المجلد العاشر - ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة

ذكر خبر الوقعة بين أصحاب السلطان وصاحب الشامة

فمن ذلك ما كان من أمر الوقعة بين أصحاب السلطان وصاحب الشامة.

ذكر الخبر عن هذه الوقعة قال أبو حعفر: قد مضى ذكرى شخوص المكتفى مدينة السلام نحو صاحب الشامة لحربه ومصيره إلى الرقة، وبثه جيوشه فيما بين حلب وحمص، وتوليه حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب وتصييره أمر جيشه وقواده إليه؛ فلما دخلت هذه السنة كتب وزيره القاسم بن عبيد الله إلى محمد ابن سليمان وقواد السلطان يأمره وإياهم بمناهضة ذي الشامة وأصحابه، فساروا إليه حتى صاروا إلى موضع بينهم وبين حماة - فيما قيل - اثنا عشرة ميلاً، فلقوا به أصحاب القرمطي في يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم، وكان القرمطي قدم أصحابه وتخلف هو في جماعة من أصحابه، ومعه مال قد كان جمعه، وجعل السواد وراءه، فالتحمت الحرب بين أصحاب السلطان وأصحاب القرمطي، واشتدت، فهزم أصحاب القرمطي، وقتلوا، وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب السلطان ليلة الأربعاء لسبع خلون من المحرم.

فلما رأى القرمطي ما نزل بأصحابه من الفلول والهزيمة حمل - فيما قيل - أخاً له يكنى أبا الفضل مالاً، وتقدم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر في موضع، فيصير إليه، وركب هو وابن عمه المسمى المدثر والمطوق صاحبه وغلام له رومي.

وأخذ دليلاً، وسار يريد الكوفة عرضاً في البرية، حتى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال طريق الفرات، فنفذ ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض ما كان معه ليأخذ له ما يحتاجون إليه، فدخل الدالية المعروفة بدالية ابن طوق لشراء حاجه، فأنكروا زيه، وسئل عن أمره فمجمج، فأعلم المتولى مسلحة هذه الناحية بخبره، وهو رجل يعرف بأبي خبزة خليفة أحمد بن محمد بن كمشرد عامل أمير المؤمنين المكتفى على المعاون بالرحبة وطريق الفرات.

فركب في جماعة، وسأل هذا الرجل عن خبره، فأخبره أن الشامة خلف رابية هنالك في ثلاثة نفر.

فمضى إليهم، فأخذهم وصار بهم إلى صاحبه، فتوجه بهم ابن كشمرد وأبو خبزة إلى المكتفى بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا جميع من قدروا عليه من أولياء القرمطي وأشياعه، وكتب محمد بن سليمان إلى الوزير بالفتح: "بسم الله الرحمن الرحيم" قد تقدمت كتبي إلى الوزير أعزه الله في خبر القرمطي اللعين وأشياعه؛ بما أرجو أن يكون قد وصل إن شاء الله.

ولما كان في يوم الثلاثاء لست ليال خلون من المحرم رحلت من الموضع المعروف بالقراونة، نحو موضع يعرف بالعليانة، في جميع العسكر من الأولياء، وزحفنا بهم على مراتبهم في القلب والميمنة والميسرة وغير ذلك؛ فلم أبعد أن وافاتي الخبر بأن الكافر القرمطي أنفذ النعمان ابن أخي إسماعيل بن النعمان أحد دعاته في ثلاثة آلاف فارس، وخلق من الرجالة، وإنه نزل بموضع يعرف بتمتع، بينه وبين حماة اثنا عشرة ميلاً، فاجتمع إليه جميع من كان بمعرة النعمان وبناحية الفصيصي وسائر النواحي من الفرسان والرجالة، فأسررت ذلك عن القواد والناس جميعاً ولم أظهره، وسألت الدليل الذي كان معي عن هذا الموضع، وكم بيننا وبينه، فذكر أنه ستة أميال، فتوكلت على الله عز وجل، وتقدمت إليه في المسير نحوه، فمال بالناس جميعاً، وسرنا حتى وافيت الكفرة، فوجدتهم على تعبئة، ورأينا طلائهم.

