الكتاب الثاني: كتاب القياس

إعلم انا إذا فرغنا من مقدمات القياس وهو بيان المعاني المفردة ووجوه دلالة الألفاظ عليها، وكيفية تأليف المعاني بالتركيب الخبري المشتمل على الموضوع والمحمول المسمة قضية وأحكامها وأقسامها، فجدير بنا أن نخوض في بيان القياس فإنه التركيب الثاني، لأنه نظر في تركيب القضايا ليصير قياسا كما كان الأول نظرا في تركيب المعاني ليصير قضية.

وهذا هوالتركيب الواجب في المركبات. فباني البيت ينبغي له أن يعى أولا للجمع بين المفردات اعني الماء والتراب والتبن، فيجمعها على شكل مخصوص ليصير لبنا ثم يجمع اللبنات فيركبها والتبن، فيجمعها على شكل مخصوص ليصير لبنا ثم يجمع اللبنات فيركبها تركيبا ثانيا؛ كذلك ينبغي أن يكون صنيع الناظر في كل مركب، وكما أن اللبن لا يصير لبنا إلا بمادة وصورة، المادة التراب وما فيه، والصورة هو التربيع الحاصل بحصره في قالبه، كذلك القياس المركب له مادة وصورة، الحاصل بحصره في قالبه، المادة التراب وما فيه، والصورة هو الرتبيع الحاصل بحصره في قالبه، كذلك القياس المركب له مادة وصورة، المادة هي المقدمات اليقينية الصادقة فلا بد من طلبها ومعرفة مداركها، والصورة هي تأليف المقدمات على نوع من الترتيب مخصوص ولا بد من معرفته؛ فانقسم النظر فيه إلى أربعة فنون: المادة والصورة والمغلطات في القياس، وفصول متفرقة هي من اللواحق.

النظر الأول في صورة القياس

والقياس أحد أنواع الحجج، والحجة هي التي يؤتى بها في إثبات ما تمس الحاجة إلى إثباته من العلوم التصديقية، وهي ثلاثة أقسام: قياس وإستقراء وتمثيل. والقياس أربعة أنواع: حملي وشرطي متصل وشرطي منفصل وقياس خلف، ولنسم الجميع أصناف الحجة. وحد القياس أنه قول مؤلف إذا سلم ما أورد فيه من القضايا لزم عنه لذاته قول آخر إضطرارا وإذا أوردت القضايا في الحجة سميت عند ذلك مقدمات. وتسمى قضايا قبل الوضع كما أن القول اللازم عنه يسمى قبل اللزوم مطلوبا وبعد اللزوم نتيجة. وليس من شرط في أن يسمى قياسا أن يكون مسلم القضايا بل من شرطه أن يكون بحيث إذا سلمت قضاياه لزم منها النتيجة، وربما تكون القضايا غير واجبة التسليم ونحن نسميه قياسا لكوه بحيث لو سلم للزمت النتيجة، وربما تكون القضايا غير واجبة التسليم ونحن نسميه قياسا لكونه بحيث لو سلم للزمت النتيجة. فلنبدأ بالحملي من أنواع القياس والحجج.

الصنف الأول القياس الحملي

الذي قد يسمى قياسا اقترانيا وقد يسمى جزميا وهو مركب من مقدمتين مثل قولنا كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث فيلزم منه أن كل جسم محدث؛ فهذا القياس مركب من مقدمتين وكل مقدمة تشتمل على موضوع ومحمول، فيكون مجموع الآحاد التي تنحل إليه هذه المقدمات أربعة، إلا أن واحدا منها يتكرر، فالمجموع إذن ثلاثة وهو أقل ما ينحل إليه قياس، إذ أقل مايلتئم منه القياس مقدمتان، وأقل ما ينتظم منه المقدمة معنيان: أحدهما موضوع والآخر محمول. ولا بد أن يكون واحد مكررا مشتركا في المقدمتين، فإنه إن لم يكن كذلك تباينت المقدمتان ولم تتكلم في المقدمة الثانية عن الجسم ولا عن المؤلف، بل قلت مثلا كل إنسان حيوان لم تلزم نتيجة من المقدمتين. فإذا عرفت انقسام كل قياس إلى ثلاثة أمور مفردة فاعلم أن هذه المفردات تسمى حدودا، ولكل واحد من الحدود الثلاث إسم مفرد ليتميز عن غيره.

أما الحد المشترك فيسمى الحد الأوسط، وأما الآخران فيسمى أحدهما الحد الأكبر والآخر الأصغر.

والأصغر هو الذي يكون موضوعا في النتيجة، والأكبر هو الذي يكون محمولا فيها. وإنما سمي أكبر لأنه يمكن أن يكون أعم من الموضوع وإن أمكن أن يكون مساويا.

وأما الموضوع فلا يتصور أن يكون أعم من المحمول، وإذا وضع كذلك كان الحكم كاذبا كقولك كل حيوان إنسان، فإنه كاذب وعكسه صادق. ثم لما مست الحاجة إلى تعريف المقدمتين باسمين ولم يمكن أن يشتق إسمهما من الحد الأوسط، والجسم هو الأصغر، والمحدث هو الحد الأكبر. وقولنا كل جسم مؤلف هي المقدمة الصغرى، وقولنا كل مؤلف محدث هي المقدمة الكبرى، واللازم عنه هو التقاء الحدين الواقعين على الطرفين وهو المطلوب أولا والنتيجة آخرا، وهو قولنا فكل جسم محدث؛ ومثاله من الفقه: كل مسكر خمر وكل خمر حرام، فكل مسكر حرام، فالمسكر والخمر والحرام حدود القياس، والخمر هو الحد الأوسط، والمسكر هوالحد الأصغر، والحرام هوالحد الأكبر. وقولنا كل خمر حرام هي المقدمة الكبرى، فهذه قسمة للقياس باعتبار أجزائه المفردة.

القسمة الثانية لهذا القياس باعتبار كيفية

وضع الحد الأوسط عند الطرفين الآخرين

وهذه الكيفية تسمى شكلا. والحد الأوسط إما أن يكون محمولا في إحدى المقدمتين موضوعا في الأخرى كما أوردناه من المثال، فيسمى شكلا أولا، وإما أن يكون محمولا في المقدمتين جميعا ويسمى الشكل الثاني، وإما أن يكون موضوعا فيهما ويسمى الشكل الثالث.

الشكل الأول

مثاله ما أوردناه، وحصول النتيجة منه بين، وحاصله يرجع إلى أن الحكم علىالمحمول حكم على الموضوع بالضرورة، فمهما حكم على الجسم بالمؤلف فكل حكم يثبت للمؤلف فقد ثبت لا محالة للجسم، فإن الجسم داخل في المؤلف، وإذا ثبت الحكم بالحدوث على المؤلف فقد ثبت بالضرورة على الجسم. وإنما احتيج إلى هذا من حيث أن الحكم بالحدوث على الجسم قد لا يكون بينا بنفسه، ولكن يكون الحكم به على المؤلف بيتنا بنفسه والحكم بالمؤلف على الجسم أيضا بينا، فيتعدى الحكم الذي ليس بينا للجسم إليه بواسطة المؤلف الذي هو بين له، فيكون الوسط سبب التقاء الطرفين وهو تعدي الحكم إلى المحكوم عليه. ومهما عرفت أن الحكم على المحمول حكم على الموضوع، فلا فرق بين أن يكون الموضوع جزئيا أو كليا، ولا أن يكون المحمول سالبا أو موجبا، فإنك لو أبدلت قولك كل جسم مؤلف بقولك بعض الموجود مؤلف لزم من قياسك أن بعض الموجود محدث.

ولو أبدلت قولك كل مؤلف محدث بقولك كل مؤلف محدث ليس بأزلي، تعدى نفي الأزلية أيضا إلى موضوع المؤلف، كما تعدى إثبات الحدوث من غير فرق؛ فيكون المنتج من هذا الشكل بحسب هذا الإعتبار أربع تركيبات:

الأول موجبتان كليتان كما سبق.

الثاني جوجبتان والصغرى جزئية، كما إذا أبدلت قولك كل جسم مؤلف بقولك بعض الموجودات مؤلف.

الثالث موجبة كلية صغرى وسالبة كلية كبرى، وهو أن تبدل قولك محدث بقولك ليس بأزلي.

الرابع موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى وهو أن تبدل الصغرى بالجزئية والكبرى بالسالبة، فتقول مثلا موجود ما مؤلف ولا مؤلف واحد أزلي.

فأما ما عدا هذه التركيبات فلا تنتج أصلا لأنك إن فرضت سالبتين فقط لا ينتظم منهما قياس، لأن الحد الأوسط إذا سلبته عن شيء فالحكم عليه بالنفي أو بالإثبات لا يتعدى إلى المسلوب عنه، لأن السلب أوجب المباينة والثابت على المسلوب لا يتعدى إلى المسلوب عنه، فإنك إن قلت لا إنسان واحد حجر ولا حجر واحد طائر فلا إنسان واحد طائر، فيرى هذه النتيجة صادقة، وليس صدقها لازما عن هذا القياس فإنك لو قلت لا إنسان واحد بياض ولا بياض واحد حيوان فلا إنسان واحد حيوان، لم تكن النتيجة صادقة. والشكل هو ذلك الشكل بعينه، ولكن إذا سلبت الإتصال بين البياض والإنسان- لا أن بين الأبيض والإنسان مباينة- فالحكم على البياض لا يتعدى إلى الإنسان بحال، فإذن لا بد أن يكون في كل قياس موجبة أو ما في حكمها وإن كانت الصيغة صيغة السلب مثلا. ولكن في هذا الشكل على الخصوص يشترك أن تكون الصغرى موجبة ليثبت الحد الأوسط للأصغر، فيكون الحكم على الأوسط حكما على الأصغر، ويجب أن تكون الكبرى كلية حتى ينطوي تحت الأكبر الحد الأصغر لعمومه جميع ما يدخل في الأوسط، فإنك إذا قلت كل إنسان حيوان وبعض الحيوان فرس، فلا يلزم أن يكون كل إنسان فرس، بل إن حكمت على الحيوان بحكم كلي ككونه جسما فقلت وكل حيوان جسم، تعدى ذلك إلى الأصغر وهو الإنسان. ولما كانت الأمثلة المفصلة ربما غلطت الناظر عدل المنطقيون إلى وضع المعاني المختلفة المبهمة، وعبروا عنها بالحروف المعجمة ووضعوا بدل الجسم والمؤلف المحدث في المثال الذي أوردناه الألف والباء والجيم، وهي أوائل حروف أبجد، ووضعوا الجيم الذي هو الثالث حدا أصغر محكوما عليه، والباء حدا اوسط يحكم به على الجيم، والألف حدا أكبر يحكم به على الباء ليتعدى إلى الجيم فقالوا: كل ج ب وكل (ب ا) فكل جيم ألف، وكذا سائر الضروب. وأنت إذا أحطت بالمعاني التي حصلناها لم تعجز عن ضرب المثال من الفقهيات والعقليات المفصلة أو المبهمة.

الشكل الثاني

وهو ما كان الحد الأوسط فيه محمولا على الطرفين، لكن إنما ينتج إذا كان محمولا على أحدهما بالسلب وعلى الآخر بالإيجاب، فيشترط اختلاف المقدمتين في الكيفية أعني في السلب والإيجاب ثم لا تكون النتيجة إلا سالبة، وإذا تحقق ذلك فوجه إنتاجه إنك إذا وجدت شيئين ثم وجدت شيئا ثالثا محمولا على أحد الشيشئين بالإيجاب وعلى الآخر بالسلب، فيعلم التباين بين الشيئين بالضرورة، فإنهما لو لم يتباينا لكان يكون أحدهما محمولا على الآخر ولكان الحكم على المحمول حكما على الموضوع، كما سبق في الشكل الآخر، فإذن كل شيئين هذا صفتهما فهما متباينان أي يسلب هذا عن ذاك وذاك عن هذا؛ وتنتظم في هذا الشكل أيضا أربع تركيبات:  الأول أن تقول كل جسم مؤلف كما سبق في الأول، ولكن تعكس المقدمة الثانية السالبة من ذلك الشكل، فتقول ولا أزلي واحد مؤلف بدل قولك ولا مؤلف واحد أزلين فيلزم ما لزم منه لأنا قد قدمنا أن السالبة الكلية تنعكس كنفسها، فلا فرق بين قولك لا مؤلف واحد أزلي، فيلزم ما لزم منه لأنا قد قدمنا أن السالبة الكلية تنعكس كنفسها، فلا فرق بين قولك لا مؤلف واحد أزلي، وهو المذكور في الشكل الأول، وبين قولك ولا أزلي واحد مؤلف، فينتج هذا أنه لا جسم واحد أزلي ومحصله المباينة بين الجسم والأزلي، إذ وجد المؤلف محمولا على أحدهما مسلوبا على الآخر، فدل ذلك على التباين بالطريق الذي ذكرناه مجملا. وتفصيله أن تنعكس المقدمة الكبرى فيرجع إلى الشكل الأول، وإنما سميت هذه مقاييس الشكل الثاني لأنه يحتاج في بيانها إلى الرد للشكل الأول.

الضرب الثاني هذا هو بعينه ولكن المقدمة الصغرى جزئية، وهو قولك موجود ما مؤلف ولا أزلي واحد مؤلف، فإذن موجود ما ليس بأزلي وبيانه بعكس المقدمة الكبرى كما سبق.

وأما الثالث والرابع فإن تكون الصغرى سالبة إما جزئية وإما كلية وتكون الكبرى موجبة، ولا يمكن تفهيم ذلك بما ضربناه مثلا للشكل الأول إذ لم تكن فيه مقدمة صغرى إلا موجبة، إذ كان هذا شرطا في ذلك الشكل فنغير المثال ونقول: مثال الضرب الثالث قولك: لا جسم واحد منفك عن الأعراض وكل أزلي منفك عن الأعراض، فإذن لا جسم واحد أزلي فالقياس مؤلف من كليتين صغراهما سالبة وكبراهما موجبة، والنتيجة سالبة كلية والحد الأوسط هو المنفك عن الأعراض، فإنه محمول على الجسم بالسلب وعلى الأزلي بالإيجاب، فأوجب التباين وبيانه بعكس الصغرى فإنها سالبة كلية تنعكس مثل نفسها، وإذا عكست صار المحمول موضوعا وعاد إلى الشكل الأول الذي الحد المشترك فيه موضوع لإحدى المقدمتين محمول للأخرى.

الضرب الرابع هو الثالث بعينه لكن الصغرى سالبة جزئية كقولك: موجود ما ليس بجسم وكل متحرك جسم، فبعض الموجودات ليس بمتحرك. ولما كانت السالبة جزئية وهي لا تنعكس لم يمكن أن يرد هذا الضرب إلى الأول بطريق العكس، لكن يرد بطريق الإفتراض، وهو أن تحول هذا الجزئي كليا فإذا كان موجود ما ليس بجسم فقد حصل أن بعض الموجودات ليس بجسم، فلنفرضه سوادا مثلا فنقول كل سواد ليس بجسم فيصير كالضرب الثالث من هذا الشكل، وكان قد رجع الثالث إلى الشكل الأول بالعكس، فكذا هذا فالمنتج إذن من هذا الشكل هذه التركيبات الأربع وما عداها فلا، إذ لا ينتج سالبتان ولا موجبتان في هذا الشكل ينتجان لأن كل شيئين وجد شيء واحد محمولا عليهما لم يوجب ذلك بينهما، لا إتصالا ولا تباينا، إذ الحيوان يوجد محمولا على الفرس والإنسان، ولا يوجب كون الإنسان فرسا وهو الإتصال. ويوجد محمولا على الكاتب والإنسان ولا يوجب بينهما تباينا حتى لا يكون الإنسان كاتبا والكاتب إنسانا، فإذن لهذا الشكل شرطان: أحدهما أن يختلفا أعني المقدمتين في الكيفية، والآخر أن تكون الكبرى كلية كما في الشكل الأول.

الشكل الثالث

هو أن يكون الحد المشترك موضوعا في المقدمتين وهذا يوجب نتيجة جزئية، فإنك مهما وجدت شيئا واحدا ثم وجدا شيئين كليهما يحملان على ذلك الشيء الواحد، فبين المحمولين اتصال والتقاء لا محالة على ذلك الواحد، فيمكن لا محالة أن يحمل كل واحد منهما على بعض الآخر بكل حال إن لم يمكن حمله على كله، فلذلك كانت النتيجة جزئية، فإنك حال إن لم يمكن حمله على كله، فلذلك كانت النتيجة جزئية، فإنك مهما وجدت إنسانا ما وهو شيء واحد، يحمل عليه الجسم والكاتب فإنك مهما وجدت إنسانا ما هو شيء واحد يحمل عليه الجسم والكاتب دل ذلك على أن بين الجسم والكاتب اتصال، حتى يمكن أن يقال لبعض الأجسام كاتب ولبعض الكاتب جسم. وإن كان الكل كذلك ولكن الجزئية لازمة بكل حال وهذا طريق كاف في التفهيم، ولكن نتبع العادة في التفصيل ببيان الأضرب والتعريف بوجه لزوم النتيجة بالرد إلى الشكل الأول، وينتظم في هذا الشكل ستة أضرب منتجة: الضرب الأول من موجبتين كليتين كقولك كل متحرك جسم وكل متحرك محدث، فبعض الجسم بالضرورة محدث، وبيانه بعكس الصغرى فانها تنعكس جزئية ويصير قولنا كل متحرك محدث فيلزم بعض الجسم محدث لرجوعه إلى الشكل الأول، فإنه مهما عكست مقدمة واحدة صار الموضوع محمولا، وقد كان موضوعا للمقدمة الثانية، فيصير الحد الأوسط محمولا لاحداهما موضوعا للأخرى.

الضرب الثاني من كليتين كبراهما سالبة كقولك كل أزلي فاعل ولا أزلي واحد جسم، فيلزم منه ليس كل فاعل جسما لأنه يرجع إلى الأول بعكس الصغرى، وتلزم منه هذه النتيجة بعينها فتقول فاعل ما أزلي ولا أزلي واحد جسم فليس كل فاعل جسما.

الضرب الثالث موجبتان صغراهما جزئية ينتج موجبة جزئية، كقولك جسم ما فاعل وكل جسم مؤلف فيلزم فاعل ما مؤلف، وبيانه بعكس الصغرى وضم العكس إلى الكبرى، فيرتد إلى الشكل الأول وتلزم النتيجة، إذ تقول فاعل ما جسم وكل جسم مؤلف فيلزم فاعل ما مؤلف.

الضرب الرابع موجبتان والكبرى جزئية ينتج موجبة جزئية، مثاله كل جسم محدث وجسم ما متحرك، فيلزم محدث ما متحرك وذلك بعكس الكبرى وجعلها صغرى، فيرجع إلى الأول ثم عكس النتيجة ليخرج لنا عين نتيجتنا، فتقول متحرك ما جسم وكل جسم محدث، فيلزم أن متحركا ما محدث وتنعكس إلى عين النتيجة الأولى وهي محدث ما متحرك، فهذا قد تبين لك أنه إنما يحقق بعكسين أحدهما عكس المقدمة والآخر عكس النتيجة.

الضرب الخامس يأتلف من مقدمتين مختلفتين في الكمية والكيفية جميعا صغراهما موجبة جزئية وكبراهما سالبة كلية ينتج جزئية سالبة، ومثاله قولك جسم ما فاعل ولا جسم واحد أزلي، فيلزم ليس كل فاعل أزليا لأن الصغرى تنعكس إلى قولك فاعل ما جسم، فتضم إلى الكبرى القائلة ولا جسم واحد أزلي فتلزم هذه النتيجة بعينها من الشكل الأول البين بنفسه.

الضرب السادس من مقدمتين مختلفتين أيضا في الكمية. والكيفية، صغراهما كلية موجبة وكبراهما سالبة جزئية، مثاله كل جسم محدث وجسم ما ليس بمتحرك، فيلزم محدث ما ليس بمتحرك ولا يمكن بيانه بالعكس؛ لأن الجزئية السالبة لا تنعكس والكلية الموجبة إذا انعكست صارت جزئية، ولا قياس من جزئيتين، فبيانه ليرجع إلى الشكل الأول بتحويل الجزئية إلى كلية بالإفتراض، بأن نفرض ذلك البعض الذي ليس بمتحرك أعني بعض الجسم جبلا، ونقول لا جبل واحد متحرك، وينضاف إليه كل جبل جسم وهو صدق الوصف العنواني على ذات الموضوع، فتأخذ هذه صغرى وتضيف إليها صغرى هذا الضرب، هكذا: كل جبل جسم وكل جسم محدث، فيلزم كل جبل محدث من أول الأول. ثم تضم هذه النتيجة إلى أولى قضيتي الإفتراض، أعني قولك لا جبل واحد متحرك لينتج من الضرب الثاني من هذا الشكل أن بعض المحدث ليس بمتحرك، وقد ذكرنا أنه يرجع إلى الشكل الأول بعكس الصغرى، فيكون هذا الضرب السادس إنما يرجع إلى الشكل الأول بمرتبتين، فهذه مقاييس هذا الشكل، وله شرطان: أحدهما أن تكون الصغرى موجبة أو في حكمها. والآخر أن تكون إحداهما كلية أيهما كانت، إذ لا ينتظم قياس من جزئيتين على الإطلاق، فإذن المنتج من التأليفات أربعة عشر تأليفا: أربعة من الشكل الأول، وأربعة من الثاني، وستة من الثالث، وذلك بعد إسقاط المهملات فإنها في قوة الجزئية، وما عدا ذلك فليس بمنتج ولا فائدة لتفصيل ما لا انتاج له ومن أراد الإرتياض بتفصيله قدر عليه إذا تأمل فيه.

فإن قيل: فكم عدد الإفتراضات الممكنة في ذه الأشكال؟ قلنا: ثمانية وأربعون اقترانا في كل شكل ستة عشر، وذلك لأن المقدمتين المقترنتين إما كليتان أو جزئيتان او إحدهما كلية والأخرى جزئية، وعلى كل حال فهما إما موجبتان أو سالبتان أو واحدة موجبة والأخرى سالبة فهذه ستة عشر اقترانا ناتجة من ضرب أربع في أربع، وهي جارية في الأشكال الثلاثة، فتكون الجملة أخيرا ثمانية وأربعين، والمنتج أربعة عشر إقترانا فيبقى أربعة وثلاثين. فإن قيل: فما خواص الأشكال؟ قلنا: أما الذي يعمل كل شكل فهوإنه لا بد في اقترانها من موجبة وكلية، فلا قياس عن سالبتين ولا عن جزئيتين. وأما خاصية الشكل الأول فإما في وسطه وهو أن يكون محمولا في المقدمة الأولى موضوعا في الثانية، وإما في نتائجه وهو أن ينتج المطالب الأربعة وهي: الأيجاب الكلي، والسلب الكلي، والإيجاب الجزئي، والسلب الجزئي. والخاصية الحقيقية التي لا يشاركه فيها شكل من الأشكال أنه لا يكون فيها (أي مقدماته) سالبة جزئية.

وأما الشكل الثاني فخاصيته في وسطه أن يكون محمولا على الطرفين، وفي مقدماته ألا يتشابها في الكيفية بل تكون أبدا إحداهما سالبة والأخرى موجبة، وأما في الإنتاج فهو أنه لا ينتج موجبة أصلا بل لا ينتج إلا السالب.

وأما الشكل الثالث فخاصيته في الوسط أن يكون موضوعا للطرفين، وفي المقدمات أن تكون الصغرى موجبة وأخص خواصه أنه يجوز أن تكون الكبرى منه جزئية. وأما في الإنتاج فهي أن الجزئية هي اللازمة منه دون الكلية. فإن قيل: فلم سمي ذلك أولا وذاك ثانيا وهذا ثالثا؟ قلنا: سمي ذلك أولا لأنه بين الإنتاج وإنما يظهر الإنتاج فيما عداه بالرد إليه أما بالعكس أو بالإفتراض، وإنما كان ذاك ثانيا وهذا ثالثا لأن الثاني ينتج الكلي، والثالث إنما ينتج الجزئي، والكلي أشرف من الجزئي، فكان واليا لما هو أشرف باطلاق، وإنما كان الكلى أشرف لأن المطالب العلمية المحصلة للنفس كمالا إنسانيا مورثا للنجاة والسعادة إنما هي الكليات والجزئيات، إن أفادت علما فبالعرض.

