ولنذكر مقدمة يعرف بها وجه إنقسام النظر في القياس إلى أدنى وإلى أقصى فنقول: المطلب الأقصى في هذا القسم هو البرهان المحصل للعلم اليقيني والبرهان نوع من القياس إذ القياس إسم عام، والبرهان إسم خاص لنوع منه، والقياس لا ينتظم إلا بمقدمتين، وكل مقمدة لا تنتظم إلا بمخبر عنه يسمى موضوعا وخبر يسمى محمولا، وكل موضوع أو محمول يذكر في قضية فهو لفظ نيدل لا محالة على معنى، فالقياس مركب، وكل ناظر في شيء مركب، فطريقه أن يحلل المركب إلى المفردات ويبتدىء بالنظر في الآحاد، ثم في المركب، فلزم من النظر في القياس النظر فيما ينحل إليه القياس من المقدماتنومن النظر في المقدمات النظر في المحمولن والموضوع اللذين منهما تتألف المقدمات،ومن النظر في المحمول والموضوع النظر في الألفاظ والمعاني المفردة التي بها يتم المحمول والموضوع، ولزم من النظر في المقدمات النظر في شروطها؛ فإن كل مركب من مادة وصورة يجب النظر في مادته وصورته. وما هذا إلا كمن يريد بناء بيت فحقه أن يهتم بإفراز المواد التي منها يتركب كاللبن والطين والخشب، ثم يشتغل بالتنصوير وكيفية التنضيد والتركيب؛ فكذلك النظر في القياس، فهذا بيان الحاجة إلى هذه الأقسام، ولنأخذ بعده في المقصود.
الفن الأول: من كتاب مقدمات في دلالة الألفاظ وبيان وجوه دلالتها ونسبتها إلى المعاني وبيانه بسبعة تقسيمات: القسمة الأولى: أن نقول: الألفاظ تدل على المعاني من ثلاثة أوجه متباينة: الوجه الأول الدلالة من حيث المطابقة كالإسم الموضوع بإزاء الشي، وذلك كدلالة لفظ الحائط على الحائط.
والآخر أن تكون بطريق التضمن وذلك كدلالة لفظ البيت على الحائط ودلالة لفظ الإنسان على الحيوان، وكذلك دلالة كل وصف أخص على الوصف الأعم الجوهري. الثالث: الدلالة بطريق الإلتزام والإستتباع كدلالة لفظ السقف على الحائط؛ فإنه مستتبع له إستتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته، ودلالة الإنسان على قابل صنعة الخياطة وتعلمها، والمعتبر في التعريفات دلالة المطابقة والتضمن. فأما دلالة الإلتزام فلا لأنها ما وضعها واضع اللغة بخلافهما، لأن المدلول فيها غير محدود ولا محصور، إذ لوازم الأشياء ولوازم لوازمها لا تنضبط ولا تنحصر فيؤدي إلى أن يكون اللفظ دليلا على مالا يتناهى من المعاني وهو محال.
القسمة الثانية: للفظ بالنسبة إلى عموم المعنى وخصوصه، واللفظ ينقسم إلى جزئي وكلي، والجزئي ما يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة في مفهومه، كقولك زيد وهذا الشجر وهذا الفرس، فإن المتصور من لفظ زيد شخص معين لا يشاركه غيره في كونه مفهوما من لفظ زيد. والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة فيه، فإن امتنع امتنع بسبب خارج عن نفس مفهومه ومقتضى لفظه، كقولك الإنسان والفرس والشجر وهي أسماء الأجناس والأنواع والمعاني الكلية العامة، وهو جار في لغة العرب في كل إسم أدخل عليه الألف واللام لا في معرض الحوالة على معلوم معين سابق، كالرجل فهو إسم جنس، فإنك قد تطلق وتريد به رجلا معينا عرفه المخاطب من قبل، فتقول: أقبل الرجل فتكون الألف واللام فيه للتعريف أي الرجل الذي جاءني من قبل. فإذا لم تكن مثل هذه القرينة، كان إسم الرجل إسما كليا يشترك في الإندراج تحته كل شخص من أشخاص الرجال.
فإن قلت: فإذا قلنا الشكل الكروي المحيط بإثني عشر برجا فذلك، ولم يكن في الوجود شكل بهذه الصفة غلا واحد فكيف يكون الإسم كليا والمسمى واحد، وقد دخل الألف واللام المقتضى لإستغراق الجن عليه؟ فيقال لك: إن هذا كلي لأنا لسنا نشترط أن يكون الداخل تحته موجودا بالفعل، بل يجوز أن يكون موجودا بالقوة والإمكان، ولو قدر وجوده لكان داخلا فيه لا محالة، وهو قبل الوجود داخل لا كإسم زيد فإنه يمتنع وقوع الشركة فيه بالفعل والقوة جميعا.
فإن قلت: فإذا قلنا الإله الحق هكذا فكيف يكون هذا كليا ويمنع وقوع الشركة فيه بالفعل والقوة جميعا، وكذلك قولنا: الشمس على أصل من لا يجوز وجود شمس أخرى فإنه يتعين الداخل تحته تعين شخص زيد في التصور من لفظ زيد؟ فيقال لك: اللفظ كلي وإمتناع وقوع الشركة فيه ليس لنفس مفهوم اللفظ وموضوعه بل لمعنى خارج عنه، وهو إستحالة وجود إلهين للعالم، ولم نشترط في كون اللفظ كليا إلا أن لا يمنع من وقوع الشركة فيه نفس مفهوم اللفظ وموضوعه، فقد حصل لك من السؤالين وجوابهما أن الكلي ثلاثة أقسام: قسم توجد فيه الشركة بالفعل كقولنا الإنسان إذا كانت الأشخاص منه موجودة، وقسم توجد الشركة فيه بالقوة كقولنا الإنسان إذا اتفق إن لم يبق في الوجود إلا شخص واحد، والكرة المحيطة بإثني عشر برجا إذ ليس في الوجود غلا واحد، وقسم لا شركة فيه لا بالفعل ولا بالقوة كالإله، وهو مع ذلك كلي لأن المنع ليس هو من موضوع لالفظ ومحموله بخلاف لفظ زيد.
قد اختلف الأصوليون في أن الإسم المفرد إذا اتصل به الألف واللام هل يقتضي الإستغراق، وهل ينزل منزلة العموم كقول القائل الدينار أفضل من الدرهم والرجل خير من المرأة، فظن الظانون أنه من حيث كونه اسما فردا لا يقتضي الإستغراق لمجرده، ولكن فهم العموم بقرينة التسعير وقرينة التفضيل للذكر على الأنثى، إنما هو لعلمنا بنقصان الدرهمية عن الدينارية ونقصان الأنوثة عن الذكورة. وأنت إذا تأملت ما ذكرناه في تحقيق معنى الكلي، فهمت زلل هؤلاء بجهلهم أن اللفظ الكي يقتضي الإستغراق بمجرده ولا يحتاج إلى قرينة زائدة فيه. فإن قلت: ومن أين وقع لهم هذا الغلط؟ فستفهم ذلك من القسمة الثالثة.
إعلم أن المراتب فيما نقصده أربعة واللفظ في الرتبة الثالثة، فإن للشيء وجودا في الأعيان ثم في الأذهان، ثم في الألفاظ ثم في الكتابة.
فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان، فما لم يكن للشيء ثبوت في نفسه لم يرتسم في النفس مثاله. ومهما ارتسم في النفس مثاله فهو العلم به، إذ لا معنى للعلم إلا مثال يحصل في النفس مطابق لما هو مثال له في الحس وهو المعلوم، وما لم يظهر هذا الأثر في النفس لا ينتظم لفظ يدل به على ذلك الأثر، وما لم ينتظم اللفظ الذي ترتب فيه الأصوات والحروف لا ترتسم كتابة للدلالة عليه. والوجود في الأعيان دالتان بالوضع والإصطلاح.
وعند هذا نقول: من زعم أن الإسم المفرد لا يقتضي الإستغراق ظن انه موضوع بإزاء الموجود في الأعيان فإنها أشخاص معينة إذ الدينار الموجود شخص معين، فإن جمعت أشخاص سميت دنانير، ولم يعرف أن الدينار الشخصي المعين يرتسم منهفي النفس أثر هو مثاله وعلم به وتصور له، وذلك المثال يطابق ذلك الشخص وسائر اشخاص الدنانير الموجودة والمممكن وجوها، فتكون الصورة الثابتة في النفس من حيث مطابقتها لكل دينار يفرض صورة كلية لا شخصية؛ فإن اعتقدت أن إسم الدينار دليل على الأثر في النفس لا على المؤثر وذلك الأثر كلي، كان الإسم كليا لا محالة، وما قدمناه من الترتيب يعرفك أن الألفاظ لها دلالات على في النفوس، وما في النفوس مثال لما في الأعيان وسيأتي مزيد للعاني الكلية المرتسمة في النفوس بسبب مشاهدة الأشخاص الجزئية في كتاب أحكام الوجود ولواحقه.
اعلم أن اللفظ ينقسم إلى مفرد ومركب، والمركب ينقسم إلى مركب ناقص وغلى مركب تام، فهي ثلاثة أقسام:
هو المفرد وهو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلا حين هو جزؤه كقولك عيسى وإنسان، فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" مايراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلا. فإن قلت: فما قولك في عبد الملك؟ فاعلم أنه أيضا مفرد إذا جعلته إسما علما كقولك زيد، وعند ذلك لا تريد بعبد دلالة على معنى ولا بالملك دلالة على معنى. فكل منهما من حيث هو جزؤه لا يدل على شيء فيكونان كأجزاء إسم زيد وهما إسمان في الصورة جعلا إسما واحدا كبعلبك ومعد يكرب، فإن اتفق أن يكون المسمة به عبدا للملك تحقيقا فيكون هذا الإسم مطلقا عليه من وجهين: احدهما في تعريف ذاته فيكون الإسم مطلقا عليه من وجهين: أحدهما في تعريف ذاته فيكون الإسم مفرادا، والآخر في تعيف صفته في عبودية الملك فيكون قولك عبد الملك وصفا له فيكون مركبا لا مفردا، فافهم هذه الدقائق فإن مثار الأغاليط في النظريات تنشأ من إهمالها.
