الكتاب الثالث: كتاب الحد

والنظر في هذا الكتاب يحصره فنان: الأول فيما يجري من الحد يجري القوانين الكلية.

والثاني في الحدود المفصلة.

الفن الأول في قوانين الحدود وفيه فصول الأول

في بيان الحاجة إلى الحد، وقد قدمنا أن العلم قسمان: أحدهما علم بذوات الأشياء ويسمى تصورا.

والثاني: علم بنسبة تلك الذوات بعضها إلى بعضها بسلب أو إيجاب ويسمى تصديقا. وأن الوصول إلى التصديق بالحجة والوصول إلى التصور التام بالحد، فإن الأشياء الموجودة تنقسم إلى أعيان شخصية كزيد ومكة وهذه الشجرة، وغلى أمور كلية كالإنسان والبلد والشجر والبر والخمر، وقد عرفت الفرق بين الكلي والجزئي؛ وغرضنا في الكليات إذ هي المستعمل في البراهين، والكلي تارة يفهم فهما جمليا كالمفهوم من مجرد إسم الجملة وسائر الأسماء والألقاب للأنواع والأجناس،وقد يفهم فهما مخلصا مفصلا محيطا بجميع الذاتيا التي بها قوام الشيء، متميزا عنغيره في الذهن تميزا تاما، ينعكس على الإسم وينعكس عليه الإسم كما يفهم من قولنا شراب مسكر معتصر من العنب، وحيوان ناطق مايت، وجسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة متغذي؛ فإن هذه الحدود يفهم بها الخمر والإنسان والحيوان، فهما أشد تلخيصا وتفصيلا وتحقيقا وتمييزا مما يفهم من مجرد أساميها، وما يفهم الشيء هذا الضرب من التفهيم يسمى حدا، كما أن ما يفهم الضرب الأول من التفهيم يسمى إسما ولقبا. والفهم الحاصل من التحديد يسمى علما مخلصا مفصلا، والعلم الحاصل بمجرد الإسم يسمى علما جمليان وقد يفهم الشيء مما يتميز به عن غيره بحيث ينعكس على إسمه وينعكس الإسم عليه، ويتميز لا بالصفات الذاتية المقومة التي هي الأجناس والأنواع والفصول، بل بالعوارض والخواص فيسمى ذلك رسما كقولنا في تمييز الإنسان عن غيره: إنه الحيوان الماشي برجلين، العريض الأظفار، الضحاك، فإن هذا يميزه عن غيره كالحد، وكقولك في الخمر: إنه المائع المستحيل في الدن الذي يقذف بالزبد إلى غير ذلك من العوارض التي إذا جمعت لم توجد إلا للخمر، وهذا إذا كان أعم من الشيء المحدود بأن يترك بعض الإحترازات سمي رسما ناقصا، كما أن الحد إذا ترك فيه بعض الفصول الذاتية فيكون سمي حدا ناقصا، ورب شيء يعسر الوقوف على جميع ذاتياته أولا يلفى لها عبارة فيعدل إلى الإحترازات العرضية بدلا عن الفصول الذاتية فيكون رسما مميزا، قائما مقام الحد في التمييز فقط لا في تفهيم جميع الذاتيات؛ والمخلصون إنما يطلبون منالحد تصور كنه الشيء وتمثل حقيقته في نفوسهم، لا لمجرد التمييزن ولكن مهما حصل التصور بكماله تبعه التمييز، ومن يطلب التمييز المجرد يقتنع بالرسم فقد عرفت ما ينتهي إليه تأثير الإسم والحد والرسم في تفهيم الأشياء، وعرفت إنقسام تصور الأشياء إلى تصور له بمعرفة ذاتياته المفصلة وإلى تصور له بمعرفة أعراضه، وإن كل واحد منهما قد يكون تاما مساويا للإسم في طرفي الحمل، وقد يكون ناقصا فيكون أعم من الإسم.

واعلم أن أنفع الرسوم في تعريف الأشياء أن يوضع فيه الجنس القريب أصلا ثم تذكر الأعراض الخاصة المشهورة فصولا، فإن الخاصة الخفية إذا ذكرت لم تفد التعريف على العموم، فمهما قلت في رسم المثلث إنه الشكل الذي زواياه تساوي قائمتين لم تكن رسمته إلا للمهندس، فإذن الحد قول دال على ماهية الشيء، والرسم وهو القول المؤلف من أعراض الشيء وخواصه التي تخصه جملتها بالإجتماع وتساويه.

الفصل الثاني

في مادة الحد وصورته

قد قدمنا أن كل مؤلف فله مادة وصورة كما في القياس، ومادة الحد الأجناس والأنواع والفصول، وقد ذكرناها في كتاب مقدمات القياس.