فإن قيل: فهل لكم في تمثيل المقاييس الأربعة عشر أمثلة فقهية لتكون أقرب إلى فهم الفقهاء؟ قلنا: نعم نفعل ذلك ونكتب فوق كل مقدمة يحتاج لردها إلى الأول بعكس أو افتراض أنه بعكس أو بفرض، ونكتب على الطرف أنه إلى أي قياس يرجع إن شاء الله تعالى، وهذه هي الأمثلة:

أمثلة الشكل الأول

1- كل مسكر خمر- وكل خمر حرام- فكل مسكر حرام.

2- كل مسكر خمر- ولا خمر واحد حلال- فلا مسكر واحد حلال.

3- بعض الأشربة خمر- وكل خمر حرام- فبعض الأشربة حرام.

4- بعض الأشربة خمر- ولا خمر واحد حلال- فليس كل شراب حلالا.

أمثلة الشكل الثاني

1- يرجع إلى الضرب الثاني من الأول: كل ثوب فهو مذروع- ولا ربوي واحد مذروع. بعكس هذه فلا ثوب واحد ربوي.

2- يرجع إلى الضرب الثاني من الأول أيضا: لا ربوي واحد مذروع، بعكس هذه وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة وكل ثوب فهو مذروع فلا ربوي واحد ثوب.

3- يرجع إلى الضرب الرابع من الأول أيضا: متمول ما ليس بربوي "بالإفتراض" وكل مطعوم ربوي، فمتمول ما ليس بمطعوم.

4- أمثلة الشكل الثالث

1- يرجع إلى الضرب الثالث من الأول: كل مطعوم ربوي، بعكس هذه وكل مطعوم مكيل فبعض الربوي مكيل.

2- يرجع إلى رابع الأول: كل ثوب متمول، بعكس هذه، ولا ثوب واحد ربوي، فليس كل متمول ربويا.

3- يرجع إلى ثالث الأول: مطعوم ما مكيل، بعكس هذه، وكل مطعوم ربوي، فمكيل ما ربوي.

4- يرجع إلى ثالث الأول: كل مطعوم ربوي، ومطعوم ما مكيل، بعكس هذه وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة، فربوي ما مكيل.

5- يرجع إلى رابع الأول: مذروع ما متمول، بعكس هذه ولا مذروع واحد ربوي، فليس كل متمول ربويا.

6- يرجع إلى رابع الأول: كل منقول متمول ومنقول ما ليس بربوي "بالإفتراض" فليس كل متمول ربويا.

7- هذا ما أردنا شرحه من أمثلة القياسات الحملية وأقسامها؛ ولنخض في الصنف الثاني.

الشرطي المتصل يتركب من مقدمتين: إحداهما مركبة من قضيتين قرن بهما صيغة شرط، والأخرى حملية واحدة هي المذكورة في المقدمة الأولى بعينها أو نقيضها، ويقرن بها كلمة الإستثناء، مثاله: إن كان العالم حادثا فله صانع. مركب من قضيتين حمليتين قرن بهما حرف الشرط وهو قولنا أن، وقولنا: لكن العالم حادث، قضية واحدة حملية قرن بها حرف الإستثناء، وقولنا: فله صانع، نتيجة وهذا مما يكثر نفعه في العقليات والفقهيات، فإنا نقول إن كان هذا النكاح صحيحا فهو مفيد للحل، لكنه صحيح فإذن هو مفيد للحل، وإن كان الوتر يؤدي على الراحلة فهو نفل، لكنه يؤدي على الراحلة فهو إذن نفل. والمقدمة الثانية لهذا القياس إستثناء لإحدى قضيتي المقدمة الأولى أما المقدم أو التالي، والإستثناء إما أن يكون لعين التالي أو لنقيضه أو لعين المقدم او لنقيضه، والمنتج منه إثنان وهو عين المقدم ونقيض التالي. وأما عين التالي ونقيض المقدم فلا ينتجان، وبيانه إنا نقول إن كان الشخص الذي ظهر عن بعد إنسانا فهو حيوان، لكنه إنسان فليس يخفى أنه يلزم كونه حيوانا، وهذا إستثناء عين المقدم ونقول لكنه ليس بحيوان، وهذا إستثناء نقيض التالي، فيلزم إنه ليس بإنسان ولزوم هذا أدق مدركا وهو أن يعرف أنه إذا لم يكن حيوانا لم يكن إنسانا، إذ لو كان إنسانا لكان حيوانا كما شرطناه في الأول، ويدرك ذلك بأدنى تأمل. فأما إستثناء نقيض المقدم، وهو أنه ليس بإنسان، فلا ينتج لا نقيض التالي وهو أنه ليس بحيوان، إذ ربما يكون فرسا، ولا عين التالي وهو أنه حيوان فربما يكون حجرا. وكذلك نقول إن كان هذا المصلي محدثا فصلاته باطلة، لكنه محدث فيلزم بطلان الصلاة، لكن الصلاة ليست باطلة وهو نقيض التالي، فيلزم أنه ليس بمحدث وهو نقيض المقدم، لكنه ليس بمحدث وهو نقيض المقدم فلا يلزم- صحة الصلاة ولا بطلانها. لكن الصلاة باطلة، وهو عين التالي، فلا يلزم لا كونه محدثا ولا كونه متطهرا، وإنما ينتج إستثناء عين التالي ونقيض المقدم، إذا ثبت أن التالي مساو للمقدم لا أعم منه ولا أخص، كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، لكن الشمس طالعة فالنهار موجود، لكن الشمس غير طالعة فالنهار ليس بموجود، لكن النهار موجود فالشمس طالعة، لكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة.

واعلم أنه يتطرق إلى مقدمات هذا القياس أيضا السلب والإيجاب فإنك تقول: إن كان الإله ليس بواحد فالعالم ليس بمنتظم، لكن العالم منتظم فالإله واحد. وقد يكون المقدم أقاويل كثيرة والتالي يلزم الجملة كقولك: إن كان العلم الواحد لا ينقسم وكان كل ما لا ينقسم لا يقوم بمحل منقسم، وكان كل جسم منقسما وكان العلم حالا في النفس، فالنفس إذن ليست بجسم، لكن المقدمات نابتة ذاتية فالتالي وهو أن النفس ليست بجسم لازم، وكذلك قد يكون المقدم واحدا والتالي قضايا كثيرة إن صح إسلام الصبي فهو إما فرض وإما مباح وإما نفل، ولا يمكن شيء من هذه الأقسام فلا يمكن الصحة.

وفي العقليات نقول إن كان النفس قبل البدن موجودة فيه إما كثيرة وإما واحدة، ولا يمكن لا هذا ولا ذاك فلا يمكن أن تكون قبل البدن موجودة، فهذه ضروب الشرطيات المتصلة، والله أعلم.

الصنف الثالث الشرطي المنفصل

وهو الذي تسميه الفقهاء والمتكلمون السبر والتقسيم، ومثاله قولنا: العالم إما قديم وإما محدث، لكنه محدث فهو إذن ليس بقديم. فقولنا إما قديم وإما محدث مقدمه واحدة، وقولنا لكنه محدث مقدمة أخرى هي إستثناء إحدى قضيتي المقدمة الأولى بعينها، فانتج نقيض اآخر وينتج فيه أربعة إستثناءات، فإنك تقول لكن العالم محدث فيلزم عنه أنه ليس بقديم، أو تقول لكنه قديم فيلزم أنه ليس بمحدث، أو لكنه ليس بقديم فيلزم أنه محدث وهو إستثناء النقيض، أو تقول لكنه ليس بمحدث، أو تقول لكنه ليس بمحدث فيلزم منه أنه قديم؛ فاستثناء عين إحداهما ينتج نقيض الآخر، واستثناء نقيض إحداهما ينتج الآخر. وهذا فيما لو اقتصرت أجزاء التعاند على اثنين، فإن كانت ثلاثا نأو أكثر ولكنها تامة العناد، فاستثناء عين واحدة ينتج نقيض الآخرين، كقولك لكنه مساو فيلزم أنه ليس أقل ولا أكثر، واستثناء نقيض واحدة لا ينتج إلا انحصار الحق في الجزءين الآخرين، كقولك لكنه ليس مساويا، فيلزم أن يكون إما أقل أو أكثر، فإن استثنيت نقيض الإثنين تعين الثالث، فإما إذا لم تكن الأقسام تامة العناد كقولك: هذا أما أبيض وإما أسود، أو زيد أما بالحجاز أو بالعراق، فاستثناء عين الواحد ينتج نقيض الآخر، كقولك لكنه بالحجاز أو بالعراق، فاستثناء عين الواحد ينتج نقيض الآخر، كقولك لكنه بالحجاز أو لكنه أسود، فينتج نقيض سائر الأقسام؛ فإما استثناء نقيض الواحد فلا ينتج لا عين الآخر ولا نقيضه، فإنه لا حاصر في الأقسام، فقولنا ليس بالحجاز لا يوجب أن يكون في العراق، ولا ألا يكون به إلا إذا بان بطلان سائر الأقسام بدليل آخر، فعند ذلك يصير الباقي ظاهر الحصر تام العناد، ولا يحتاج هذا إلى مثال في الفقة فإن كثيرا نظر الفقهاء على السبر والتقسيم يدور. ولكن لا يشترط في الفقهيات الحصر القطعي بل الظني فيه كالقطعي في غيره.

الصنف الرابع في قياس الخلف

وصورته صورة القياس الحملي، ولكن إذا كانت المقدمتان صادقتين سمي قياسا مستقيما، وإن كانت إحدى المقدمتين ظاهرة الصدق والأخرى كاذبة أو مشكوكا فيها وأنتج نتيجة بينة الكذب ليستدل بها على أن المقدمة كاذبة، سمي قياس خلف. ومثال ذلك قولنا في الفقه: "كل ما هو فرض فلا يؤدي على الراحلة" والوتر فرض فإذن لا يؤدي على الراحلة، وهذه النتيجة كاذبة ولا تصدر إلا من قياس في مقدماتها مقدمة كاذبة، ولكن قولنا كل واجب فلا يؤدي على الراحلة مقدمة ظاهرة الصدق، فبقي أن الكذب في قولنا أن الوتر فرض فيكون نقيضه، وهو أنه ليس بفرض، صادقا وهو المطلوب من المسألة ونظيره من العقليات قولنا: كل ما هو أزلي فلا يكون مؤلفا، والعالم أزلي فإذن لا يكون مؤلفا، لكن النتيجة ظاهرة الكذب ففي المقدمات كاذبة. وقولنا الأزلي ليس بمؤلف ظاهر الصدق، فينحصر الكذب في قولنا العالم أزلي، فإذن نقيضه وهو أن العالم ليس بأزلي صدق، وهو المطلوب؛ فطريق هذا القياس أن تأخذ مذهب الخصم وتجعله مقدمة، وتضيف إليها مقدمة أخرى ظاهرة الصدق، فينتج من القياس نتيجة ظاهرة الكذب، فتبين أن ذلك لوجود كاذبة في المقدمات. ويجوز أن يسمى هذا قياس الخلف، لأنك ترجع من النتيجة إلىالخلف، فتأخذ مطلوبك من المقدمة التي خلفتها كأنها مسلمة ويجوز أن يسمى قياس الخلف لأن الخلف هو الكذب المناقض للصدق، وقد أدرجت في المقدمات كاذبة في معرض الصدق، ولا مشاحة في التسمية بعد فهم المعنى.

الصنف الخامس الإستقراء

هو أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به. ومثاله في العقليات أن يقول قائل: فاعل العالم جسم، فيقال له:؟ فيقول له: لم؟ فيقول: لأن كل فاعل جسم، فيقال له: لم؟ فيقول تصفحت أصناف الفاعلين من خياط وبناء وإسكاف ونجار ونساج وغيرهم فوجدت كل واحد منهم جسما، فعلمت أن الجسمية حكم ملازم للفاعلية، فحكمت على كل فاعل به. وهذا الضرب من الإستدلال غير منتفع به في هذا المطلوب، فإنا نقول: هل تصفحت في جملة ذلك فاعل العالم؟ فإن تصفحته ووجدته جسما فقد عرفت المطلوب قبل أن تتصفح الإسكاف والبناء ونحوهما، فاشتغالك به إشتغال بما لا يعنيك، وإن لم تتصفح فاعل العالم ولم تعلم حاله فلم حكمت بأن كل فاعل جسم؟ وقد تصفحت بعض الفاعلين ولا يلزم منه غلا أن بعض الفاعلين جسم، وإنما يلزم أن كل فاعل جسم إذا تصفحت الجميع تصفحا لا يشذ عنه شيء، وعند ذلك يكون المطلوب أحد أجزاء المتصفح فلا يعرف بمقدمة تبنى على التصفح. وإن قال: لم اتصفح الجميع ولكن الأكثر، قلنا: فلم لا يجوز أن يكون الكل جسما إلا واحدا، وإذا احتمل ذلك لم يحصل اليقين به، ولكن يحصل الظن، ولذلك يكتفي به في الفقهيات في أول النظر، بل يكتفي بالتمثيل على ما سيأتي، وهو حكم من جزئي واحد على جزئي آخر.والحكم المنقول ثلاثة: أما حكم من كلي على جزئي وهو الصحيح اللازم وهو القياس الصحيح الذي قدمناه، وأما حكم من جزئي واحد على جزئي واحد كاعتبار الغائب بالشاهد وهو التمثيل وسيأتي، وأما حكم من جزئيات كثيرة على جزئي واحد وهو الإستقراء وهو أقوى من التمثيل.

ومثال الإستقراء في الفقه قولنا: الوتر لو كان فرضا لما أدي على الراحلة، ويستدل به كما سبق في قياس الخلف فيقال: ولم عرفتم أن الفرض لا يؤدي على الراحلة؟ قلنا: باستقراء جزئيات الفرض من الرواتب وغيرها كصلاة الجنازة والمنذورة والقضاء وغيرها، وكذلك يقول الحنفي" الوقف لا يلزم في الحياة لأنه لو لزم لما اتبع شرط الواقف، فيقال له: ولم قلت أن كل لازم فلا يتبع فيه شرط العاقد؟ فيقول: قد استقريت جزئيات التصرفات اللازمة من البيع والنكاح والعتق والخلع وغيرها، ومن جوز التمسك بالتمثيل المجرد الذي لا مناسبة فيه يلزمه هذا، بل إذا كثرت الأصول قوي الظن، ومهما ازدادت الأصول الشاهدة أعني الجزئيات اختلافا كان الظن أقوى فيه، حتى إذا قلنا مسح الراس وظيفة أصلية في الوضوء فيستحب فيه التكرار فقيل: لم؟ فقلنا استقرينا ذلك من غسل الوجه واليدين وغسل الرجلين، ولم يكن معنا إلا مجرد هذا الإستقراء.

وقال الحنفي: مسح فلا يكرر، فقيل: لم؟ فقال: استقريت مسح التيمم ومسح الخف كان ظنه أقوى لدلالة جزئين مختلفين عليه. وأما الأعضاء الثلاثة في الوضوء ففي حكم شاهد واحد لتجانسها، وهي كشهادة الوجه واليد اليمنى واليسرى في التيمم. فإن قيل: فلم لا يقال للفيه إستقراؤك غير كامل فإنك لم تتصفح محل الخلاف؟ فالجواب: أن قصور الإستقراء عن الكمال أوجب قصور الإعتقاد الحاصل عن اليقين، ولم يوجب بقاء الإحتمال على التعادل كما كان، بل رجح بالظن أحد الإحتمالين، والظن في الفقه كاف وإثبات الواحد على وفق الجزئيات الكثيرة أغلب من كونه مستثنى على الندور، فإذا لم يكن لنا دليل على أن الوتر واجب وأن الوقف لازم، ورأينا جواز أدائه على الراحلة ولا عهد به في فرض ووجوب اتباع شرط الواقف، ولا عهد به في تصرف لازم صار منع الغرضية ومنع اللزوم أغلب على الظن وأرجح من نقيضه، وإمكان الخلاف لا يمنع الظن ولا سبيل إلى جحد الإمكان مهما لم يكن الإستقراء تاما، ولا يكفي في تمام الإستقراء أن تتصفح ما وجدته شاهدا على الحكم إذا أمكن أن ينتقل عنه شيء، كما لو حكم إنسان بأن كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل لأنه إستقرى أصناف الحيوانات الكثيرة، ولكنه لما لم يشاهد جميع الحيوانات لم يأمن أن يكون في البحر حيوان هو التمساح يحرك عن المضغ فكه الأعلى- على ما قيل- وإذا حكم بأن كل حيوان سوى الإنسان، فنزوانه على الأنثى من وراء بلا تقابل الوجهين لم يأمن أن يكون سفاد القنفد وهو من الحيوانات على المقابلة لكنه لم يشاهده، فإذن حصل من هذا أن الإستقراء التام يفيد الظن، فإذن لا ينتفع بالإستقراء مهما وقع خلاف في بعض الجزئيات فلا يفيد الإستقراء علما كليا بثبوت الحكم للمعنى الجامع للجزئيات، حتى يجعل ذلك مقدمة في قياس آخر لا في إثبات الحكم لبعض الجزئيات، كما إذا قلنا: كل حركة في زمان وكل ما هو في زمان فهو محدث فالحركة محدثة، وأثبتنا قولنا كل حركة في زمان باستقراء أنواع الحركة من سباحة وطيران ومشي وغيرها. فإما إذا أردنا أن نثبت أن السباحة في زمان بهذا الإستقراء لم يكن تاما والضبط أن القضية التي عرفت بالإستقراء ان أثبت لمحمولها حكما ليتعدى إلى موضوعها فلا بأس، وأن نقل محمولها إلى بعض جزئيات موضوعها لم يجز إذ تدخل النتيجة في نفس الإستقراء فيسقط فائدة القياس.

فإذا كان مطلبنا مثلا أن نبين أن القوة العقلية المدركة للمعقولات هل هي منطبعة في جسم أم لا؟ فقلنا: ليست منطبعة في جسم لأنها تدرك نفسها والقوى المنطبعة في الأجسام لا تدرك نفسها. فيقال: ولم؟ قلت: عن القوى المنطبعة في الأجسام لا تدرك نفسها.

فقلنا تصفحنا القوى المدركة من الآدمي كقوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس والخيال والوهم فرأيناها لا تدرك نفسها؟ فيقال: هل تصفحت في جملة ذلك القوة العقلية؟ فإن تصفحتها فقد عرفتها قبل هذا الدليل فلا تحتاج إلى هذا الدليل، وإن لم تعرفها بل هي المطلوب فلم تتصفح الكل بل تصفحت البعض فلم حكمت علىالكل بهذا الحكم؟ ومن أين يبعد أن تكون القوى المنطبعة كلها لا تدرك نفسها إلا واحدة، فيكون حكم واحدة منها بخلاف حكم الجملة وهو ممكن كما ذكرناه في مثال التمساح والقنفد، وفي مثال من يدعي أن صانع العالم جسم، بل من ليس له سمع ولا بصر ربما يحكم بأن الحس لا يدرك الشيء إلا بالإتصال بذلك الشيء، بدليل الذوق واللمس والشم، فلو يجري ذلك في البصر والسمع كان مخطئا إذ يقال: لم يستحيل أن تنقسم الحواس إلى ما يفتقر فيه إلى الإتصال بالمحسوس وإلى ما لا يفتقر؟ وإذا جاز الإنقسام جاز أن يعتدل القسمان وجاز ان يكون الأكثر في أحد القسمين، ولا يبقى في القسم الآخر إلا واحد، فهذا لا يورث يقينا إنما يحرك ظنا، وربما يقنع اقناعا يسبق الإعتقاد إلى قبوله ويستمر عليه.

الصنف السادس التمثيل

وهو الذي تسميه الفقهاء قياسا، ويسميه المتكلمون رد الغائب إلى الشاهد، ومعناه أن يوجد حكم في جزئي معين واحد فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما، ومثاله في العقليات أن نقول: السماء حادث لأنه جسم قياسا على النبات والحيوان، وهذه الأجسام التي يشاهد حدوثها، وهذا غير سديد ما لم يمكن أن يتبين أن النبات كان حادثا لأنه جسم، وإن جسميته هي الحد الأوسط للحدوث، فإن ثبت ذلك فقد عرفت أن الحيوان حادث لأن الجسم حادث، فهو حكم كلي وينتظم منه قياس على هيئة الشكل الأول، وهو أن السماء جسم وكل جسم حادث، فينتج أن السماء حادث فيكون نقل الحكم من كلي إلى جزئي داخلا تحته، وهو صحيح، وسقط أثر الشاهد المعين وكان ذكر الحيوان فضلة في الكلام كما إذا قيل لإنسان: لم ركبت البحر؟ فقال: لاستغني، فقيل له: ولم قلت إذا ركبت البحر استغنيت؟ فقال: لأن ذلك اليهودي ركب البحر فاستغنى، فيقال: وأنت لست بيهودي فلا يلزم من ثبوت الحكم فيه ثبوت الحكم فيك، فلا يخلصه إلا أن يقول: هو لم يستغن لأنه يهودي بل لأنه ركب البحر تاجرا، فنقول: إذن فذكر اليهودي حشو بل طريقك أن تقول: كل من ركب البحر أيسر، فأنا أيضا أركب البحر لأوسر، ويسقط أثر اليهودي، فاذن لا خير في رد الغائب إلى الشاهد إلا بشرط مهما تحقق سقط أثر الشاهد المعين.

ثم في هذا الشرط موضع غلط أيضا فربما يكون المعنى الجامع مما يظهر أثره وغناه في الحكم، فيظن انه صالح ولا يكون صالحا لأن الحكم لا يلزمه بمجرده بل لكونه على حال خفي، وأعيان الشواهد تشتمل على صفات خفية فلذلك يجب إطراح الشاهد المعين، فإنك تقول السماء حادث لأنه مقارن للحوادث كالحيوان، فيجب عليك إطراح ذكر الحيوان لأنه يقال لك الحيوان حادث بمجرد كونه مقارنا للحوادث فقط، فاطرح الحيوان وقل كل مقارن للحوادث حادث والسماء مقارن فكان حادثا، وعند ذلك ربما يمنع الخصم المقدمة الكبرى فلا يسلم أن كل مقارن للحوادث حادث إلا على وجه مخصوص وأن جوزت إن الموجب للحدوث كونه مقارنا على وجه مخصوص وإن جوزت إن الموجب للحدوث كونه مقارنا على وجه مخصوص فلعل ذلك الوجه وأنت لا تدريه موجود في الحيوان لا في السماء، فإن عرفت ذلك الوجه وأنت لا تدريه موجود في الحيوان لا في السماء، فإن عرفت ذلك فابرزه واضفه إلى المقارن واجعله مقدمة كلية، وقل كل مقارن للحوادث بصفة كذا فهو حادث، والسماء مقارن بصفة كذا فهو إذن حادث، فعلى جميع الأحوال لا فائدة في تعيين شاهد معين في العقليات ليقاس عليه؛ ومن هذا القبيل قولك: الله عالم بعلم لا بنفسه لأنه لو كان عالما بعلم قياسا على الإنسان، فيقال: ولم قلت أن ما ينسب للإنسان ينسب لله؟ فتقول: لأن العلة جامعة، فيقال: العلة كونه إنسانا عالما أو كونه عالما فقط فإن كان كونه إنسانا عالما فلا يلزم في حق الله مثله، وإن كانت كونه عالما فقط فاطرح الإنسان وقل: كل عالم فهوعالم بعلم والباري عالم فهو عالم بعلم، وعند ذلك إنما ينازع في قولك كل عالم فهو عالم بعلم، فإن ذلك إن لم يكن أوليا لزمك أن تبينه بقياس آخر لا محالة.