والمركب التام هو الذي كل لفظ منه يدل على معنى والمجموع بدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه، فيكون من إسمين ويكون من إسم وفعل. والمنطقي يسمى الفعل كلمة والمركب الناقص بخلافه.
فقولك: زيد يمشي والناطق حيوان؛ مركب تام، وقولك: في الدار أو انسان؛ مركب ناقص لأنه مركب من إسم وأداة لا من إسمين ولامن إسم وفعل، فإن مجرد قولك "زيد في" أو "زيد لا" لا يدل على المعنى الذي يراد الدلالة عليه في المحاورة ما لم يقل زيد في الدار أو زيد لا يظلم، فإنه بذلك الإقتران والتتميم يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه.
اللفظ إما إسم أو فعل أو حرف. ولنذكر حدّ كل واحد على شرط المنطقيين لتنكشف أقسامه، فنقول: الإسم صوت دال بتواطؤ مجرد عن الزمان والجزء من أجزائه لا يدل على إنفراده ويدل على معنى محصل، ولما كان الحد، مكربا من الجنس والفصول وتذكر الفصول للاحترازات، كان قولنا صوت جنسا، وقولنا دال فصلا يفصله عن العطاس والنحنحنة والسعال وأمثالها، وقولنا بتواطؤ يفصله عن نباح الكلبح فإنه صوت دال على ورود وارد لكن لا بتواطؤ، وقولنا مجرد عن الزمان نحو قولنا يقوم وقام وسيقوم، فإن كل واحد صوت دال بتواطؤ، وقولنا الجزء من أجزائه لا يدل على إنفراده احترازا عن المركب التام كقولنا زيد حيوان، فإن هذا يسمى خبرا وقولا لا إسما، وقولنا يدل على معنى محصل احترازا عن الأسماء التي ليست محصلة كقولنا لا إنسان، فإنه محصل احترازا عن الأسماء التي ليست محصلة كقولنا لا إنسان، فإنه لا يسمى إسما مع وجود جميع أجزاء الحد فيه سوى هذا الإحتراز. فإن قولنا لا إنسان قد يدل على الحجر والسماء والبقر، وبالجملة على كل شيء ليس بإنسان فليس له معنى محصل، إنما هو دليل على نفي الإنسان لا على إثبات شيء.
وأما الفعل وهو الكلمة فإنه صوت دال بتواطؤ على الوجه الذي ذكرناه في الإسم، إنما يباينه في أنه يدل على معنى وقوعه في زمان كقولنا قام ويقوم، وليس يكفي في كونه فعلا أن يدل على الزمان فحسب؛ فإن قولنا أمس واليوم وغدا وعام أول ومضرب الناقة ومقدم الحاج يدل على الزمان، وليس بفعل، حيث أن الفعل يدل على معنى وزمان يقع فيه المعنى فيكون الفعل أبدا دليلا على معنى محمول على غيره، فإذن الفرق بين الإسم والفعل تضمن معنى الزمان فقط.
وأما الحرف وهو الأداة فهو كل ما يدل على معنى لا يمكن أن يفهم بنفسه ما لم يقدر اقتران غيره به، مثل من وعلى وما أشبه ذلك.
وقد أوجز هذه الحدود فقيل في الإسم: إنه لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى من الأزمنة الثلاثة، ثم منه ما هو محصل كزيد ومنه ما هو غير محصل، كما إذا اقترن به حرف سلب فقيل لا إنسان.
والكلمة هي لفظة مفردة تدل على معنى وعلى الزمان الذي ذلك المعنى موجود فيه لموضوع ما غير معين، والحرف أو الأداة ما لا يدل على معنى باقترانه بغيره.
إعلم أن الألفاظ من المعاني على أربعة منازل: المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة.
أما المشتركة فهي اللفظ الواحد الذي يطلق على موجودات مختلفة بالحد والحقيقة إطلاقا متساويا كالعين تطلق على العين الباصرة، وينبوع الماء وقرص الشمس وهذه مختلفة الحدود والحقائق.
فهي التي تدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، كدلالة إسم الإنسان على زيد وعمرو، ودلالة إسم الحيوان على الإنسان والفرس والطير لأنها متشاركة في معنى الحيوانية والإسم بإزاء ذلك المعنى المشترك المتواطىء، بخلاف العين الباصرة وينبوع الماء.
وأما المترادفة: فهي الأسماء المختلفة الدالة على معنى يندرج تحت حد واحد كالخمر والراح والعقار؛ فإن المسمة بهذه يجمعه حد واحد وهو المائع المسكر المعتصر من العنب والأسامي مترادفة عليه.
وأما المتزايلة: فهي الأسماء المتباينة التي ليس بينها شيء من هذه النسب كالفرس والذهب والثياب؛ فإنها ألفاظ مختلفة تدل على معان مختلفة بالحد والحقيقة، والمشترك ينبغي أن يجتنب إستعامله في المخاطبات فضلا عن البراهين، وأما المتواطئة فتستعلم في الجميع لا سيما البراهين.
فإن المشتركة في الإسم هي المختلفان في المعنى المتفقان في الإسم، حيث لا يكونبينهما إتفاق وتشابه في المعنى البتة، وتقابلها المتواطئة وهي المشتركان في الحد والرسم المتساويان فيه بحيث لا يكون الإسم لأحدهما بمعنى إلا وهو للآخر بذلك المعنى، فلا يتفاوتان بالأولى والأحرى والتقدم والتأخر والشدة والضعف كإسم الإنسان لزيد وعمرو، وإسم الحيوان للفرس والثور؛ وربما يدل إسم واحد على شيئين بمعنى واحد في نفسه، ولكن يختلف ذلك المعنى بينهما من جهة أخرى ولنسميه إسما مشككا، وقد لا يكون المعنى واحدا ولكن يكون بينهما مشابهة ولنسمه متشابها.
أما الأول فالكالوجود للموجودات؛ فإنه معنى واحد في الحقيقة ولكن يختلف بالإضافة إلى المسميات، فإنه للجوهر قبل ما هو للعرض ولبعض الأعراض قبله لبعض آخر، فهذا بالتقدم والتأخر. وأما المقول بالأولى والأحرى فالكالوجود أيضا فإنه لبعض الأشياء من ذاته ولبعضها من غره، وما له الوجود من ذاته أولى وأحرى بالإسم، واما المقول بالشدة والضعف فيتصور فيما يقبل الشدة والضعف كالبياض للعاج والثلج، فإنه لا يقال عليهما بالتواطؤ المطلق المتساوي بل أحدهما أشد فيه من الآخر. أما الحيوان لزيد وعمرو، والفرس والثور فلا يتطرق إليه شيء من هذا التفاوت بحال، فقد ظهر بهذا الفرق انه قسم آخر، والمشكك قد يكون مطلقا كما سبق، وقد يكون بحسب النسبة إلى مبدأ واحد كقولنا طبي للكتاب والمبضع والدواء، أو لانتسابه إلى غاية واحدة كقولنا صحي للدواء والرياضة والفصد. وقد يكون إلى مبدأ وغاية واحدة كقولنا لجميع الأشياء أنها الإلهية. وأما الذي لا يجمعهما معنى واحد، ولكن بينهما تشابه ما كالإنسان على صورة متشكلة من الطين بصورة الإنسان وعلى الإنسان الحقيقي، فليس هذا بالتواطؤ إذ يخلفان بالحد فحد هذا حيوان ناطق مائت، وحد ذلك شكل صناعي يحاكي به صورة حيوان ناطق مائت؛ وكذلك القائمة للحيوان وللسرير حده في أحدهما أنه عضو طبيعي يقوم عليه الحيوان ويمشي به، وفي الآخر أنه جسم صناعي مسدير في أسفل السرير ليقله ولكن نجد بينهما شبها في شكل أو حال. ومثل هذا الإسم يكون موضوعا في أحدهما وضعا متقدما ويكون منقولا إلى الآخر، فإن أضيف إليهما سمي متشابه الإسم، وإن أضيف إلى المتقدم منهما سمي موضوعا، وإن أضيف إلى الأخير سمي منقولا؛ ثم هذا الضرب من التشابه على ثلاثة أقسام: الأول أن يكون في صفة قارة ذاتية كصورة الإنسان. والثاني أن يكون في صفة إضافية غير ذاتية كإسم المبدأ لطرف الخط والعلة. والثالث أن يكون التشابه جاريا في أمر بعيد كالكلب لنجم مخصوص ولحيوان، إذ لا تشابه بينهما إلا في أمر بعيد مستعار لأن النجم رئي كالتابع للصورة التي كالإنسان، ثم وجد الكلب أتبع الحيوانات للإنسان فسمي باسمه. ومثل هذا ينبغي أن يلحق بالمشترك المحض، فإنه لا عبرة بمثل هذا الإشتباه فقد صارت الأسامي بهذه القسمة ستة: متباينة، ومترادفة، ومتواطئة، ومشتركة، ومشككة، ومتشابهة؛ لأن العقل إذا قسم الشيء إلى ستة أقسام فيحتاج إلى ست عبارات في التفهيم.
ولا يخفى أن الموضوعات إذ تباينت مع تباين الحدود فالأسامي متباينة متزايلة كالفرس والحجر، ولكن قد يتحد الموضوع ويتعدد الإسم بحسب اختلاف إعتبارات، فيظن أنها مترادفة ولا تكون كذلك؛ فمن ذلك أن يكون أحد الإسمين له من حيث موضوعه، والآخر من حيث له وصفن كقولنا سيف وصارم؛ فإن الصارم دل على موضوع موصوف بصفة الحدة بخلاف السيف، ومن ذلك أن يدل كل واحد على وصف للموضوع الواحد كالصارم والمهند، فإن أحدهما يدل على حدته والآخر على نسبته، ومن ذلك أن يكون أحدهما بسبب وصف، والآخر بسبب وصف الوصف كالناطق والفصيح. ومن المتباينة المشتق والمنسوب مع المشتق منه والمنسوب إليه كالنحو والنحوي، والحديد والحداد، والمال والمتمول، والعدل والعادل، فإن العادل لو سمي عدلا كما سميت العدالة عدلا كان ذلك من قبيل ما يقال باشتباه افسم، ولكن غيرت الصيغة وبقيت المادة والمعنى الأول زيد فيه ما دل على زيادة المعنى فسمي مشتقا.