وأما صورته وهيئته فهو أن يراعى فيه إيراد الجنس الأقرب ويردف بالفصول الذاتية كلها، فلا يترك منها شيءس، ونعني بإيراد الجنس القريب أن لا نقول في حد الإنسان" جسم ناطق مائت، وإن كان ذلك مساويا للمطلوب بل نقول: حيوان، فإن الحيوان متوسط بين الجسم والإنسان، فهو أقرب إلى المطلوب من الجسم، ولانقول في حد الخمر: إنه مائع مسكر، بل نقول: شراب مسكر؛ فإنه أخص من المائع وأقرب منه إلى الخمر، وكذلك ينبغي أن يورد جميع الفصول الذاتية على الترتيب، وإن كان التمييز يحصل ببعض الفصول. وإذا سئل عن حد الحيوان فقال: جسم ذو نفس حساس له بعد متحرك بالإرادة، فقد أتى بجميع الفصول ولو ترك ما بعد الحساس لكان التمييز حاصلا به، ولكن لا يكون قد تصور الحيوان بكمال ذاتياته، والحد عنوان المحدود فينبغي أن يكون مساويا له في المعنى، فإن نقص بعض هذه الفصول سمي حدا ناقصا، وإن كان التمييز حاصلا به وكان مطردا منعكسا في طريق الحمل، ومهما ذكر الجنس القريب وأتى بجميع الفصول الذاتية فلا ينبغي أن يزيد عليه.

ومهما عرفت هذه الشروط في صورة الحد ومادته عرفت ان الشيء الواحد لا يكون له إلا حد واحد، وأنه لا يحتمل الإيجاز والتطويل، لأن إيجازه بحذف بعض الفصول وهو نقصان، وتطويله بذكر حد الجنس القريب بدل الجنس بكقولك في حد الإنسان: إنه جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة ناطق مائت، فذكر حد الحيوان بدل الحيوان وهو فضول يستغنى عنه، فإن المقصود إن يشتمل الحد على جميع ذاتيات الشيء إما بالقوة وإما بالفعل. ومهما ذكر الحيوان فقد اشتمل على الحساس والمتحرك والجسم بالقوة أي على طريق التضمن، وكذلك قد يوجد الحد للشيء الذي هو مركب من صورة ومادة بذكر أحدهما كما يقال في حد الغضب: إنه غليان دم القلب، وهذا ذكر المادة، ويقال: إنه طلب الإنتقام، وهذا هو ذكر الصورة بل الحد التام أن يقال هو غليان دم القلب لطلب الإنتقام. فإن قيل: فلو سهى ساهي او تعمد متعمد فطول الحد بذكر حد الجنس القريب بدل الجنس القريب، أوزاد على بعض الفصول الذاتية شيئا من الأعراض واللوازمن او نقص بعض الفصول فهل يفوت مقصود الحد كما يفوت مقصود القياس بالخطأ في صورته؟ قلنا: الناظرون إلى ظواهر الأمور ربما يستعظمون الأمر في مثل هذا الخطأ، والأمر أهون مما يظنون مهما لاحظ الإنسان مقصود الحد، لأن المقصود تصور الشيء بجميع مقوماته مع مراعاة الترتيب بمعرفة الأعم والأخص، بإيراد الأعم أولا وإردافه بالأخص الجاري مجرى الفصول، وإذا حفظ ذلك فقد حصل العلم التصوري المفصل المطلوب.

أما النقصان بترك بعض الفصول فإنه نقصان في التصور. وأما زيادة بعض الأعراض فلا يقدح فيما حصل من التصور الكامل، وقد ينتفع به في بعض المواضع في زيادة الكشف والإيضاح. وأما إبدال الذاتيات باللوازم والعرضيات فذلك قادح في كمال التصور، فليعلم مبلغ تأثير كل واحد في المقصود، ولا ينبغي أن يجمد الإنسان على الرسم المعتاد المألوف في كل أمره وينسى غرضه المطلوب، فأذن مهما عرف جميع الذاتيات على الترتيب حصل المقصود، وأن زيد شيء من الأعراض أو أخذ حد الجنس القريب بدل الجنس.

الفصل الثالث

في ترتيب طلب الحد بالسؤال، والسائل عن الشيء بقوله: ما هو؟ لا يسأل إلا بعد الفراغ عن مطلب هل، كما أن السائل بلم لا يسأل إلا بعد الفراغ عن مطلب هل، فإن سأل عن الشيء قبل اعتقاد وجوده وقال: ما هو؟ رجع إلى طلب شرح الإسم، كقول القائل: ما الخلا وما الكيميا؟ وهو لا يعتقد لهما وجودا، فإذا اعتقد الوجود كان الطلب متوجها إلى تصور الشيء في ذاته. وترتيبه أن يقول ما هو مشيرا إلى نخلة مثلا، فإذا أجاب المسؤول بالجنس القريب وقال شجرة، لم يقنع السائل به بل قرن بما ذكره صيغة أي وقال: أي شجرة هي؟ فإذا قال هي شجرة تثمر الرطب، فقد بلغ المقصود وانقطع السؤال إلا إذا لم يفهم معنى الرطب أو الشجر، فيعدل إلى صيغة ما ويقول: ما الرطب وما الشجر؟ فيذكر له جنسه وفصله فيقول: الشجر نبات قائم على ساق، فإن قال: ما الساق؟ فيذكر جنسه وفصله ويقول: هو جسم مغتذى نامي، فإن قال: ما الجسم؟ فيقول هو الممتد في الأقطار الثلاثة أي هو الطويل العريض العميق، وهكذا إلى أن ينقطع السؤال.