فإن قيل: فهل يمكن إثبات كون المعنى الجامع علة للحكم بأن نرى أن الحكم أجزاء العلة وشروطها، ولا يوجد بوجود ذلك البعض، فمهما ارتفع الحياة ارتفع الإنسان ومهما وجدت لم يلزم وجود الإنسان، بل ربما يوجد الفرس أو غيره ولكن الأمر بالضد من هذا، وهو أنه مهما وجد الحكم دل على وجود المعنى الجامع، فإما أن يدل وجود المعنى على وجود الحكم بمجرد كون الحكم مرتفعا بارتفاعه فلا، فمهما وجد الإنسان فقد وجدت الحياة، ومهما وجدت صحة الصلاة فقد وجد الشرط وهو الطهارة، ومهما وجدت الطهارة لم يلزم وجود الصلاة.
فإن قيل: فما ذكرتموه في إبطال منفعة الشاهد في رد الغائب غليه مقطوع به، فكيف يظن بالمتكلمين مع كثرتهموسلامة عقولهم الغفلة عن ذلك؟ قلنا: معتقد الصحة في رد الغائب إلى الشاهد إما محقق يرجع عند المطالبة إلى ما ذكرناه، وإنما يذكر الشاهد المعين لتنبيه السامع على القضية الكلية به فيقول الإنسان عالم بعلم لا بنفسهس، منبها به على أن العالم لا يعقل من معناه شيء سوى أنه ذو علم فيذكر الإنسان تبنيها، وأما قاصر عن بلوغ ذروة التحقيق وهذا ربما ظن ان في ذكر الشاهد المعين دليلا، ومنشأ ظنه أمران:  أحدهما أن من رأى البناء فاعلا وجسما ربما أطلق أن الفاعل جسم والفاعل بالألف واللام يوهم الإستغراق، خصوصا في لغة العرب، وهو من المهملات والمهملات قد يتسامح بها فيؤخذ على أنه قضية كلية، فيظن أنها كلية وينظم قياسا ويقول: الفاعل جسم، وصانع العالم فاعل فهو جسم؛ وكذلك ربما نظر ناظر إلى البر فيراه مطعوما وربويا فيقول المطعوم ربوي ويبني عليه قوله أن السفرجل مطعوم فهو إذن ربوي، لإلتباس قوله المطعوم بقوله كل مطعوم، فالمحقق إذا سمعه فصل وقال قولك المطعوم عنيت به كل مطعوم أو بعضه، فإن قلت بعضه فلعل السفرجل من البعض الآخر، وإن قلت كله فمن أين عرفت ذلك، فإن قلت من البر فليس كل المطعومات، فإذا رأيته ربويا لم يلزم منه إلا أن كل البر ربوي والسفرجل ليس ببر، أو بعض المطعوم ربوي فلا يلزم منه بعض آخر، وكذا في قوله الفاعل جسم يقال له كل الفاعلين أو بعضهم على ما تقرر فلا حاجة إلى الإعادة؟ ثانيهما هو أنه ربما يستقري أصنافا كثيرة من الفاعلين حتى لا يبقى عنده فاعل آخر فيرى أنه استقرى كل الفاعلين، ويطلق القول بأن كل فاعل فهو جسم وكان الحق أن يقول كل فاعل شاهدته وتصفحته فهو جسم، فيقال له: لم تشاهد فاعل العالم ولا يمكن الحكم عليه ولكن ألغي قوله شاهدت، وكذا يتصفح البر والشعير وسائر المطعومات الموزونة والمكيلة ويعبر عنها بالكل، وينظم في ذهنه قياسا على هيئة الشكل الأول، وهو أن كل مطعوم فأما بر أو شعير أو غيرهما، وكل بر وكل شعير أو غيرهما فهو ربوي، فإذن كل مطعوم ربوي، ثم يقول: والسفرجل مطعوم فهو ربوي، فيكون هذا منشأ غلطه وإلا فالحق ما قدمناه. ولا ينبغي أن تضيع الحق المعقول، خوفا من مخالفة العادات المشهورة، بل المشهورات أكثر ما تكون مدخولة، ولكن مداخلها دقيقة لا يتنبه لها إلا الأقلون. وعلى الجملة لا ينبغي أن تعرف الحق بالرجال، بل ينبغي أن تعرف الرجال بالحق فتعرف إلى الحق أولا، فمن سلكه فاعلم أنه محق. فأما أن تعتقد في شخص أنه محق أولا ثم تعرف الحق به، فهذا ضلال اليهود والنصارى وسائر المقلدين، أعاذك الله وإيانا منه؛ هذا كله في إبطال التمثيل في العقليات، فأما في الفقهيات، فالجزئي المعين يجوز أن ينقل حكمه إلى جزئي آخر باشتراكهما فيب وصف، وذلك الوصف المشترك إنما يوجب الإشتراك في الحكم إذا دل عليه وإداتها الجملية قبل التفصيل ستة: الأول، وهو أعلاها: أن يشير صاحب الحكم، وهو المشرع إليه، كقوله في الهرة: إنها من الطوافين عليكم، عند ذكر العفو عن سؤرها، فيقاس عليها الفأرة بجامع الطواف، وإن افترقتا في أن هذه تنفر وتلك تأنس، وإن هذه فأرة وتيك هرة، ولكن الإشتراك فثي وصف أضيف إليه الحكم أحرى باقتضاء الإشتراك فيه (في الحكم) من الإفتراق في وصف لم يتعرض له في اقتضاء الإفتراق. وكذا قوله في بيع الرطب بالتمر: أينقص الرطب إذا جف؟ فقيل: نعم. فقال: فلا تبيعوا. فهو إذن أضاف بطلان البيع في الرطب إلى النقصان المتوقع، فيقاس عليه العنب للإشتراك في توقع النقصان. ولا يمنع جريان السؤال في الرطب عن الحاق العنب به، وإن كان هذا عنبا، وذلك رطبا، لأن هذا الإفتراق افتراق في الإسم والصورة والشرع، كثير الإلتفات إلى المعاني، قليل الإلتفات إلى الصور والأسامي. فعادة الشرع ترجح في ظننا التشريك في الحكم، عند الإشتراك في المضاف إليه ذلك الحكم، وتحقيق الظن في هذا دقيق، وموضع إستقصائه الفقه.

الثاني: أن يكون ما فيه الإجتماع مناسبا للحكم، كقولنا: النبيذ مسكر فيحرم كالخمر. فإذا قيل: لم قلتم: المسكر يحرم؟ قلناك لأنه يزيل العقل، الذي هو الهادي إلى الحق، وبه يتم التكليف؛ فهذا مناسب للنظر في المصالح فيقال: لا يمتنع ان يكون الشرع قد راعى سكر ما يعتصر من العنب على الخصوص تعبدا، أو أثبت التحريم لا لعلة السكر، بل تعبدا في خمر العنب من غير التفات إلى السكر، فكم من الأحكام التي هي تعبدية غير معقولة، فيقول: نعم هذا غير ممتنع، ولكن الأكثر في عادة الشرع اتباع المصالح. فكون هذا من قبيل الأكثر أغلب على الظن من كونه من قبيل النادر. الثالث: أن يبين للوصف الجامع تأثيرا في موضع من غير مناسبة، كما يقول الحنفي في اليتيمة أنها صغيرة، ويولى عليها كغير اليتيمة، فيقال: فلم عللت الولاية بالصغر؟ فيقول: لأن الصغر قد ظهر أثره بالإتفاق في غير اليتيمة وفي الإبن. وقدر أن الوصف غير مناسب حتى يستمر المثال، فلا ينبغي أن يقال هذه يتيمة وتيك ليست بيتيمة؛ فيقال: الإفتراق في هذا لا يقاوم الإشتراك في وصف الصغر، وقد ظهر تأثيره في موضع، واليتم لم يظهر تاثيره بالإتفاق في موضع، نعم لو ثبت أن اليتيم لا يولي عليه في المال لتقاوم الكلام. ولو قيل: ظهر أثر اليتم أيضا في دفع الولاية في موضع، كما ظهر أثر الصغر في موضع، فعند ذلك يحتاج إلى الترجيح. وإن شئت مثلت هذا القسم بقياس العنب على الرطب، وإجتماعهما في توقع النقصان. ويقدر أن ذلك لم يعرف بإضافة لفظية من الشارع، بل عرف باتفاق من الفريقين حتى لا يلتحق بمثال الإضافة.

الرابع: أن يكون ما فيه الإشتراك غير معدود ولا مفصل لأنه الأكثر، وما فيه الإفتراق شيئا واحدا، ويعلم أن جنس المعنى الذي فيه الإفتراق، لا مدخل له في هذا الحكم، مهما التفت إلى الشرع كقوله: من أعتق شقصا له من عبد، قوّم عليه الباقي. فإنا نقيس الأمة عليه، لا لأنا عرفنا إجتماعهما في معنى مخيل أومؤثر أو مضاف إليه الحكم بلفظه، لأنه لم يبن لنا بعد المعنى المخيل فيه، ولا لأنا رأيناهما متقاربين فقط. فإنه لو وقع النظر في ولاية النكاح، وبان أن الأمة تجبر على النكاح، فلا يتبين لنا أن العبد في معناه. والقرب من الجانبين على وتيرة واحدة، ولكن إذا التفتنا إلى عادة الشرع، علمنا قطعا أنه ليس يتغير حكم الرق والعتق بالذكورة والأنوثة، كما لا يتغير بالسواد والبياض، والطول والقصر، والزمان والمكان وأمثالها.

الخامس: هو الرابع بعينه، غلا أن ما فيه الإفتراق لا يعلم يقينا أنه لا مدخل له في الحكم، بل يظن ظنا ظاهرا، وذلك كقياسنا إضافة العتق إلى جزء معين على إضافته إلى نصف شائع، وقياس الطلاق المضاف إلى جزء معين على المضاف، إلى نصف شائع فأنا نقول: السبب هو السبب، والحكم هو الحكم، والإجتماع شامل إلا في شيء واحد هو أن هذا معين مشار إليه، وذلك شائع. وإذا كان التصرف لا يقتصر على المضاف إليه، فيبعد أن يكون لا مكان الإشارة وعدمه مدخل في هذا الحكم، وهذا ظن ظاهر ولكن خلافه ممكن؛ فإن الشرع جعل الجزء الشائع. محلا لبعض التصرفات، ولم يجعل المعين محلا أصلا، فلا بعد في أن يجعل ما هو محل لبعض التصرفات محلا لإضافة هذا التصرف، فصار النظر بهذا الإحتمال ظنيا.

وقد اختلف المجتهدون في قبول ذلك، وعندي أن في هذا الجنس ما يجوز الحكم به، ولكن يتطرق إلى مبالغ الظن، الحاصل منه تفاوت غير محدود ولا محصور، ويختلف بالوقائع والأحكام، والأمر موكول إلى المجتهد، فإن من غلب أحد ظنيه جاز له الحكم به.

السادس: أن يكون المعنى الجامع أمرا معينا متحدا، وما فيه الإفتراق أيضا أمرا معينا أو أمورا معينة، ولم يكن للجامع مناسبة وتأثير، إلا أنه إن كان الجامع موهما أن المعنى المصلحي- الخفي، الملحوظ بعين الإعتبار من جهة الشرع، مودع في طيه، وإنطواؤه على ذلك المعنى، الذي هو المقتضي للحكم عند الله، أغلب من إحتواء المعنى الذي فيه المفارقة، كان الحكم بالإشتراك لذلك أولى من الحكم بالإفتراق.

مثاله قولنا: الوضوء طهارة حكمية عن حدث، فتفتقر إلى النية كالتيمم، فقد اشتركا في هذا وافترقا في أن ذاك طهارة بالماء دون التيمم، وتشبهه إزالة النجاسة. وقولنا: ظهارة حكمية جمع التيمم وأخرج إزالة النجاسة. ونحن نقول: المقتضي للنية في علم الله تعالى معنى خفي عنا، ومقارنته بكونه طهارة حكمية يعتد به موجبا في حال موجبها، أغلب من كونه مقرونا بكونه طهارة بالتراب، فيصير إلحاق الوضوء به أغلب على الظن من قطعة عنه؛ وهذا أيضا مما اختلف فيه.

والرأي عندنا أن ذلك مما يتصور أن يفيد رجحان ظن على ظن، فهو موكول إلى المجتهد. ولم يبن لنا من سيرة الصحابة، في إلحاق غير المنصوص بالمنصوص، إلا إعتبار أغلب الظنون. ولا ضوابط بعد ذلك في تفصيل مدارك الظنون، بل كل مايضبط به تحكم، وربما يغلط في نصرة هذا الجنس فيقال: الوضوء قربة، ويذكر وجه مناسبة القربة للنية، وهو ترك لهذا الطريق بالعدول إلى الإضافة. وربما يغلط في نصرة جانبهم فيقال: هذه طهارة بالماء والماء مطهر بنفسه، كما أنه مروي بنفسه، ويدعى مناسبة فيكون عدولا عن الفرق الشبهي، كما أن ما ذكرناه عدول عن الجمع الشبهي.

وإسم الشبه، في اصطلاح أكثر الفقهاء، مخصوص بالتشبيه بمثل هذه الأوصافن الذي لا يمكن اثباته بالمدارك السابقة، وإن كان غير التعليق بالمخيل تشبيها، ولكن خصصت العبارة اللفظية به لأنه ليس فيه إلا شبه، كما خصصوا المفهوم بفحوى الخطاب، مع أن المنظوم أيضا له مفهوم، ولكن ليس للفحوى منظوم، بل مجرد المفهوم فلقب به. ولما رأينا التعويل على أمثال هذا الوصف الذي لا يظهر مناسبته جائزا بمجرد الظن.

والظنون تختلف بأحوال المجتهدين، حتى أن شيئا واحدا يحرك ظن مجتهد، وهو بعينه لا يحرك ظن الآخر، ولم يكن له في الجدال معيار يرجع إليه المتنازعانن رأينا أن الواجب في إصطلاح المتناظرين ما اصطلح عليه السلف من مشايخ الفقه، دون ما أحدثه من بعدهم ممن ادعى التحقيق في الفقه، من المطالبة بإثبات العلة بمناسبة أو تأثير أو إخالة، بل رأينا أن يقتصر المعترض على سؤال المعلل بأن قياسك من أي قبيل؟ فإن كان من قبيل المناسب أو المؤثر أو سائر الجهات، وأنت تظن أنه ينطوي على المعنى المبهم، فلست أطالبك ولكن أقابلك للجمع، صلح مثله للفرق. وبهذا السؤال يفتضح المعلل في قياسه الذي قدّره، إن كان معناه الجامع طردا محضا، لا يناسب ولا يوهم الإشتمال على مناسب مبهم. وإن كان ما يقابل السائل به طردا محضا لا يوهم أمرا، فعلى المعلل أن يرجح جانبه، كما إذا فرق بين التيمم والوضوء، بأن التيمم على عضوين، وهذا على أربعة أعضاء، فإن هذا مما يعلم أنه لا يمكن أن يكون لمثله مدخل في الحكم، لا بنفسه ولا باستصحاب معنى له مدخل بطريق الإشتمال عليه، مع إبهامه بخلاف قولنا أنه طهارة حكمية، فهذا طريق النظر في الفقهيات. ولقد خاض في الفقه من أصحاب الرأي، من سدى أطرافا من العقليات ولم يخمرها، وأخذ يبطل أكثر أنواع هذه الأقيسة، ويقتصر منها على المؤثر، ويوجه المطالبة العقلية على كل ما يتمسك به في الفقه. وعندما ينتهي إلى نصرة مذهبه في التفصيل، يعجز عن تقريره على الشرط الذي وضعه في التأصيل، فيحتحال لنصرة الطرديات الردية بضروب من الخيالات الفاسدة، ويلقبها بالمؤثر، وليس يتنبه لركاكة تيك الخيالات الفاسدة، ولا يرجع فينتبه لفساد الأصل الذي وضعه، فدعاه إلى الإقتصار في إثبات الحكم على طريق المؤثر أو المناسب، ولا يزال يتخبط، والرد عليه في تفصيل ما أورده في المسائل يشتمل عليه كتبنا المصنفة في خلافات الفقه، سيما: كتاب تحصين المأخذ، وكتاب المبادي والغايات.

والغرض الآن من ذكره أن الإستقصاء الذي ذكرناه في العقليات، ينبغي أن يترك في الققهيات رأسا؛ فخلط ذلك الطريق السالك إلى طلب اليقين بالطريق السالك إلى طلب الظن صنيع من سدى من الطرفين طرفا، ولم يستقل بهما، بل ينبغي أن تعلم أن اليقين في النظريات أعز الأشياء وجودا، وأما الظن فأسهلها منالا وأيسرها حصولا.

فالظنون المعتبرة في الفقهيات هو المرجح الذي يتيسر به عند التردد بين أمرين: إقدام أو إحجام؛ فإن إقدام الناس في طرق التجارات وإمساك السلع تربصا بها، أو بيعها خوفا من نقصان سعرها، بل في سلوك أحد الطريقين في أسفارهم، بل في كل فعل يتردد الإنسان فيه بين جهتين على ظن؛ فإنه إذا تردد العاقل بين أمرين، واعتدلا عنده في غرضه، لم يتيسر له الإختيار، إلا أن يترجح أحدهما، بأن يراه أصلح بمخيلة أو دلالة؛ فالقدر الذي يرجح أحد الجانبين ظن له، والفقهيات كلها نظر من المجتهدين في إصلاح الخلق.

وهذه الظنون وأمثالها تقتنص بأدنى مخيلة وأقل قرينة، وعليه إتكال العقلاء كلهم في إقدامهم وإحجامهم على الأمور المخطرة في الدنيا، وذلك القدر كاف في الفقهيات، والمضايقة والإستقصاء فيه يشوش مقصوده بل يبطله، كما أن الإستقصاء في التجارات، ضربا للمثل، يفوت مقصود التجارة. وإذا قيل للرجل: سافر لتربح، فيقول: وبم أعلم أني إذا سافرت ربحت؟ فيقال: اعتبر بفلان وذالان. فيقول: ويقابلهما فلان وفلان وقد ماتا في الطريق أو قتلا أو قطع عليهما الطريق! فيقال: ولكن الذين ربحوا أكثر ممن خسروا أو قتلوا: فيقول: فما المانع من أن أكون من جملة من يخسر أو يقتل أو يموت؟ وماذا ينفعني ربح غيري إذا كنت من هؤلاء؟ فهذا استقصاء لطلب اليقين، والمعتبر له لا يتجر ولا يربح، وبعد مثل هذا الرجل موسوسوا أو جبانا، ويحكم عليه بأن التاجر الجبان لا يربح، فهذا مثال الإستقصاء في الفقهيات، وهو هوس محض وخرق، كما أن ترك الإستقصاء في العقليات جهل محض، فليؤخذ كل شيء من مأخذه، فليس الخرق في الإستقصاء في موضع تركه، بأقل من الحمق في تركه بموضع وجوبه، والله أعلم.

الصنف السابع في الأقيسة المركبة والناقصة

إعلم أن الألفاظ القياسية المستعملة في المخاطبات والتعليمات، وفي الكتب والتصنيفات، لا تكون ملخصة في غالب الأمر على الوجه الذي فصلناه، بل تكون مائلة عنه إما بنقصان، وإما بزيادة، وإما بتركيب وخلط جنس بجنس، فلا ينبغي أن يلتبس عليك الأمر، فتظن أن المائل عما ذكرناه ليس بقياس، بل ينبغي أن يكون عين عقلك مقصورة على المعنى، وموجهة إليه لا إلى الأشكال اللفظية، فكل قول أمكن أن يحصل مقصوده، ويرد إلى ما ذكرناه من القياس، فقوته قوة قياس، وهو حجة، وإن لم يكن تأليفه ما قدمناه، إلا أنه إذا تؤمل وامتحن لمتحصل منه نتيجة، فليس بحجة.

أما المائل للنقصان فبأن نترك إحدى المقدمتين أو النتيجة. أما ترك المقدمة الكبرى فمثاله قولك: هذان متساويان لأنهما قد ساويا شيئا واحدا، فقد ذكرت المقدمة الصغرى والنتيجة، وتركت الكبرى وهي قولك: والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وبه تمام القياس، ولكن قد تتركب لوضوحها، وعلى هذا أكثر الأقيسة في الكتب والمخاطبات.

وقد تترك الكبرى إذا قصد التلبيس ليبقى الكذب خفيا فيه، ولو صرح به لتنبه المخاطب لمحل الكذب. مثاله قولك: هذا الشخص في هذه القلعة خائن، سيسلم القلعة لأني رأيته يتكلم مع العدو، وتمام القياس أن تضيف إليه: أن كل من يتكلم مع العدو فهو خائن، وهذا يتكلم معه، فهو إذن خائن، ولكن لو صرحت بالكبرى ظهر موضع الكذب، ولم يسلم أن كل ما يتكلم مع العدو فهو خائن. وهذا مما يكثر استعماله نفي القياسات الفقهية.

وأما ترك المقدمة الصغرى فمثاله قولك: اتق مكيدة هذا. فيقال: لم؟ فتقول: لأن الحساد يكايدون. فتترك الصغرى وهو قولك: هذا حاسد، وذلك إنما يكون عند ظهور الحسدن منه. وهو كقولك: هذا يقطع لأن السارق يقطع، وتترك الصغرى، ويحسن ذلك إذا اشتهر بالسرقة عند المخاطب. وعلى هذا أكثر مخاطبة الفقهاء لا سيمافي كتب المذهب، وذلك حذرا من التطويل. ولكن في النظريات ينبغي أن يفصل حتى يعرف مكان الغلط.

وأما المائل بالتركيب والخلط، فهو أن يطوى في سياق كلام تسوقه إلى نتيجة واحدة مقدمات مختلفة، أي حملية وشرطية منفصلة ومتصلة.

مثاله قولك: العالم إما أن يكون قديما، وإما أن يكون محدثا، فإن كان قديما فهو ليس بمقارن للحوادث لكنه مقارن للحوادث من قبل أنه جسم، والجسم إن لم يكن مقارنا للحوادث يكون خاليا منها، والخالي من الحوادث ليس بمؤلف ولا يمكن أن يتحرك، فإذن العالم محدث؛ فهذا القياس مركب من شرطي منفصل ومن شرطي متصل، ومن جزمي على طريق الخلف ومن جزمي مستقيم، فتأمل أمثال ذلك فإنه كثير الورود في المناظرات والمخاطبات التعليمية.

ومن جملة التركيبات ما تترك فيه النتائج الواضحة وبعض المقدمات، ويذكر من كل قياس مقدمة واحدة، وتترتب بعضها على بعض وتساق إلى نتيجة واحدة كقولنا: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف فمقارن لعرض لا ينفك عنه، وكل عرض فحادث، وكل مقارن لحادث فلا يتقدم عليه، وكل ما لا يتقدم عليه فوجوده معه، وكل ما وجوده معه فهو حادث، فإذن العالم حادث. وكل واحدة من هذه المقدمات تمامها بقياس كامل، حذفت نتائجها وما ظهر من مقمدماتها وسيقت لغرض واحد. وإلا فكان ينبغي أن يقول: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف فمقارن لعرض لا ينفك عنه، مقدمة أخرى، وهو أن كل مقارن لعرض لا ينفك عنه. فإذن كل جسم فمقارن لعرض لا ينفك عنه، ثم يبتدىء ويضيف إليه مقدمة أخرى وهو أن كل مقارن لعرض لا ينفك عنه فهو مقارن لحادث، ثم يشتغل بما بعده على الترتيب، ولكن أغنى وضوح هذه النتائج عن التصريح بها.

وربما تجري في المخاطبات كلمات لها نتائج، لكن تترك تلك النتائج إما لظهورها وإما لأنها لا تقصد للإحتجاج، بل تذكر المقدمات تعريفا لها في أنفسها.

إعتمادا على قبول المخاطب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه" وهاتان مقدمتان نتيجتهما أن المرء يحشر علىماعاش عليه، فحالة الحياة هي الحد الأصغر، وحالة الممات هي الحد الأوسط. ومهما ساوت حالة الحشر حالة الموت، وساوت حالة الموت حالة الحياة، فقد ساوت حالة الحشر حالة الحياة.