إعلم أن اللفظ المطلق على معان مختلفة ثلاثة أقسام: مستعارة ومنقولة ومخصوصة باسم باسم المشترك.
أما المستعارة فهي أن يكون إسم دالا على ذات الشيء بالوضع ودائما من أول الوضع إلى الآن،ولكن يلقب به في بعض الأحوال لا على الدوام شيء آخر لمناسبته للأول على وجه من وجوه المناسبات، من غير أن يجعل ذاتيا للثاني وثابتا عليه ومنقولا إليه كلفظ الأم، فإنه موضوع للوالدة ويستعار للأرض يقال إنها أم البشر، بل ينقل إلى العناصر الأربعة فتسمى أمهات على معنى أنها أصول. والأم أيضا أصل للولد فهذه المعاني التي استعير لها لفظ الأم لها أسماء خاصة بها.
وإنما تسمى بهذه الأسامي في بعض الأحوال على طريق الإستعارة، وخصص باسم المستعار لأن العارية لاتدوم وهذا أيضا يستعار في بعض الأحوال. وأما المنقول فهو أن ينقل الإسم عن موضوعه إلى معنى آخر ويجعل إسما له ثابتا دائما، ويستعمل أيضا في الأول فيصير مشتركا بينهما كإسم الصلاة والحج ولفظ الكافر والفاسق، وهذا يفارق المستعار بأنه صار ثابتا في المنقول إليه دائما ويفارق المخصوص باسم المشترك بأن المشترك هو الذي وضع بالوضع الأول مشتركا للمعنيين لا على أنه استحقه أحد المسميين، ثم نقل عنه إلى غيره إذ ليس لشيء من ينبوع الماء والدينار وقرص الشمس والعضو الباصر سبق إلى استحقاق إسم العين، بل وضع للكل وضعا متساويا بخلاف المستعار والمنقول.
والمستعار ينبغي أن يجتنب في البراهين دون المواعظ والخطابيات والشعر، بل هي أبلغ باستعماله فيها. وأما المنقول فيستعمل في العلوم كلها لمسيس الحاجة إليها إذ واضع اللغة لما لم يتحقق عنده جميع المعاني لم يفردها بالأسامي، فاضطر غيره إلى النقل. فالجوهر وضعه واضع اللغة لحجر يعرفه الصيرفي والمتكلم نقله إلى معنى حصله في نفسه، وهو أحد أقسام الموجودات وهذا مما يكثر إستعماله في العلوم والصناعات.
وأما المشتركة فلا يؤتى بها في البراهين خاصة ولا في الخطابيات إلا إذا كانت معها قرينة، وهي أيضا أقسام: فمنها ما يقع في أحوال الصيغة كالإسم الذي يتحد فيه بناء الفاعل والمفعول نحو المختار فإنك تقول زيد مختار والعلم مختار، وأحدهما بمعنى الفاعل، والآخر بمعنى المفعول وكالمضطر وأشباهه. ومنها ما يقع على عدة أمور متشابهو في الظاهر مختلفة في الحقيقة لا يكاد يوقف على وجه مخالفتها كالحي الذي يطلق على الله وعلى الإنسان وعلى النبات والنور الذي يطلق على المدرك بالبصر المضاد للظلام، وعلى العقل الهادي إلى غوامض الأمور.
فإن قال قائل: فما مثال المستعار؟ قلنا: مثاله استعارة أطراف الحيوان لغير الحيوان كقولهم: رأس المال، وجه النهار، عين الماء، حاجب الشمس، أنف الجبل، ريق المزن، يد الدهر، جناح الطريق، كبد السماء، وكقولهم: بيه سمع الأرض وبصرها، وكقولهم: أيد للشر ناجذيه، ودارت رحى الحرب، وشابت مفارق الجبال، وكقولهم: الشيب عنوان الموت، والرشوة رشا الحاجة، العيال سوس المال، الوحدة قبر الحي، الإرجاف زند الفتنة، الشمس قطيفة مباحة للمساحين.
ومن إستعارات القرآن: (وَأَنّهُ في أُم الكِتابِ لِتُنذِرَ بِهِ أُمَّ القُرى وَمَن حَولَها) (وَاخفِض لَهُمَا جُناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَة) (وَالصُبحِ إِذا تَنَفَس) (فَأذاقَها الله لِباسَ الجُوعِ وَالخَوفِ) (كُلَّما أَوقَدوا نَاراً لِلحَربِ أَطفَأَها الله) (أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها) (فَما بَكَت عَلَيهِمُ السماء والأرض) (واشتعل الرأس شيبا) (فصب عليهم ربك سوط عذاب) (ولما سكت عن موسى الغضب) ونظائره مما يكثر، وهذه الإستعارات بنوع مناسبة بين المستعار والمستعار منه، فإن قيل: فما معنى المجاز؟ قلنا قد يراد به المستعار فالمعنى أنه قد تجوز عن وضعه، وقد يراد به ما يقتضي الحقيقة، وفي الإطلاق خلافه كقوله: (وأسأل القرية) إذ المسؤول بالحقيقة أهل القرية لا نفس القرية؛ فهذه أمور لفظية من أهملها ولم يحكمها في مبدأ نظره كثر غلطه ولم يدر من أين أتى.
والفرق بين هذا الفن والذي قبله أن الأول نظر في اللفظ من حيث يدل على المعاني- وهذا نظر في المعنى من حيث هو ثابت في نفسه، وإن كان يدل عليه باللفظ إذ لا يمكن تعريف المعاني إلا بذكر الألفاظ.
ويتضح الغرض من هذا الفن بأنواع من القسمة.
فليعلم أن نظرنا في حصر الموجودات وحقائقها وهي منقسمة إلى محسوسة وإلى معلومة بالإستدلال لا تباشر ذاته بشيء من لاحواس، فالمحسوسات هي المدركات بالحواس لخمس كالألوان، ويتبعها معرفة الشكال والمقادير وذلك بحاسة البصر، وكالأصوات بالسمع، وكالطعوم بالذوق، والروائح بالشم، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والبرودة والحرارة، والرطوبة واليبوسة بحاسة اللمس، فهذه الأمور ولواحقها تباشر بالحس أي تتعلق بها القوة المدركة من الحواس في ذاتها. ومنها ما يعلم وجوده ويستدل عليه بآثاره ولا تدركه الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا تناله. ومثاله هذه الحواس نفسها فإن معنى أي واحدة منها هي القوة المدركة، والقوة المدركة لا تحس بحاسة من الحواس، ولا يدركها الخيال أيضا.
وكذلك القدرة والعلم والإردادة بل الخوف والخجل والعشق والغضب، وسائر هذه الصفات نعرفها من غيرنا معرفة يقينية بنوع من الإستدلال لا بتعلق شيء من حواسنا بها. فمن كتب بين أيدينا عرفنا قطعا قدرته وعلمه بنوع من الكتابة وإرادته إستدلالا بفعله، ويقيننا الحاصل بوجود هذه المعاني كيقيننا الحاصل بحركات يده المحسوسة وانتظام سواد الحروف على البياض، إن كان هذا مبصرا وتلك المعاني غير مبصرة بل أكثر الموجودات معلوم بالإستدلال عليها بآثارها ولا تحس، فلا ينبغي أن يعظم عندك الإحساس وتظن أن العلم المحقق هو الإحساس والتخيل وأن ما لا يتخيل لا حقيقة له، فإنك لو طالبت نفسك بالنظر إلى ذات القدرة والعلم وجدت الخيال يتصرف فيه بتشكيل وتلوين وتقدير، وأنت تعلم أن تصرف الخيال خطأ وأن حقيقة القدرة المستدل عليها بالفعل أمر مقدس عن الشكل واللون والتحيز والقدر، ولا ينبغي أن تنك دلالة العقل على أمور يأباها الخيال.
وننبهك الآن على منشأ هذا الإلتباس؛ فتأمل أن المدركات الأول للإنسان في مبدأ فطرته حواسه فكانت مستولية عليه، ثم الأغلب من جملتها الأبصار الذي يدرك الألوان بالقصد الأول والأشكال على سبيل الإستتباع، ثم الخيال يتصرف في المحسوسات وأكثر تصرفه في المبصرات فيركب من المرئيات أشكالا مختلفة آحادها مرئية، والتركيب من جهته، فإنك تقدر أن تتخيل فرسا له راس إنسان وطائرا له رأس فرس، ولكن لا يمكن أن تصور آحادا سوى ما شاهدته البتة حتى أنك لو أردت أن تتخيل فاكهة لم تشاهد لها نظيرا لم تقدر عليه، وإنما غايتك أن تأخذ شيئا مما شاهدته فتغير لونه مثلا كتفاحة سوداء، فإنك قد رأيت شكل التفاحة والسواد فركبتهما أو ثمرة كبيرة مثل بطيخة، فلا تزال تركب من آحاد ما شاهدت لأن الخيال يتبع الإبصار ولكنه يقدر على التركيب والتفصيل فقط، ولا يزال الخيال متحركا في التركيب والتفصيل مستوليا عليك بذلكن فمهما حصل لك معلوم بالإستدلال انبعث الخيال محدقا نظره نحوه طالبا حقيقة الأشياء عنده، ولا حقيقة عنده إلا للون أو الشكل فيطلب الشكل واللون، وهو ما يدركه البصر من الموجودات حتى لو تأملت في ذات الرائحة تأملا خياليا طلب الخيال للرائحة ولونا ووضعا وقدرا، كاذبا فيه وجاريا على مقتضى جبلته.
والعجب أنك إذ تأملت في شكل متلون لم يطلب الخيال منه طعمه ورائحته وهما حظا الشم والذوق، وإذا تأملت في ذات الطعم والرائحة طلب الخيال حظ البصر وهو اللون والشكل، مع أن الخيال يتصرف في مدركات الحواس الخمس جميعا ولكن لما كان ألفه لمدركات البصر أشد وأكثر، صار طلبه لحظ البصر أغلب وأبلغ. فإذا عرضت على نفسك عملك بصانع العالم وأنه موجود لا في جهة، طلب الخيال له لونا وقدر له قربا وبعدا واتصالا بالعالم وانفصالا إلى غير ذلك مما شاهده في الأشكال المتلونة، ولم يطلب له طعما ورائحة. ولا فرق بين الطعم والرائحة واللون والشكل، فالكل من مدركات الحواس. فإذا عرفت إنقسام الموجودات إلى محسوسات وإلى معلومات بالعقل ولا تباشر بالحس والخيال، فاعرض عن الخيال رأسا وعوّل على مقتضى العقل فيه، فقد ظهر لك إنقسام الموجود إلى محسوس وغيره.
