المجلد العاشر - ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين: ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأمور

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأمور

فمن ذلك ما كان من انتشار القرامطة بسواد الكوفة، فوجه إليهم شبل غلام أحمد بن محمد الطائي، وتقدم إليه في طلبهم، وأخذ من ظفر به منهم وحملهم إلى باب السلطان.

وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبي فوارس، فوجه به معهم، فدعا به المعتضد لثمان بقين من المحرم، فساءله، ثم أمر به فقلعت أضراسه، ثم خلع بمد إحدى يديه - فيما ذكر - ببكرة، وعلق في الأخرى صخرة، وترك على حالة تلك من نصف النهار إلى المغرب، ثم قطعت يداه ورجلاه من غد ذلك اليوم، وضربت عنقه، وصلب بالجانب الشرقي، ثم حملت جثته بعد أيام إلى الياسرية، فصلب مع من صلب هنالك من القرامطة.

ولليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، أخرج من كانت له دار وحانوت بباب الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أقفاصكم واخرجوا؛ وذلك أن المعتضد كان قد قدر أن يبني لنفسه داراً يسكنها، فخط موضع السور، وحفر بعضه، وابتدأ في بناء دكة على دجلة، كان المعتضد أمر ببنائها لينتقل فيقيم فيها إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر.

وفي ربيع الآخر منها ليلة الأمير توفي المعتضد، فلما كان في صبيحتها أحضر دار السلطان يوسف بن يعقوب وأبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان، وأبو خازم وأبو عمر والحرم والخاصة، وكان أوصى أن يدفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فحفر له فيها، فحمل من قصره المعروف بالحسنى ليلاً، فدفن في قبره هنالك.

ولسبع بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - وهي سنة تسع وثمانين ومائتين - جلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان في الحسنى، وأذن للناس، فعزوه بالمعتضد، وهنئوه بما جدد له من أمر المكتفي، وتقدم إلى الكتاب والقواد في تجديد البيعة للمكتفي بالله، فقبلوا.

خلافة المكتفى بالله: ولما توفي المعتضد القاسم بن عبيد الله بالخبر إلى المكتفى كتباً، وأنفذها من ساعته؛ وكان المكتفى مقيماً بالرقة، فلما وصل الخبر إليه أمر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعة على من في عسكره، ووضع العطاء لهم، ففعل ذلك الحسين، ثم خرج شاخصاً من الرقة إلى بغداد، ووجه إلى النواحي بديار ربيعة وديار مضر ونواحي المغرب من يضبطها.

وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى دخل المكتفى إلى داره بالحسني؛ فلما صار إلى منزله، أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.

وفي هذا اليوم كنى المكتفى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.

وفي هذا اليوم مات عمرو بن الليث الصفار، ودفن في غد هذا اليوم بالقرب بالقرب من القصر الحسني، وقد كان المعتضد - فيما ذكر - عند موته بعد ما امتنع من الكلام أمر صافياً الحرمي بقتل عمرو بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه، أراد ذبح الأعور فلم يفعل ذلك صافي لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته، وكره قتل عمرو، فلما دخل المكتفى بغداد سأل - فيما قيل - القاسم بن عبيد الله عن عمرو: أحي هو؟ قال: نعم، فسر بحياته.

وذكر أنه يريد أن يحسن إليه، وكان عمرو يهدى إلى المكتفى ويبره براً كثيراً أيام مقامه بالرى فأراد مكافأته، فذكروا أن القاسم بن عبيد الله كره ذلك، ودس إلى عمرو من قتله.

وفي رجب منها ورد الخبر لأربع بقين منه أن جماعة من أهل الرى كاتبوا محمد بن هارون الذي كان إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان استعمله على طبرستان بعد قتله محمد بن زيد العلوي، فخلع محمد بن هارون وبيض، فسألوه المصير إلى الرى ليدخلوه إليها؛ وذلك أن أوكر تمش التركي المولي عليهم كان - فيما ذكر - قد أساء السيرة فيهم، فحاربه، فهزمه محمد بن هارون وقتله، وقتل ابنين له وقائداً من قواد السلطان يقال له أبرون أخو كيغلغ، ودخل محمد بن هارون الرى واستولى عليها.

وفي رجب من هذه السنة زلزلت بغداد، ودامت الزلزلة فيها أياماً وليالي كثيرة.

ذكر الخبر عن مقتل بدر غلام المعتضد

وفي هذه السنة كان مقتل بدر غلام المعتضد.