فلما نظروا إلينا مقبلين زحفوا نحونا، وسرنا إليهم، فاقترفوا ستة كراديس، وجعلوا على ميسرتهم - على ما أخبرني من ظفرت به من رؤسائهم - مسروراً العليصي وأبا الحمل وغلام هارون العليصي، وأبا العذاب ورجاء وصافي وأبا يعلى العلوي، في ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا كميناً في أربعمائة فارس ميسرتهم بإزاء ميمنتنا، وجعلوا في قلب النعمان العليصي والمعروف بأبي الحطي، والحمارى وجماعة من بطلانهم في ألف وأربعمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وفي ميمنتهم كليباً العليصي والمعروف بالسديد العليصي والحسين بن العليصي وأبا الجراح العليصي وحميد العليصي، وجماعة من نظرائهم في ألف وأربعمائة فارس، وكمنوا مائتي فارس؛ فلم يزالوا زفاً إلينا ونحن نسير نحوهم غير متفرقين، متوكلين على الله عز وجل.

وقد استحثت الأولياء والغلمان وسائر الناس غيرهم، ووعدتهم.

فلما رأى بعضنا بعضاً حمل الكردوس الذي كان في ميسرتهم ضرباً بالسياط، فقصد الحسين بن حمدان، وهو في جناح الميمنة، فاستقبلهم الحسين - بارك الله عليه وأحسن جزاءه - بوجهه وبموضعه من سائر أصحابه برماحهم، فكسروها في صدورهم، فانفلوا عنهم، وعاود القرامطة الحمل عليهم، فأخذوا السيوف، واعترضوا ضرباً للوجوه، فصرع من الكفار الفجرة ستمائة فرس في أول وقعة، وأخذ أصحاب الحسين خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضة، وولوا مدبرين مفلولين واتبعهم الحسين، فرجعوا عليه، فلم يزالوا حملة وحملة، وفي خلال ذلك يصرع منهم الجماعة بعد الجماعة؛ حتى أفناهم الله عز وجل، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتي رجل.

وحمل الكردوس الذي كان في ميمنتهم على القاسم بن سيما ويمن الخادم ومن كان معهما من بني شيبان وبني تميم، فاستقبلوهم بالرماح حتى كسروها فيهم؛ واعتنق بعضهم بعضاً، فقتل من الفجرة جماعة كثيرة.

وحمل عليهم في وقت حملتهم خليفة بن المبارك ولؤلؤ، وكنت قد جعلته جناحاً لخليفة في ثلثمائة فارس، وجميع أصحاب الخليفة؛ وهو يعاركون بني شيبان وتميم، فقتل من الكفرة مقتلة عظيمة، واتبعوهم، فأخذ بنو شيبان منهم ثلثمائة فرس ومائة طوق، وأخذ أصحاب خليفة مثل ذلك؛ وزحف النعمان ومن معه في القلب إلينا، فحملت ومن معي، وكنت بين القلب والميمنة، وحمل خاقان القشوري بن كمشجور ومن كان معهم في الميمنة، ووصيف موشكير ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وابنا كيغلغ والمبارك القمى وربيعة بن محمد ومهاجر بن طليق والمظفر بن حاج وعبد الله بن حمدان وحي الكبير ووصيف البكتمري وبشر البكتمري ومحمد بن قراطغان.

وكان في جناح الميمنة جميع من حمل على من في القلب ومن انقطع ممن كان حمل الحسين بن حمدان، فلم يزالوا يقتلون الكفار فرسانهم ورجالتهم حتى قتلوا أكثر من خمسة أميال.

ولما أن تجاوزت المصاف بنصف ميل خفت أن يكون من الكفار مكيدة في الإحتيال على الرجالة والسواد، فوقفت إلى أن لحقوني.

وجمعتهم وجمعت الناس، إلي وبين يدي المطرد المبارك، مطرد أمير المؤمنين، وقد حملت في الوقت الأول، وحمل الناس.