بعضها إلى بعض بالعموم والخصوص إعلم أن معنى من المعاني الموجودة، وحقيقة من الحقائق الثابتة إذا نسبتها إلى غيرها من تلك المعاني والحقائق، وجدتها بالإضافة إليه إما أعم وإما أخص وإما مساويا، وإما أعم من وجه وأخص من وجه، فإنك إذا أضفت الإنسان إلى الحيوان وجدته أخص منه، وإن أضفت الحيوان إلى الإنسان وجدته أعم منه، وإن أضفت الحيوان إلى الحساس وجدته مساويا له لا أعم ولا أخص، وإن نسبت الأبيض إلى الحيوان وجدته أعم من وجه فإنه يشمل الجص والكافور وجملة من الجمادات، وأخص من وجه فإنه يقصر عن تناول الغراب والزنوج وجملة من الحيوانات.
فإذن جملة الحقائق تناسبها بهذا الإعتبار لا تعدو هذه الوجوه الأربعة، فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره.
إعلم أن الموجودات تنقسم إلى موجودات شخصية معينة وتسمى أعيانا وأشخاصا وجزئيات، وإلى أمور غير متعينة وتسمى الكليات والأمور العامة. فأما الأعيان الشخصية فهي الأمور المدركة أولا بالحواس كزيد وعمرون وهذا الفرس وهذه الشجرة وهذه السماء وهذا الكوكب وأمثالها، وكذا هذا البياض وهذه القدرة، فإن التعين يدخل على الأعراض والجواهر جميعا. ثم هذه الأشخاص كزيد وهذا الفرس وهذه الشجرة وهذا البياض لا تشترك في أعيانها، إذ عين هذا الشخص ليس هو عين الشخص الآخر، إلا أنها تتشابه بأمور كتشابه هذه الثلاثة في الجسمية وتشابه الفرس والإنسان دون الشجر في الحيوانية، فما به التشابه للأشياء يسمة الكليات والأمور العامة، وقد يتشابه زيد وعمرو بعد التشابه في الجسمية والحيوانية والإنسانية في الطول والبياض أيضا، فيكون الطول الذي به التشابه وكذا البياض أمرا عاما شاملا لهما شمولا واحدا، لا على أن بياض هذا هو بياض ذاك وطول هذا طول ذاك بعينه، ولكن على معنى سنبه عليه عند تحقيقنا لمعنى الكلي وثبوته في العقل، وهو من أدق ما ينبغي أن يدرك في المعقولات.
القسمة الرابعة في نسبة بعض المعاني إلى بعض إعلم أنك تقول: هذا الإنسان أبيض وهذا الإنسان حيوان، وهذا الإنسان ولدته أنثى، فقد حملت عليه البياض والحيوانية والولادة وجعلته موصوفا بهذه الأوصاق الثلاثة، ونسبة هذه الثلاثة إليه متفاوتة: فإن البياض يتصور ان يبطل من الإنسان ويبقى إنسانا فليس وجوده شرطا لإنسانيته ولنسم هذا عرضيا مفارقا.
وأما الحيوانية فضرورية للإنسان، فإنك إن لم تفهم الحيوان وامتنعت عن فهمه لم تفهم الإنسان بل مهما فهمت الإنسان فقد فهمت حيوانا مخصوصا، فكانت الحيوانية داخلة في مفهومك بالضرورة ويلقب هذا بلقب آخر للتمييز وهو الذاتي المقوم. وأما كونه مولودا من أنثى وكونه متلونا مثلا فليس نسبته إليه كنسبة الحيوانيةن إذ يجوزن أن يحصل في العقل معنى الإنسان بحده وحقيقته مع الغفلة عن كونه مولودا، أو مع اعتقاد أنه ليس بمولود خطأ، فليس من شرط فهم الإنسان الإمتناع عن اعتقاد كونه غير مولود، ومن شرطه الإمتناع عن اعتقاد كونه غير حيوان. وأما تميزه عن البياض فهو أن البياض قد يفارق وكونه مولودا لا يفارقه قط، وكذلك كونه متلونا بالجملة لا يفارقه وإن فارقه كونه أبيض على الخصوص، فالمتلونية ليست داخلة في ماهية الإنسان دخول الحيوانية، فلنخصص هذا القسم بلقب وهو اللازم؛ فإن الذاتي المقوم وإن كان أيضا لازما ولكن له خاصية التقويم، فيخصص إسم اللازم بهذا القسم. فقد استفدت من هذا التحقيق إنّ كلّ معنى ينسب إلى شيء، فإما أن يكون ذاتيا له مقوما لذاته أي قوام ذاته به، وإما ان يكون غير ذاتي مقوم ولكنه لازم غير مفارق، وأما أن يكون لا ذاتيا ولا لازما ولكن عرضيا. ولعلك تقول: الفرق بين العرضي المفارق وبين الذاتي واضح ولكن الفرق بين الذاتي المقوم وبين اللازم الذي ليس بمقوم ربما يشكل فهل لك معيار يرجع إليه؟ فنقول: المتكلمون سموا اللوازم توابع الذات وربما سموها توابع الحدوث، حتى زعمت منهم أن توابع الحدوث لا تتعلق بها قدرة القادر، ولكنها تتبع الحدوث وربما مثلوا ذلك بتحيز ولسنا نخوض فيه، والغرض إظهار معيار لإدراك الفرق بين الذاتي واللازم وله معياران: الأول أن كل ما يلزم ولا يرتفع في الوجود إن أمكن أن يرتفع بالوهم والتقدير وبقي الشيء معه مفهوما فهو لازم، فأنا نفهم كون الإنسان إنسانا وكون الجسم جسما وإن رفعنا من وهمنا كون الإنسان إنسانا وكون الجسم جسما وإن رفعنا من وهمنا اعتقاد كونهما مخلوقين مثلا وكونهما مخلوقين لازم لهما، ولو رفعنا من وهمنا كون الإنسان حيوانا لم نقدر على فهم الإنسان.
فمن ضرورة فهم الإنسان أن لا يسلب الحيوانية وليس من ضرورته أن لا يسلب المخلوقية، فإذن ما لا يرتفع في الوجود والوهم جميعا فهو ذاتي، وما يرفع في الوجود والوهم فهوعرضي، وما يقبل الإرتفاع في الوهم دون الوجود فهو لازم غير ذاتي، إلا أن هذا المعيار مع أنه كثير النفع في أغلب المواضع غير مطرد في الجميع فإن من اللوازم ما هو ظاهر اللزوم للشيء، بحيث لا يقدر على رفعه في الوهم أيضا، فإن الإنسان يلازمه كونه متلونا ملازمة ظاهرة لا يقدر الإنسان على رفعه في الوهم وهو لازم لا ذاتي، ولذلك إذا حددنا الإنسان لم يدخل فيه التلون مع أن الحد لا يخلو عن جميع الذاتيات المقومة كما سيأتي في كتاب الحدود.
وكذلك كون كل عدد إما مساو لغيره أو مفاوت فإنه لازم ليس بذاتي، وربما لا يقدر الإنسان على رفعه في الوهم، نعم من اللوازم ما يقدر على رفعه ككون المثلث مساوي الزوايا القائمتين فإنه لازم لا يعرف لزومه للمثلث بغير وسط بل بوسط، فلم يكن هذا مطردا فنعدل إلى المعيار الثاني عند العجز عن الأول ونقول: إن كل معنى إذا أحضرته في الذهن مع الشيء الذي شككت في أنه لازم له أو ذاتي، فإن لم يمكنك أن تفهم ذات الشيء إلا أن يكون قد فهمت له ذلك المعنى أولا، مساوية لقائمتين فهو كالحيوان وافنسان فإنك إذا فهمت ما الإنسان وما الحيوان فلا تفهم الإنسان إلا وقد فهمت أولا أنه حيوان فاعلم أنه ذاتي. وإن أمكنك أن تفه ذات الشيء دون أن تفهم المعنى أو أمكنك الغفلة عن المعنى بالتقدير، فاعلم أنه غير ذاتي. ثم إن كان يرتفع وجوده إما سريعا كالقيام والقعود للإنسان أو بطيئا شابا فاعلم أنه عرضي مفارق، وإن كان لا يفارقه أصلا ككون الزوايا من المثلث لازم، ورب لازم للشخص كأزرق العين أو أسود البشرة في الزنجي، فهو لا يفارق في الوجود للإنسان الزنجي فهو بالإضافة إلى ذلك الشخص لا يبعد أن يسمى لازما، وإن كان لزومه بالإتفاق لا بالضرورة في الجنس إذ يمكن وجود إنسان ليس كذلك، ولو أمكنت حيلة في إزالة زرقة العين وسواد البشرة لبقي هذا الإنسان إنسانا، ولو قدرت حيلة لإخراج زوايا المثلث عن كونها مساوية لقائمتين لم يبق المثلث وبطل وجوده، فلتدرك هذه الدقيقة في الفرق بين اللازم الضروري وبين اللازم الوجودي.