ذكر سبب قتله ذكر أن سبب ذلك كان أن القاسم بن عبيد الله كان هم بتصيير الخلافة من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وأنه كان ناظر بدراً في ذلك، فامتنع بدر عليه وقال: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي الذي هو ولي نعمتي فلما رأى القاسم ذلك وعلم أنه لا سبيل إلى مخالفة بدر؛ إذ كان بدر صاحب جيش المعتضد، والمستولي على أمره، والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر.

وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافة، وبايع له وهو بالرقة، لما كان بين المكتفى وبين بدر من التباعد في حياة والده.

وكتب القاسم إلى المكتفى لما بايع غلمان أبيه له بالخلافة، وأخذ عليهم البيعة بما فعل من ذلك، فقدم بغداد المكتفى وبدر بعد بفارس، فلما قدمها القاسم في هلاك بدر؛ حذراً على نفسه - فيما ذكر - من بدر أن يقدم على المكتفى، فيطلعه على ما كان القاسم هم به، وعزم عليه في حياة المعتضد من صرف الخلافة عن ولد المعتضد إذا مات.

فوجه المكتفى - فيما ذكر - محمد بن كمشجور وجماعة من القواد برسائل، وكتب إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمصير إلى ما قبله ومفارقة بدر وتركه، فأوصلت الكتب إلى القواد في شر، ووجه إليه يانس خادم الموفق، ومعه عشرة آلاف ألف درهم ليصرفها في عطاء أصحابه لبيعة المكتفى، فخرج بها يانس.

فذكر أنه لما صار بالأهواز، وجه إليه بدر من قبض المال منه فرجع يانس إلى مدينة السلام؛ فلما وصلت كتب المكتفى إلى القواد المضمومين إلى بدر، فارق بدراً جماعة منهم، وانصرفوا عنه إلى مدينة السلام؛ منهم العباس بن عمرو الغنوي وخاقان المفلحي ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخفيف الأذكوتكيني وجماعة غيرهم.

فلما صاروا إلى مدينة السلام دخلوا على المكتفى، فخلع - فيما ذكر - على نيف وثلاثين رجلاً منهم، وأجاز جماعة من رؤسائهم؛ كل رجل منهم بمائة ألف درهم، وأجاز آخرين بدون ذلك، وخلع على بعضهم، ولم يجزه بشيء.

وانصرف بدر في رجب؛ عامداً المصير إلى واسط.

واتصل بالمكتفى إقبال بدر إلى واسط، فوكل بدار بدر، وقبض على جماعة من غلمانه وقواده؛ فحبسوا، منهم نحرير الكبير، وعريب الجبلي، ومنصور، ابن أخت عيسى النوشري.

وأدخل المكتفي على نفسه القواد، وقال لهم: لست أؤمر عليكم أحداً، ومن كانت له منكم حاجة فليلق الوزير، فقد تقدمت إليه بقضاء حوائجكم.

وأمر بمحو اسم بدر من التراس والاعلام، وكان عليها مولى المعتضد بالله، وكتب بدر إلى المكتفى كتاباً دفعه إلى زيدان السعيدي، وحمله على الجمازات.

فلما وصل الكتاب إلى المكتفى أخذه، ووكل بزيدان هذا، وأشخص الحسن بن علي كوره في جيش إلى ناحية واسط.

وذكر أنه قدمه المكتفى على مقدمته.

ثم أحدر محمد بن يوسف مع المغرب لليلة بقيت من شعبان من هذه السنة برسالة إلى بدر، وكان المكتفى أرسل إلى بدر حين فصل من عمل فارس يعرض عليه ولاية أي النواحي شاء؛ إن شاء أصبهان وإن شاء الرى، وإن شاء الجبال، ويأمره بالمصير إلى حيث أحب من هذه النواحي مع من أحب من الفرسان والرجالة، يقيم بها والياً عليها.

فأبى ذلك بدر، وقال: لا بد لي من المصير إلى باب مولاي.

فوجد القاسم بن عبيد الله مساغاً للقول فيه، وقال للمكتفى: يا أمير المؤمنين، قد عرضنا عليه أن نقلده أي النواحي شاء أن يمضي إليها، فأبى إلا المجيء إلى بابك، وخوفه غائلته، وحرض المكتفى على لقائه ومحاربته، واتصل الخبر ببدر أنه قد وكل بداره، وحبس غلمانه وأسبابه، فأيقن بالشر، ووجه من يحتال في تخليص ابنه هلال وإحداره إليه، فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فأمر بالحفظ به، ودعا أبا خازم القاضي على الشرقية وأمره بالمضي إلى بدر ولقائه وتطييب نفسه وإعطائه الأمان من أمير المؤمنين، على نفسه وماله وولده، فذكر أن أبا خازم قال له: أحتاج سماع ذلك من أمير المؤمنين حتى أؤديه إليه عنه، فقال له: انصرف حتى أستأذن لك في ذلك أمير المؤمنين.