فإن قيل: فمتى ينقطع؟ فإن تسلسل إلى غير نهاية فهو محال، وإن تعين توقفه فهو تحكم. فنقول: لا يتسلل إلى غير نهاية بل ينتهي إلى أجناس وفصول تكون معلومة للسائل لا محالة، فإن تجاهل أبدا لم يمكن تعريفه بالحد لأن كل تعريف وتعرف فيستدعي معرفة سابقة، فلم يعرف صورة الشيء بالحد إلا من عرف أجزاء الحد من الجنس والفصل قبله، إما بنفسه لوضوحه وإما بتحديد آخر أن يرتقي إلى أوائل عرفت بنفسها، كما أن كل تعلم تصديقي بالحجة فبعلم قد سبق لمقدمات هي أولية لم تعرف بالقياس أو عرفت بالقياس، ولكن تنتهي بالآخرة إلى الأوليات، فآخر الحد يجري مجرى مقدمات القياس من غير فرق. والمقصود من هذا أن الحد يتركب لا محالة من جنس الشيء وفصله الذاتي ولا معنى له سواه، وما ليس له فصل وجنس فليس له حد، ولذلك إذا سئلنا عن حد الموجود لم نقد عليه، إلا أن يراد شرح الإسم فيترجم بعبارة أخرى عجمية أو تبدل في العربية بشيء، ولا يكون ذلك حدا بل هو ذكر إسم بدل إسم آخر مرادف له، فإذا سئلنا عن حد الخمر فقلنا: العقار، وعن حد العلم فقلنا: هو المعرفة، وعن حد الحركة فقلنا: هو النقلة، لم يكن حدا بل كان تكرار للأشياء المترادفة، ومن أحب أن يسميه حدا فلا حرج في الإطلاقات، ونحن نعني بالحد ما يحصل في النفس صورة موازية للمحدود مطابقة لجميع فصوله الذاتية. وإنما راعينا الفصول الذاتية لأن الشيء قد ينفصل عن غيره بالعرض الذي لا يقوم ذاته إنفصال الثوب الأحمر عن الأسود، وقد ينفصل بلازم لا يفارق إنفصال القار بالسواد عن الثلج وإنفصال الغراب عن الببغاء، وقد ينفصل بالذات إنفصال الثوب عن السيف وإنفصال ثوب من ابريسم عن درهم من قطن، ومن يسال عن ماهية الثوب طالبا حده فإنما يطلب الأمور التي بها قوام ثوبيته، لأنا لا نقوم الثوبية من اللون والطول والعرض فجوابه بما لا يقوم ذات الثوب مخل بالسؤال، فقد عرفت ان الحد مركب من الجنس والفصل، وأن ما لا يدخل تحت جنس حتى ينفصل عنه بفصل ما لا حدله مثل ما يذكر في معرض رسم أو شرح اسم، فتسميته حدا مخالف للتسمية التي اصطلحنا عليها فيكون الحد مشتركا له ولما ذكرناه.

الفصل الرابع

في أقسام ما يطلق عليه إسم الحد. والحد يطلق بالتشكيك على خمسة أشياء: الأول الحد الشارح لمعنى الإسم، ولا يلتفت فيه إلى وجود الشيء وعدمه، بل ربما يكون مشكوكا. ونذكر الحد ثم إن ظهر وجوده عرف أن الحد لم يكن بحسب الإسم المجرد وشرحه، بل هو عنوان الذات وشرحه.

الثاني بحسب الذات وهو نتيجة برهان.

والثالث ما هو بحسب الذات وهو مبدأ برهان.

والرابع ما هو بحسب الذات. والحد التام الجامع لما هو مبدأ برهان ونتيجة برهان، كما إذا سئلت عن حد الكسوف فقلت امحاء ضوء القمر لتوسط الأرض بينه وبين الشمس، فامحاء ضوء القمر هونتيجة برهان وتوسط الأرض المبدأ، فغنك في معرض البرهان تقول: متى توسطت الأرض فانمحى النور فيكون التوسط حدا أوسط فهو مبدأ برهان، وإلا انمحى حد أكبر فهونتيجة برهان، ولذلك يتداخل البرهان والحد، فإن العلل الذاتية من هذا الجنس تدخل في حدود الأشياء كما تدخل في براهينها، فكل ما له علة فلا بد من ذكر علته الذاتية في حده لتتم صورة ذاته، وقد تدخل العلل الأربعة في حد الشيء الذي له العلل الأربعة كقوله في حد القادوم: إنه ىلة صناعية من حديد، شكله كذا يقطع به الخشب نحتا؛ فقولك: آله، جنس وصناعية تدل على المبدأ الفاعل، والشكل يدل على الصورة، والحديد يدل على المادة، والنحت على الغاية، والشكل يدل على الصورة، والحديد يدل على المادة، والنحت على الغاية، وبه الإحتراز عن المثقب والمنشار إذ لا ينحت بهما. وقد يقتصر في الحد على نتيجة البرهان إذا حصل التمييز بها فيقال: حد الكسوف انمحاء ضوء القمر، فيسمى هذا حدا هو نتيجة برهان وإن اقتصر على العلة وقال: الكسوف هو توسط الأرض بين القمر وبين الشمس، وحصل به التمييز قيل حد مبدأ برهان، والحد التام المركب منهما.