للذاتي في نفسه وللعرضي في نفسه لما كان المقوم مخصوصا باسم الذاتي في اصطلاح النظار صار ما يقابله يسمى عرضيا، مفارقا كان أو لازما، فيقال عرضي لازم وعرضي مفارق؛ فالعرضي بهذا المعنى وهو الذي ليس بمقوم ينقسم بالإضافة إلى ماهو عرضي له إلى ما يعمه وغيره وإلى ما يختص به ولا يوجد لغيره فيسمى خاصة، سواء كان لازما أو لم يكن وسواء كان ما نسب إليه نوعا أخيرا أو لم يكن، وسواء عم جميع ذلك الجنس أو وجد لبعضه كالمشي والأكل، فإنه بالإضافة إلى الحيوان خاصة، إذ لا يوجد لغير الحيوان، وإن كان لا يوجد كل وقت للحيوان فإن أضفته إلى الإنسان كان عرضا عاما، وكذلك الصهيل للفرس والضحك للإنسان من الخواص، فما ليس مخصوصا بما نسب إليه بل وجد له ولغيره سمي عرضا عاما، ولا تظن أنانريد بالعرض ما نريد بالعرض الذي يقابل الجوهر، فإن هذا العرض قد يكون جوهرا كالأبيض للإنسان، فإن معنى الأبيض هنا جوهر ذو بياض ومدلول اللفظ جوهر لا كالبياض، فإنه عرض فلا تغفل عن هذه الدقيقة فتغلط فينقسم العرضي قسمة أخرى إلى ما يسمى أعراضا ذاتية وإلى ما لا يسمى ذاتية، فإن الموجود يتحرك والجسم يتحرك والإنسان يتحرك، ولكنا نقول الموجود ليس يتحرك لكونه موجودا بل لمعنى أخص منه وهو الجسمية، والإنسان لا تعتريه الحركة لأنه إنسان بل لمعنى أعم منه وهو كونه جسما، فإذن الحركة من الأعراض الذاتية للجسم أي تلحقه وتعتريه من حيث أنه جسم لا لمعنى أعم منه ولا أخص منه بل لذاته، والصحة والسقم يوسف بكل منهما الحيوان وهو من الأعراض الذاتية للحيوان، إذ لا يلحقه لمعنى أعم منه فإنه لا يعتريه من حيث أنه موجود أو جسم، ولا لما هو أخص منه لأنه لا يعتريه من حيث أنه فرس أو ثور أو إنسان، بل لما هو أعم منها وهو كونه حيوانا. وكذلك الزوجية والفردية للعدد فما يجري هذا المجرى يسمى أعراضا ذاتية، فلا ينبغي أن يلتبس عليك الذاتي بالمعنى الأول وهو المقوم بالذاتي بالمعنى الثاني وهوغير مقوم، فهذه قسمة العرضي.
أما الذاتي المقوم فينقسم إلى ما لا يوجد شيء أعم منه وهو داخل في الماهية، أي يمكن أن يذكر في جواب ما هو ويسمى جنسا وإلى ما يوجد أعم منه دون ما هو أخص منه، ويمكن أن يذكر في جواب ما هو ويسمى نوعا وإلى ما يذكر في جواب أي شيء هو ويسمى فصلا.
فإذن إنقسم الذاتي إلى الجنس والنوع والفصل، والعرضي إلى الخاصة والعرض العام بالقسمة المذكورة، فتكون الجملة خمسة، فإذن الكليات بهذا الإعتبار خمسة ويسميها المنطقيون الخمسة المفردة، والأقسام الثلاثة للذاتي فيها مواضع إشتباه فلنوردها في معرض الأسئلة.
فإن قال قائل: إذا كان الأعم من الذاتيات يسمى جنسا، والأخص يسمى نوعا، فالذي هو بين الأخص والأعم كالحيوان الذي هو بين الجسم، فإنه أعم من الحيوان وبين الإنسان فإنه أخص من الحيوان ما إسمه؟ قلناك هذا يسمى نوعا بالإضافة إلى ما فوقه وجنسا بالإضافة إلى ما تحته. فإن قلت: فإسم النوع للمتوسط وللنوع الأخير الذي هو الإنسان بالتواطؤ أو بإشتراك الإسم؟ فاعلم أنه بالإشتراك، فإن الإنسان يسمى نوعا بمعنى أنه لا يقبل التقسيم بعد ذلك إلا بالشخص والعدد كزيد وعمرو، أو بالأحوال العرضية كالطويل والقصير وغيره. وأما الحيوان فتسميته نوعا بمعنى آخر وهو أنه يوجد ذاتي أعم منه، والإنسان سمي نوعا بمعنى أنه لا يوجد ذاتي أخص منه، بل كل ما أوردته مما هو أخص فهو عرضي لا ذاتي فهما معنيان متباينان. فإن قال قائل: فالموجود والشيء أعم من الجسم والحيوان فهل تسمونه جنسا؟ قلنا: لا حجر في التسميات والإصطلاحات بعد فهم المعاني، والأولى في الإصطلاحات النزول على عادة من سبق من النظار، وقد خصصوا إسم الجنس بمعنى داخل في الماهية يجوز أن يجاب به عن سؤال السائل عن الماهية، فيذكر في جواب ما هو، وإذا أشير إلى الشيء وقيل ما هو، لم يحسن ان يقال أنه موجود أو شيء بل الوجود كالعرضي بالإضافة إلى الماهية المعقولة، إذ يجوز أن تحصل ماهية الشيء في العقل مع الشك في أن تلك الماهية هل لها وجود في الأعيان أم لا، فإن ماهية المثلث أنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع، ويجوز أن يحصل في نفوسنا هذه الماهية ولا يكون للمثلث وجود، ولو كان الوجود داخلا في الماهية مقوما لحقيقة الذات لما تصور فهم المثلث وحصول ماهيته في العقل مع عدمه، فكمالا يتصور أن تحصل صورة الإنسان وحده في العقل إلا أن يكون كونه موجودا حاضرا في العقل، إن كان الوجود مقوما للذات كالحيوانية للإنسان والشكلية للمثلث، وليس الأمر كذلك. وعلى الجملة وجود الشيء أما في الأعيان فيستدعي حضور جميع الذاتيات المقومة، وأما في الأذهان وهو مثال الوجود في الأعيان مطابق له وهو معنى العلم إذ لا معنى للعلم بالشيء إلا بثبوت صورة الشيء وحقيقته ومثاله في النفس، كما تثبت صورة الشيء في المرآة مثلا إلا أن المرآة لا تثبت فيها إلا أمثلة المحسوسات، والنفس مرآة تثبت فيها أمثلة المعقولات فيستدعي حضور جميع الذاتيات المقومة مرة أخرى.
فإن قال قائل: فقد عرفت الفرق بين الجنس وبين ما هو عام عام عمومالجنس وليس بجنس، فبماذا يعرف الفرق بين الفصل والنوع؟ قلنا: الفصل ذاتي لا يذكر في جواب ما هو بل يذكر في جواب أي شيء هو، فإنه يشار إلى الخمر فيقال: ماهو؟ فيذكر في الجواب: شراب؛ فلا يحسن بعده أن يقال: ما هو؟ بل: أي شراب هو؟ فيقال: مسكر؛ فالمسكر فصل أي يفصله عن غيره وهو الذي يسميه الفقهاء احترازا، إلا أن الإحتراز قد يكون بالذاتي وقد يكون بغير الذاتي، وقد يخصص إسم الفصل عند الإطلاق بالذاتي. فلو قيل: أي شيء هو؟ وأجيب بأنه أحمر يقذف بالزبد، فربما انفصل به عن غيره وحصل به الإحتراز ولكن يكون ذلك فصلا غير ذاتي. وأما المسكر ففصل ذاتي للشراب وكذلك الناطق للحيوان.
وعلى الجملة الجنس والفصل عبارة عن الحقيقة نفسها تفصيلا كقولك شراب مسكر وحيوان ناطق؛ والنوع عبارة عنها إجمالا كقولك إنسان وفرس وجمل سواء النوع الإضافي والحقيقي، والفصل عبارة عن شيء ذي حقيقة كقولك ناطق وحساس ومسكر أي شيء ذو نطق وذو حس وذو إسكار، فكان الشيء الذي ورد عليه الوصف بذو وما بعدها لم يذكر بالفصول القائلة ناطق وحساس ومسكر. وسيأتي لهذا مزيد بيان في كتاب الحد الموصل إلى تصور الأشياء، إذ لا يتم الحدّ إلا بذكر الجنس والفصل.
أما الرسوم الجارية مجرى الحدود فالجنس يرسم بأنه كلي يحمل على أشياء مختلفة الذوات والحقائق في جواب ما هو، والفصل يرسم بأنه كلي يحمل على الشيء في جواب أي شيء هو في جوهره. والنوع بأحد المعنيين يرسم بأنه كلي يحمل على أشياء لا تختلف إلا بالعدد في جواب ما هو وبالمعنىالثاني يرسم بأنه كلي يحمل عليه الجنس وعلى غيره حملا ذاتيا، والخاصة ترسم بأنها كلية تحمل على ما تحت حقيقة واحدة فقط حملا غير ذاتي، والعرض العام يرسم بأنه كلي يطلق على حقائق مختلفة.
ثم إعلم أن هذه الذاتيات التي هي أجناس وأنواع تترتب متصاعدة إلى أن تنتهي إلى جنس الأجناس، وهو الجنس العالم الذي ليس فوقه جنس وتترتب متنازلة حتى تنحط إلى النوع الأخير الذي إن نزلت منه انتهت والأعراض، ولا بد من انتهاء الجنس العالي في التنازل إلى نوع أخير إذ ليس يخرج عن النهاية، ولا بد من إرتفاع النوع الأخير في التصاعد إلى جنس عال لا يمكن مجاوزته إلا بذكر العوارض واللوازم. فأما الذاتيات فتنتهي لا محالة والأنواع الأخيرة كثيرة، والأجناس العالية التي هي أعلى الأجناس زعم المنطقيون أنها عشرة: واحد جوهر وتسعة أعراض وهي: (الكم والكيف والمضاف والين ومتى والوضع وله وأن يفعل وأن ينفعل) فالجوهر مثل قولنا إنسان وحيوان وجسم، والكم مثل قولنا ذو ذراع وذو ثلاثة أذرع، والكيف مثل قولنا أبيض واسود، والمضاف مثل قولنا ضعف ونصف وابن واب، والاين مثل قولنا في السوق وفي الدار، ومتى مثل قولنا في زمان كذا ووقت كذا، والوضع مثل قولنا متكىء وجالس، وأن يفعل مثل قولنا يحرق ويقطع، وأن ينفعل مثل قولنا يحترق ويتقطع، وله مثل قولنا متنعل ومتطلس ومتسلح.
وقد تجتمع هذه العشرة في شخص واحد في سياق كلام واحد كما تقول أن الفقيه الفلاني الطويل الأسمر ابن فلان الجالس في بيته في سنة كذا يعلم ويتعلم وهو متطلس.