ثم دعا بأبي عمر محمد بن يوسف، فأمره بمثل الذي أمر به أبا خازم، فسارع إلى إجابته إلى ما أمره به، ودفع القاسم بن عبيد الله إلى أبي عمر كتاب أمان عن المكتفى، فمضى به نحو بدر، فلما فصل بدر عن واسط ارفض عنه أصحابه وأكثر غلمانه؛ مثل عيسى النوشري وختنه يانس المستأمن وأحمد بن سمعان ونحرير الصغير، صاروا إلى مضرب المكتفى في الأمان.

فلما كان بعد مضى ليلتين من شهر رمضان من هذه السنة، خرج المكتفى من بغداد إلى مضربه بنهر ديالى، وخرج معه جميع جيشه، فعسكر هنالك، وخلع على من صار إلى مضربه من الجماعة الذين سميت، وعلى جماعة من القواد والجند.

ووكل بجماعة منهم، ثم قيد تسعة منهم، وأمر بحملهم مقيدين إلى السجن الجديد؛ ولقى - فيما ذكر - أبو عمر محمد بن يوسف بدراً بالقرب من واسط، ودفع إليه الأمان وخبره عن المكتفى بما قال له القاسم بن عبيد الله، فصاعد معه في حراقة بدر، وكان قد سيره في الجانب الشرقي وغلمانه الذين بقوا معه في جماعة من الجند وخلق كثير من الأكراد وأهل الجبل يسيرون معه بمسيرة على شط دجلة، فاستقر الأمر بين بدر وأبي عمر على أن يدخل بدر بغداد سامعاً ومطيعاً، وعبر بدر دجلة، فصار إلى النعمانية، وأمر غلمانه وأصحابه الذين يقوا معه أن ينزعوا سلاحهم، وألا يحاربوا أحداً، وأعلمهم ما ورد به عليه أبو عمر من الأمان؛ فبينا هو يسير إذ وافاه محمد بن إسحاق بن كنداج في شذاً، ومعه جماعة من الغلمان، فتحول إلى الحراقة، وسأله بدر عن الخبر، فطيب نفسه، وقال له قولاً جميلاً، وهم في كل ذلك يؤمرونه؛ وكان القاسم بن عبيد الله وجهه، وقال له: إذا اجتمعت مع بدر، وصرت معه في موضع واحد؛ فأعلمني.

فوجه القاسم، وأعلمه؛ فدعا القاسم بن عبيد الله لؤلؤاً أحد غلمان السلطان، فقال له: قد ندبتك لأمر، فقال: سمعاً وطاعة؛ فقال له: امض وتسلم بدراً من ابن كنداجيق، وجئني برأسه.

فمضى في طيار حتى استقبل بدراً ومن معه بين سيب بني كوما وبين اضطربد، فتحول من الطيار إلى الحراقة، وقال لبدر: قم، فقال: وما الخبر؟ قال: لا بأس عليك، فحوله إلى طياره، ومضى به حتى صار به إلى جزيرة بالصافية، فأخرجه إلى الجزيرة، وخرج معه، ودعا بسيف كان معه فاستله، فلما أيقن بدر بالقتل سأله أن يمهله حتى يصلي ركعتين، فأمهله، فصلاهما، ثم قدمه فضرب عنقه، وذلك في يوم الجمعة قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه ورجع إلى طياره؛ وأقبل راجعاً إلى معسكر المكتفى بنهر ديالى ورأس بدر معه، وتركت جثته مكانها، فبقيت هنالك.

ثم وجه عياله من أخذ جثته سراً، فجعلها في تابوت، وأخفوها عندهم، فلما كان أيام الموسم حملوها إلى مكة، فدفنوها بها - فيما قيل - وكان أوصى بذلك، وأعتق قبل أن يقتل مماليكه كلهم، وتسلم السلطان ضياع بدر ومستغلاته ودوره وجميع ماله بعد قتله.