والمقصود من سياق الكلام تنبيه الخلق على أن الدنيا مزرعة الآخرة، ومنها التزود. ومن لم يكتسب السعادة وهو في الدنيا فلا سبيل له إلى اكتسابها بعد موته، فمن كان في هذه أعمى فهو عند الموت أعمى، أعني عمى البصيرة عن درك الحق والعياذ بالله. ومن كان عند الموت أعمى فهو عند الحشر أعمى كذلك، بل هو أضل سبيلا إذ ما دام الإنسان في الدنيا فله أمل في الطلب، وبعد الموت قد تحقق اليأس.

والمقصود أن الكلمات الجارية في المحاورات كلها أقيسة محرفة غيرت تأليفاتها للتسهيل، فلا ينبغي أن يغفل الإنسان عنها بالنظر إلى الصور، بل ينبغي أن لا يلاحظ إلا الحقائق المعقولة دون الألفاظ المنقولة.

النظر الثاني

من كتاب القياس في مادة القياس

قد ذكرنا ان كل مركب فهو متألف من شيئين: أحدهما كالمادة الجارية منه مجرى الخشب من السرير.

والثاني كالصورة الجارية منه مجرى صورة السرير من السرير.

وقد تكلمنا على صورة القياس وتركيبه ووجوه تأليفه بما يقنع، فلنتكلم في مادته، ومادته هي العلوم، لكن لا كل علم بل العلم التصديقي دون العلم التصوري، وإنما العلم التصوري مادة الحد، والعلم التصديقي هو العلم بنسبة ذوات الحقائق بعضها إلى بعض بالإيجاب أو السلب، ولا كل تصديقي بل التصديقي الصادق في نفسه، ولا كل صادق بل الصادق اليقينيز فرب شيء في نفسه صادق عند الله وليس يقينا عند الناظر، فلا يصلح أن يكون عنده مادة للقياس الذي يطلب به استنتاج اليقين، ولا كل يقيني بل اليقيني الكلي، أعني أنه يكون كذلك في كل حال. ومهما قلنا مواد القياس هي المقدمات كان ذلك مجازا من وجه، إن المقدمة عبارة عن نطق باللسان يشتمل على محمول وموضوع، ومادة القياس هي العلم الذي لفظ الموضوع والمحمول دالان عليه لا اللفظ بل الموضوع والمحمول هي العلوم الثابتة في النفس دون الألفاظ، ولكن لا يمكن التفهيم إلا باللفظ، والمادة الحقيقية هي التي تنتهي إليه في الدرجة الرابعة بعد ثلاثة قشور: القشر الأول هو الصور المرقومة بالكتابة.

الثاني هو النطق، فإنه الأصوات المرتبة التي هي مدلول الكتابة ودالة على الحديث الذي في النفس.

الثالث: هو حديث النفس الذي هو علم بتريب الحروف ونظم الكلام، إما منطوقا به وإما مكتوبا. والرابع: وهو اللباب، هو العلم القائم بالنفس الذي حقيقته ترجع إلى انتقاش النفس بمثال مطابق للمعلوم؛ فهذه العلوم هي مواد القياس وعسر تجريدها في النفس دون نظم الألفاظ بحديث النفس لا ينبغي أن يخيل إليك الإتحاد بين العلم والحديث، فإن الكاتب أيضا قد يعسر عليه تصور معنى إلا أن يتمثل له رقوم الكتابة الدالة على الشيء، حتى إذا تفكر في الجدار تصور عنده لفظ الجدار مكتوبا. ولكن لما كان العلم بالجدار غير موقوف على معرفة أصل الكتابة لم يشكل عليه أن هذا مقارن لازم للعلم لا عنه، وكذلك يتصور أن إنسانا يعلم علوما كثيرة وهو لا يعرف اللغات فلا يكون في نفسه حديث نفس، أعني إشتغالا بترتيب الألفاظ، فإذن العلوم الحقيقية التصديقية هي مواد القياس، فإنها إذا احضرت في الذهن على ترتيب مخصوص استعدت النفس لأن يحدث فيها العلم بالنتيجة من عند الله تعالى، فإذن مهما قلنا مواد القياس المقدمات اليقينية فلا تفهم منه إلا ما ذكرناه.

ثم كما ان صورة الإستدارة والنقش للدينار زائد على مادة الدينار، فإن المادة للدينار هي الذهب الإبريز، فكذا في القياس، وكما أن الذهب الذي هو مادة الدينار له أربعة أحوال: أعلاها أن يكون ذهبا خالصا ابريزا لا غش فيه أصلا.

والثانية أن يكون ذهبا مقاربا لا في غاية رتبته العليا، ولا كذلك الذهب الإبريز الخالص.

والثالثة: أن يكون ذهبا كثير الغش لاختلاط النقرة والنحاس به.

والرابعة: أن لا يكون ذهبا أصلا بل يكون جنسا على حدة مشبها بالذهب؛ فكذلك الإعتقادات التي هي مواد الأقيسة قد تكون اعتقادا مقاربا لليقين مقبولا عند الكافة في الظاهر، لا يشعر الذهن بإمكان نقيضه على القور بل بدقيق الفكر، فيسمى القياس المؤلف منه جدليا إذ يصلح لمناظرات الخصوم وقد يكون إعتقادا بحيث لا يقع به تصديق جزم، ولكن غالب ظن وقناعة نفس مع خطور نقيضه بالبال أو قبول النفس لنقيضه إن أخطر بالبال، وإن وقعت الغفلة عنه في أكثر الحوال، ويسمى القياس المؤلف منه خطابيا إذ يصلح لللإيراد في التعليمات والمخاطبات، وقد يكون تارة مشبها باليقين أو بالمشهور المقارب لليقين في الظاهر وليس بالحقيقة كذلك، وهو الجهل المحض، ويسمى القياس المؤلف منه مغالطيا وسوفسطائيا إذ لا يقصد بذلك إلا المغالطة والسفسطة، وهو إبطال الحقائق؛ فهذه أربعة مراتب لا بد من تمييز البعض منها عن البعض.

وأما الخامس الذي يسمى قياسا شعريا فليس يدخل في غرضنا فإنه لا يذكرلإفادة علم أو ظن، بل المخاطب قد يعلم حقيقته، وإنما يذكر لترغيب أو تنفير أوتسخية أو تبخيل أو ترهيب أو تشجيع، وله تأثير في النفس، وذلك كنفرة الطبع عن الحلو الأصفر إذا شبه بالعذرة حتى يتعذر في الحال تناولها وإن علم كذب قائله، وعليه تمويل صناعة الشعر، وبه تشبث أكثر المتشدقين من الوعاظ، فإنهم يستعملون في النثر صناعة الشعر، ومثاله أن من يريد أن يحمل غيره على التهور ويصرفه عن الحزم يلقب الحزم بالجبن ويقبحه، ويذم صاحبه فيقول:  

يرى الجبناء أن الجبن حزم

 

وتلك خديعة النفس اللـئيم

فتنبسط نفس المتوقف إلى التهجيم بذلك. وكقوله:  

إن لم أمت تحت السيوف مكرما

 

أمت وأقاسي الذل غير مكـرم

وكذلك إذا أراد التسخية أطنب في مدح السخي وشبهه بما يعلم انه لا يشبهه، ولكن يؤثر في نفسه كقوله: وكذلك إذا أراد التسخية اطنب في مدح السخي وشبهه بما يعلم أنه لا يشبهه، ولكن يؤثر في نفسه كقوله:  

هو البحر من أي الجوانب جئته

 

فلجته المعروف والجود ساحله

تعوّد بسط الكف حتى لو أنـه

 

دعاها لقبض لم تطعه أناملـه

تراه إذا ما جئته مـتـهـلـلا

 

كأنك تعطيه الذي أنت سائلـه

ولو لم يكن في كفه غير روحه، لجاد بها، فليتق الله آمله

وهذه الكلمات كلها أحاديث يعلم حقيقة كذبها، ولكنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا لا ينكر. وإذ ليس يتعلق هذا الجنس بغرضنا فلنهجر الأطناب فيه ولنرجع إلى الأقسام الأربعة، وإذ قد قبحنا حال الشعر فلا ينبغي أن نتظن أن كل شعر باطل، فإن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا، وقد يدرج الحق في وزن الشعر فلا يخرج عن كونه حقا كقول الشاعر في تهجين البخل: 

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

 

مخافة فقر فالذي فعل الفقـر.

فهذا كلام حق صادق ومؤثر في النفس، والوزن اللطيف والنظم الخفيف يروجه ويزيد وقعه في النفس، فلا تنظر إلى صورة الشعر ولاحظ المعاني في الأمور كلها لتكون على الصراط المستقيم. ولنرجع إلى الغرض فنقول: المقدمات تنقسم إلى يقينيات صادقة واجبة القبول وإلى غيرها.

وللقسم الأول باعتبار المدرك أربعة أصناف: الصنف الأول: ألأوليات العقلية المحضة، وهي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية المجردة من غير معنى زائد عليها يوجب التصديق بها، ولكن ذوات البسائط إذا حصلت في الذهن إما لمعونة الحس أو الخيال أو وجه آخر وجعلتها القوة المفكرة قضية بأن نسبت أحدها إلى الآخر بسلب أو إيجاب، صدق بها الذهن إضطرارا من غير أن يشعر بأنه من أين استفاد هذا التصديق، بل يقدر كأنه كان عالما به على الدوام كقولنا: إن الإثنين أكثر من الواحد، والثلاثة مع الثلاثة ستة، وان الشيء الواحد لا يكون قديما وحديثا معا، وأن السلب والإيجاب معا لا يصدقان في شيء واحد فقط إلى نظائره.

وهذا الجنس من العلوم لا يتوقف الذهن في التصديق به إلا على تصور البسائط، أعني الحدود والذوات المفردة، فمهما تصور الذوات وتفطن للتركيب لم يتوقف في التصديق، وربما يحتاج توقف حتى يتفطن لمعنى الحادث والقديم، ولكن بعد معرفتهما لا يتوقف في الحكم بالتصديق.

الصنف الثاني المحسوسات كقولنا: القمر مستدير والشمس منيرة والكواكب كثيرة والكافور أبيض والفحم أسود والنار حارة والثلج بارد، فإن العقل المجرد إذا لم يقترن بالحواس لم يقض بهذه القضايا، وإنما أدركها بواسطة الحواس، وهذه أوليات حسية. ومن هذا القبيل علمنا بأن لنا فكرا وخوفا وغضبا وشهوة وإدراكا وإحساسا، فإن ذلك انكشف للنفس أيضا بمساعدة قوى باطنة، فكأنه يقع متأخرا عن القضايا التي صدق بها العقل من غير حاجة إلى قوة أخرى سو العقل.

ولا شكل في صدق المحسوسات إذا استثنيت أمور عارضة، مثل ضعف الحس وبعد المحسوس وكثافة الوسائط.

الصنف الثالث المجربات وهي أمور وقع التصديق بها من الحس بمعاونة قياس خفي، كحكمنا بأن الضرب مؤلم للحيوان، والقطع مؤلم، وجز الرقبة مهلك، والسقمونيا مسهل، والخبز مشبع، والماء مرو، والنار محرقة؛ فإنالحس أدرك الموت مع جز الرقبة، وعرف التألم عند القطع بهيئات في المضروب، وتكرر ذلك على الذكر فتأكد منه عقد قوي لا يشك فيه، وليس علينا ذكر السبب في حصول اليقين بعد أن عرفنا أنه يقيني،وربما أوجبت التجربة قضاء جزميا وربما أوجبت قضاء أكثريا، ولا تخلو عن قوة قياسية خفية تخالط المشاهداتن وهي أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيا أوعرضيا غير لازم لما استمر في الأكثر من غير اختلاف، حتى إذا لم يوجد ذلك اللازم استبعدت النفس تأخره عنه وعدته نادرا، وطلبت له سببا عارضا مانعا. وإذا اجتمع هذا الإحساس متكررا مرة بعد أخرى، ولا ينضبط عدد المرات كما لا ينضبط عدد المخبرين في التواتر، فإن كل واقعة ههنا مثل شاهد مخبر، وانضم إليه القياس الذي ذكرناه أذعنت النفس للتصديق. فإن قال قائل: كيف تعتقدون هذا يقينا، والمتكلمون شكوا فيه وقالوا: ليس الجز سببا للموت، ولا الأكل سببا للشبع، ولا النار علة للإحراق، ولكن الله تعالى يخلق الإحتراق والموت والشبع عند جريان هذه الأمور لا بها؟ قلنا: قد نبهنا على غور هذا الفصل وحقيقته في كتاب تهافت الفلاسفة.والقدر المحتاج إليه الآن أن المتكلم إذا اخبره بأن ولده جزت رقبته لم يشك في موته، وليس في العقلاء من يشك فيه، وهو معترف بحصول الموت وباحث عن وجه الإقتران. وأما النظر في أنه هل هو لزوم ضروري ليس في الإمكان تغييره أو هو بحكم جريان سنة الله تعالى لنفوذ مشيئته الأزلية، التي لا تحتمل التبديل والتغيير، فهو نظر في وجه الإقتران لا في نفس الإقتران، فليفهم هذا وليعلم أن التشكك في موت من جزت رقبته وسواس مجرد، وأن اعتقاد موته يقين لا يستراب فيه، ومن قبيل المجربات الحدسيات، وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس من النفس يقع لصفاء الذهن وقوته وتوليه الشهادة لأمور، فتذعن النفس لقبوله والتصديق له بحيث لا يقدر على التشكك فيه، ولكن لو نازع فيه منازع معتقدا أو معاندا لم يمكن أن يعرف به ما لم يقو حدسه ولم يتول الإعتقاد الذي تولاه ذو الحدس القوي، وذلك مثل قضائنا بأن نور القمر مستفاد من للشمس، وأن انعكاس شعاعه إلى العالم يضاهي انعكاس شعاع المرآة إلى سائر الأجسام التي تقابله، وذلك لإختلاف تشكله عند اختلاف نسبته من الشمس قربا وبعدا وتوسطا.

ومن تأمل شواهد ذلك لم يبق له فيه ريبة وفيه من القياس ما في المجربات، فإن هذه الإختلافات لو كانت بالإتفاق أو بأمر خارج سوى الشمس لما استمرت على نمط واحد على طول الزمن، ومن مارس العلوم يحصل لهمن هذا الجنس على طريق الحدس والإعتبار قضايا كثيرة لا يمكنه إقامة البرهان عليها، ولا يمكنه أن يشك فيها، ولا يمكنه أن يشرك فيها غيره بالتعليم، إلا أن يدل الطالب على الطريق الذي سلكه واستنهجه، حتى إذا تولى السلوك بنفسه أفضاه ذلك السلوك إلى ذلك الإعتقاد وإن كان ذهنه في القوة والصفاء على رتبة الكمال.
ولمثل هذا لا يمكن افحام كل مجادل بكلام مسكت، فلا ينبغي أن تطمع في القدرة على المجادلة في كل حق، فمن الإعتقادات اليقينية ما لا نقدر على تعريفه غيرنا بطريق البرهان إلا إذا شاركنا في ممارسته ليشاركنا في العلوم المستفادة منه، وفي مثل هذا المقام يقال: من لم يذق لم يعرف، ومن لم يصل لم يدرك.

الصنف الرابع

القضايا التي عرفت لا بفنسها بل بوسط ولكن لا يعزب عن الذهن أوساطها، بل مهما احضر جزئي المطلوب حضر التصديق به لحضور الوسط معه كقولنا: الإثنان ثلث الستة، فإن هذا معلوم بوسط وهو أن كل منقسم ثلاثة أقسام متساوية، فأحد الأقسام ثلث والستة تنقسم بالإثنينات ثلاثة أقسام متساوية، فالإثنان إذن ثلث الستة، ولكن هذا الوسط لا يعزب عن الذهن لمقلة هذا العدد وتعود الإنسان التأمل فيه، حتى لو قيل لك: الإثنان والعشرون هي هي ثلث ستة وستين؟ لم تبادر إليه مبادرتك إلى الحكم بأن الإثنين ثلث الستة، بل ربما افتقرت نإلى أن تقسم الستة والستين على ثلاثة، فإذا انقسمت وحصل أن كل قسم إثنان وعشرون عرفت أن ذلك ثلثه، وهكذا كلما كثر الحساب؛ فهذا وإن كان معلوما برأي ثاني لا بالرأي الأول ولكنه ليس يحتاج فيه إلى تأمل، فهو جار مجرى الأوليات فيصلح لأن يكون من مواد الأقيسة.

بل القضايا التي هي نتائج أقيسة ألفت من مقدمات هي من الأصناف الثلاثة السابقة تصلح أن تكون مواد أقيسة ومقدماتها.

القسم الثاني

المقدمات التي ليست يقينية ولا تصلح للبراهين، وهي نوعان: نوع يصلح للظنيات الفقهية، ونوع لا يصلح لذلك أيضا.

النوع الأول وهو الصالح للفقهيات دون اليقينيات وهي ثلاثة أصناف: مشهورات ومقبولات ومظنونات.

الصنف الأول

المشهورات مثل حكمنا بحسن إفشاء السلام، وإطعام الطعام وصلة الأرحام وملازمة الصدق في الكلام ومراعاة العدل في القضايا والأحكام، وحكمنا بقبح إيذاء الإنسان وقتل الحيوان ووضع البهتان ورضاء الأزواج بفجور النسوان ومقابلة النعمة بالكفران والطغيان، وهذه قضايا لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه، لما قضى الذهن به قضاء بمجرد العقل والحس، ولكن إنما قضى بها لأسباب عارضة أكدت في النفس هذه القضايا وأثبتتها؛ وهي خمسة:

أولها

رقة القلب بحكم الغريزة وذلك في حق أكثر الناس حتى سبق إلى وهم قوم أن ذبح الحيوان قبيح عقلا، ولولا أن سياءة الشرع صرفت الناس عن ذلك إلى تحسين الذبح وجعله قربنا، لعم هذا الإعتقاد أكثر الناس. ومن هذا أشكل على المعتزلة وأكثر الفرق وجه العدل في إيلام البهائم بالذبح والمجانين بالمرض، وزعموا بحكم رقة طباعهم أن ذلك قبيح، فمنهم من اعتذر بانها ستعوض عليها بعد الحشر في الدار الآخرة.

ولم ينتبه هؤلاء لقبح صفع الملك ضعيفا ليعطيه رغيفا، مهما قدر على إعطائه دون الصفع، واعتذر فرق بأنها عقوبات على جنايات قارفوها وهم محكلفون وردوا بطريق التناسخ بعد الموت إلى هذه القوالب ليعذبوا فيها، ولم يعلموا أن عقوبة منلا يعرف أنه معاقب فينزجر بسببه قبيح.

وإن زعموا أنها تعرف كونها معاقبة على جنايات سبقت كان لها قوة مفكرة، ويلزم عليه تجويز معرفة الذبان والديدان حقائق الأمور وجميع العلوم الهندسية والفلسفية، وهو مناكرة للمحسوس، ثم مهما لم يكن للمعاقب غرض في إنتقام أو تشفي أو دفع ضر في المستقبل أو لم يكن للمعاقب مصلحة فهو أيضا قبيح، والله قادر على إفاضة النعم على الخلق من غير إيلام، ومن غير تكليف وإلزام، فايذاؤهم بالتكليف أولا وبالعقوبة آخرا أحرى بأن يكون قبيحا مما ذكروه، وجعلوه قبيحا من إيلام البريء عن الجنايات.

السبب الثاني

ما جبل عليه الإنسان من الحمية والأنفة، ولأجله يحكم باستقباح الرضا بفجور امرأته، ويظن أن هذا حكم ضروري للعقل مع أن جماعة من الناس يتعودون إجارة أزواجهم ليألفوا ذلك ولا ينفروا عنه، بل جميع الزناة يستحسنون الفجور بمرأة الغير ولا يستقبحونه لموافقة شهواتهم، ويستقبحون من ينبه الأزواج عليه ويعرفهم فعل الزناة، ويزعمون أن ذلك غمز وسعاية ونميمة، وهو في غاية القبح. وأهل الصلاح يقولون: هو خيانة وترك الأمانة؛ فتتناقض أحكامهم في الحسن والقبح ويزعمون أنها قضايا العقل، وإنما منشأها هذه الأخلاق التي جبل الإنسان عليها.

السبب الثالث

محبة التسالم والتصالح والتعاون على المعايش، ولذلك يحسن عندهم التودد بإفشاء السلام وإطعام الطعام ويقبح لديهم السب والتنفير ومقابلة النعمة بالكفران وأمثاله، ولولا ميلهم إلى أمور تنهض هذه الأسباب وسائل إليها أو صوارف عنها، لما قضت العقول بفطرتها في هذه الأمور بحسن ولا قبح، ولذلك نرى جماعة لا يحبون التسالم ويميلون إلى التغالب، فألذ الأشياء وأحسنها عندهم الغارة والنهب والقتل والفتك.

السبب الرابع

التأديبات الشرعية لإصلاح الناس، فإنها لكونها تكررت على الأسماع منذ الصبا بلسان الآباء والمعلمين ووقع النشء عليها، رسخت تلك الإعتقادات رسوخا أدى إلى الظن بأنها عقلية كحسن الركوع والسجود والتقرب بذبح البهائم وإراقة دمائها، وهذه الأمور لو غوفص بها العاقل الذي لم يؤدب بقبولها منذ الصبا لكان مجرد عقله لا يقضي بحسن ولا بقبح، ولكن حسنت بتحسين الشرع فاذعن الوهم لقبولها بالتأديب منذ الصبا.

السبب الخامس

الإستقراء للجزئيات الكثيرة، فإن الشيء متى وجد مقرونا بالشيء في أكثر أحواله ظن أنه ملازم له على الإطلاق، كما يحكم على إفشاء السلام بالحسن مطلقا، لأنه يحسن في أكثر الأحوال ويذهل عن قبحه في وقت قضاء الحاجة، ويحكم على الصدق بالحسن لوجوده موافقا للأغراض مرغوبا في أكثر الأحوالن ويغفل عن قبحه ممن سئل عن مكان نبي أو ولي ليجده السائل فيقتله، بل ربما اعتقد قبح الكذب حينئذ بإخفاء المحل المصادفة الكذب مقرونا بالقبح في أكثر الأحوال. فهذه الأسباب وأمثالها علل قضاء النفس بهذه القضايا وليست هذه القضايا صادقة كلها ولا كاذنبةكلها، ولكن المقصود أن ما هو صادق منها فليس بين الصدق عند العقل بيانا أوليا، بل يفتقر في تحقيق صدقه إلى نظر وإن كان محمودا عند العقل الأول، والصادق غير المحمود، والكاذب غير الشنيع. ورب شنيع حق، ورب محمود كاذب، وقد يكون المحمود صادقا لكن بشرط دقيق لا يتفطن أكثر الناس له، فيؤخذ على الإطلاق مع أنه لا يكون صادقا إلا مع ذلك الشرط كقولنا: الصدق حسن، وليس كذلك مطلقا بل بشروط، ولفقد بعض الشروط قبح الصدق الذي هو تعريف لموضع النبي المقصود قتله إلى غير ذلك من نظائره.

ومهما أردت أن تعرف الفرق بين هذه القضايا المشهورات وبين الأوليات العقلية، فأعرض قولنا: قتل الإنسان قبيح وإنقاذه من الهلاك جميل، على عقلك بعد أن تقدر كأنك حصلت في الدنيا دفعة بالغا عاقلا، ولم تسمع قط تأديبا ولم تعاشر أمة ولم تعهد ترتيبا وسياسة، لكنك شاهدت المحسوسات وأخذت منها الخيالات، فيمكنك التشكيك في هذه المقدمات أو التوقف فيها ولا يمكنك التوقف في قولنا أن السلب والإيجاب لا يصدقان في حال واحدة، وأن الإثنين أكثر من الواحد، فإذن هذه المقدمات لما كانت قريبة من الصدق محتملة الكذب لم تصلح للبراهين التي يطلب منها اليقين وصلحت للفقهيات.