فهذه أجناس الموجودات والألفاظ الدالة عليها بواسطة آثارها في النفس، أعني ثبوت صورها في النفس وهي العلم بها فلا معلوم إلا وهو داخل في هذه الأقسام، ولا لفظ إلا وهو دال على شيء من هذه الأقسام. فأما الأعم من جميعها فهو الموجودة، وقد ذكرنا أنه ليس جنسا وينقسم بالقسمة الأولى إلى الجوهر والعرض، والعرض ينقسم إلى هذه الأقسام التسعة، فيكون المجموع عشرة، ولهذا مزيد تفصيل وتحقيق سيساق إليك في كتاب أقسام الوجود وأحكامه، فإنه بحث عن إنقسام الموجودات، والله أعلم.
الفن الثاني في تركيب المعاني المفردة
إعلم أن المعاني إذا ركبت حصل منها أصناف كالإستفهام والإلتماس والتمني والترجي والتعجب والخبر. وغرضنا من جملة ذلك الصنف الأخير وهو الخبر، لأن مطلبنا البراهين المرشدة إلىالعلوم وهي نوع من القياس المركب من المقدمات التي كل مقدمة منها خبر واحد يسمى قضية.
والخبر هو الذي يقال لقائله أنه صادق أو كاذب فيه بالذات لا بالعرض وبه يحصل الإحتراز عن سائر الأقسام إذ المستفهم عما يعلمه قد يقال له لا تكذب، فإنه يعرض به إلى التباس الأمر عليه. وكذلك من يقول يا زيد ويريد غيره لأن8ه يعتقد أن زيدا في الدار، فإذا قيل له لا تكذب لم يكن ذلك تكذيبا في النداء بل في خبر اندرج تحت النداء ضمنا، فإذا نظرنا في هذا الفن في القضية وبيانها بذكر أحكامها وأقسامها: ?القسمة الأولى: إن القضية باعتبار ذاتها تنقسمب إلى جزئين مفردين: أحدهما خبر والآخر مخبر عنه كقولك زيد قائم، فإن زيدا مخبر عنه والقائم خبر، وكقولك العالم حادث، فالعالم مخبر عنه والحادث خبر وقد جرت عادة المنطقيين بتسمية الخبر محمولا والمخبر عنه موضوعا، فلننزل على اصطلاحهم فلا مشاحة في الألفاظ. ثم إذا قلنا الشكل محمول على المثلث، فإن كل مثلث شكل فلسنا نعني به أن حقيقة المثلث حقيقة الشكل، ولكن معناه أن الشيء الذي يقال له مثلث فهو بعينه يقال له شكل، سواء كان حقيقة ذلك الشيء كونه مثلنا أو كونه شكلا أو كونه أمرا ثالثا، فإنا إذا أشرنا إلى إنسان وقلنا هذا الأبيض طويل، فحقيقة المشار إليه كونه إنسانا لا هذا الموضوع وهو الأبيض ولا هذا المحمول وهو الطويل.
وإذا قلنا هذا الإنسان أبيض فالموضوع هو الحقيقة فإذن لسنا نعني بالمحمول إلا القدر الذي ذكرناه من غير اشتراط، فالنفهم حقيقته فهذا أقل ما تنقسم إليه القضية الحملية. والقضايا باعتبار وجوه تركيبها ثلاثة أصناف: الأول الحملي وهو الذي حكم فيه بأن معنى محمول على معنى أو ليس بمحمول عليه كقولنا: العالم حادث- العالم ليس بحادث؛ فالعالم موضوع والحادث محمول يسلب مرة ويثبت أخرى. وقولنا: ليس هو حرف سلب، إذا زيد على مجرد ذكر ذات الموضوع والمحمول صار المحمول مسلوبا عن الموضوع.
الصنف الثاني ما يسمى شرطيا متصلا كقولنا: إن كان العالم حادثا فله محدث، سمي شرطيا لأنه شرط وجود المقدم لوجود التالي بكلمة الشرط، وهو أن وإذا وما يقوم مقامهما. فقولنا: إن كان العالم حادثا يسمى مقدما، وقولنا: فله محدث، يسمى تاليا، وهو الذي قرن به حرف الجزاء الموازي للشرط. والتالي يجري مجرى المحمول ولكن يفارق من وجه، وهو أن المحمول ربما يرجع في الحقيقة إلى نفس الموضوع، ولا يكون شيئا مفارقا له ولا متصلا به على سبيل اللزوم والتبعية، كقولنا الإنسان حيوان والحيوان محمول وليس مفارقا ولا ملازما تابعا. وأما قولنا فله محدث فهو شيء آخر لزم اتصاله وأقرانه بوصف الحدوث، لا إنه يرجع إلى نفس العالم والشرطية المتصلة إذا حللتها رجعت بعد حذف حرفي الجزاء والشرط منها إلى حمليتين، ثم ترجع كل حملية إلى محمول مفرد وموضوع مفرد، فالشرطية أكثر تركيبا لا محالة إذ لا تنحل في أول الأمر إلى البسائط، بل تنحل إلى الحمليات أولا ثم إلى البسائط ثانيا.
الصنف الثالث: ما يسمى شرطيا منفصلا كقولنا العالم إما حادث وإما قديم، فهما قضيتان حمليتان جمعتا وجعلت إحداهما لازمة الإتصال ولأجله سمي منفصلا. والمتكلمون يسمون هذا سبرا وتقسيما. ثم هذا المنفصل قد يكون محصورا في جزئين كما ذكرنا، وقد يكون في ثلاثة أو أكثر كقولنا هذاالعدد إما مثل هذا العدد أو أقل أو أكثر، فهو مع كونه ذا ثلاثة محصور. وربما تكثر الأجزاء بحيث لا يكون داخلا في الحصر كقولنا هذا إما أسود أو أبيض وفلان إما بمكة أو ببغداد.
الأول ما يمنع الجمع والخلو جميعا كقولنا العالم إما حادث أو قديم، فإنه يمنع إجتماع القدم والحدوث والخلو من أحدهما أي لا يجوز كلاهما، ويجب أحدهما لا محالة.
والثاني ما يمنع الجمع دون الخلو. كما إذا قال قائل هذا حيوان وشجر، فتقول هو إما حيوان وإما شجر أي لا يجمتعان جميعا وإن جاز إن يخلو عنهما بأن يكون حمارا مثلا.
والثالث: مايمنع الخلو ولا يمنع الجمع كما إذا أخذت بدل أحد الجزئين لازمه لا نفسه، بأن قلت مثلا إما أن يكون زيد في البحر وأما ألا يغرقن فإن هذا يمنع الخلو ولا يمنع الجمع إذ يجوز أن يكون في البحر ولا يغرق، ولا يجوز أن يخلو من أحد القسمين، وسببه أنك أخذت نفي الغرق الذي هو لازم كونه في البر وهو أعم منه، فإن الذي في البحر وإما أن يكون في البر، فكان يمتنع به الجمع والخلو جميعا، ولكن عدم الغرق لازم لكونه في البر ثم ليس مساويا بل هو أعم فلم يبعد أن يتناول كونه في البحر فيؤدي إلى الإجتماع. فهذه أمور متشابهة لا بد من تحقيق الفرق بينها، فلا معنى لنظر العقل إلا درك انقسام الأمور المتشابهة في الظاهر، ودرك إجتماع الأمور المفترقة في الظاهر، فإن الأشياء تختلف في أمور وتشترك في أمور، وإنما شأن العقل أن يميز بين مايشترك فيه وما يفترق فيه، وذلك بهذه التقسيمات التي نحن في سياقها، فهذا وجه قسمة القضايا باعتبار أجزائها في الحل والتركيب إلى أصنافها من الحمل والإتصال والإنفصال.
إعلم أن كل قضية من هذه الأصناف الثلاثة تنقسم إلى سالبة وموجبة، ونعني بهما النافية والمثبتة، فالإيجاب الحملي مثل قولنا الإنسان حيوان، ومعناه أن الشيء الذي نفرضه في الذهن إنسانا، سواء كان موجودا أو لم يكن موجودا، يجب أن نفرضه حيوانا ونحكم عليه بأنه حيوان من غير زيادة وقت وحال، بل على ما يعم الموقت ومقابله والمقيد ومقابله، بل قولنا إنه حيوان في كل حال أو حيوان في بعض الأحوال كلامان متصلان بزيادتين على مطلق قولنا أنه حيوان، هذا ما اللفظ صريح فيه وإن كان لا يبعد أن يسبق إلى الفهم العموم بحكم العادة، لا سيما إذا انضمت إليه قرينة حال الموضوع. وأما السلب الحملي فهو مثل قولنا الإنسان ليس بحيوان. وأما الإيجاب المتصل فهو مثل قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث، والسلب ما يسلب هذا اللزوم، والإتصال كقولنا ليس إن كان العالم حادثا فله محدث. والإيجاب المنفصل مثل قولنا هذا العدد إمامساو لذلك العدد أو مفاوت له، والسلب ما يسلب هذا الإتصال وهو قولنا ليس هذا العدد إما مساويا لذلك العدد أو مفاوتا له. ومقصود هذا التقسيم منع الخلو فالسلب له هوالذي يسلب منع الخلو ويشير إلى إمكانه.
فإن قال قائل: قولنا زيد غير بصير سالبة أو موجبة؛ فإن كانت موجبة فما الفرق بينه وبين قولنا زيد ليس بصيرا؛ وإن كانت سالبة فما الفرق بينه وبين قولنا زيد ليس بصيرا؛ وإن كانت سالبة فما الفرق بينه وبين قولنا زيد أعمى وهي موجبة: ولا معنى لقولنا غير بصير إلا معنى هذا الإيجاب، ولذلك لا يتبين في الفارسية فرق بين قولنا :زيد كوراست" وبين قولنا "زيد نابيناست" وكذا قولنا "زيد نادانست" إذ المفهوم منه أنه جاهل والصيغة صيغة النفي.