القسم الخامس ما هو حد لأمور ليس لها علل وأسباب، ولو كان لها علل لكانت عللها غير داخلة في جواهرها كتحديد النقطة، والوحدة والحد، فإن الوحدة يذكر لها تعريف وليس للوحدة سبب، والحد يحد فإنه قول دال على ماهية الشيء، وللقول سبب فإنه حادث لا محالة لعلة لكن مسببه ليس ذاتيا له كانحاء ضوء القمر في الكسوف، فهذا الخامس ليس بمجرد شرح الإسم فقط، ولا هو مبدأ برهان، ولا هو مركب منهما؛ فهذه أقسام ما يطلق عليه إسم الحد، وقد يسمى الرسم حدا على أنه مميز فيكون ذلك وجها سادسا.

الفصل الخامس

في أن الحد لا يقتنص بالبرهان ولا يمكن إثباته به عند النزاع، لأنه إن أتيت بالبرهان افتقرت إلى حد أوسط مثل أن يقال مثلا: حد العلم المعرفة، فيقال: لم؟ فنقول: لأن كل علم اعتقاد، وكل اعتقاد معرفة، والمعرفة أكبر، وينبغي أن يكون الأوسط مساويا للطرفين إذ الحد هكذا يكون، وهذا محال لأن الأوسط عند ذلك له حالتان، وهما أن يكون حدا للأصغر أو رسما أو خاصة. الحالة الأولى أن يكون حدا وهو باطل من وجهين: أحدهما أن الشيء الواحد لا يكون له حدان تامان لأن الحد ما يجمع من الجنس والفصل، وذلك لا يقبل التبديل ويكون الموضوع حدا أوسط هو الأكبر بعينه لا غيره، وأن غايره في اللفظ وإن كان مغايرا له في الحقيقة لم يكن حدا للأصغر. الثاني أن الأوسط بم عرف كونه حدا للأصغر، فإن عرف بحد آخر فالسؤال قائم في ذلك الآخر، وذلك إما أن يتسلسل إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن يعرف بلا وسط فليعرف الأول بلا وسط إذا أمكن معرفة الحد بغير وسط.

الحالة الثانية أن لا يكون الأوسط حدا للأصغر بل كان رسما أو خاصة وهو باطل من وجهين: أحدهما إن ما ليس بحد ولا هو ذاتي مقوم كيف صار أعرف من الذاتي المقوم، وكيف يتصور أن تعرف من الإنسان أنه ضحاك أو ماش ولا يعرف أنه جسم وحيوان. الثاني أن الأكبر بهذا الأوسط إن كان محمولا مطلقا وليس بحد فليس يلزم منه إلا كونه محمولا للأصغر، ولا يلزمه كونه حدا، وإن كان حدا فهو محال إذ حد الخاصية والعرض لا يكون حد موضوع الخاصية والعرض، فليس حد الضاحك هوبعينه حد الإنسان، وإن قيل: إنه محمول على الأوسط على معنى انه حد موضوعه، فهذه مصادرة على المطلوب، فقد تبين أن الحد لا يكتسب بالبرهان. فإن قيل: بماذا يكتسب وما طريقه؟ قلنا: طريقه التركيب وهو أن نأخذ شخصا من أشخاص المطلوب حده بحيث لا ينقسم، وننظر من أي جنس من جملة المقولات العشر، فنأخذ جميع المحمولات المقومة لها التي في ذلك الجنس ولا يلتفت إلى العرض واللازم، بل يقتصر على المقومات ثم يحذف منها ماتكرر ويقتصر من جملتها على الأخير القريب، وتضيف إليه الفصل فإن وجدناه مساويا للمحدود من وجهين فهو الحدن ونعني بأحد الوجهين الطرد والعكس، والتساوي مع الإسم في الحمل. فمهما ثبت الحد انطلق الإسم، ومهما انطلق الإسم حصل الحد.

ونعني بالوجه الثاني المساواة في المعنى، وهو أن يكون دالا على كمال حقيقة الذات لا يشذ منها شيء، فكم من ذاتي متميز ترك بعض فصوله فلا يقوم ذكره في النفس صورة للمحدود مطابقة لكمال ذاته، وهذا مطلوب الحدود، وقد ذكرنا وجه ذلك. ومثال طلب الحد إنا إذا سئلنا عن حد الخمر فنشير إلى خمر معينة ونجمع صفاته المحمولة عليه، فنراه أحمر يقذف بالزبد، فهذا عرضي فنطرحه ونراه ذات رائحة حادة ومرطبا للشرب، وهذا لازم فنطرحه ونراه جسما أو مائعا وسيالا وشرابا مسكرا ومعتصرا من العنب، وهذه ذاتيات فلا تقول: جسم مائع سيال شراب لأن المائع يغني عن الجسم، فإنه جسم مخصوص والمائع أخص منه،ولا تقول مائع لأن الشراب يغني عنه ويتضمنه وهو أخص وأقربن فتأخذ الجنس الأقرب المتضمن لجميع الذاتيات العامة وهو شراب، فنراه مساويا لغيره من الأشربة فتفصله عنه بفصل ذاتي لا عرضي كقولنا: مسكر يحفظ في الدن أو مثله، فيجتمع لنا شراب مسكر فتنظر هل يساوي الإسم في طرفي الحمل، فإن ساواه فتنظر هل تركنا فصلا آخر ذاتيا لا تتم ذاته إلا به فإن وجد معنا ضممناه إليه كما إذا وجدنا في حد الحيوان إنه جسم ذو نفس حساس، وهو يساوي الإسم في الحمل، ولكن ثم فصل آخر ذاتي وهو المتحرك بالإرادة فينبغي أن تضيفه إليه؛ فهذا طريق تحصيل الحدود لا طريق سواه.