الصنف الثاني

المقبولات وهي أمور إعتقدناها بتصديق من أخبرنا بها من جماعة ينقص عددهم عن عدد التواتر، أو شخص واحد تميز عن غيره بعدالة ظاهرة أوعلم وافر، كالذي قبلناه من آبائنا وأستاذينا وأئمتنا واستمررنا على إعتقاد، وكأخبار الآحاد في الشرع، فهي تصلح للمقاييس الفقهية دون البراهين العقلية، ولها في إثارة الظن مراتب لا تكاد تخفي؛ فليس المستفيض فيالكتب الصحاح من الأحاديث كالذي ينقله الواحد، ولا ما ينقله أحد الخلفاء الراشدين كما ينقله غيره، ودرجات الظن فيه لا تحصى.

الصنف الثالث

المظنونات وهي أمور يقع التصديق بها لا على الثبات بل مع خطور إمكان نقيضها بالبال، ولكن النفس إليها أميل كقولنا: إن فلانا إنما يخرج بالليل لريبة، فإن النفس تميل إليه ميلا يبنى عليه التدبير للأفعال، وهي مع ذلك تشعر بإمكان نقيضه، والمشهورات والمقبولات إذا اعتبرت من حيث يشعر بنقيضها في بعض الأحوال، فيجوز أن تسمى مظنونة، وكم من مشهور في بادىء الرأي يورث اعتقادا، فإن تأملته وتعقبته عاد ذلك الإذعان لقبوله ظنا أو تكذيبا كقول القائل: ينبغي أن يمنع من ظلمه وينصر المظلوم عليه، وهو المراد بالحديث المعقول فيه، فإنه سئل عن ذلك فقيل: كيف ينصر الظالم؟ فقال: نصرته أن تمنعه من ظلمه. 

النوع الثاني

ما لا يصلح للطقعيات ولا للظنيات بل لا يصلح إلا للتلبيس والمغالطة، وهي المشبهات أي المشبهة للأقسام الماضية في الظاهر ولا تكون منها، وهي ثلاثة أقسام:

الأول

الوهميات الصرفة وهي قضايا يقضي بها الوهم الإنساني قضاء جزما بريا عن مقارنة ريب وشك، كحكمة في إبتداء فطرته بإستحالة وجود موجود لا إشارة إلى جهته، وأن موجودا قائما بنفسه لا يتصل بالعالم ولا ينفصل عنه، ولا يكون داخل العالم ولا خارجه محال، وهذا يشبه الأوليات العقلية مثل القضاء بان الشخص الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، والواحد أقل من الإثنين، وهي أقوى من المشهورات التي مثلناها بأن العدل جميل والجور قبيح، وهي مع هذه القوة كاذبة مهما كانت في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها، لأن الوهم إنس بالمحسوسات فيقضي لغير المحسوس بمثل ما ألفه في المحسوس.


وعرف كونه كاذبا من مقدمات يصدق الوهم بآحادها لكن لا يذعن للنتيجة، إذ ليس في قوة الوهم إدراك مثلها وهذا أقوى المقدمات الكاذبة، فإن الفطرة الوهمية تحكم بها حسب حكمها في الأوليات العقلية، ولذلك إذا كانت الوهميات في المحسوسات كانت صادقة يقينية وصح الإعتماد عليها كالإعتماد على العقليات المحضة وعلى الحسيات.

القسم الثاني

ما يشبه المظنونات وإذا بحث عنه أمحى الظن كقول القائل: ينبغي أن تنصر أخاك ظالما كان أو مظلوما، وهو أيضا يشبه المشهورات. وقد يكون ما يشبه المشهورات أو المظنونات مما يتوافق عليه الخصمان في المناظرات من المسلمات، إما على سبيل الوضع وإما على سبيل الإعتقاد، ولكن إذا تكرر تسليمها على أسماع الحاضرين يأنسون بها وتميل نفوسهم إلى الإذعان لها أكثر من الميل إلى التكذيب، فيعتقد أن ذلك الميل ظن لأن معنى الظن ميل في الإعتقاد، ولكنه ميل بسبب كإعتقادك أن من يخرج بالليل فيخرج لريبة، فإن ميل النفس إلى هذه التهمة لسبب. ولو كرر على سمع جماعة أن الأزرق الأشقر مثلا لا يكون إلا خائنا خبيثا فإذا رأوه كان ميل نفسهم إلى إعتقاد بل خيال محض بسبب بسبب السماع. ولذا قيل: من يسمع يخل. فبين هذا وبين الظنون المحقق فرق ويقرب من هذا المخيلات وهي تشبيه الشيء بشيء، مستقبح او مستحسن لمشاركته إياه في وصف ليس هو سبب القبح والحسن، فتميل النفس بسببه ميلا وليس ذلك من الظن في شيء، وهذا مع أنه أخس الرتب يحرك الناس إلى أكثر الأفعال، وعنه تصدر أكثر التصرفات من الخلق إقداما وإحجاما، وهي المقدمات الشعرية التي ذكرناها، فلا ترى عاقلا ينفك عن التأثر به حتى إن المرأة التي يخطبها الرجل إذا ذكر أن إسمها إسم بعض الهنود أو السودان المستقبحين نفر الطبع عنها لقبح الإسم، فيقاوم هذا الخيال الجمال ويورث محبة ما، وحتى إن علم الحساب والمنطق الذي ليس فيه تعرض للمذاهب بنفي ولا إثبات إذا قيل أنه من علوم الفلاسفة الملحدين، نفر طباع أهل الدين عنه، وهذا الميل والنفرة الصادران عن هذا الجنس ليسا بظن ولا علم، فلا يصلح ما يثيرهما أن يجعل مقدمة لا في القطعيات ولا في الظنيات والفقهيات.

القسم الثالث

الأغاليط الواقعة إما من لفظ المغلط أو من معنى اللفظ، كما يحصل من مقدمة صادقة في مسمة باسم مشترك فينقله الذهن عن ذلك المسمة إلى مسمى آخر بذلك الإسم عينه، حيث يدق وجه الإشتراك، كالنور إذا أخذ تارة لمعنى الضوء المبصر، وأخرى بالمعنى المراد من قوله تعالى: (الله نُورُ السَمَواتِ والأَرض).

وكذلك قد يكون من الذهول عن موضع وقف في الكلام كقوله تعالى: (وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلاّ الله وَالراسِخُونَ في العِلمِ يَقولُونَ آَمَنّا بِهِ). فإذا أهمل الوقف على الله انعطف عليه قولهوالراسخون في العلم وحصلت مقدمة كاذبة. وقد يكون بالذهول عن الأعراب كقوله تعالى: (إِنّ الله بَريء مِنَ المُشرِكينَ ورَسُولُهُ).

فبالغفلة عن إعراب اللام من قوله ورسوله، ربما يقرأها القارىء بالكسر وتحصل مقدمة كاذبة ونظائر ذلك من حيث اللفظ كثير.

وأما من حيث المعنى فمنها ما يحصل من تخيل العكس، فإنا إذا قلنا: كل قود فسببه عمد، فيظن أن كل عمد فهو سبب قود، فإن العمد رؤى ملازما للقود فظن أن القود أيضا ملازم للعمد، وهذا الجنس سباق إلى الفهم، ولا يزال الإنسان مع عدم التنبه لأصله ينخدع به ويسبق إلى تخيله من حيث لا يدري إلى أن ينبه عليه. ومنها ما سببه تنزيل لازم الشيء منزلة الشيء حتى إذا حكم على شيء بحكم ظن أنه يصح على لازمه، فإذا قيل: الصلاة طاعة وكل صلاة تفتقر إلى نية، ظن أن كل طاعة تفتقر إلى نية من حيث ان الطاعة لازمة للصلاة وليس كذلك، فإن أصل الإيمان ومعرفة الله تعالى طاعة، ويستحيل إفتقارها إلى نية لأن نية التقرب إلى المعبود لا تتقدم على معرفة المعبود، وهذا أيضا كثير التغليط في العقليات والفقهيات، وأسباب الأغاليط مما يعسر إحصاؤها، وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره. فإذن مجموع ما ذكرناه من أصناف هذه المقدمات التي سميناها عشرة: أربعة من القسم الأول وثلاثة من القسم الثاني، وهي مواد الفقهيات، وثلاثة من القسم الأخير وقد ذكرنا حكمها. فإن قال قائل: فبماذا تخالف العقليات الفقهيات؟ قلنا: لا مخالفة بينهما في صورة القياس وإنما يتخالفان في المادة ولا في كل مادة، بل ما يصلح أن يكون مقدمة في العقليات يصلح للفقهيات، ولكن قد يصلح للفقهيات ما لا يصلح للعقليات كالظنيات، وقد يؤخذ ما لا يصلح لهما جميعا كالمشبهات والمغلطات كما يتخالفان في كيفية ما به تصير المقدمة كلية، فإن المقدمات الجزئية في الفقه يتسامح بجعلها كلية، وإنما يدرك ذلك من أقوال صاحب الشرع وأفعاله، وأقوال أهل الإجماع وأقوال آحاد الصحابة أن رؤى ذلك من العقليات ما هو صريح في لفظه بين في طريقه، كالفظ الصريح المسموع من الشارع أو المنقول بطريق التواتر، فإن المتواتر كالمسموع.

فقوله: (ثَلاثَةَ أيامٍ في الحَجِّ وَسَبعَةٍ إذا رَجَعتُم) صريح في لفظه أعني كونه عشرة بين في طريقه، أعني أن القرآن متواتر وقد يكون بينا في طريقه ظاهرا في لفظه كالمراد من قوله: إذا رجعتم. وقد يكون صريحا في لفظه غير بين في طريقه كالنص الذي ينقله الآحاد من لفظ صاحب الشرع، وقد يكون عادما للقوتين كالظاهر الذي ينقله الآحاد.

وجملة الألفاظ الشرعية في القضية الكلية والجزئية أربعة أقسام:

الأول: كلية أريد بها كلية كقوله كل مسكر حرام.

الثاني: جزئية بقيت جزئية كقوله في الذهب والإبريسم "هذان حرامان على ذكور أمتي" فإنه بقي مختصا بالذكور ولم يتعد إلى الإناث.

والثالث كلية أريد بها جزئية كقوله: في سائمة الغنم زكاة، أريد بها ما بلغ نصابا. وقوله: (وَالسارِقُ وَالسارِقَةُ فاقطَعَوا أَيديَهُما).

المراد به بعض السارقين، فإذا أردنا أن نجعل هذه كلية ضممنا إليها الأوصاف التي بان إعتبارها فيه، وقلنا مثلا: كل من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه قطع. والنباش أو الذي يسرق الأشياء الرطبة مثلا بهذه الصفة فيقطع؛ هذا هو العادة.

والصواب عندنا في مراسم جدل الفقه ان لا يفعل ذلك مهما وجد عموم لفظ، بل يتعلق بعموم اللفظ ويطالب الخصم بالمخصص، وما يدعي من ان الخصوص قد يتطرق إلىالعموم فليس مانعا من التمسك بالعموم على إصطلاح الفقهاء، وإذا اصطلحوا على هذا فالتمسك به أولى من إيراده في شكل قياس، لأنهم ليسوا يقبلون تخصيص العلة. ومهما قلت: كل من سرق نصابا كاملا من حرز مثله قطع، منع الخصم وقال: أهملت وصفا وهو أن لا يكون المسروق رطبا فما الذي عرفك أن هذا غير معتبر، فلا يبقى لك إلا أن تعود إلى العموم وتقول: هوالأصل. ومن زاد وصفا فعلهي الدليل، فإذن التمسك بالعموم أولى إذا وجد.

والرابع هو الجزئي الذي أريد به الكلي، فإنا كما نعبر بالعام عن الخاص فنقول: ليس في الأصدقاء خير، ونريد به بعضهم كذلك قد يطلق الخاص ونريد به العام كقوله تعالى: (وَمِنهُم مَن إِن تَأمَنهُ بِدينارِ لا يُؤَدِهِ إليك) فإنه يراد به سائر أنواع أمواله. وكقوله: (وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَةٍ خَيراً يَرَه) فيعبر بالقليل عن الكثير، وكقوله تعالى: (وَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ) فعبر عن كل ما فيه التبرم به. وكقوله تعالى: (وَلا تَأكلُوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِل وَلا تَأكُلوا أَموال اليَتامى ظُلماً).

والمراد هو الإتلاف الذي أعم من الأكل، ولكن عبر بالأكل عنه. وكقول الشافعي: إذا نهشته حية أو عقرباء فإن كانت من حيات مصر أوعقارب نصيبين وجب القصاص. وليس غرضه التخصيص بل كل ما يكون قاتلا في الغالب، ولكن ذكر المشهور وعبر به عن الكل، فإذا ورد من هذا الجنس لفظ خاص ألغينا خصوصه وأخذنا المعنى الكلي المراد به وقلنا: كل تبرم بالوالدين فهو حرام، وكل إتلاف لمال اليتامى حرام؛ فيحصل معنا مقدمة كلية. فإن قيل: فالمعلوم بواقعة مخصوصة هل هو قضية كلية يفتقر تخصيصها إلى دليل أم هو جزئية فيفتقر تعميمها إلى دليل، وذلك كقوله للأعرابي: (اعتق رقبة) لما قال جامعت في نهار رمضان، وكرجمه ماعزا لما زنى، فهل ينزل ذلك منزلة قوله: كل من زنى فارجموه وكل من جامع أهله في نهار رمضان فليعتق رقبة؟ قلنا: هو كقولك: كل موصوف بصفة ماعز إذا زنى فارجموه، ولك موصوف بصفة الأعرابي إذا هلك وأهلك بجماع أهله في نهار رمضان فليعتق رقبو. ثم صفة الجماع هو الذي وصفه السائل والمعتبر من صفات الأعرابي ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ترك الإستفصال مع إمكان الإشكال منزلة عموم المقال، حتى إن لم يعرف أنه كان حرا أو عبدا كان هذا كالعوم في حق الحر والعبد، وإن عرف كونه حرا فالعبد ينبغي أن يتكلف الحاقه بان يظهر أنه لا يؤثر الرق بدفع موجبات العبادات، وإنما نزلنا هذا منزلة العام لأنه قد قال حكمي في الواحد حكمي في الجماعة.

ولو كنا عرفنا من عاداته أنه يخصص كل شخص بحكم يخالف الآخر لما أقمنا هذا مقام العام، كمن يعلم من أصحاب الظواهر أن المراد بالجزئيات المذكورة في الربويات نفس تلك الجزئيات، ولهذا مزيد تفصيل لا يحتمله هذا الكتاب.

وقد بينا عند النظر في صورة القياس، إن الحكم الخاص الجزئي إنما يجعل كليا بستة طرق، وهو بيان أن ما به الإفتراق ليس بمؤثر، وإن ما به الإجتماع هو المناسب أو المؤثر ليكون مناطا، وهو أبلغ في الكشف عن الغرض، وذلك لأن من الجزئيات ما يعلم أن المراد منها كلي، ومنها ما لا يعلم ذلك كمن لم يعلم من أصحاب الظواهر أن المراد بالجزئيات الست المذكورة في الربويات أمر أعم منها، وعرف كافة النظار أن المراد بالبر ليس هو البر بل معنى أعم منه، إذ بقي ربا البر بعد الطحن إذ صار دقيقا وفارقه إسم البر، فعلم أن المراد به وصف عام كلي اشترك فيه الدقيق والبر، ولكن الكلي العام قد يعرف بالبديهة من غير تأمل، كمعرفتنا بان المحرم هو التبرم العام دون التأفف الخاص، وقد يشك فيه كالبر، فإن الدقيق والبر يشتركان في كليات مثل الطعم والإقتيات والكيل والمالية، وإذا وقع الشك فيه لم يمكن إثباته إلا بأحد الطرق الستة التي ذكرناها، والله أعلم.

النظر الثالث

في المغلطات في القياس وفيه فصول

الفصل الأول

في حصر مثارات الغلط. إعلم أن المقدمات القياسية إذا ترتبت من حيث صورتها على ضرب منتج من الأشكال الثلاثة، وتفصلت منها الحدود الثلاثة أولا، وهي الأجزاء الأولى، إذ تميزت المقدمتان وهي الأجزاء الثواني، وكانت المقدمات صادقة وغير النتيجة واعرف منها، كان اللازم منها بالضرورة حقا لا ريب فيه، والذي لا يحصل منه الحق فإنما لا يحصل لخلل في هذه الجهات التي ذكرناها، إما لخروجه عن الأشكال أو لخروجه عن الضروب المنتجة منها، أو لعدم التمايز في الحدود أو في المقدمات أو لإدراج النتيجة في المقدمات فلا تكون غيرها، أو لأن النتيجة تكون متقدمة على إحدى المقدمات في المعرفة فلا تكون المقدمة أعرف من النتيجة فهذه سبع مثارات؛ فلنشرح كل واحد بمثال حتى يتيسر الإحتراز عنه فنقول: المثار الأول: أن لا تكون على شكل من الأشكال الثلاثة، بأن لا يكون من الحدود حد مشترك إما موضوع فيهما أو محمول أوموضوع لأحدهما محول للآخر، فإذا انتفى الإشتراك حقيقة ولفظا لم يغلط الذهن فيه، فإن ذلك يظهر وإنما يغلط إذا وجد ما هو مشترك لفظا مع إختلاف المعنى، ولذلك وجب تحقيق القول في الألفاظ المشتركة لا سيما ما يشتبه منها بالمتواطئة، ويعسر فيها درك الفرق، وهو مثار عظيم للأغاليط.

وقد ذكرنا تفصيل ذلك على الإيجاز في كتاب مقدمات القياس، إلا أنا لم نذكر ثم إلا الألفاظ التي لا يتحد معناها، وقد يكون الإشتراك سببه النظم والترتيب للألفاظ لا نفس الألفاظ ونحن نذكر من أمثلتها أربعة: ?الأول: ما ينشأ من مواضع الوقف والإبتداء كما ذكرنا من قوله تعالى: (إِلاّ الله وَالرَاسِخونَ في العِلم) إذ له معنيان مختلفان، فيطلق أمثاله في إحدى المقدمتين بمعنى وفي الثاني بمعنى آخر، فيبطل الحد المشترك ويظن أن ثم حد مشترك.

?الثاني: تردد الضمائر بين أشياء متعددة تحتمل الإنصراف إليها كقولك: كل ما علمه العاقل فهو كما علمه، والعاقل يعمل الحجر فهو كالحجر، فإن قولك: فهو متردد بين أن يكون راجعا إلى العاقل أو إلى المعقول، ويسلم في المقدمة على أنه راجع إلى المعقول، ويلبس في النتيجة فيخيل رجوعه إلى العاقل.

الثالث

تردد الحروف الناسقة بين معنيين تصدق في أحدهما وتكذب في الآخر كقوله: الخمسة زوج وفرد، وهو صادق فيظن أنه يصدق قولنا أنه زوج وفرد معا، وسببه إشتباه دلالة الواو فإنه يدل على جمع الأجزاء، إذ تقول الإنسان عظم ولحم أي فيه عظم ولحم، ويدل على جمع الأوصاف كقولنا: الإنسان عظم ولحم أي فيه عظم ولحم، ويدل على جمع الأوصاف كقولنا: الإنسان حي وجسم، فإذن يصدق ما ذكرناه في الخمسة بطريق جمع الأجزاء لا بطريق جمع الصفات، واللفظ كاللفظ.

الرابع

تردد الصفة بين أن تكون صفة للموضوع وصفة للمحمول المذكور قبله، فإنا قد نقول: زيد بصير أي ليس بضرير. وتقول: زيد طبيب. وإذا نظمنا فقلنا زيد طبيب بصير، ظن أنه بصير في الطب، وهذه الألفاظ تصدق مفرقة وتصدق مجموعة على أحد التأويلين دون الآخر، وأمثال ذلك مما يكثر ويرتفع به شكل القياس من حيث لا يعرف وفيما ذكرناه غنية.

المثال الثاني

ألا يكون على ضرب منتج من جملة ضروب الأشكال الثلاثة. مثاله قولك: قليل من الناس كاتب وكل عاقل، فقليل من الناس عاقل. وهذه النتيجة صادقة إن لم ترد بإثبات القليل نفي الكثير، فإن الكثير إذا كان عاقلا ففيه القليل، وإن أريد به أن القليل فقط هو كاتب وعاقل، اختلط نظم القياسس، إذ كان قوله قليل منالناس كاتب يشتمل على مقدمتين بالقوة: إحداهم بعض الناس كاتب، والأخرى إن ذلك البعض قليل، فهما محمولان على البعض.

وقد حكم في المقدمة الثانية على أحد المحمولين وهو الكاتب دون الثاني فاختلط النظم، وكذلك إذا قلت: ممتنع أن يكون الإنسان حجرا، وممتنع أن يكون الحجر حيوانا، فممتنع أن يكون الإنسان حيوانا، لأن هذا الضرب ألف من سالبتين غير فيهما اللفظ السلبي، إذ قولك ممتنع أن يكون الإنسان حجرا معناه لا إنسان واحد حجر، بل هذا القدر كاف لنفي النتيجة، فإن صغرى الشكل الأول مهما لم تكن موجبة لم ينتج أصلا، وإنما تكثر هذه الأغاليط إذا تشبث الذهن بالألفاظ دون أن يحصل المعاني بحقائقها.

المثار الثالث: إلا تكون الحدود الثلاثة، وهي الأجزاء الأولى متمايزة متكاملة كقولك: كل إنسان بشرن وكل بشر حيوان، فكل إنسان حيوان. وقولك: كل خمر عقار، وكل عقار مسكر، فكل خمر مسكر. فإن الحد الأوسط هوالحد الأصغر بعينه، وإنما تعدد اللفظ. وهذا من إستعمال الألفاظ المترادفة وهي التي تختلف حروفها وتتساوى حدود معانيها المفهومة، وقد ذكرناها فليحترز منها أيضا.

المثار الرابع: ألا تكون الأجزاء الثواني وهي المقدمات متفاضلة، وذلك لا يتفق في الألفاظ المفردة البسيطة إذ يظهر فيها محل الغلط، ولكن يتفق في الألفاظ المركبة، وكم من لفظ مركب يؤدي معنى قوته قوة الواحد أو يمكن أن يدل عليه بلفظ واحد، كما تقول: الإنسان يمشي. ثم يمكنك أن تبدل لفظ الموضوع بالحيوان الناطق، ولفظ يمشي بأنه ينتقل بنقل قدميه من موضع إلى آخر حتى يطول اللفظ، ويمكنك أن تعين التلبيس فيه. ومن هذا القبيل قولنا: كل ما علمه المسلم، فهو كما علمه، والمسلم يعلم الكافر فهو إذن كالكافر، وهذه المقدمات متمايزة الحدود في الوضع ولكن الخلل في الإتساق، فإنه ترك التصريح بتفصيله، وإلا فقولك ما علمه المسلم موضوع، وقولك فهو كما علمه محمول، ولكن تردد معنى قولك هو، وقد يكون بحيث لا يتميز في الوضع بل يكون فيه جزء يحتمل أن يكون من الموضوع، وأن يكون من المحمول، فإنك تقول: زيد الطويل أبيض، فالمحمول هو الأبيض فقط، والطويل من الموضوع، ويمكن أن يذكر الطويل بصيغة الذي فيرجع إلى زيد بان تقول زيد الذي هو طويل أبيض؛ وإن قلت: زيد طويل أبيض، صار الطويل جزءا من المحمول، وإذا لم يذكر الذي يكون بحيث يحتمل أنيراد به الذي وألا يراد كما تقول الإنسانية من حيث هي إنسانية خاصة أو عامة، فيحتمل أن يكون الموضوع الإنسانية المجردة والمحمول الخاصة، ويحتمل أن يكون الموضوع الإنسانية فحسب والمحمول الخاصة من حيث هي إنسانية، إذا لو قلت الإنسانية خاصة أو عامة لأخبرت عن شيء واحد. فإذا قلت: الإنسانية من حيث هي إنسانية خاصة أو عامة، أخبرت عن شيئين وكل خبر فهو محمول. ولهذا لو قلت: الإنسانية ليست من حيث هي إنسانية خاصة ولا عامة، صدق. ولو قلت: الإنسانية ليست خاصة ولا عامة، كذب ويفهم الفرق بينهما عند ذكرنا المعنى الكلي في أحكام الوجود، فيتشعب من هذه التركيبات المختلفة أغاليط يعسر حلها على حذاق النظار فضلا عن الظاهريين، ولا تخلص عن مكامن الغلط إلا بتوفيق الله فليستوفق الله تعالى الناظر في هذه العقبات حتى يسلم عن ظلماتها.