قلنا: هنا موضع مزلة قدم والإعتناء ببيانه واجب، فإن من لا يميز بين السالب والموجب كثر غلطه في البراهين، فإنا سنبين أن القياس لا ينتظم من مقدمتين سالبتين بل لا بد أن يكون إحداهما موجبة حتى ينتج. ومن القضايا ما صيغتها صيغة السلب ومعناها معنى الإيجاب فلا بد من تحقيقها؛ فنقول: قولنا زيد غير بصير قضية موجبة كترجمته بالفارسية، وكأن الغير مع البصير جعلا شيئا واحدا وعبر به عن الأعمى، فالغير بصير بجملته معنى واحدا يوجب مرة فيقال زيد غير بصير، ويسلب أخرى فيقال زيد ليس غير بصير، ولنخصص هذا الجنس من الموجبة باسم آخر، وهو المعدولة أو غير المحصلة وكأنها عدل بها عن قانونها فابرزت في صيغة سلب وهي إيجاب، وتصير حرف السلب مع المسلوب ككلمة واحدة كثير في الفارسية، مثل "نادان ونابينا وناتوان" بدل عن الأعمى والجاهل والعاجز. وإمارة كونها موجبة في الفارسية إنها تردف بصيغة الإثباتت، فيقال فلان :"نابيناست" وإذا سلبت قيل "بينانيست" فيكون الحكم بصيغة السلب، وكانت المطابقة بين اللفظ والمعنى في اللغة تقتضي ثلاثة ألفاظ في كل قضية: واحد للموضوع وواحد للمحمول، وواحد لربط المحمول بالموضوع كما في الفارسية، مثل "نادان ونابينا وناتوان" بدل عن الأعمى والجاهل والعاجز. وإمارة كونها موجبة في الفارسية إنها تردف بصيغة الإثبات، فيقال فلان "نابيناست" وإذا سلبت قيل "بينانيست" فيكون الحكم بصيغة السلب، وكانت المطابقة بين اللفظ والمعنى في اللغة تقتضي ثلاثة ألفاظ في كل قضية: واحد للموضوع وواحد للمحمول، وواحد لربط المحمول بالموضوع كما في الفارسية، لكن في اللغة العربية اقتصر كثيرا على لفظين فقيل ملا زيد بصير، والأصل أن يقال زيد هو بصير بزيادة حرف الرابطة، فإذا قدم حرف الرابطة على غير فقيل زيد هو غير بصير، صار زيد من جانب موضوعا وغير بضير من جانب آخر محمولا، ولفظ هو متخلل بيهما رابطال لأحدهما بالآخر فيكون إيجابا؛ فإن أردت السلب قلت زيد ليس هو بين السلب والمحمول، وكذلك تقول زيد ليس هو غير بصير فتكون الرابطة قبل أجزاء المحمول متصلة به، فهذا وجه التنبيه على هذه الدقيقة. فإن قيل: فقولنا غير بصير وقولنا أعمى متساويان، أو أحدهما أعم من الآخر. قلنا: هذا يختلف باللغات، وربما يظن أن قولنا غير بصير أعم حتى يصح أن يوصف به الجماد، وأما الأعمى فلا يمكن أن يوصف به إلا من يمكن أن يكون له البصر، وبيان ذلك محال على اللغة، فلا يخلط بالفن الذي نحن بصدده وإنما غرضنا تمييز السلب عن الإيجاب، فإن الإيجاب لا يمكن إلا على ثابت متمثل في وجود أو وهم.
وأما النفي فيصح عن غير الثابت سواء كان كونه غير ثابت واجبا أو غير واجب.
إعلم أن موضوع القضايا إما شخصي فتكون شخصية كقولنا زيد كاتب زيد ليس بكاتب، وإما كلي فتكون كلية، والكلية إما مهملة كقولنا الإنسان في خسر الإنسان في خسر. وسميناها مهملة لأنه لم يتبين فيها وجود المحمول لكية الموضوع أو لبعضه، وإما محصورة وهي التي بين فيها أن الحكم لكله كقولنا كل إنسان حيوان، أو ذكر إنه لبعضه كقولنا بعض الحيوان إنسان، فإذن القضية بهذا الإعتبار أربعة: شخصيةن ومهملة، ومحصورة كلية، ومحصورة جزئية.
والقضية تقسم إلى هذه الأقسام، سالبة كانت أو موجبة، شرطية كانت أو حملية، متصلة كانت الشرطية أو منفصلة، واللفظ الحاصر يسمى سورا كقولنا في الموجبة الكلية كل إنسان حيوان، وقولنا في الموجبة الجزئية بعض الحيوان إنسان، وكقولنا في السالبة الكلية لا واحد من الناس بحجر، وكقولنا في السالبة الجزئية ليس بعض الناس كاتبا، أو ليس كل إنسان كاتب، فإن فحواهما واحد.
فإن قلت: فالألف واللام إذا كانتا للاستغراق فقول القائل الإنسان في خسر كلية فكيف سميناها مهملة؟ فاعلم أنه إن ثبت ذلك في لغة العرب وجب طلب المهمل من لغة أخرى، وإن لم يثبت فهو مهمل إذ يحتمل الكل ويحتمل الجزء، وتكون قوة المهمل قوة الجزئي لأنه بالضرورة يشتمل عليه. وأما العموم فمشكوك فيه، وليس من ضرورة ما يصدق جزئيا إلا يصدق كليا، فليحذر عن المهملات في الأقيسة إذا كان المطلوب منها نتيجة كلية، كما يقول الفقيه مثلا المكيل ربوي والجص مكيل فكان ربويا، فيقال قولك المكيل مهمل، فإن أردت الكل فممنوع وإن أردت به الجزء فينتج أن بعض المكيل ربوي، فإذا قلت بعض المكيل ربوي والجص مكيل فكان ربويا، لم يلزمه النتيجة إذ يحتمل أن يكون من البعض الآخر الذي ليس بربوي.
فإن قلت: فكيف يكون الحصر والإهمال في الشرطيات فافهم أنك مهما قلت كلما كان الشيء حادثا أو قديما، فقد حصرت الحصر الكلي الموجب.
وإذا قلت ليس البتة إذا كان الشيء موجودا فهو في جهة وليس البتة إذا كان البيع صحيحا فهو لازم، فقد سلبت الإتصال وحصرت.
وسائر نظائر هذا يمكنك قياسها عليه.
إعلم أن المحمول في القضية لا يخلو إما أن تكون نسبته إلى الموضوع نسبة الضروري الوجود في نفس الأمر، كقولك الإنسان حيوان، فإن الحيوان محمول على الإنسان ونسبته إليه نسبة الضروري الوجود، وأما أن يكون نسبته إليه نسبة الضروري العدم كقولنا الإنسان حجر فإن الحجرية محمولة، ونسبتها إلى الإنسان نسبة الضروري العد، وأما ألا يكون ضروريا لا وجوده ولا عدمه كقولنا الإنسان كاتب الإنسان ليس بكاتب، ولنسم هذه النسبة مادة الحمل، فالمادة ثلاثة: الوجوب والإمكان والإمتناع. والقضية بهذا الإعتبار أما مطلقة وإما مقيدة، والمقيدة ما نص فيها بأن المحمول للموضوع ضروري أو ممكن أو موجود على الدوام لا بالضرورة. والمطلق ما لم يتعرض فيه إلى شيء من ذلك، فإن هذه الأمور زائدة على ما يقتضيه مجرد الحمل، والقضية الضرورية تنقسم إلى ما لا شرط فيه كقولنا الله حي، فإنه لم يزل ولا يزال كذلك، وإلى ما شرط فيه وجود الموضوع كقولنا الإنسان حي، فإنه ما دام موجودا فهو كذلك، فوجود الموضوع مشروط فيه ولا يفارق هذا المشروط الضروري الأول في جهة الضرورة، وإنما يفارق في دوام الموضوع لذاته أزلا وأبدا ووجوب وجوده لنفس حقيقته، ولنسم هذا بالضروري المطلق.
فأما الضروري المشروط فثلاثة: الأول ما يشترط فيه دوام وجود الموضوع ما تقدم. الثاني ما شرط فيه دوام كون الموضوع موصوفا بعنوانه كقولنا كل متحرك متغير، فإنه متغير ما دام متحركا لا مادام ذات المتحرك موجودا فحسب. والفرق بين هذا وبين قولنا الإنسان حي إن الشرط في ذات الإنسان، والشرط ههنا ليس هو ذات المتحرك فقط، بل ذات المتحرك بصفة تلحق الذات وهو وهو كونه متحركا فإن المتحرك له ذات وجوهر من كونه فرسا أو سماء أو ما شئت أن تسميه ويلحقه إنه متحرك، وذاك الذات هو غير المتحرك، وليس الإنسان كذلك.
الثالث ما يشترط فيه وقت مخصوص إما معين أو غير معين، فإن قولنا القمر بالضرورة منخسف مقيد بوقت معين، وهو وقت وقوعه في ظل الأرض محجوبا بذلك عن ضوء الشمس، وقولنا الإنسان بالضرورة متنفس فمعناه أنه في بعض الأوقات، وذلك الوقت غير متعين.
فإن قال قائل: وهل يتصور دائم غير ضروري؟ قلنا: نعم.
أما في الأشخاص فظاهر كالزنجي، فإنك قد تقول أنه أسود البشرة ما دام موجود البشرة وليس السواد لبشرته ضروريا ولكنه قد اتفق وجوده لها على الدوام، ولنسم هذه القضية وجودية.
وأما في الكليات فكقولنا كل كوكب إما شارق أو غارب، فإنه في كل ساعة كذلك وليس ذلك ضروريا في وجود ذاته إذ ليس كالحيوان للإنسان، فافهم.
إعلم أن فهم النقيض في القضية تمس إليه الحاجة في النظر، فربما لا يدل البرهان على شيء ولكن يدل على إبطال نقيضه، فيكون كأنه قد دل عليهي. وربما يوضع في مقدمات القياس شيء فلا يعرف وجه دلالته، ما لم يرد إلى نقيضه، فإذا لم يكن النقيض معلوما لم تحصل هذه الفوائد، وربما يظن أن معرفة ذلك ظاهرة وليس كذلك، فإن التساهل فيه مثار الغلط في أكثر النظريات. والقضيتان المتناقضتان هما المختلفتان بالإيجاب والسلب، على وجه يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، فإنا إذا قلنا العالم حادث وكان صادقا كان قولنا العالم ليس بحادث كاذبا، وكذا قولنا قديم إذا عنينا بالقديم نفي الحادث؛ فمهما دلننا على أحدهما فقد دللنا على الآخر، ومهما قلنا أحدهما فكأنا قد قلنا الآخر، فهما متلازمان على هذا الوجه ولكن للتناقض شروط ثمانية، فإذا لم تراع الشروط لم يحصل التناقض: الأول أن تكون إحدى القضيتين سالبة والأخرى موجبة، كقولنا العالم حادث، العالم ليس بحادث، فإنا إن قلنا العالم حادث العالم حادث، فلا يتناقضان.
