دابة بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وأنزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند رأس الجسر؛ وكانت قد فرشت له.
وفي هذه السنة قرىء على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن الصفار بن الليث الصفار؛ بأنه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وأنه مر هارباً، وأنه على أن يتبعه.
وكانت الوقعة لخمس بقين من شهر رمضان، وقرىء الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة.
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة، وردت خريطة - فيما ذكر - من عمرو بن الليث على المعتضد،وهو في الحلبة، فانصرف إلى دار العامة، وقرىء الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه أنه وجه في أثره رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخي مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار إلى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا أثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم، فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر أنه قد حمل الرسول في أمر الرأس ما يخبر به السلطان.
وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.