المثار الخامس: أن تكون المقدمة كاذبة، وذلك لا يخلو غما أن يكون لإلتباس المعنى، فإن لم يكن ثم شيء من هذه الأسباب لم يذعن الذهن له ولم يصدق به، فليس كلام إلا فيما يغلط فيه العقلاء. فأما من يصدق بكل ما يسمع فهو فاسد المزاج، عسر كما إذا اشتركت لفظتان في معنى، وبينهما إفتراق في معنى دقيق، فيظن أن الحكم الذي ألفي صادقا على أحدهما على الآخر، ويقع الذهول عما فيه الإفتراق من زيادة معنى أو نقصانه مع اتحاد المسمى، وذلك مما يكثر كلفظ الستر والخدر. ولا يقال خدر إلا إذا كان مشتملا على جاريةن وإلا فهو ستر، وكالبكاء والعويل ولا يقال عويل إلا إذا كان معه رفع صوت وإلا فهو بكاء، وقد يظن تساويهما، وكذا الثرى والتراب فإن الثرى هوالتراب ولكن بشرط النداوة، وكذلك المأذق والمضيق فإن المأذق هو المضيق ولكن لا يقال إلا في مواضع الحرب، وكذا الآبق والهارب فإن الآبق هو الهارب ولكن مع مزيد معنى في الهارب، وهو أن يكون من كد وخوف، فغن لم يكن سبب منفر فيسمى هاربا لا آبقا؛ وكما لا يقال لماء الفم رضاب إلا ما دام في الفم فإذا فارقه فهو بزاق، ولا يقال للشجاع كمي إلا إذا كان شاكي السلاح وإلا فهو بطل، ولا يقال للشمس الغزالة إلا عند إرتفاع النهار؛ فهذه الألفاظ متماثلة في الأصل وفيها نوع تفاوت، وقد يظن أن الحكم على أحدها حكم على الآخر فيصدق به لهذا السبب.

وأما السبب المعنوي للتغليط فهو أن تكون المقدمة صادقة في البعض لا في الكل، فتؤخذ على أنها كلية وتصدق ويقع الذهول عن شرط صدقها، وأكثرها من سبق الوهم إلى العكس، فإنا إذا قلنا: "كل قود فبعمد وكل رجم فبزنا" فيظن أن كل عمد ففيه قود وإن كل زنا ففيه رجم، وهذا كثير التغليط لمن لم يتحفظ عنه، والذي يصدق في البعض دون الكل قد يكون بحيث يصدق في بعض الموضوع كقولنا: الحيوان مكلف؛ فإنه يصدق في الإنسان دون غيره، وقد يصدق في كل الموضوع ولكن في بعض الأحوال كقولنا الإنسان مكلف، فإنه لا يصدق في حالة الصبا والجنون، وقد يصدق في بعض الأوقات كقولنا المكلف يلزمه الصلاة، فإنه لا يصدق في وقت الضحى إذ لا يجب فيه صلاة، وقد يصدق بشرط خفي كقولنا: المكلف يحرم عليه شرب الخمر، فإنه بشرط ألا يكون مكرها فيترك الشرط؛ وكذلك قولك: إذا قتل مظلوما هو مثل من قتل؛ وهو صحيح بشرط، أعني ألا يكون القاتل أبا والقتيل إبنا. فهذه الأمور لما كانت تصدق في الأكثر ولا تنتهض كلية صادقة إلا إذا قيدت بالشرط، فربما يذعن الذهن للتصديق ويسلمها على إنها كلية صادقة فيلزم منها نتائج كاذبة. المثار السادس: ان لا تكون المقدمات غير النتيجة فتصادر على المطلوب في المقدمات من حيث لا تدري، كقولك: إن المرأة مولى عليها فلا تلي عقد النكاح، وإذا طولبت بمعنى كونها مولى عليها ربما لم تتمكن من إظهار معنى سوى ما فيه النزاع. وكذلك قول القائل: يصح التطوع بنية تنشأ نهارا لأنه صوم عين، وإذا طولب بتحقيق معنى كونه صومعين لم يستغن عن أن يجعل النتيجة جزءا منه، إذ يقال له: ما معنى كونه صوم عين؟ فيقول: إنه يصلح للتطوع. فيقال: وبهذا لا يثبت التعين إذ يصلح كل يوم قبل طلوع الفجر للقضاء، ولا يقال صوم عين. وإن قال: معناه أنه لا يصلح لغير التطوع، يقال: وبهذا لا يثبت التعين فإن الليل لا يصلح لغير التطوع، ولا يقال له عين فيضطر إلى ان يجمع بين المعنيين ويقول: معناه أنه يصلح للتطوع ولا يصلح لغيره فيقال: قوله يصلح للتطوع هو الحكم المطلوب علمه، فكيف جعله جزءا من العلة والعلة ينبغي أن تتقوم ذاتها دون الحكم؟ ثم يترتب عليها الحكم فيكون الحكم غير العلة، ونظائر هذا في العقليات تكثر فلذلك لم نذكره.

المثار السابع: أن لا تكون المقدمات اعرف من النتيجة، بل تكون إما مساوية لها في المعرفة كالمتشايفات، وذلك من ينازع في كون زيد ابنا لعمرو فيقول: الدليل على أن زيدا ابن لعمرو وهو أن عمرا أبا لزيد، وهذا محال لأنهما يعلمان معا ولا يعلم أحدهما بالآخر، وكذلك من يثبت أن وصفا من الأوصاف علم بقوله: الدليل عليه أن المحل الذي قام به عالم. وهو هوس إذ لا يعلم كون المحل عالما إلا مع العلم يكون الحال في المحل علما.

وقد تكون المقدمة متأخرة في المعرفة عن النتيجة فيكون قياسا دوريان وأمثلته في العقليات كثيرة، وأما في الفقهيات فكأن يقول الحنفيك تبطل صلاة المتيمم إذا وجد الماء في خلالها لأنه قدر على الإستعمال، وكل من قدر على استعمال الماء لزمه، ومن يلزمه استعمال الماء فلا يجوز له ان يصلي بالتيمم، فيجعل القدرة على افستعمال حدا أوسط وبطلان الصلاة نتيجة فيقال: إن أردت به القدرة حسا فيبطل بما لو وجده مملوكا للغير، وإن أردت به القدرة شرعا فيقال: ما دامت الصلاة قائمة يحرم عليه الأفعال الكثيرة، فيحرم الإستعمال، فالقدرة شرعا تحصل ببطلان الصلاة، فالبطلان منتج للقدرة والقدرة سابقة عليه سبق العلة على المعلول، أعني بالذات لا بالزمان، فكيف جعل المتأخر في الرتبة علة لما هو متقدم في الرتبة وهو البطلان؟ فهذه مثارات الغلط وقد حصرناها في سبعة أقسام، ويتشعب كل قسم إلى وجوه كثيرة لا يمكن إحصاؤها. فإن قيل: فهذه مغلطات كثيرة فمن الذي يتخلص منها؟ قلنا: هذه المغلطات كلها لا تجتمع في كل قياس بل يكون مثار الغلط في كل قياس محصورا والإحتياط فيه ممكن، وكل من راعى الحدود الثلاثة وحصلها في ذهنه معاني لا ألفاظا، ثم حمل البعض على البعض وجعلها مقدمتين، وراعى توابع الحمل كما ذكرنا في شروط التناقض، وراعى شكل القياس علم قطعا أن النتيجة اللازمة حق لازم، فإن لم يثق به فليعاود المقدمات ووجه التصديق وشكل القياس وحدوده مرة أو مرتين، كما يصنع الحساب في حسابه الذي يرتبه إذ يعاوده مرة أو مرتين، فإن فعل ذلك ولم تحصل له الثقة والطمأنينة إذ يعاوده مرة أو مرتين، فإن فعل ذلك ولم تحصل له الثقة والطمأنينة فليهجر النظر وليقنع بالتقليد، فلكل عمل رجال، وكل ميسر لما خلق له.

الفصل الثاني في بيان خيال السوفسطانية

فإن قال قائل: إذا كانت المقدمات ضرورية صادقة والعقول مشتملة عليها، وهذا الترتيب الذي ذكرتموه في صورة القياس أيضا واضح، فمن أين وقع للسوفسطائية إنكار العلوم والقول بتكافؤ الأدلة؟ أو من أين ثارت الإختلافات بين الناس في المعقولات؟ قلنا: أما وقوع الخلاف فلقصور أكثر الأفهام عن الشروط التي ذكرناها، ومن يتأملها لم يتعجب من مخالفة المخالف فيها، لا سيما وأدلة العقول تنساق إلى نتائج لا يذعن الوهم لها، بل يكذب بها لا كالعلوم الحسابية، فإن الوهم والعقل يتعاونان فيها، ثم من لا يعرف الأمور الحسابية يعرف أنه لا يعرفها، وإن غلط فيها، فلا يدوم غلطه بل يمكن إزالته على القرب. واما العلوم العقلية فليس كذلك، ثم من السوفسطائية من أنكر العلوم الأولية والحسية، كعلمنا بأن الإثنين أكثر من الواحد، وكعلمنا بوجودنا وأن الشيء الواحد إما أن يكون قديما او حادثا، فهؤلاء دخلهم الخلل من سوء المزاج وفساد الذهن بكثرة التحير في النظريات. وأما الذين سلموا الضروريات وزعموا أن الأدلة متكافئة في النظريات فإنما حملهم عليه ما رأوا من تناقض أدلة فرق المتكلمين، وما اعتراهم في بعض المسائل من شبه وإشكالات عسر عليهم حلها، فظنوا أنها لا حل لها أصلا، ولم يحملوا ذلك على قصور نظرهم وضلالهم وقلة درايتهم بطريق النظر، ولم يتحققوا شرائط النظر كما قدمناه، ونحن نذكر جملة من خيالاتهم ونحلها ليعرف أن القصور ممن ليس يحسن حل الشبه، وإلا فكل أمر إما أن يعرف وجوده ويتحقق أو يعرف عدمه ويتحقق، أو يعلم أنه من جنس ما ليس للبشر معرفته ويتحقق ذلك أيضا، ومثارات خيالهم ثلاثة أقسام: الأول: ما يرجع إلى صورة القياس؛ فمنها قول القائل: إن من أظهر ما ذكرتموه قولكم أن السالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، فإذا قلنا لا إنسان واحد حجر واحد إنسان، وتظنون أن هذا ضروري لا يتصور أنيختلف، وهو خطأ إذ حكم الحس به في موضع فظن أنه صادق في كل موضع. فإنا نقول: لا حائط واحد في وتد ولا نقول لا وتد واحد في حائط، ونقول: لا دن واحد في شراب، ولا نقول: لا شراب واحد دن، فنقول: نحن ادعينا أن ذات المحمول مهما عكس على ذات الموضوع بعينه اقتضى ما ذكرناه كما نقول: لا دن واحد شراب فلا جرم يلزم بالضرورة إنه لا شراب واحد دن، لأن المباينة إذا وقعت فلا جرم يلزم بالضرورة إنه لا شراب واحد دن، لأن المباينة وقعت بين شيئين كلية كانت من الجانبين، إذ لو فرض الإتصال في البعض كذبت كون المباينة كلية، وهذا المثال لم يعكس على وجهه ولم يحصل المعنيات اللذان المباينة بينهما، فإذا حصل لزم العكس، فإنا إذا قلنا: لا حائط واحد في الوتد، فالمحمول قولنا في الوتد لامجرد الوتد، فإذا وقعت المباينة بين الحائط وبين الشيء الذي قدرناه في الوتد فعكسه لازم، وهو أن كل ما هو في الوتد فليس بحائط، فلا جرم نقول: لا شيء واحد مما هو في الوتد حائط ولا شيء واحد مما هو في الشراب دن، وحل هذا إنما يعسر على من يتلقى هذه الأمور من اللفظ لا من المعنى. وأكثر الأذهان يعسر عليها درك مجردات المعاني من غير التفات إلى الألفاظ.

ومنها قول القائل: ادعيتم أن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، حتى إذا صح قولنا كل إنسان حيوان صح قولنا لا محالة بعض الحيوان إنسان. وليس كذلك فإنا نقول: كل شيخ قد كان شابا ولا نقول بعض الشبان قد كان شيخا، وكل خبز فقد كان برا ولا نقول بعض البر قد كان خبزا فنقول: مثار الغلط ترك الشرط في العكس، فإنه إذا أدخل بين الموضوع والمحمول قولنا قد كان، فإما أن يراعي في العكس وإما أن يلغى من كلتا القضيتين، فإن الغي هذا كذبت المقدمتان جميعا، وهو أن نقول كل شيخ حدث وكل حدث شيخ، وهو موضوع ومحمول مجرد، فإذا قلت: كل شيخ فقد كان شابا فعكسه بعض من كان شابا شيخ، وذلك مما يلزم لا محالة أن صدق الأول، فمن لم يتفطن لمثل هذه الأمور يضل فيحكم بلزوم الضلال في نفسه ويظن إلاّ طريق إلى معرفة الحق. ومنها تشككهم في الشكل الأول وقولهم: أنكم ادعيتم كونه منتجا وقول القائل الإنسان وحده ضحاك وكل ضحاك حي فالإنسان وحده حي، فالنتيجة خطأ والشكل هو الشكل الأول فإنهما موجبتان كليتان، وإن جعلت قولنا الإنسان وحده ضحاك جزئية، جاز أن تكون هي الصغرى، ولا يشترط في الشكل الأول إلا كون الكبرى كلية فنقول منشأ الغلط ان قوله وحده لم يراع في المقدمة الثانية وأعيد في النتيجة، ولا يشترد في الشكل الأول إلا كون الكبرى كلية فنقول منشأ الغلط أن قوله وحده لم يراع في المقدمة الثانية وأعيد في النتيجة، فينبغي الإيعاد أيضا في النتيجة حتى يلزم أن الإنسان حي، أو يعاد في المقدمة الثانية حتى تصير كاذبة فيقال والضحاك وحده حي، فإن معنى قولنا الإنسان وحده ضحاك أن الإنسان دون غيره ضحاك، فهما على التحقيق مقدمتان: إحداهما أن الإنسان ضحاك، والأخرى أن غير الإنسان ليس بضحاك. فإذا قلت: والضحاك حي، حكمت على محمول إحدى المقدمتين، وهي قولك الإنسان ضحاك وتركت الحكم على محمول المقدمة الثانية، وهي قولنا غير الإنسان ليس بضحاك، فإذا اقتصرت في إحدى المقدمتين على شيء فاقتصر في النتيجة عليه وقل الإنسان حي ولا تقل وحده، لأن الحكم يتعدى من الحد الأوسط إلى الأصغر مهما حكمت على الأوسط، والأوسط ههنا هو الضحاك مثبتا للإنسان منفيا عن غيره، فالحكم الذي على الضحاك ينبغي أن يكون محمول على جزئيه جميعا ولم تتعرض في المقدمة الثانية التي تذكر فيها محمول الأوسط للجزء الثاني من الأوسط؛ فمن أمثال هذا تضل الأذهان الضعيفة، والإنسان إذا تعذر عليه شيء لم تسمح نفسه بأن يحيل على عجز نفسه، فيظن أنه ممتنع في ذاته ويحكم بأن النظر ليس طريقا موصلا إلى اليقين وهو خطأ.

ومنها قولهم: الإثنان ربع الثمانية، والثمانية ربع الإثنين والثلاثين، فالإثنان ربع الإثنين والثلاثين، وهذا من إهمال شرط الحمل في الإضافيات، وسببه ظاهر إذ نتيجة هذا أن الإثنين ربع ربع الإثنين والثلاثين، ثم إن صحت مقدمة أخرى وهي أن ربع الربع ربع، صح ما ذكروه.

وإذا قلنا: زيد مثل عمرو وعمرو مثل خالد، لم يلزم أن يكون زيد مثل خالد بل اللازم أن زيدا مثلا مثل مثل خالد، فإن صح لنا مقدمة أخرى وهي أن مثل المثل مثل، فعند ذلك تصح النتيجة فقد أهملوا مقدمة لا بد منها وهي كاذبة فليحترز عن مثله.

ومنها قولهم: ممتنع أن يكون الإنسان حجرا وممتنع أن يكون الحجر حيان فممتنع ان يكون الإنسان حيا.

وقد ذكرنا وجه الغلط فيه، وإنهما سالبتان لا ينتجان وضعا بصفة افيجاب، وكما أن الموجبة قد تظن سالبة في قولنا زيد غير بصير، فكذلك السالبة تظن موجبة في قولنا ممتنع أن يكون الإنسان حجرا؛ وكل ذلك لملاحظة الألفاظ دون تحقيق المعاني.

ومنها قولهم: العظم لا في شيء من الكبد، والكبد في كل إنسان فالعظم لا في شيء من الإنسان، والنتيجة خطأ، فإذا تأملت هذا عرفت مثار الغلط فيه من الطريق الذي ذكرناه وكذلك يتشكك في الشكل الثاني والثالث بأمثال ذلك، وبعد تعريف الطريق لا حاجة إلى تكثير الأمثلة؛ فهذه هي الشكوك في صورة القياس.

القسم الثاني في الشكوك التي سببها الغلط في المقدمات. فمنها أنهم يقولون نرى أقيسة متناقضة، ولو كان القياس صحيحا لما تناقض موجبها.

مثاله: من ادعى أن القوة المدبرة من الإنسان في القلب استدل عليه بأني وجدت الملك المدبر يتوطن وسط مملكته والقلب في وسط البدن.ومن ادعى أنهاف ي الدماغ استدل بأني وجدت أعالي الشيء أصفى وأحسن من أسافله والدماغ أعلى من القلب. ومثاله أيضا قول القائل: إن الرحيم لا يؤلم البريء عن الجناية، والله أرحم الراحمين فإذن لا يؤلم برئيا عن الجناية، وهذه النتيجة كاذبة إذ نرى أن الله تعالى يؤلم الحيوانات والبهائم والمجانين من غير جناية منهم، فنشك في قولنا أنه أرحم الراحمين، أو في قولن أن الريحم لا يؤلم من غير فائدة، مع القدرة على ترك الإيلام.

ومثاله أيضا قول القائل: التنفس فعل إرادي كالمشي لا كالنبض، لأنا نقدر على الإمتناع منه؛ وقائل آخر يقول: ليس بإرادي إذ لو كان إراديا لماكنا نتنفس في النوم ولكنا نقدر على الإمتناع منه في كل وقت أردنا كالمشي، ونحن لا نقدر على إمساك النفس في كل وقت فتناقض النتيجتان. ومثاله أيضا قولنا: أن كل موجود فأما متصل بالعالم وإما منفصل، وما ليس بمتصل ولا منفصل فليس بموجود، فهذا أولي. وقد ادعى جماعة بأقيسة مشهورة وأنتم منهم أن صانع العالم ليس داخل العالم ولا خارجه، فكيف يوثق بالقياس؟ وكذلك ادعى قوم أن الجوهر لا يتناهى في التجزي، ونحن نعلم ان كل ما له طرفان وهو محصور بينهما فهو متناهي، وكل جسم فله طرفان وهومحصور بينهما فهو إذن متناهي.

وادعى قوم أنه يتناهى إلى جزء لا ينقسم، ونحن نعلم أن كل جوهر بين جوهرين فإنه يلاقي أحدهما بغير ما يلاقي به الآخر، فإذن فيه شيئان متغايران وهذا القياس أيضا قطعي كالأول بلا فرق ومثاله أيضا ما نعمل بالضرورة من أن الثقيل لا يقف في الهواء، وقد قال جماعة أن الأرض واقفة في الهواء والهواء محيط بها والناس معتمدون عليها من الجوانب، حتى أن الواقفين على نقطتين متقابلتين من كرة الأرض تتقابل أخمص أقدامهما، ونحن بالضرورة نعلم ذلك؛ فهذا وأمثاله يدل على أن المقاييس ليست تورث الثقة واليقين، فنقول كما أن الأول شك نشأ من الجهل بصورة القياس فهذا نشأ من الجهل بمادة القياس، وهي المقدمات الصادقة اليقينية والفرق بينها وبين غيرها. فمهما سلم ما لا يجب أن يسلم لزم منه لا محالة نتائج متناقضة.

فأما الأول من هذه الأمثلة فهو قياس ألف من مقدمات وعظيمة خطابية، إذ أخذ فيه شيء واحد ووجد على وجه فحكم به على الجميع.

ونحن قد بينا ان الحكم على الجميع بجزئيات كثيرة ممتنع فكيف الحكم بجزئي واحد، بل إذا كثرت الجزئيات لم تفد إلا الظن، ثم لا يزال يزداد الظن قوة بكثرة الأمثلة ولكن لا ينتهي إلى العلم.

وأما الثاني فمؤلف من مقدمات مشهورة جدلية سلم بعضها من حيث استبشع نقيضها، إما لما فيه من مخالفة الجماهير وإما لما فيه من مخالفة ظاهر لفظ القرآن، وكم من إنسان يسلم الشيء لأنه يستقبح منعه أو لأنه ينفر وهمه عن قبول نقيضه، وقد نبهنا على هذا في المقدمات. وموضع المنع فيه وصف الله بالرحمة على الوجه الظاهر الذي فهمه العامة، والله تعالى مقدس عنه، بل لفظ الرحمة والغضب مؤول في حقه كلفظ النزول والمجيء وغيرها، فإذا أخذ بالظاهر وسلم لا عن تحقيق لزمت النتيجة الكاذبة، وكونه رحيما بالمعنى الذي تفهمه العامة مقدمة ليست أولية، وليس يدل عليها قياس بالشرط المذكور، فمحل الغلط ترك التأويل في مجل وجوبه، وعلىهذا ترى تناقض أكثر أقيسة المتكلمين، فإنهم ألفوها من مقدمات مسلمة لأجل الشهرة أو لتواضع المتعصبين لنصرة المذاهب عليها من غير برهان، ومن غير كونها أولية واجبة التسليم.

وأما الثالث فاليقين والصحيح انه فعل إرادي، وقول من قال: لو كان إراديا لما كان يحصل في النوم ولكنه يحصل فيه فليس بإرادي، فهو شرطي متصل إستثنى فيه نقيض التالي واستنتج نقيض المقدم، فصورة القياس صحيحة ولكن لزوم التالي للمقدم غير مسلم، فإن الفعل الإرادي قد يحصل في النوم فكم من نائم يمشي خطوات مرتبة ويتكلم بكلمات منظومة، وقوله: لو كان إراديا لقدر على الإمتناع منه في كل وقت، فغير مسلم بل يأكل الإنسان ويبول بالإرادة ولا يقدر على الإمتناع في كل وقت، لكن يقدر علىالإمتناع في الجملة لا مقيدا بكل وقت، فإن قيد بكل وقت كان كاذبا ولم يسلم لزوم التالي للمقدم.