الثاني: أن يكون موضوع المقدمتين واحدا فإذا تعدد لم يتناقضا، كقولنا العالم حادث والباري ليس بحادث، فإنهما لا يتناقضان وإنما يشكل هذا في لفظ مشترك، فإنا نقول العين أصفر، العين ليس بأصفر، ونريد بأحدهما الدينار وبالآخر العضو الباصر. ونقول في الفقه: "الصغيرة مولى عليها في بعضها" الصغيرة ليس مولى عليها في بعضها ونريد بإحداهما الثيب وبالأخرى البكر على منهاج إرادة الخاص بالعام، ويكون الموضوع متعددا فلا يحصل التناقض.
الثالث: أن يكون المحمول واحدا، فإن قولنا الإنسان مخلوق، الإنسان ليس بحجر لا يتناقضات، ويشكل ذلك في المحمول المشترك، كقولنا المكره على القتل مختار والمكره على القتل ليس بمختار ولكنه مضطر، ولا يتناقضان فإن المختار يطلق على معنيين مختلفين فهو مشترك، فقد يراد به القادر على الترك وقد يراد به الذي يقدم على الشيء لشهوته وانبعاث داعية من ذاته. ومهما كان اللفظ مشتركا كان الموضوع أو المحمول أكثر من واحد في الحقيقة، وفي الظاهر يظن أنه واحد، والعبرة للحقيقة لا لظاهر اللفظ.
الرابع: ألا يكون المحمول في جزئين مختلفين من الموضوع كقولنا النوبي أبيض، النوبي ليس بأبيض أي هو أبيض الأسنان وليس بأبيض البشرة. وفي الفقه نقول "السارق مقطوع ليس بمقطوع" أي مقطوع اليد ليس بمقطوع الرجل والأنف. الخامس: ألا يختلف ما إليه الإضافة في المضافات، كقولنا الأربعة نصف الأربعة ليست نصفا أي هي نصف الثمانية وليست نصف العشرة، فلا تناقض. وكذلك قولنا زيد أب زيد ليس بأب، أي أب لعمرو، وليس بأب لخالد. وفي الفقه نقول" المرأة مولى عليها المرأة ليس مولى عليها" أي مولى عليها في البضع لا في المال، وقد يضاف إلى البضع كلاهما ولا تناقض من جهة اشتراك لفظ المحمول، فإن أبا حنيفة يقول: مولى عليها إذ يتولى الولي نكاحها شرعا استحبابا أو إيجابا، وليس مولى عليها أي تستقل بنفسها ولا تجبر على العقد. وهذه المعاني يجب مراعاتها لا للنقيض فقط، ولكن لجميع أنواع القياس أيضا. وعلى ذلك فقول بعض فقهاء الشافعية: المرأة مولى عليها فلا تلي أمر نفسها، نتيجة غير لازمة فإن أبا حنيفة يقول: قولكم أنها مولى عليها أن أردتم به أنها لا تلي أمر نفسها أو الولي يجبرها، فهذا عين المطلوب في محل النزاع، فجعله مقدمة في القياس مصادرة وأن أريد به أن الولي يتولى عقدها استحبابا او إيجابا، فلا يلزم من هذا إلا ينعقد عقدها إذا تعاطته على خلاف الإستحباب.
السادس ألا يكون نسبة المحمول إلى الموضوع على جهتين مختلفتين، كقولنا الماء في الكوز مرو مطهر وليس بمرو ولا مطهر، ونريد أنه مرو بالقوة وليس بمرو بالفعل، ولإختلاف جهة الحمل لم يتناقض الحكمان ومن ذلك قوله تعالى: (وَما رَميتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى) وهو نفي للرمي وإثبات له، ولكن ليست جهة النفي جهة الإثبات فلم يتناقضا، وهذا أيضا مما يغلط كثيرا في الفقهيات.
السابع: ألا يكون في زمانين مختلفة كقولنا الصبي له أسنان، ونعني به بعد الفطام، والصبي لا أسنان له ونعني به في أول الأمر. ونقول في الفقه: الخمر كانت حراما، نعني به في الأعصار السابقة، وكانت حلالا، ونعني به قبل نزول التحريم. وبالجملة ينبغي ألا تخالف إحدى القضيتين الأخرى إلا في الكيف فقط، فتسلب إحداهما ما أوجبته الأخرى على الوجه الذي أوجبته. وعن الموضوع الذي وضعه بعينه على ذلك النحو وفي ذلك الوقت وبتلك الجهة فإذا ذاك يقتسمان الصدق والكذب، فإن تخلف شرط جاز أن يشتركا في الصدق أو في الكذب.
الثامن: وهذا في القضية التي موضوعها كلي على الخصوص، فإنه يزيد في التي موضوعها كلي أن يختلف القضيتان بالجزئية والكلية مع الإختلاف في السلب والإيجاب، حتى يلزم التناقض لا محالة، وإلا أمكن أن يصدقا جميعا كالجزئيتين في مادة الإمكان مثل قولنا بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، وربما كذبتا جميعا كالكليتين في مادة الإمكان كقولنا كل إنسان كاتب وليس واحد من الناس كاتبا؛ فالتناقض إنما يتم في المحصورات بعد الشروط التي ذكرناها إن كانت إحدى القضيتين كلية والأخرى جزئيتين في مادة الإمكان مثل قولنا بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، وربما كذبتا جميعا كالكليتين في مادة الإمكان كقولنا كل إنسان كاتب وليس واحد من الناس كاتبا؛ فالتناقض إنما يتم في المحصورات بعد الشروط التي ذكرناها إن كانت إحدى القضيتين كلية والأخرى جزئية، ليكون تناقضها ضروريا ولنمتحن المواد كلها ولنضع الموجبة أولا كلية فنقول: كل إنسان حيوان، ليس بعض الناس بحيوان؛ كل إنسان كاتب، ليس بعض الناس بكاتب؛ كل إنسان حجر، ليس بعض الناس بحجر؛ فنجد لا محالة إحدى القضيتين صادقة والأخرى كاذبة. ولنمتحن السالبة الكلية فنقول: ليس واحد من الناس حيوانا، بعض الناس حيوان؛ ليس واحد من الناس بحجر، بعض الناس حجر؛ ليس واحد من الناس بحجر، بعض الناس حجر؛ ليس واحد من الناس بكاتب، بعض الناس كاتب؛ فبالضرورة يقتسمان الصدق والكذب في جميع المواد. فإن قيل: فالكليتان في مادة الوجوب والإمتناع أيضا يقتسمان الصدق والكذب قلنا: نعم ولكن لا يعرف ذلك إلا بعد معرفة نسبة المحمول إلى الموضوع إنه ضروري أم لا. وإذا راعيت الشرط الذي ذكرناه علمت التناقض قطعا، وإن لم تعرف تلك النسبة فإنه كيفما كان الأمر يلزم التناقض.
إعلم أنا نعني بالعكس إن يجعل المحمول من القضية موضوعا والموضوع محمولا مع حفظ الكيفية وبقاء الصدق بحاله، فإن لم يبق الصدق سمي إنقلابا لا إنعكاسا والقضايا في عنصرها أربعة: الأولى السالبة الكلية وتنعكس مثل نفسها بالضرورة فإنك تقول لا إنسان واحد طائر ويلزم أنه لا طائر واحد إنسان، ونقول لا طاعة واحدة معصية فيلزم أنه لا معصية واحدة طاعة، ولزوم هذا ظاهر ولكن تحريره إنه إن لم يلزم أنه لا طائر واحد إنسان، فإنما لا يلزم لأنه يمكن أن يكون بعض الطائر إنسانا، فإن أمكن ذلك بطل قولنا لا إنسان واحد طائر لأن ذلك الطائر يكون إنسانا، فيكون ذلك الإنسان طائرا فيرتفع الصدق من قولنا لا إنسان واحد طائر، وقد وضعتها صادقة.
والثانية الموجبة الكلية وتنعكس موجبة جزئية، فقولنا كل لإنسان حيوان ينعكس إلى أن بعض الحيوان إنسان، ولا ينعكس كليا لأن المحمول وهو الحيوان يمكن أن يكون أعم من الموضوع، فيفضل طرف منه عن الموضوع الذي هو الإنسان في مثالنا، فلا يمكن أن يقال كل حيوان إنسان إذ من الحيوانات غير الإنسان كالفرس ونحوه من سائر الأنواع الأخرى.
والثالثة السالبة الجزئية، وهي لا تنعكس أصلا، فإنا نقول حيوان ما ليس بإنسان فهو صادق وعكسه إنسان ما ليس بحيوان غير صادق، ولا قولنا كل إنسان ليس بحيوان يصح أن يكون عكسا لهذه، فلا تنعكس لا إلى كلية ولا إلى جزئية.
والرابعة الموجبة الجزئية وتنعكس مثل نفسها أعني موجبة جزئية، فقولنا بعض الناس كاتب يلزم منه أن بعض الكاتب إنسان. فإن قلت: إنه يلزم منه إن كل كاتب إنسان؛ فاعلم إن ذلك ليس يلزم من الإيجاب الجزئي من حيث أنه إيجاب جزئي، بل من حيث عرفت من خارج إنه لا كاتب سوى الإنسان، وإلا فمن الموجبة الجزئية مالا يصدق انعكاسه كليا إذ تقول بعض الإنسان أبيض ولا يمكنك أن تقول كل أبيض إنسان، بل اللازم بعض الأبيض إنسان ولأجل كون الأمثلة مغلطة في ذلك عدل المنطقيون من الأمثلة المكشوفة إلى المبهمات وأعلموها بالحروف المعجمة وجعلوا المحمول معرفا بالباء والموضوع بالألف، وقالوا كل "اب" أي هما شيئان مبهمان مختلفان سميناهما بهذين الإسمين، فيلزم منه بعض (ب ا) فقولنا لا شيء من (ا ب) يلزم منه بعض (ب أ) وإيضاح ذلك بين فلسنا نطنب. وإنما افتقرنا إلى معرفة العكس، فإن بعض المقاييس يظهر وجه انتاجها بالعكس، وربما ينتج القياس شيئا ومطلوبنا عكسه، فيستبين بهذا أنه مهما أنتج القياس لنا سالبة كلية فقد أنتج أيضا عكسها، وكذا في سائر الأقسام، والله أعلم بالصواب.