الفصل السادس

مثارات الغلط في الحدود وهي ثلاثة: أحدها في الجنس، والآخر في الفصل، والثالث مشترك. المثار الأول الجنس وهي من وجوه: فمنها أن يوضع الفصل بدل الجنس فيقال في العشق إنه إفراط المحبة، وإنما هو المحبة المفرطة فالمحبة جنس والإفراط فصل. ومنها أن توضع المادة مكان الجنس كقولك للسيف: إنه حديد يقطع، وللكرسي: إنه خشب يجلس عليه. ومنها أن تؤخذ الهيولي مكان الجنس كقولنا للرماد: إنه خشب محترق، فإنه ليس خشبا في الحال بل كان خشبا بخلاف الخشب من السرير فإنه موجود فيه على أنه مادة، وليس موجودا في الرماد، ولكن كان فصار شيئا آخر بتبدل صورته الذاتية، وهو الذي أردنا بالهيولي، ولك أن تعبر عنه بعبارة أخرى إن استبشعت هذه العبارة. ومنها أن تؤخذ الأجزاء بدل الجنس فيقال في حد العشرة، إنه خمسة وخمسة أو ستة وأربعة أو ثلاث وسبعة وأمثالها، وليس كذلك قولنا في الحيوان إنه جسم ونفس، لأن كون الجسم نفسا ما يرجع إلى فصل ذاتي له، فإن النفس صورة وكمال للجسم ولا كالخمسة للخمسة الأخرى. ومنها أن توضع الملكة مكان القوة كقولنا: العفيف هو القوي على إجتناب اللذات الشهوانية، وليس كذلك إذ الفاجر أيضا يقوى ولكنه يفعل، ولكن يكون ترك اللذات للعفيف بالملكة الراسخة وللفاجر بالقوة. وقد تشتبه الملكة بالقوة، وكقولك: إن القادر على الظلم هو الذي من شأنه وطباعه النزوع إلى انتزاع ما ليس له من يد غيره، فقد وضع الملكة مكان القوة لأن القادر على الظلم قد يكون عادلا لا ينزع طبعه إلىالظلم. ومنها ان يوضع النوع بدل الجنس فيقال: الشر هو ظلم الناس، والظلم أحد أنواع الشر، والشر جنس عام يتناول غير الظلم.

المثار الثاني من جهة الفصل وذلك بان يوضع ما هو جنس مكان الفصل، أو ما هو خاصة أو لازم او عرضي مكان الفصل، وكثيرا ما يتفق ذلك والإحتراز عنه عسر جدا.

المثار الثالث ما مشترك وهو على وجوه: فمنها أن يعرف الشيء بما هو أخفى منه كمن يحد النار بأنه جسم شبيه بالنفس والنفس أخفى من النار، أو يحده بما هو مثله في المعرفة كتحديد الضد بالضد مثل قولك الزوج ما ليس بفرد، ثم تقول الفرد ما ليس بزوج، أو تقول الزوج ما يزيد على الفرد بواحد، ثم تقول الفرد ما ينقص عن الزوج بواحد، وكذا إذا أخذ المضاف في حد المضاف. فتقول: العلم ما يكون الذات به عالما. ثم تقول: العالم منقام به العلم والمتضايفين يعلمان معا، ولا يعلم أحدهما بالآخر بل مع الآخر. فمن جهل العلم جهل العالم، ومن جهل الأب جهل الإبن، فمن القبيح أن يقال للسائل الذي يقول: ما الأب من له ابن، فإنه يقول: لو عرفت الإبن لعرفت الأب بل ينبغي أن يقال: الأب حيوان يوجد آخر من نوعه من نطفته من حيث هو كذلك، فلا يكون فيه تعريف الشيء بنفسه ولا حوالته على ما هو مثله في الجهالة. ومنها ان يعرف الشيء بنفسه أو بما هومتأخر عنه في المعرفة كقولك للشمس: كوكب يطلع نهارا، ولايمكن تعريف النهار إلا بالشمس، فإن معناه زمان طلوع الشمس فهو تابع للشمس فكيف يعرف؟ وكقولك في الكيفية: أن الكيفية ما بها تقع المشابهة وخلافها، ولا يمكن تعريف المشابهة إلا بأنها إتفاق في الكيفية، وربما يخالف المساواة فإنها إتفاق في الكمية، وتخالف المشاكلة فإنها اتفاق في النوع؛ فهذا وأمثاله مما يجب مراقبته في الحدود حتى لا يتطرق إليه الخطأ بإغفاله، وكان أمثلة هذا مما يخرج عن الحصر، وفيما ذكرنا تنبيه على الجنس.

الفصل السابع

في استقصاء الحد على القوة البشرية إلا عند غاية التشمير والجهد. فمن عرف ما ذكرناه في مثارات الإشتباه في الحد، عرف أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ عن كل ذلك إلا على الندور، وهي كثيرة وأعصاها على الذهن أربعة أمور: أحدها أنا شرطنا أن نأخذ الجنس الأقرب، ومن أين للطالب أن لا يغفل عنه فيأخذ جنسا يظن أنه أقرب، وربما يوجد ما هو أقرب منه فيحد الخمر بأنه مائع مسكر، ويذهل عن الشراب الذي هو تحته، وهو أقرب منه، ويحد الإنسان بأنه جسم ناطق مايت ويغفل عن الحيوان وأمثاله.