وأما الرابع وهو أن كل موجود فأما متصل بالعالم أو منفصل، فهي مقدمة وهمية ذكرنا وجه الغلط فيها وميزنا الوهميات، وبينا أنها لا تصلح أن تجعل مقدمات في البراهين، وهو منشأ الضلال أيضا في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ ولكن ذكر الموضع الذي يغلط الوهم فيه طويل يستقصى في كتاب غير هذا الكتاب. وأما الخامس وهووقوف الأرض في الهواء فلا استحالة فيه، وقول القائل: كل ثقيل فمائل إلى أسفل، والأرض ثقيلى فينبغي أن تميل إلى أسفل، ومن ذلك يلزم أن تخرق الهواء ولا تقف، غلط منشأه إهمال لفظ الأسفل وأنه ما معناه، فغن الأسفل يقابله أعلى فلا بد من جهتين متقابلتين، وتقابل الجهتين إما أن يكون بالإضافة إلى رأس الآدمي ورجله حتى لو لم يكن آدمي لم يكن أسفل ولا أعلى ولو انتكس آدمي لصار جهة الأسفل أعلى وهو محال، وإما أن يكون الأسفل هو أبعد المواضع عن الفلك المحيط وهنوالمركز، والأعلى هو أقرب المواضع إلى المحيط، فإن صح هذا فالأرض إذا كانت في المركز فهي في أسفل سافلين، فلا يتصور أن تنتقل لأن أسفل سافلين غاية البعد عن المحيط وهوالمركز، ومهما جاوزت المركز في أي جانب كان، فارقت الأسفل إلى جهة الأعلى، فإن كان المعنى بالأسفل هذا فما ذكروه ليس بمحال، وأن كان المعنى بالأعلى والأسفل ما يحاذي جهة رأسنا وقدمنا فما ذكروه محالن فتأمل جدا حد الأسفل حتى يتبين لك أحد الأمرين، وإنما تعرف ذلك بالنظر في حقيقة الجهة وأنها بم تتحد أطرافها المتقابلة، ولا يمكن شرحه في هذا الكتاب. فإذن هذه الأغاليط نشأت من تسليم مقدمات ليست واجبة التسليم، ومثاراتها قد جرى التنبيه عليها، فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره.

القسم الثالث: شكوك تتعلق بالنتيجة من وجه وبالمقدمة من وجه.

منها قولهم: هذه النتائج إن حصلت من المقدمات فالمقدمات بماذا تحصل، وإن حصلت من مقدمات أخرى وجب التسلسل إلى غير النهاية وهو محال، وإن كانت حصلت من المقدمات التي تفتقر إلى مقدمات فهل هي علوم حاصلة في ذهننا منذ خلقنا، أو حصلت بعد أن لم تكن؟ فإن كانت حاصلة منذ خلقنا فكيف كانت حاصلة ولا نشعر بها، إذ ينقضي على الإنسان أطول عمره ولا يخطر بباله أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، فكيف يكون العلم بكونها متساوية حاصلا في ذهنه، وهو غافل عنه؟ وإن لم تكن حاصلة فينا أول الأمر ثم حدثت فكيف حدث علم لم يكن بغير اكتساب، وتقدم مقدمة يحصل بها وكل علم مكتسب فلا يمكن إلا بعلم قد سبق ويؤدي إلى التسلسل؟ قلناك كل علم مكتسب فبعلم قد سبق اكتسب، إذ العلم إما تصور أو تصديق، والتصور بالحد وأجزاء الحد ينبغي أن تعلم قبل الحد، فماذا ينفع قولنا في تحديد الخمر: إنه شراب مسكر معتصر من العنب لمن لا يعرف الشراب والمسكر والعنب والمعتصر؟ فالعلم بهذه الأجزاء سابق، ثم هي أيضا إن عرفت بالتحديد وجب أن يتقدمها علم بأجزاء الحد ويتسلسل، ولكن ينتهي إلى تصورات هي أوائل عرفت بالمشاهد بحس باطن أو ظاهر من غير تحديد، وعليها ينقطع.

وكذلك التصديق بالنتيجة فإنه يستدعي تقدم العلم بالمقدمات لا محالة، وكذا المقدمات إلى ان يرتقي إلى أوائل حصل التصديق بها لا بالبرهان، فيبقى قولهم: إن تلك الأوائل كيف كانت موجودة فينا ولا نشعر بها أو كيف حصلت بعد أن لم تكن من غير اكتساب ومتى حصلت؟ فنقول: تيك العلوم غير حاصلة بالفعل فينا في كل حال، ولكن إذا تمت غريزة العقل فتيك العلوم بالقوة لا بالفعل، ومعناه أن عندنا قوة تدرك الكليات المفردات بإعانة من الحس الظاهر والباطن، وقوة مفكرة حادثة للنفس شأنها التركيب والتحليل وتقدر على نسبة المفردات بعضها إلى بعض، وعندنا قوة تدرك ما أوقعت القوة المفكرة النسبة بنيهما من المفردات والنسبة بينهما بالسلب والإيجاب، فتدرك القديم والحادث وتنسب أحدهما إلى الآخر، فتسبق القوة العاقلة إلى الحكم بالسلب، وهو أن القديم لا يكون حادثا، وتنسب الحيوان إلى الإنسان فتقضي بأن النسبة بينهما الإيجاب، وهو أن الإنسان حيوان.

وهذه القوة تدرك بعض هذه النسب من غير وسط، ولا تدرك بعضها فتتوقف إلى الوسط، كما تدرك العالم والحادث والنسبة بينهما، فلا تقضي بالسلب كما قضت بين القديم والحادث، ولا يالإيجاب كما قضت في الحيوان والإنسان، بل تتوقف إلى طلب وسط وهو أن تعرف انه لا يفارق الحوادث فلا يسبقها، وإن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. فإن قيل: فهذه التصديقات قسمتموها إلى ما يعرف بوسط وإلى ما يعرف معرفة اولية بغير وسط، ولكن هذه التصديقات يسبقها التصورات لا محالة، إذ لا يعلم أن العالم حادث من لم يعلم الحادث مفردا والعالم مفردا، ولا يعلم الحادث إلا من علم وجودا مسبوقا بعدم، ولا يعلم الوجود المسبوق بعدم من لا يعلم العدم والوجود والتقدم والتأخر، وإن التقدم هنا هو للعدم والتأخر للوجود؛ فهذه المفردات لا بد من معرفتها، وإما مدركها فغن كان هذا الحس فالحس لا يدرك إلا شخصا واحدا فينبغي أن لا يكون التصديق إلا في شخص واحد، فإذا رأى شخصا وجملته اعظم من جزئه فلم يحكم بأن كل شخص فكله أعظم من جزئه، وهو لم يشاهد بحسه إلا شخصا معينا، فليحكخم على ذلك الشخص المعين وليتوقف في سائر الأشخاص إلى المشاهدة، وإن حكم على العموم بان كل فهو أعظم من الجزء، فمن أين له هذا الحكم وحسه لم يدرك إلا شخصا جزئيا؟ قلنا الكليات معقولة لا محسوسة والجزئيات محسوسة لا معقولة، والأحكام الكلية للعقل على الكليات المعقولة، وينكشف هذا بالفرق بين المعقول والمحسوس، فإن الإنسان معقول وهو محسوس يشاهد في شخص زيد مثلا، ونعني بكونه مدركا من وجهين أن الإنسان المحسوس قط لا يتصور أن يحس إلا مقرونا بلون مخصوص وقدر مخصوص ووضع مخصوص وقرب او بعد مخصوص، وهذه الأمور عرضية مقارنة للإنسانية ليست ذاتية فيها، فإنها لو تبدلت لكان الإنسان هو ذلك الإنسان. فأما الإنسان المعقول فهو إنسان فقط، يشترك فيه الطويل والقصير والقريب والبعيد والأسود والبيض والأصغر والأكبر إشتراكا واحدا، فإذن عندك قوة يحضرها الإنسان مقترنا بامور غريبة عن الإنسانية، ولا يتصور أن تحضرها إلامقرونة بهذه الأمور الغريبة فتسمى تلك القوة حسا وخيالا، وعندك قوة أخرى يحضرها الإنسان مجردا عن الأمور الغريبة، وإن فرضت أضدادها لم تؤثر فيه وتسمى تلك قوة عاقلة، فقد ظهر لك أن بين إدراك الحس للشخص المعين الذي تكتنفه أعراض غريبة لا تدخل في ماهيته، وبين إدراك العقل بمجرد ماهية الشيء غير مقرون بما هو غريب عنه، غاية التباعد والأحكام الكلية على الماهية الكلية المجردة عن المواد والأعراض الغريبة.

فإنقيل: وكيف حصل بمشاهدة شخص جزئي علم كلي؟ وكيف أعان الحس على تحصيل ما ليس بمحسوس؟ قلنا: الحس يؤدي إلى القوة الخيالية مثل المحسوسات وصورها حتى يرى الإنسان شيئا، ويغمض عينيه فيصادف صورة الشيء حاضرة عنده على طبق المشاهد، حتى كأنه ينظر إليه بالقوة الخيالية غير قوةالحس، وليست هذه القوة لكل الحيوانات بل من الحيوانات ما تغيب صورة المحسوس عنه بغيبة المحسوس، وإنما بقاء هذه الصور بالقوة الحافظة لما انطبع في الخيال، إذ ليس يحفظ الشيء ما يقبله بالقوة التي تقبله إذ الماء يقبل النقش ولا يحفظه، والشمع يقبل ويحفظ، فالقبول بالرطوبة والحفظ باليبوسة. ثم هذه المثالات والصور إذا حصلت في القوة الخيالية، فالقوة الخيالية تطالعها ولا تطالع المحسوسات الخارجة، فإذا طالعتها وجدت عندها مثلا صورة شجرة وحيوان وحجر، فتجدها متفقة في الجسمية ومختلفة في الحيوانية، فتميز ما فيه الإتفاق وهو الجسمية وتجعله كليا واحدا، فتعقل الجسم المطلق وتأخذ ما فيه الإختلاف وهوالحيوانية وتجعله كليات اخرى مجردة عن غيرها من القرائن، ثم تعرف ما هو ذاتي وماهوغريب فتعلم أن الجسمية للحيوان ذاتي، إذ لو انعدم لانعدم ذاته، وأن البياض للحيوان ليس كذلك فيتميز عندها الذاتي من غير الذاتي والأعم عن الأخص، وتكون تلك مبادي التصورات النوعية؛ فهذه المفردات الكلية حاصلة بسبب الإحساس وليست محسوسة، ولا يتعجب من أن يحصل مع الإحساس ما ليس بمحسوس، فإن هذا موجود للبهائم إذ الفارة تميز السنور وتدركه بالحس وتعرف عداوته لها، والسخلة تدرك موافقة أمها لها فتتبعها. والعداوة او الموافقة ليست بمحسوس بل هي مدرك قوة عند الحيوان تسمى الوهم أو المميز، وهي للحيوان كالعقل من الجزئيات الخيالية مفردات كلية تناسب الخيال من وجه وتفارق من وجه، وسنبين وجه مناسبته له ومفارقته في كتاب أحكام الوجود وأقسامه. وحاصل الكلام أن العلوم الأول بالمفردات تصورا وبما لها من النسب تصديقا، تحدث في النفس من الله تعالى أو من ملك من ملائكته عند حصول قوة العقل للنفس، وعند حصول مثل المحسوسات في الخيال ومطالعته لها، والقوة العقلية كأنها القوة الباصرة في العين ورؤية الجزئيات الخيالية كتحديق البصر إلى الأجسام المتلونة، وإشراق نور الملك على النفوس البشرية يضاهي إشراق نور السراج على الأجسام المتلونة أو إشراق نور الشمس عليها، وحصول العلم بنسبة تلك المفردات يضاهي حصول الأبصار بائتلاف ألوان الأجسام، ولذلك شبه الله تعالى هذا النور على طريق ضرب مثال محسوس بمشكاة فيها مصباح، وإن بان لك أن النفس جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا هو منطبع في جسم كان قوله تعالى: (زيتونَةٍ لا شَرقِيَةٍ وَلا غَربِيَة) موافقة لحقيقته في براءته عن الجهات كلها، وإن لم يبين لك ذلك بطريق النظر فيكون تأويل هذا مثيل على وجه آخر. والمقصود من هذا كله أن يتضح لك وجه حصول العلوم الأولية تصورا وتصديقا، فإن معرفة ذلك من أهم الأمور وإياه قصدنا، وإن أوردناه في معرض إبطال السفسطة فهذا مدخل واحد من مداخل المتشككين وأهل الحيرة وقد كشفناه.

ومنها قولهم: أن الطريق الذي ذكرتموه في الإنتاج لا ينتفع به، لأن من علم المقدمات على شرطكم فقد عرف النتيجة مع تلك المقدمات، بل في المقدمات عين النتيجة، فإن من عرف أن الإنسان حيوان وأن الحيوان جسم، فيكون قد عرف في جملة ذلك أن الإنسان جسم، فلا يكون العلم بكونه جمسا علما زائدا مستفادا من هذه المقدمات. قلنا: العلم بالنتيجة علم ثابت زائد على العلم بالمقدمتين. وأما مثال الإنسان والحيوان فلا نورده إلا للمثال المحض، وإنما ينتفع بهب فيما يمكن أن يكون مطلوبا مشكلا، وليس هذا من هذا الجنس بل يمكن أن لا يتبين للإنسان النتيجة، وإن كان كل واحدة من المقدمتين بينة عنده فقد يعلم الإنسان أن كل جسم مؤلف، وأن كل مؤلف حادث، وهو مع ذلك غافل عن نسبة الحدوث إلى الجسم، وأن الجسم حادث فنسبة الحدوث إلى الجسم غير نسبة الحدوث إلى المؤلف، وغير نسبة المؤلف إلى الجسم بل هو علم حادث يحصل عند حصول المقدمتين وإحضارهما معا في الذهن، مع توجه النفس نحو طلب النتيجة.

فإن قال قائل: إذا عرفت ان كل اثنين زوج فهذا الذي في يدي زوج أم لا؟ فإن قلت: لا أدري فقد بطل دعواك بأن كل إثنين زوج، فإنه إثنان ولم تعرف أنه زوج، وإن قلت أعرفه فما هو؟ قلنا: قد يجاب عن هذا بأن من قال أن كل اثنين زوج فيعني به أن كل إثنين نعرفه إثنين فهو زوج، وما في يدك لم نعرف أنه إثنان.

وهذا الجواب فاسد بل كل إثنين فهو في نفسه زوج، سواء عرفناه أو لم نعرفه، لكن الجواب أن نقول: إن كان ما في يدك إثنين فهو زوج. فإن قلت: فهل هو إثنان فأقول: لا أدري. وهذا الجهل لا يضاد قولي إن كل اثنين زوج، بل ضده أن أقول: كل إثنين ليس بزوج أو بعض الإثنين ليس بزوج. فإذن ينبغي أن نتعرف أنه هل هو بزوج أو بعض الإثنين ليس بزوج. فإذن ينبغي أن نتعرف أنه هل هو إثنان، فإن عرفنا أنه إثنان علمنا انه زوج، وأخطرنا ذلك بالبال ويتصور أن تغفل عن النتيجة مع حضور المقدمتين، فكم من شخص ينظر إلى بغلة منتفخة البطن فيظن أنها حامل. ولو قيل له: أما تعلم أن هذه بغلة؟ فيقول: نعم. ولو قيل له: أما تعلم أن البغل لا يحمل؟ لقال: نعم. فلو قيل: فلم غفلت عن النتيجة وظننت ضدها؟ فيقول: لأني كنت غافلا عن تأليف المقدمتين وإحضارهما جميعا في الذهن متوجها إلى طلب النتيجة؛ فقد انكشف بهذا أن النتيجة، وإن كانت داخلة تحت المقدمات بالقوة دخول الجزئيات تحت الكليات، فهي علم زائد عليها بالفعل. ومنها قول بعض المتشككين: أنك لو طلبت بالتأمل علما فذلك العلم تعرفه أم لا، فإن عرفته فلم تطلبه وإن لم تعرفه فإن حصلته فمن أين تعلم أنه مطلوبك؟ وهل أنت إلا كمن يطلب عبدا آبقا لا يعرفه فإن وجده لم يعرف أنه هو أم لا؟ فنقول: العلم الذي نطلبه نعرفه من وجه ونجهله من وجه إذ نعرفه بالتصور بالفعل ونعرفه بالتصديق بالقوة، ونريد أن نعرفه بالتصديق بالفعل، فإنا إذا طلبنا العلم بأن العالم حادث فنعلم الحدوث والعالم بالتصور، وإنا قادرون على التصديق به إن ظهر حد أوسط بين العالم والحدوث، كمقارنة الحوادث أو غيرها؛ فإنا نعلم أن المقارن للحوادث حادث، فإن علمنا ان العالم مقارن للحوادث علمنا بالفعل أنه حادث، وإذا علمناه عرفنا أنه مطلوبنا إذ لو لم نعرفه بالتصور من قبل لما عرفنا أنه المطلوب، ولو كنا نصدق به بالفعل لما كنا نطلبه كالعبد الآبق نعرفه بالتصور والتخيل من وجه ونجهل مكانه، فإذا أدركه الحس في مكانه دفعة علمنا أنه المطلوب، ولو لم نكن نعرفه لما عرفناه عند الظفر به، فلو عرفناه من كل وجه أي عرفنا مكانه لما طلبناه؛ فهذا ما أردنا أن نورده من الشبه المشككة المحيرة للسوفسطائية، ولم يكن الغرض في إيراده مناظرتهم بل الكشف عن هذه الدقائق.

فإن طالب اليقين بمسالك البراهين ينتفع بمعرفتها غاية الإنتفاع، وإلا فالسوفسطائي كيف يناظر ومناظرته في نفسه إعتراف بطريق النظر، ولا ينبغي أن يتعجب من إعتقاد السفسطة والحيرة مع وضوح المعقولات، فإن ذلك لا يتفق إلا على الندور لمصاب في عقله بآفة؛ فإنا نشاهد جماعة من أرباب المذاهب هم السوفسطائية والناس غافلون عنهم، فكل من يناظر في إيجاب التقليد أو إبطال النظر سوفسطائي في الزجر عن النظر لا مستند لهم، إلا أن العقول لا ثقة بها والإختلاف فيها كثيرة، فسلوك طريق الأمن وهو التقليد أولى.

فإذا قيل لهم: فهل قلدتم صدق نبيكم وتميزون بينه وبين الكاذب أم تقليدكم كتقليد اليهود والنصارى، فإن كان كتقليدهم فقد جوزتم كونكم مبطلين وهذا كفر عندكم، وإن لم تجوزوه فتعرفونه بالضرورة أو بنظر العقل، فإن عرفتموه بالنظر فقد أثبتم النظر. وقد اختلف الناس في هذا النظر وهو تصديق الأنبياء كمااختلفوا في سائر النظريات.

وفي إثبات صدق الأنبياء بالمعجزات من الأغوار والأغماض ما لا يكاد يخفى على النظار، وبهذا الإعتقاد صاروا أخس رتبة من السوفسطائي فإنهم مثبتون بإنكار النظر ونافون إذ أثبتوا النظر في معرفة صدق النبي.

وأما السوفسطائي فقد طرد قياسه في إنكار المعرفة الكلية، ومن هذا الجنس باطنية الزمان فإنهم خدعوا بكثرة الإختلافات بين النظار، ودعوا إلى اعتقاد بطلان نظر العقل ثم دعوا إلى تقليد أمامهم المعصوم.

وإذا قيل لهم: بماذا عرفتم عصمة أمامكم وليس يمكن دعوى الضرورة فيه؟ دعوا فيه إلى أنواع من النظر يشترك إستعمالها في الظنيات، ولا تعرض على الإثنين إلا ويختلفان فيها، ولا يستدلون بكونه نظريا واقعا في محل الإختلاف على بطلانه، ويحكمون على سائر النظريات بالبطلان لتطرق الخلاف فيها، وهذا وأمثاله سبب آفات تصيب العقل فيجري مجرى الجنون، ولكن لا يسمى جنونا والجنون فنون،والذين ينخدعون بأمثال هذه الخيالات هم أخس من أن نشتغل بمناظرتهم؛ فلنقتصر على ما ذكرناه في بيان أسباب الحيرة، والله اعلم.

النظر الرابع في لواحق القياس

وهي فصول متفرقة بمعرفتها تتم معرفة البراهين

فصل في الفرق بين قياس العلة وقياس الدلالة

إعلم أن الحد الأوسط إن كان علة للحد الأكبر سماه الفقهاء قياس العلة، وسماه المنطقيون برهان اللم أي ذكر ما يجاب به عن لم، وإن لم يكن علة سماه الفقهاء قياس الدلالة. والمنطقيون سموه برهان اأن أي هو دليل على أن الحد الأكبر موجود للأصغر من غير بيان علته. ومثال قياس العلة من المحسوسات قولك: هذه الخشبة محترقة لأنها أصابتها النار، وهذا الإنسان شبعان لأنه أكل الآن. وقياس الدلالة عكسه وهو أن يستدل بالنتيجة على المنتج فنقول: هذا شبعان فإذا هو قريب العهد بالأكل، وهذه المرأة ذات لبن فهي قريبة العهد بالولادة. ومثاله من الفقه قولك: هذه عين نجسة فإذن لا تصح الصلاة معها، وقياس الدلالة عكسه وهو أن نقول هذه عين لا تصح الصلاة معها فإذن هي نجسة. وبالجملة الإستدلال بالنتيجة على المنتج يدل على وجوده فقط لا على علته، فإنا نستدل بحدوث العالم على وجود المحدث، وبوجود الكتابة المنظومة على علم الكاتب، ونجعل الكتابة حدا أوسط والعلم حدا أكبر، ونقول كل من كتب منظوما فهو عالم بالكتابة، والكتابة ليست علة للعلم بل العلم أولى بأن نقدر عليته. وكذلك إذا تلازمت نتيجتان بعلة واحدة جاز أن يستدل بإحدى النتيجتين على الأخرى فيكون قياس دلالة. ومثاله من الفقه قولنا: إن الزنا لا يوجب المحرمية فلا يوجب حرمة النكاح، فإن تحريم النكاح وحل النظر متلازمان، وهما نتيجتان للوطء المقتضي لحرمة المصاهرة، فإذا ثبت تلازمهما لعلة واحدة دل وجود إحداهما على وجود الأخرى، فإن اختلف شرطهما لم يمكن الإستدلال لإحتمال افتراقهما في الشرط، وكما انقسم قياس الدلالة إلى نوعين فقياس العلة أيضا ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون الأوسط فيه علة للنتيجة ولا يكون علة لوجود الأكبر في نفسه، كقولنا: كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم. فالإنسان إنما كان جسما من قبل أنه حيوان والجسمية أولا للحيوان، ثم بسببه للإنسان، فإذا الحيوان علة لحمل الجسم على الإنسان لا لوجود الجسمية، فإن الجسمية تتقدم بالذات في ترتيب الأنواع والأجناس على الحيوان.

واعلم أن ما ثبت للنوع من حمل الجنس عليه، وكذا جنس الجنس، وكذا الفصول والحود واللوازم إنما تكون من جهة الجنس، ويكون الجنس علة في حمله على النوع لا في وجود ذات المحمول أعني محمول النتيجة.
والقسم الثاني: ما يكون علة لوجود الحد الأكبر على الإطلاق لا كهذا المثال، وقد لا يكون على الإطلاق كالشيء الذي له علل متعددة، فإن آحاد العلل لا يمكن أن تجعل علة للحد الأكبر مطلقا، بل هي علة في وقت مخصوص ومحل مخصوص، ومثاله في الفقه؛ إن العدوان علة للتأثيم على الإطلاق، والزنا علة للرجم على الإطلاق، والردة ليست علة للقتل على الإطلاق، فإن القتل يجب على سبيل القصاص وغيره، ولكن تكون علة للقتل في حق شخص مخصوص، وذلك لا يخرجه عن كونه قياس العلة.