وورد الخبر على المكتفى بما كان من قتل بدر، لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنة، فرحل منصرفاً إلى مدينة السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر إليه، فوصل إليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فأمر به فنظف، ورفع في الخزانة، ورجع أبو عمر القاضي إلى داره يوم الاثنين كئيباً حزيناً، لما كان منه في ذلك، وتكلم الناس فيه، وقالوا: هو السبب في قتل بدر، وقالوا فيه أشعاراً، فمما قيل فيه منها:

قل لقاضي المدينة المنـصـور          بم أحللت أخـذ رأس الأمـير!
بعد إعطائه المواثـيق والـعـه            د وعقد الأيمان في منـشـور
أين أيمانك التـي شـهـد الـل           ه على أنهـا يمـين فـجـور
أن كفيك لا تـفـارق كـفـي              ه إلى أن ترى مليك الـسـرير
يا قليل الـحـياء يا أكـذب الأ               مة يا شاهـداً شـهـادة زور
ليس هذا فعل القـضـاة ولا يح            سن أمثالـه ولاة الـجـسـور
أي أمر ركبت في الجمعة الزه              راء من شهر خير خير الشهور
قد مضى من قتلت في رمضان            صائماً بعد سجدة التـعـفـير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى         أهل بغداد منكم فـي غـرور
بدد الله شـمـلـكـم وأرانـي                 ذلكم في حـياة هـذا الـوزير
فأعد الجواب للحـكـم الـعـا                دل من بعد منـكـر ونـكـير
أنتم كـلـكـم فـدا لأبـي خـا               زم المستـقـيم كـل الأمـور

ولسبع خلون من شهر رمضان، حمل زيدان السعيدي الذي كان قدم رسولاً من قبل بدر إلى المكتفى مع التسعة الأنفس الذين قيدوا من قواد بدر، وسبعة أنفس أخر من أصحاب بدر قبض عليهم بعدهم في سفينة مطبقة عليهم، وأحدروا مقيدين إلى البصرة، فحبسوا في سجنها.

وذكر أن لؤلؤاً الذي ولى قتل بدر غلاماً من غلمان محمد بن هارون الذي قتل محمد بن زيد بطبرستان وأكرتمش بالرى، قدم مع جماعة من غلمان محمد بن هارون على السلطان في الأمان.

وفي ليلة الاثنين لأربع عشرة بقيت من شهر رمضان منها قتل عبد الواحد بن أبي أحمد الموفق - فيما ذكر - وكانت والدته - فيما قيل - وجهت معه إلى دار مؤنس لما قبض عليه دابة له، ففرق بينه وبين الداية فمكثت يومين أو ثلاثة، ثم صرفت إلى منزل مولاتها، فكانت والدة عبد الواحد إذا سألت عن خبره قيل لها: إنه في دار المكتفى؛ وهو في عافية.

وكانت طامعة في حياته، فلما مات المكتفى أيست منه وأقامت عليه مأتماً.

ذكر باقي الكائن من الأمور الجليلة

في سنة تسع وثمانين ومائتين

فمما كان من ذلك فيها لتسع بقين من شعبان منها، ورد كتاب من إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على السلطان بخبر وقعة كانت بين أصحابه وبين ابن جستان الديملي بطبرستان، وأن أصحابه هزموه، وقرىء بذلك كتابه بمسجدي الجامع ببغداد.

وفيها لحق رجل يقال له إسحاق الفرغاني من أصحاب بدر لما قتل بدر إلى ناحية البادية في جماعة من أصحابه على الخلاف على السلطان؛ فكانت بينه هنالك وبين أبي الأغر وقعة، هزم فيها أبو الأغر، وقتل من أصحابه ومن قواده عدة، ثم أشخص مؤنس الخازن في جمع كثيف إلى الكوفة لحرب إسحاق الفرغاني.

ولسلخ ذي القعدة خلع على خاقان المفلحي، وولى معونة الرى، وضم إليه خمسة آلاف رجل.

وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعاً كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى بهم دمشق، وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون على المعونة، وذلك في آخر هذه السنة، فكانت بين طغج، وبينه وقعات كثيرة قتل فيها - فيما ذكر - خلق كثير.
ذكر خبر هذا الرجل الذي ظهر بالشام وما كان من سبب ظهوره بها ذكر أن زكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه كان داعياً قرمط لما تتابع من المعتضد توجيه الجيوش إلى من بسواد الكوفة من القرامطة، وألح في طلبهم، وأثخن فيهم القتلى، ورأى أنه لا مدفع عن أنفسهم عند أهل السواد ولا غناء، سعى في استغواء من قرب من الكوفة من أعراب أسد وطييء وتميم وغيرهم من قبائل الأعراب، ودعاهم إلى رأيه؛ وزعم لهم أن من بالسواد من القرامطة يطابقونهم على أمره إن استجابوا له.