ولم يزل عيسى النوشري ضابطاً للسواد من مصاف خلفهم مع فرسانه ورجالته على ما رسمته له، لم يزل من موضعه إلى أن رجع الناس جميعاً إلي من كل موضع، وضربت مضربي في الموضع الذي وقفت فيه؛ حتى نزل الناس جميعاً، ولم أزل واقفاً إلى أن صليت المغرب، حتى استقر العسكر بأهله، ووجهت في الطلائع ثم نزلت؛ وأكثرت حمد الله على ما هنأنا به من النصر، ولم يبق أحد من قواد أمير المؤمنين وغلمانه ولا العجم وغيرهم غاية في نصر هذه الدولة المباركة في المناصحة لها إلا بلغوها؛ بارك الله عليهم جميعاً! ولما استراح الناس خرجت القواد جميعاً لنقيم خارج المعسكر إلى أن يصبح الناس خوفاً من حيلة تقع، وأسأل الله تمام النعمة وإيزاع الشكر؛ وأنا - أعز الله سيدنا الوزير - راحل إلى حماة، ثم أشخص إلى سلمية بمن الله تعالى وعونه، فمن بقي من هؤلاء الكفار فهم بسلمية؛ فإنه قد صار إليها منذ ثلاثة أيام، وأحتاج إلى أن يتقدم الوزير بالكتاب إلى جميع القواد وسائر بطون العرب من بني شيبان وتغلب وبني تميم، يجزيهم جميعاً الخير على ما كان في هذه الوقعة؛ فما بقي أحد منهم - صغير ولا كبير - غاية، والحمد لله على ما تفضل به، وإياه أسأل تمام النعمة.

ولما تقدمت في جمع الرءوس، وجد رأس أبي الحمل ورأس أبي العذاب وأبي البغل.وقيل أن النعمان قد قتل؛ وقد تقدمت في طلبه، وأخذ رأسه وحمله مع الرءوس إلى حضرة أمير المؤمنين إن شاء الله.

وفي يوم الاثنين الأربع بقين من المحرم، أدخل صاحب الشامة إلى الرقة ظاهراً للناس فالج، عليه برنس حرير ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين.

ثم إن المكتفى خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقة إلى بغداد، وحمل معه القرمطي والمدثر والمطوق وجماعة من أسارى الوقعة، وذلك في أول صفر من هذه السنة.

فلما صار إلى بغداد عزم - فيما ذكر - على أن يدخل القرمطي مدينة السلام مصلوباً على دقل، والد قل على ظهر فيل؛ فأمر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل، وإن كانت أقصر من الدقل؛ وذلك مثل باب الطاق وباب الرصافة وغيرهما.

ثم استمسج المكتفى - فيما ذكر - فعل ما كان عزم عليه من ذاك، فعمل له دميانة - غلام يازمان - كرسياً، وركب الكرسي على ظهر الفيل، وكان ارتفاعه عن ظهر الفيل ذراعين ونصف الذراع - فيما قيل - ودخل المكتفى مدينة السلام بغداد صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربع الأول، وقدم الأسرى بين يديه على جمال مقيدين، عليهم دراريع حرير وبرانس حرير، والمطوق في وسطهم، غلام ما خرجت لحيته، قد جعل في فيه خشبة مخروطة، وشدت إلى قفاه كهيئة اللجام، وذلك أنه لما أدخل الرقة كان يشم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق عليهم، ففعل ذلك لئلا يشم إنساناً.

ثم أمر المكتفى ببناء دكة في المصلى العتيق من الجانب الشرقي، تكسيرها عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً، وارتفاعها نحو من عشرة أذرع، وبنى لها درج يصعد منها إليها.

وكان المكتفى خلف مع محمد بن سليمان عساكره بالرقة عند منصرفه إلى مدينة السلام، فتلقط محمد بن سليمان من كان في تلك الناحية من قواد القرمطي وقضاته وأصحاب شرطة، فأخذهم وقيدهم، وانحدر والقواد الذين تخلفوا معه إلى مدينة السلام على طريق الفرات، فوافى باب الأنبار ليلة الخميس لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، ومعه جماعة من القواد، منهم خاقان المفلحي ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وغيرهما: فأمر القواد الذين ببغداد بتلقي محمد بن سليمان والدخول معه، فدخل بغداد وبين يديه نيف وسبعون أسيراً، حتى صار إلى الثريا، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه، وطوقوا وسوروا وصرفوا إلى منازلهم، وأمر بالأسرى إلى السجن.

وذكر عن صاحب الشامة أنه أخذ وهو في حبس المكتفى سكرجة من المائدة التي تدخل إليه فكسرها، وأخذ شظية منها فقطع بها بعض عروق نفسه، فخرج منه دم كثير، ثم شد يده.