الثاني أنا إذا شرطنا أن تكون الفصول كلها ذاتية واللازم الذي لا يفارق في الوجود، والوهم مشتبه بالذاتي غاية الإشتباه، ودرك ذلك من أغمض الأمور فمن أين له أنلا يغفل فيأخذ لازخما بدل الفصل فيظن أنه ذاتي. الثالث أنه إذا شرطنا أن نأتي بجميع الفصول الذاتية حتى لا نخل بواحد، ومن أين نأمن من شذوذ واحد عنه لا سيما إذا وجد فصلا حصل به التمييز والمساواة للإسم في الحمل، كالجسم ذي النفس الحساس في مساواته لفظ الحيوان مع إغفال التحرك بالإرادة،وهذا من أغمض ما يدرك.

الرابع ان الفصل مقوم للنوع ومقسم للجنس، وإذا لم يراع شرط التقسيم أخذ في القسمة فصولا ليست أولية للجنس، وهو عسير غير مرضي في الحد، فإن الجسم كما ينقسم إلىالنامي وغير النامي انقساما بفصل ذاتي، فكذلك ينقسم إلى الحساس وغير الحساس وإلى الناطق وغير الناطق، ولكن مهما قيل الجسم ينقسم إلى ناطق وغير ناطق، فقد قسم بما ليس الفصل القاسم أوليا، بل ينبغي أن ينقسم أولا إلى النامي وغير النامي، ثم النامي ينقسم إلى الحيوان وغير الحيوان؛ ثم الحيوان إلى الناطق وغير. وكذلك الحيوان ينقسم إلى ذي رجلين وإلى ذي أرجل، ولكن هذا التقسيم ليس بفصول أولية، بل ينبغي أن يقسم لاحيوان إلىماشي وغير ماشي، ثم الماشي ينقسمب إلى ذي رجلين أو أرجل، إذ الحيوان لم يستعد للرجلين والأرجل باعتبار كونه حيوانا بل باعتبار كونه ماشيا،واستعد لكونه ماشيا باعتبار كونه حيوانا، فرعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحدود، وهو في غاية العسر، ولذلك لما عسر ذلك اكتفى المتكلمون بالمميز فقالوا: "الحد هو القول الجامع المانع" ولم يشترطوا فيه إلا التمييز فيلزم عليه الإكتفاء بذكر الخواص فيقال في حد الفرس: إنه الصهال، وفي الإنسان: إنه الضحاك وفي الكلب: إنه النباح. وذلك في غاية البعد عن غرض التعرف لذات المحدود. ولأجل عسر التحديد رأينا ان نورد جملة من الحدود المعلومة المحررة في الفن الثاني من كتاب الحد، وقد وقع الفراغ عن الفن الأول بحمد الله سبحانه وتعالى.

الفن الثاني في الحدود المفصلة

اعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها، لأن العلوم التصديقية غير متناهية، وهي تابعة للتصورية، فأقل ما يشتمل عليه التصديقي تصوران، وعلىالجملة فكل ما له إسم يمكن تحرير حده أو رسمه أو شرح اسمه، وإذا لم يكن في الإستقصاء مطمع فالأولى الإقتصار على القوانين المعرفة لطريقه، وقد حصل ذلك بالفن الأول، ولكن أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين: إحداهما أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه، فإن الإمتحان والممارسة للشيء تفيد لفائدتين: إحداهما أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه، فإن الإمتحان والممارسة للشيء تفيد قوة عليه لا محالة.

والثاني أن يقع الإطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة، وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم إصطلاحهم، وإذا لم يفهم ما أرادوه لا يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم إصطلاحهم، وإذا لم يفهمما أرادوه لا يمكن مناظرتهم، فقد أوردنا حدود ألفاظ أطلقوها في الإلهيات والطبيعيات وشيئا قليلا من الرياضيات، فليؤخذ هذه الحدود على أنها شرح للإسم، فإن قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا، وإلا اعتقد شرحا للإسم كما نقول: حدّ الجن حيوان هوائي ناطق مشف الجرم، من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة، فيكون هذا شرحا للغسم في تفاهم الناس.

فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالبرهان، فإن دل على وجوده كان حدا بحسب الذات، وإن لم يدل عليه بل دل على أن الجن المراد في الشرع الموصوف بوصفه أمر آخر، أخذ هذا شرحا للإسم في تفاهم الناس، وكما نقول في حد الخلا: إنه بعد يمكن ان يفرض فيه أبعاد ثلاثة، قائم لا في مادة، من شأنه أن يملأه جسم ويخلو عنه.
وربما يدل الدليل على أن ذلك محال وجوده، فيؤخذ على انه شرح للإسم في إطلاق النظار. وإنما قدمنا هذه المقدمة لتعلم أن ما نورده من الحدود شرحا لما أراده الفلاسفة بالإطلاق، لا حكم بأن ماذكروه هو ما ذكروه، فإن ذلك ربما يتوقف على النظر في موجب البرهان عليه.