فلم يستجيبوا له، وكانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البر بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها، وتحمل الرسل وأمتعة التجار على إبلها، فأرسل زكرويه أولاده إليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا إلى علي بن أبي طالب وإلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وذكروا أنهم خائفون من السلطان، وأنهم ملجئون إليهم، فقبلوهم على ذلك، ثم دبوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة؛ فلم يقبل ذلك أحد منهم - أعنى من الكلبيين - إلا الفخذ المعروفة ببني العليص ابن ضمضم بن عدي بن جناب ومواليهم خاصة، فبايعوا في آخر سنة تسع وثمانين ومائتين بناحية السماوة ابن زكرية المسمى بيحيى والمكنى أبا القاسم، ولقبوه الشيخ، على أمر احتال فيهم، ولقب به نفسه، وزعم لهم أنه أبو عبد الله ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد.

وقد قيل: إنه زعم أنه محمد بن عبد الله بن يحيى.

وقيل إنه زعم أنه محمد ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب.

وقيل إنه لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابن يسمى عبد الله، وزعم لهم أن أباه المعروف بأبي محمود داعية له، وأن له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأن ناقته التي يركبها مأمورة، وأنهم إذا اتبعوها في مسيرها ظفروا.

وتكهن لهم، وأظهروا عضداً له ناقصة، وذكر أنها آية، وانحارت إليه جماعة من بني الأصبغ، وأخلصوا له وتسموا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بالله بناحية الرصافة في غربي الفرات من ديار مضر، فاغتروه وقتلوه، وحرقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كل قرية اجتازوا بها حتى أصعدوا إلى أعمال الشأم التي كان هارون بن خمارويه قوطع عليها، وأسند أمرها هارون إلى طغج بن جف، فأناح عليها وهزم كل عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينة دمشق، فأنفذ المصريون إليه بدراً الكبير غلام ابن طولون، فاجتمع مع طغج على محاربته، فواقعوهم قريباً من دمشق، فقتل الله عدو الله يحيى بن زكرويه.

وكان سبب قتله - فيما ذكر - أن بعض البرابرة زرقه بمزراق واتبعه نفاط، فزرقه بالنار فأحرقه؛ وذلك في كبد الحرب وشدتها، ثم دارت على المصريين الحرب، فانحازوا، فاجتمعت موالى بني العليص إلى بني العليص ومن معهم من الأصبغيين وغيرهم على نصب الحسين بن زكرويه أخي الملقب بالشيخ فنصبوا أخاه، وزعم لهم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد، وهو ابن نيف وعشرين سنة، وقد كان الملقب بالشيخ حمل موالى بني العليص على صريحهم، فقتلوا جماعة منهم، واستذلوهم، فبايعوا الحسين ابن زكرويه المسمى بأحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد أخيه، فأظهر شامة في وجهه ذكر أنها آيته، وطرأ إليه ابن عمه عيسى بن مهرويه المسمى عبد الله، وزعم أنه عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فلقبه المدثر، وعهد إليه؛ وذكر أنه المعنى في السورة التي يذكر فيها المدثر، ولقب غلاماً من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين، وظهر على المصريين، وعلى جند حمص وغيرها من أهل الشأم، وتسمى بأمره المؤمنين على منابرها، وكان ذلك كله في سنة تسع وثمانين، وفي سنة تسعين.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة من هذه السنة صلى الناس في قمص الصيف ببغداد، فهبت ريح الشمال عند العصر، فبرد الهواء حتى احتاج الناس بها من شدة البرد إلى الوقود والاصطلاء بالنار، ولبس المحشو والجباب، وجعل البرد حتى جمد الماء.

وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد بالرى ومحمد بن هارون وابن هارون - فيما قيل - حينئذ في نحو من ثمانية آلاف، فانهزم محمد بن هارون وتقدم أصحابه، وتبعه من أصحابه نحو من ألف، ومضوا نحو الديلم، فدخلها مستجيراً بها، ودخل إسماعيل بن أحمد الرى، وصار زهاء ألف رجل - فيما ذكر - ممن انهزم من أصحابه إلى باب السلطان.

وفي جمادى الآخرة منها لأربع خلون منها ولي القاسم بن سيما غزو الصائفة بالثغور الجزرية، وأطلق له من المال اثنا وثلاثون ألف دينار.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.