فلما وقف المولي خدمته على ذلك سأله: لم فعل ذلك؟ فقال: هاج بي الدم فأخرجته.

فترك حتى صلح، ورجعت إليه قوته.

ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفى القواد والغلمان بحضور الدكة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها، فحضروها، وحضر أحمد بن محمد الواثقي وهو يومئذ يلي الشرطة بمدينة السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش الدكة، فقعدا عليها، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفى معه من الرقة والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا الكوفة، وقوم من أهل بغداد كانوا على رأى القرامطة، وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة - وكانوا قليلاً - فجيء بهم على جمال، وأحضروا الدكة، ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل: إنهم كانوا ثلثمائة ونيفاً وعشرين، وقيل ثلثمائة وستين، وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة؛ ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد أسبل عليها الغشاء، ومعهما جماعة من الفرسان والرجالة، فصعد بهما إلى الدكة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنساناً من هؤلاء الأسارى، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وضربت أعناقهم واحداً بعد واحد، كان يأخذ الرجل فيبطح على وجهه فيقطع يمنى يديه، ويحلق بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه إلى أسفل، ثم يقعد فيمد رأسه، فيضرب عنقه، ويرمى برأسه وجثته إلى أسفل.

وكانت جماعة من هؤلاء الأسرى قليلة يضجون ويستغيثون، ويحلفون أنهم ليس من القرامطة.فلما فرغ من قتل هؤلاء الأربعة والثلاثين النفس - وكانوا من وجوه أصحاب القرمطي - فيما ذكر - وكبرائهم قدم المدثر، فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه، ثم قدم القرمطي فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوى فغشي عليه، ثم أخذ خشب فأضرمت فيه النار، ووضع في خواصره وبطنه، فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما؛ فلما خافوا أن يموت ضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة، وكبر من على الدكة وكبر سائر الناس.

فلما قتل انصرف القواد ومن كان حضر ذلك الموضع للنظر إلى ما يفعل بالقرمطي.

وأقام الواثقي وجماعة من أصحابه في ذلك الموضع إلى وقت العشاء الآخرة، حتى ضرب أعناق باقي الأسرى الذين أحضروا الدكة؛ ثم انصرف.

فلما كان من غد هذا اليوم حملت رءوس القتلى من المصلى إلى الجسر، وصلب بدن القرمطي في طرف الجسر الأعلى ببغداد، وحفرت لأجساد القتلى في يوم الأربعاء آبار إلى جانب الدكة، وطرحت فيها وطمت، ثم أمر بعد أيام بهدم الدكة ففعل.
ولأربع عشرة خلت من شهر ربيع الآخر وافى بغداد القاسم بن سيما منصرفاً عن عمله بطريق الفرات، ومعه رجل من بني العليص من أصحاب القرمطي صاحب الشامة؛ دخل إليه بأمان، وكان أحد دعاة القرمطي، يكنى أبا محمد.

وكان سبب دخوله في الأمان أن السلطان راسله ووعده الإحسان إن هو دخل الأمان؛ وذلك أنه لم يكن بقي من رؤساء القرامطة بنواحي الشأم غيره، وكان من موالي بني العليص، فر وقت الوقعة إلى بعض نواحي الغامضة، فأفلت.

ثم رغب الدخول في الأمان والطاعة خوفاً على نفسه، فوافى هو ومن معه مدينة السلام، وهم نيف وستون رجلاً، فأمنوا وأحسن إليهم، ووصلوا بمال حمل إليهم، وأخرج هو ومن معه إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، وأجريت لهم الأرزاق، فلما وصل القاسم بن سيما إلى عمله وهم معه، وأقاموا معه مدة، ثم أجمعوا على الغدر بالقاسم بن سيما، وئلتمروا به، ووقف على ذلك من عزمهم، فبادرهم ووضع السيف فيهم فأبارهم، وأسر جماعة منهم، فارتدع من بقي من بني العليص ومواليهم، وذلوا، ولزموا أرض السماوة وناحيتها مدة حتى راسلهم الخبيث زكرويه، وأعلمهم أن مما أوحى إليه، أن المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، وأن إمامه الذي يوحى إليه يظهر ويظفر.