والمستعمل في الإلهيات خمسة عشر لفظا وهو: الباري تعالى المسمة بلسانهم المبدأ الأول، والعقل، والنفس، والعقل الكلي، وعقل الكل، والنفس الكلية، ونفس الكل، والملك، والعلة، والمعلول، والإبداع، والخلق، والأحداث، والقديم. أما الباري عز وجل فزعموا أنه لا حد له ولا رسم له، لأنه لا جنس له ولا فصل له ولا عوارض تلحقه.

والحد يلتئم بالجنس والفصل والرسم بالجنس والعوارض الفاصلة، وكل ذلك تركيب ولكن له قول يشرح اسمه، وهو أنه الموجود الواجب الوجود الذي لا يمكن أن يكون وجوده من غيره، ولا يكون وجود لسواه إلا فايضا عن وجوده وحاصلا به إما بواسطة أو بغير واسطة، ويتبع هذا الشرح أنه الموجود الذي لا يتكثر لا بالعدد ولا بالمقدار ولا بأجزاء القوام كتكثر الجسم بالصورة والهيولي، ولا بأجزاء الحد كتكثر الإنسان بالحيوانية والنطق، ولابأجزاء الإضافة ولا يتغير لا في الذات ولا في لواحق الذات، وما ذكروه يشتمل على نفي الصفات ونفي الكثرة فيها، وذلك مما يخالفون فيه، فهذا شرح إسم الباري والمبدأ الأول عندهم.

وأما العقل فهو إسم مشترك تطلقه الجماهير والفلاسفة والمتكلمون على وجوه مختلفة لمعان مختلفة، والمشترك لا يكون له حد جامع. أما الجماهير فيطلقونه على ثلاثة أوجه: الأول يراد به صحة الفطرة الأولى في الناس، فيقال لمن صحت فطرته الأولى: إنه عاقل، فيكون حده إنه قوة بها يجود التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة.
الثاني يراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية، فيكون حده إنه معاني مجتمعة في الذهن تكون مقدمات يستنبط بها المصالح والأغراض.

الثالث معنى آخر يرجع إلى وقار الإنسان وهيئته، ويكون حده إنه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكناته وهيآته وكلامه واختياره، ولهذا الإشتراك يتنازع الناس في تسمية الشخص الواحد عاقلا فيقول واحد: هذا عاقل، ويعني به صحة الغريزة، ويقول الآخر: ليس بعاقل ويعني به عدم التجارب وهو المعنى الثاني.

وأما الفلاسفة فاسم العقل عندهم مشترك يدل على ثمانية معاني مختلفة: العقل الذي يريده المتكلمون، والعقل النظري، والعقل العملي، والعقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال. فأما الأول فهو الذي ذكره أرسطاليس في كتاب البرهان وفرق بينه وبين العلم، ومعنى هذا العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة، والعلم ما يحصل للنفس بالإكتساب، ففرقوا بين المكتب والفطري فيسمى أحدهما عقلا والآخر علما، وهو اصطلاح محض. وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به إذ قال القاضي أبو بكر الباقلاني في حد العقل: إنه علم ضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحالة المستحيلات كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحال كون الشخص الواحد في مكانين. وأما سائر العقول فذكرها الفلاسفة في كتاب النفس.

أما العقل النظري فهي قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية، وهي احتراز عن الحس الذي لا يقبل إلا الأمور الجزئية وكذا الخيال، وكأن هذا هو المراد بصحة الفطرة الأصلية عند الجماهير كما سبق. وأما العقل العملي فقوة للنفس هي مبدأ التحريك للقوة الشوقية إلى ما تختاره من الجزئيات، لأجل غاية مظنونة أو معلومة، وهذه قوة محركة ليس من جنس العلوم، وإنما سميت عقلية لأنها مؤتمرة للعقل مطيعة لإشاراته بالطبع، فكم من عاقل يعرف أنه مستضر باتباع شهواته، ولكنه يعجز عن المخالفة للشهوة لا لقصور في عقله النظري بل لفتور هذه القوة التي سميت العقل العملي، وإنما تقوى هذه القوة بالرياضة والمجاهدة والمواظبة على مخالفة الشهوات.

ثم للقوة النظرية أربعة أحوال: الأولى أن لا يكون لها شيء من المعلومات حاصلة، وذلك للصبي الصغير، ولكن فيه مجرد الإستعداد فيسمى هذا عقلا هيولانيا.

الثانية أن ينتهي الصبي إلى حد التمييز فيصير ما كان بالقوة البعيدة بالقوة القريبة، فإنه مهماعرض عليه الضروريات وجد نفسه مصدقا بها، لا كالصبي الذي هو ابن مهد، وهذا يسمى العقل بالملكة. الرابعة: العقل المستفاد، وهو أن تكون تلك المعلومات حاضرة في ذهنه وهو يطالعها ويلابس التأمل فيها، وهو العلم الموجود بالفعل الحاضر؛ فحد العقل الهيولاني أنه قوة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، وبها يفارق الصبي الفرس وسائر الحيوانات لا بعلم حاضر ولا بقوة قريبة من العلم، وحد العقل بالملكة أنه استكمال العقل الهيولاني حتى يصير بالقوة القريبة من الفعل، وحد العقل بالفعل إنه إستكمال للنفس بصور ما أي صور معقولة حتى متى شاء عقلها أو أحضرها بالفعل، وحد العقل المستفاد أنه ماهية مجردة عن المادة مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج.