فصل في بيان اليقين

البرهان الحقيقي ما يفيد شيئا لا يتصور تغيره، ويكون ذلك بحسب مقدمات البرهان فإنها تكون يقينية أبدية، لا تستحيل ولا تتغير أبدا، وأعني بذلك أن الشيء لا يتغير وأن غفل إنسان عنه كقولنا: الكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية وأمثالها، فالنتيجة الحاصلة منها أيضا تكون يقينية، والعلم اليقيني هو أن تعرف أن الشيء بصفة كذا مقترنا بالتصديق بأنه لا يمكن ان لا يكون كذا، فإنك لو أخطرت ببالك إمكان الخطأ فيه والذهول عنه لم ينقدح ذلك في نفسك أصلا، فإن إقترن به تجوز الخطأ وإمكانه فليس بيقيني؛ فهكذا ينبغي أن تعرف نتائج البرهان، فإن عرفته معرفة على حد قولنا فقيل لك خلافه حكاية عن أعظم خلق الله مرتبة وأجلهم في النظر والعقليات درجة، وأورث ذلك عندك احتمالا، فليس اليقين تاما، بل لو نقل عن نبي صادق نقيضه فينبغي أن يقطع بكذب الناقل أو بتأويل اللفظ المسموع عنه، ولا يخطر ببالك إمكان الصدق، فإن لم يقبل التأويل فشك في نبوة من حكى عنه بخلاف ماعقلت إن كان ما عقلته يقينا فإن شككت في صدقه لم يكن يقينك تاما. فإن قلت: ربما ظهر لي برهان صدقة ثم سمعت منه ما يناقض برهانا قامعندي. فأقول: وجود هذا يستحيل كقول القائل لو تناقضت الأخبار المتواترة فما السبيل فيها كما لو تواتر وجود مكة وعدمها؟ فهذا محال، فالتناقض في البراهين الجامعة للشروط التي ذكرناها محال، فإن رأيتها متناقضة فاعلم أن أحدهما أو كلاهما لم يتحقق فيه الشروط المذكورة فتفقد مظان الغلط والمثارات السبع التي فصلناها، وأكثر الغلط يكون في المبادرة إلى تسليم مقدمات البرهان على أنها أولية ولا تكون أولية، بل ربما تكون محمودة مشهورة أو وهمية، ولا ينبغي أن تسلم المقدمات ما لم يكن اليقين فيها على الحد الذي وصفناه. وكما يظن فيما ليست أولية أنها أولية فقد يظن بالأوليات أنها ليست أولية فيشكك فيها، ولا يتشكك في الأوليات إلا بزوال الذهن عن الفطرة السليمة، لمخالطة بعض المتكلمين المتعصبين للمذاهب الفاسدة بمجاحدة الجليات حتى تأنس النفس بسماعها فيشك في اليقيني، كما أنه قد يتكرر على سمعه ما ليس يقينا من المحمودات فتذعن للتصديق به وتظن أنه يقيني بكثرة سماعه، وهذا أعظم مثارات الغلط ويعز في العقلاء من يحسن الإحتراز من الإغترار به.

فإن قلت فمثل هذا اليقين عزيز يقل وجوده فتقل به المقدمات.

قلنا: ما يتساعد فيه الوهم والعقل من الحسابيات والهندسيات والحسيات كثير، فيكثر فيها مثل هذه اليقينيات، وكذا المعقولات التي لا تحاذيها الوهميات فأما العقليات الصرفة المتعلقة بالنظر في الإلهيات ففيها بعض مثل هذه اليقينيات، ولا يبلغ اليقين فيها إلى الحد الذي ذكرناه إلا بطول ممارسة العقليات، وفطام العقل عن الوهميات والحسيات وإيناسها بالعقليات المحضة، وكلما كان النظر فيها أكثر والجد في طلبها أتم كانت المعارف فيها إلى حد اليقين التام أقرب، ثم من طالت ممارسته وحصلت له ملكة بتلك المعارف لا يقدر على إفحام الخصم فيه ولا يقدر على تنزيل المسترشد منزلة نفسه، بمجرد ذكر ما عنده إلا بأن يرشده إلى أن يسلك مسلكه في ممارسة العلوم وطول التأمل حتى يصل إلى ما وصل إليه إن كان صحيح الحدس ثاقب العقل صافي الذكاء، وإن فارقه في الذكاء أو في الحدس أو تولي الإعتبار الذي تولاه لم يصل إلى ما وصل إليه، وعند ذلك يقابل ما يحكيه عن نفسه بالإنكار ويشتغل بالتهجين والإستبعاد، وسبيل العارف البصير أن يعرض عنه صفحا بل لا يبث إليه أسرار ما عنده، فإن ذلك أسلم لجانبه وأقطع لشغب الجهال، فما كل ما يرى يقال بل صدور الأحرار قبور الأسرار.

فصل في أمهات المطالب

إعلم أن المطلوبات من العلوم بالسؤال عنها أربعة أقسام بسبب إنتساب كل واحد إلى الصيغة التي بها يسأل عنه: الأول: مطلب "هل" وهذا السؤال أعني صيغة هل، يتوجه نحو طلب وجود الشيء في نفسه كقولنا: الله موجود وهل الخلاء موجود؟ أو نحو وجود صفة أو حال لشيء كقولنا: هل الله مريد وهل العالم حادث؟ فيسمى الأول مطلب هل مطلقا والثاني مطلب هل مقيدا.


والثاني: مطلب "ما" ويعرف به التصور دون التصديق، وذلك إما بحسب الإسم كقولك: ما الخلاء وما عنقاء مغرب؟ أي ما الذي تريد باسمه؟ وهذا يتقدم كل مطلب فإن من لم يفهم معنى العالم والحدوث لا يمكن أن يسأل: هل العالم موجود؟ ومن لم يتصور معنى الدال لا يمكنه أن يسأله عن وجود. وإما أن يكون الطلب بحسب حقيقة الذات كقولك: ما الإنسان وما العقار؟ وأنت تطلب به حده إذا عرفت أن المراد باسم العقار هو الخمر، وهذا يتأخر عن مطلب "هل" فإن من لا يعتقد للخمر وجودا لا يسأل عن حده.

والثالث: مطلب "لم" وهو طلب العلة لجواب هل كقولك: لم كان العالم حادثا؟ وهو إما طلب علة التصديق كقولك: لم قلت أن الله موجود؟ فإنه لا يطلب العلة في وجوده بل العلة في وقوع التصديق بوجوده، وهو برهان الآن بلغة المنطقيين، وقياس الدلالة بلغة المتكلمين، وإما طلب علة الوجود كقولك لم حدث العالم؟ فنقول: لإرادة محدثة.

والرابع مطلب: "أي" وهو الذي يطلب به تميز الشيء عما عداه، فهذه أمهات المطالب والأسئلة. فأما مطلب "أين ومتى وكيف" فليست من الأمهات فإنها داخلة بالقوة تحت مطلب "هل" المقيد إن وقع التفطن له بالسؤال بصيغة هل، وإن لم يقع كانت مطالب خارجة عما عددناها.

فصل في بيان معنى الذاتي والأولي

أما الذاتي فيطلق على وجهين:أحدهما أن يكون المحمول مأخوذا في حد الموضوع مقوما له داخلا في حقيقة كقولنا: الإنسان حيوان، فيقالك الحيوان ذاتي للإنسان أي هو مقوم له كما سبق بيانه. وإما أن يكون الموضوع مأخوذا في حد المحمول كقولنا: بعض الحيوان إنسانن فإن المحمول هو الإنسان ههنا لا الحيوان، والإنسان لا يؤخذ في حد الحيوان بل الحيوان يؤخذ في حد الإنسان، فكل شيئين لا يؤخذ أحدهما في حد الآخر فليس أحدهما ذاتيا للآخر. وقد يمثل بالفطوسة في الأنف فإنه ذاتي للأنف بالمعنى الأخير، إذ لا يمكن تحديد الفطوسة إلا بذكر الأنف في حده.

وأما الأولى فإنه يقال أيضا على وجهين: أحدهما ما هو أولي في العقل أي لا يحتاج في معرفته إلى وسط كقولنا: الإثنان أكثر من الواحد. والثاني أن يكون بحيث لا يمكن إيجاب المحمول أو سلبه على معنى آخر أعم من الموضوع؟ فإذا قلنا: الإنسان يمرض ويصح، لم يكن أوليا له بهذا المعنى إذ يقال على ما هو أعم منه وهو الحيوان: نعم هو للحيوان أولى، لأنه لا يقال على ما هو أعم منه، وهو الجسم؛ وكذلك قبول الإنتقال للحيوان ليس بأولى إذ يقال على ماهو أعم منه وهو الجسم، فإنه لو إرتفع الحيوان بقي قبول الإنتقال، ولو ارتفع الجسم لم يبق.

فصل فيما يلتئم به أمر البراهين

وهي ثلاثة: مبادي وموضوعات ومسائل. فالموضوعات نعني بها ما يبرهن فيها، والمسائل ما يبرهن عليها، والمبادي ما يبرهن بها. والمراد بالمبادي المقدمات، وقد ذكرناها.


وأما الموضوعات فهي الأمور التي توضع في العلوم وتطلب أعراضها الذاتية، أعني الذاتية بالمعنى الثاني من المعنيين المذكورين، ولكل علم موضوع: فموضوع الهندسة المقدار، وموضوع الحساب العدد، وموضوع لنحو لغة العرب منجهة ما يختلف إعرابها، وموضوع الفقه أفعال المكلفين من جهة ما ينهى عنها أو يؤمر بها أو يباح أو يندب أو يكره، وموضوع أصول الفقه أحكام الشرع، أعني الوجوب والحظر والإباحة من جهة ما تدرك به من أدلتها، وموضوع المنطق تمييز المعقولات وتلخيص المعاني.

وأما المسائل فهي القضايا الخاصة بكل علم، التي يطلب المعرفة في العلوم بأحد طرفيها: إما النفي وإما الإثبات كقولنا في الحساب: هذا العدد إمازوج او فرد، وفي الهندسة: هذا المقدار مساو أو مباين، وفي الفقه: هذا الفعل حلال أوحرام أو واجب، وفي العلم الإلهي: هذا الموجود قديم أو حادث وهذا الموجود له سبب أو ليس له سبب.

والمقصود أن محمول المسائل إن كان مطلوبا بالنظر فلا يجوز أن يكون ذاتيا للموضوع بالمعنى الأول، لأنه إذا كان كذلك كان معلوما قبل العلم بالموضوع، فإن الحيوان الذي هو ذاتي للإنسان بمعنى أنه وجد في حده لا يجوز أن يكون مطلوبا فغن من عرف الإنسان فقد عرف كونه حيوانا قبله لا محالة، فإن أجزاء الحد يتقدم العلم بها على العلم بالمحدود، ولكن الذاتي بالمعنى الثاني وهو المطلوب، وأما كل محمول ليس المعنى الثاني ولا بالمعنى الأول فإنه يسمى غريبا كقولنا في الهندسة عند النظر في الخطوط: هذا الخط حسن أو قبيح، لأن الحسن والقبح لا يؤخذ في حد الخط ولا الخط في حده، بل الذاتي لذاته مستقيم أو منحني وأمثاله. وكذا قولنا في الطب: هذا الجرح مستدير أو مربع، فإنه محمول غريب للجرح إذ لا يؤخذ واحد منهما في حد الآخر، وإنما هو ذاتي للأشكال.

وقد يكون المحمول ذاتيا للموضوع بالمعنى الثاني، ولكن يكون غريبا بالإضافة إلى العلم الذي يستعمل فيه كقولنا في الفقه: هذه الحركة سريعة أو بطيئة، فإن السرعة والبطء ذاتي للحركة، ولكن إنما يطلب في العلم الطبيعي، والمطلوب في الفقه ذاتي آخر وهو كونه واجبا أو محظورا أو مباحا.

وإذا قلنا في العلم الطبيعي: هذا الفعل حلال أو حرام كان غريبا من العلم. فإن قيل: فهل يجوز أن يكون المحمول في المقدمتين ذاتيا بالمعنى الأول؟ قلنا: لا، لأنه إن كان كذلك تكون النتيجة معلومة، فإذا قلنا: الإنسان حيوان والحيوان جسم فالإنسان جسم، كان العلم بالنتيجة غير مطلوب فإن منعرف الإنسان فقد عرف جميع أجزاء حده وهو الجسم والحيوان.

نعم لا يبعد أن لا يكون كل واحد ذاتيا بالمعنى الثاني، بل إن كان أحدهما ذاتيا بالمعنى الثاني كفى، سواء كان هي الصغرى أو الكبرى. فإن قيل: فلم قلتم أن الذاتي بالمعنى الأول لا يكون مطلوبا، ونحن نطلب العلم بأن النفس جوهر أم لا، والجوهرية للنفس ذاتية إذ منعرف النفس فيعرف كونه جوهرا إن كان جوهرا؟ قلنا: من عرف النفس لم يتصور منه طلب كونه جوهرا، إذ معرفة جوهريته سابقة على المعرفة به، لكنا إذا طلبنا أن النفس جوهر أم لا لم يكن عرفنا من النفس إلا أمرا عارضا له وهو المحرك والمدرك، ويكون ذلك مثل الأبيض للثلج، والمطلوب جنس المعروض له وهو غير مقوم لماهية العارض، أعني الجوهرية ليس مقوما للمدرك والمحرك تقويم الذاتيات، وكذلك كلما حصل عندنا خياله أو إسمه لا حقيقته، أمكن أن نطلب جنس ذلك حصل لنا إسمه أو خياله، فأما على غير هذا الوجه فلا يمكن.

فصل في حل شبهة في القياس الدوري

فإن قال قائل: فلم قضيتم ببطلان البرهان الدوري؟ ومعلوم أنه إذا سأل الإنسان عن الأسباب والمسببات على ما أجرى الله سنته بإرتباط البعض منها بالبعض ففيها ما يرجع بالدور إلى الأول إذ يقال: لم كان السحاب؟ فيقال: لأنه كان بخارا فكثف وانعقد. فقيل: لم كان البخار؟ فيقال: لأن الأرض كانت ندية فأثر الحر فيها فتبخرت أجزاء الرطوبة وتصعدت. فقيل: ولم كانت الأرض ندية؟ فقيل: لأنه كان مطر. فقيل: ولم كان المطر؟ فقيل: لأنه كان سحاب. فرجع بالدور إلى السحاب فكأنه قيل: لم كان السحاب؟ فقلت: لأنه كان سحاب. والدوري باطل سواء كان الحد المتكرر تخلله واسطة أو وسائط، أو لم يتخلل فنقول: ليس هذا هو الدوري الباطل، إنما الباطل أن يؤخذ الشيء في بيان نفسه بعينه بأن يقال: لم كان هذا السحاب؛ فيعلل بما يرجع بالآخرة إلى التعليل بهذا السحاب بعينه؛ فأما أن يرجع إلى التعليل بسحاب آخر فالعلة غير المعلول بالعدد، إلا أنه مساو له في النوع، ولا يبعد أن يكون سحاب بعينه علة لسحاب آخر بواسطة ترطيب الأرض، ثم تصعد البخار ثم انعقاده سحابا آخر.

فصل فيما يقوم فيه البرهان الحقيقي

إعلم أن البرهان الحقيقي ما يفيد اليقين الضروري الدائم الأبدي الذي يستحيل تغييره كعلمك بان العالم حادث وأن له صانعا، وأمثال ذلك مما يستحيل ان يكون بخلافه على الأبد، إذ يستحيل أن يحضرنا زمان نحكم فيه على العالم بالقدم أوعلى الصانع بالنفي.

فأما الأشياء المتغيرة التي ليس فيها يقين دائم فهي جميع الجزئيات التي في العالم الأرضي وأقربها إلى الثبات الجبال، وإذا قلت: هذا الجبل ارتفاعه كذا، لم يكن الحاصل علما أبديا لأن المقدمة الصغرى ليس اليقين فيها دائما، إذ ارتفاع الجبل يتصور تغيره، وكذا عمق البحار ومواضيع الجزائر، فهذه أمور لا تبقى فكيف علمك يكون زيد في الدار. وأمثال ذلك مما يتعلق بالأحوال الإنسانية العارضة لا كقولنا: الإنسان حيوان والحيوان جسم والإنسان لا يكون في مكانين في حالة واحدة، وأمثال ذلك فإن هذه يقينيات دائمية أبدية لا يتطرق إليها التغير حتى قال بعض المتكلمين: العلم من جنس الجهل، وأراد به هذا الجنس من العلم. فإنك إذا علمت بالتواتر مثلا أن زيدا في الدار، فلو فرض دوام هذا الإعتقاد في نفسك وخروج زيد لكان هذا الإعتقاد بعينه قد صار جهلا، وهذاالجنس لا يتصور في اليقينيات الدائمة. فإن قيل: هل يتصور إقامة البرهان على ما يكن وقوعه أكثريا أو اتفاقيا؟ قلنا: أما الأكثري من الحدود الكبرى فلها لا محالة علل اكثيرة، فتلك العلل إذا جعلت حدودا وسطى أفادت علما وظنا غالبا. أما العلم فبكونه أكثريا غالبا فإنا إذا عرفنا من مجاري سنة الله تعالى أن اللحية إنما تخرج لاستحصاف البشرة ومتانة النجار، فإن عرفنا بكبر السن استحصاف البشرة ومتانة النجار حكمنا بخروج اللحية أي حكمنا بأن الغالب الخروج، وأن جهة الخروج غالبة على الجهة الأخرى، وهذا يقيني فإن ما يقع غالبا فلمرجح لا محالة، ولكن بشرط خفي لا يطلع عليه، ويكون فوات ذلك الشرط نادرا، ولذلك نحكم حكما يقينيا بأن من تزوج امرأة شابة ووطئها، فالغالب أن يكون له ولد، ولكن وجود الولد بعينه مظنون وكون الوجود غالبا على الجملة مقطوعبه، ولذلك نحكم في الفقهيات الظنية بأن العمل عند ظهور الظن واجب قطعا، فيكون العمل مظنونا ووجود الحكم مظنونا، ولكن وجوب العمل قطعي إذ علم بدليل قطعي إقامة الشرع غالب الظن مقام اليقين في حق وجوب العمل، فكون الحكم مظنونا لم يمنعنا من القطع بما قطعنا به. وأما الأمور الإتفاقية كعثور الإنسان في مشيه على كنز فمهما لا يمكن أن يحصل به ظن ولا علم، إذ لو أمكن تحصل ظن بوجوده لصار غالبا أكثريا وخرج عن كونه إتفاقيا فقط.

نعم يمكن إقامة البرهان على كونه اتفاقيا فقط، وقد اصطلح المنطقيون على تخصيص إسم البرهان بما ينتج اليقين الكلي الدايم الضروري، فإن لم تساعدهم على هذا الإصطلاح أمكنك أن تسمي جميع العلوم الحقيقية برهانية إذا جمعت المقدمات الشروط التي مضت، وأن ساعدتهم على هذا، فالبرهاني من العلوم العلم بالله وصفاته وبجميع الأمور الأزلية التي لا تتغير كقولنا: الإثنان أكثر من الواحد؛ فإن هذا صادق في الأزل، والأبد والعلم بهيئة السموات والكواكب وإبعادها ومقاديرها وكيفية مسيرها يكون برهانيا عند من رأى أنها أزلية لا تتغير، ولا تكون برهانية عند أهل الحق الذين يرون أن السموات كالأرضيات في جواز تطرق التغير إليها.

وأما ما يختلف بالبقاع والأقطار كالعلوم اللغوية والسياسية إذ يختلف بالإعصار والملل، وكالأوضاع الفقهية الشرعية من تفصيل الحلال والحرام فلا يخفى أنها لا تكون من البرهانيات على هذا الإصطلاح. والفلاسفى يزعمون أن السعادة الأخروية لا معنى لها إلا بلوغ النفس كمالها الذي يمكن أن يكون لها، وإن كمالها في العلوم لا في الشهوات، ولما كانت النفس باقية أبدا كانت نجاتها وسعادتها في علوم صادقة أبدا كالعلم بالله وصفاته وملائكته، وترتيب الموجودات وتسلسل الأسباب والمسببات.

فأما العلوم التي ليست يقينية دائمة فإن طلبت لم تطلب لذاتها، بل للتوصل بها إلى غيرها، وهذا محل لا ينكشف إلا بنظر طويل، لا يحتمل هذا الكتاب استقصاؤه بل محل بيانه العلوم المفصلة.

فصل في أقسام العلة

العلة تطلق على أربعة معاني: الأول ما منه بذاته الحركة وهو السبب في وجود الشيء كالنجار للكرسي والأب للصبي. الثاني المادة وما لا بد من وجوده لوجود الشيء مثل الخشب للكرسي ودم الطمث والنطفة للصبي. والثالث الصورة وهي تمام كل شيء وقد تسمى علة صورية كصورة السرير من السرير وصورة البيت للبيت.

الرابع الغاية الباعثة أولا المطلوب وجودها آخرا كالكن للبيت والصلوح للجلوس من السرير.

واعلم أن كل واحد من هذه يقع حدودا وسطى في البراهين إذ يمكن أن يذكر كل واحد في جواب لم. أما مبدأ الحركة فمثاله من المعقولات أن يقال: لم حارب الأمير فلانا؟ فيقال: لأنه نهب ولايته، أكرهه السلطان عليه. ومثاله من الفقه أن يقال: لم قتل هذا الشخص؟ فيقال: لأنه زنى أوارتد، فيكون الزنا مبدأ هذا الأمر وهو الذي تسميه الفقهاء في الأكثر سببا، وأما المادة فمثالها من المعقول أني قال: لم يموت الإنسان؟ فتقول: لأنه مركب من أمور متنافرة من الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة المتنازعة المتنافرة. ومثاله من الفقه أن يقال: لم انفسخ القراض والوكالة بالموت والإغماء؟ فتقول: لأنه عقد ضعيف جائز لا لزوم له، وهذه علة ماديةإذ يرد الفسخ على العقد ورود الموت على الإنسان عند جريان سبب هومبدأ الأمر في الموت والفسخ جميعا. وأما الصورة فبها قوام الشيء إذ السرير سرير بصورته لا بخشبه، والإنسان إنسان بصورته لا بجسمه، والأشياء هيآتها بالصور لا بالمواد، فلا يخفى كون القوام بها فإنه إذا قيلك لم صارت هذه النطفة إنسانا وهذا الخشب سريرا؟ فيقال: بحصول صورة الإنسانية وحصول صورة السريرية. وأما الغاية التي لأجلها الشيء فمثالها من المعقول أن يقال: لم عرضت الأضراس؟ فيقال: لأنها يراد بها الطحن. ولم قاتلوا الطبقة الفلانية؟ فيقال: ليسترقوهم. وفي الفقه يقال: لم قتل الزاني والمرتد والقاتل؟ فيقال: للزجر عن الفواحش. وهذه العلل الأربع تجتمع في كل ما له علة، وكذا في الأحكام الفقهية، والفقهاء ربما سموا المادة محلا والفاعل الذي هو كالنجار والأب أهلا، والغاية حكما، فإذا فرض النكاح فالزوج أهل والبضع محل والحل غاية وصيغة العقد كأنها الصورة، وما لم تجتمع هذه الأمور لا يتم للنكاح وجود، ولذلك قيل: النكاح الذي لا يفيد الحل لا وجود له، وكذا البيع الذي لا يفيد الملك فإن وجود الغاية لا بد منه،وكونها معقولا باعثا شرط قبل الوجود، وكونها موجودة بالفعل واجب بعد الوجود، ومهما قدر الفاعل والمادة موجودا لم يلزم وجود الشيء في كل حال كالنجار والخشب والأب والنطفة والبايع والمبيع، ومهما وجدت الغاية بالفعل لزم وجود الشيء كالحل في النكاح والصلوح للإكتنان والجلوس في البيت، والشيء بهذه الجهات الأربع يختلف في هذا المعنى، ثم كل واحدة من هذه العلل إما بعيدة كإسلام المرأة للزوج عند ملك الزوج نصف الصداق، فإنه علة الصداق، والصداق هوالعلة القريبة للتسليم، وإما بالقوة كالإسكار للخمر قبل الشرب، وإما بالفعل كما في حال الشرب، وإما خاصة كالزنا للرجم، وإما عامة كالجناية للرجم أو العقوبة، وأما بالذات وهو المسمى علة عند الفقهاء كالزنا للرجم، وإما بالعرض كالإحصان له وهو الذي يسمى شرطا، فإن الرجم لا يجب إلا بالإحصان، وهي خصال كمال ولكن يعمل عمل العلة عنده، كما لو أرسلت الدعامة من تحت السقف فنزل فيقال نزوله بعلة الثقل، ولكن عند إشالة الدعامة فإن للهوى شرطا، وهو فراغ جهة الأسفل عن جسم صلب لا ينخرق. وأمثلة هذا في المعقولات كثيرة، فلذلك اقتصرنا على الأمثلة الفقهية، والمقصود أن المعلل في الفقه والمعقول إذا توجهت المطالبة عليه بالعلة، ينبغي أن يذكر العلة الخاصة القريبة التي بالفعل حتى تقطع المطالبة بلم، وإلا فيكون الطلب قائما.