وفي يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى زوج المكتفى ابنه محمداً ويكنى أبا أحمد بابنه أبي الحسين القاسم بن عبيد الله على صداق مائة ألف دينار.

وفي آخر جمادى الأولى من هذه السنة ورد - فيما ذكر - كتاب من ناحية جبي، يذكر فيه أن جبي وما يليها جاءها سيل في واد من الجبل، فغرق نحواً من ثلاثين فرسخاً، وغرق في ذلك خلق كثير، وغرقت المواشي والغلات، وخرجت المنازل والقرى، وأخرج من الغرقى ألف ومائتا نفس، سوى من لم يلحق منهم.

وفي يوم الأحد غرة رجب خلع المكتفى على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعة من وجوه القواد، منهم محمد ابن إسحاق بن كنداجيق، وخليفة بن المبارك المعروف بأبي الأغر وابنا كيغلغ، وبندقة بن كمشجور وغيرهم من القواد، وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان، وخرج محمد بن سليمان والخلع عليه حتى نزل مضربه بباب الشماسية، وعسكر هنالك، وعسكر معه جماعة القواد الذين أخرجوا وبرزوا، وكان خروجهم ذلك قاصدين لدمشق ومصر لقبض الأعمال من هارون بن خمارويه؛ لما تبين للسلطان من ضعفه وضعف من معه وذهاب رجاله بقتل من قتل منهم القرمطي.

ثم رحل لست خلون من رجب محمد بن سليمان من باب الشماسية ومن ضم إليه من الرجال، وهم زهاء عشرة آلاف رجل، وأمر بالجد في المسير.

ولثلاث بقين من رجب قرىء في الجامعين بمدينة السلام كتاب ورد من إسماعيل بن أحمد من خراسان، يذكر فيه أن الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم وخلق كثير، وأنه كان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية، ولا يكون ذلك إلا للرؤساء منهم، فوجه إليه برجل من قواده في جيش ضمه إليه، ونودي في الناس بالنفير، فخرج من المطوعة ناس كثير، ومضى صاحب العسكر نحو الترك بمن معه، فوافاهم المسلمون وهم غارون، فكبسوهم مع الصبح، فقتل منهم خلق كثير، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وانصرف المسلمون إلى موضعهم سالمين غانمين.

وفي شعبان منها ورد الخبر أن صاحب الروم وجه عشرة صلبان معها مائة ألف رجل إلى الثغور، وأن جماعة منهم قصدت نحو الحدث، فأغاروا وسبوا من قدروا عليه من المسلمين، وأحرقوا.

وفي شهر رمضان منها ورد كتاب من القاسم بن سيما من الرحبة على السلطان.

يذكر فيه أن الأعراب الذين استأمنوا إلى السلطان وإليه من بني العليص ومواليهم ممن كان مع القرمطي نكثوا وغدروا، وأنهم عزموا على أن يكبسوا الرحبة في يوم الفطر، عند اشتغال الناس بصلاة العيد، فيقتلوا من يلحقون، وأن يحرقوا وينهبوا، وإني أوقعت عليهم الحيلة حتى قتلت منهم وأسرت خمسين ومائة نفس، سوى من غرق منهم في الفرات، وإني قادم بالأسرى وفيهم جماعة من رؤسائهم وبرءوس من قتل منهم.

وفي آخر شهر رمضان من هذه السنة ورد كتاب من أبي معدان من الرقة - فيما قيل - باتصال الأخبار به من طرسوس أن الله أظهر المعروف بغلام زرافة في غزاة غزاها الروم في هذا الوقت بمدينة تدعى أنطاكية، وزعموا أنها تعادل قسطنطينية، وهذه المدينة على ساحل البحر، وأن غلام زرافة فتحها بالسيف عنوة، وقتل - فيما قيل - خمسة آلاف رجل، وأسر شبيهاً بعدتهم، واستنقذ من الأسارى أربعة آلاف إنسان.

وأنه أخذ للروم ستين مركباً، فحملها ما غنم من الفضة والذهب والمتاع والرقيق، وأنه قدر نصيب كل رجل حضر هذه الغزاة، فكان ألف دينار.

فاستبشر المسلمون بذلك.

وبادرت بكتابي هذا ليقف على ذلك.

وكتب يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان.

وأقام الحج للناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس ابن محمد.