وأما العقول الفعالة فهو نمط آخر، والمراد بالعقل الفعال كل ما هية مجردة عن المادة أصلا، فحد العقل الفعال أما من جهة ما هوعقل إنه جوهري صوري ذاته ماهية مجردة في ذاتها، لا بتجريد غيرها لها عن المادة وعن علائق المادة، بل هي ماهية كلية موجودة، فاما من جهة ما هو فعال فإنه جوهر بالصفة المذكورةن من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشرافه عليه، وليس المراد بالجوهر المتحيز كما يريده المتكلمون، بل ما هو قائم بنفسه لا في موضوع، والصوري احتراز عن الجسم وما في المواد. وقولهم "لا بتجريد غيره" احتراز عن المعقولات المرتسمة في النفس من أشخاص الماديات، فإنها مجردة بتجريد العقل إياها لا بتجردها في ذاتها. والعقل الفعال لمخرج لنفوس الآدميين في العلوم من القوة إلى العقل نسبته إلى المعقولات، والقوة العاقلة نسبة الشمس إلى المبصرات والقوة الباصرة، إذ بها يخرج الأبصار من القوة إلى الفعل، وقد يسمون هذه العقول الملائكة، وفي وجود جوهر على هذا الوجه يخالفهم المتكلمون، إذ لا وجود لقائم بنفسه ليس بمتحيز عندهم إلا الله وحده. والملائكة أجسام لطيفة متحيزة عند أكثرهم، وتصحيح ذلك بطريق البرهان وماذكرناه شرح الإسم.

وأما النفس فهو عندهم اسم مشترك يقع على معنى يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات، وعلى معنى آخر يشترك فيه الإنسان والملائكة السماوية عندهم، فحد النفس بالمعنى الأول عندهم أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، وحد النفس بالمعنى الآخر انه جوهر غير جسم، هو كمال أول للجسم محرك له بالإختيار عن مبدأ نطقي أي عقلي بالفعل أو بالقوة، فالذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية والذي بالفعل هو فصل أو خاصة للنفس الملكية. وشرح الحد الأول أن حبة البذر إذا طرحت في الأرض فاستعدت للنمو والإغتذاء فقد تغيرت عما كان عليه قبل طرحه في الأرض، وذلك بحدوث صفة فيه لو لم تكن لما استعد لقبولهما من واهب الصور، وهو الله تعالى وملائكته، فتلك الصفة كمال له فلذلك قيل في الحد: إنه كمال أول الجسم، ووضع ذلك موضع الجنس، وهذا يشترك فيه البذر والنطفة للحيوان والإنسان.

فالنفس صورة بالقياس إلى المادة الممتزجة، إذ هي منطبعة في المادة وهي قوة بالقياس إلى فعلها. وكمال بالقياس إلى النوع النباتي والحيواني ودلالة الكمال اتم من دلالة القوة والصورة، فلذلك عبر به في محل الجنس، والطبيعي احتراز عن الصناعي، فإن صور الصناعات أيضا كمال فيها، والآلي إحتراز عن القوى التي في العناصر الأربعة، فإنها تفعل لا بآلات بل بذواتها، والقوى النفسانية فعلها بآلات فيها، فغنها تفعل لا بآلات بل بذواتها، والقوى النفسانية فعلها بآلات فيها.

وقولهم "ذو حياة بالقوة" فصل آخر أي من شأنه أن يحيا بالنشو ويبقى بالغذاء، وربما يحيا بإحساس وحركة هما في قوته. وقولهم "كمال أول الإحتراز بالأول عن قوة التحريك والإحساس" فإنه أيضا كمال للجسم لكنه ليس كمالا أولا يقع ثانيا لوجود الكمال الذي هو نفس. وأما نفس الإنسان والإفلاك فليست منطبعة في الجسم، ولكنها كمال الجسم على معنى أن الجسم يتحرك به عن إختيار عقلي. أما الأفلاك فعلى الدوام بالفعل، وأما الإنسان فقد يكون بالقوة تحريكه. وأما العقلي الكلي وعقل الكل والنفس الكلي ونفس الكل، فبيانه أن الموجودات عندهم ثلاثة أقسام: أجسام وهي أخسها، وعقول فعالة وهي أشرفها لبراءتها عن المادة وعلاقة المادة، حتى أنها لا تحرك المواد أيضا غلا بالشوق، وأوسطها النفوس وهي التي تنفعل من العقل وتفعل في الأجسام، وهي واسطة، ويعنون بالملائكة السماوية نفوس الأفلاك فإنها حية عندهم وبالملائكة المقربين العقول الفعالة. والعقل الكلي يعنون به المعنى المعقول المقول على كثيرين مختلفين بالعدد من العقول التي لإشخاص الناس، ولا وجود لها في القوام بل في التصور، فإنك إذا قلت الإنسان الكلي أشرت به إلى المعنى المعقول من الإنسان الموجود في سائر الأشخاص، الذي هو للعقل صورة واحدة تطابق سائر أشخاص الناس، ولا وجود لإنسانية واحدة هي إنسانية زيد، وهي بعينها إنسانية عمرو، ولكن في العقل تحصل صورة الإنسان من شخص زيد مثلا، ويطابق سائر أشخاص الناس كلهم فيسمى ذلك الإنسانية الكلية، فهذا ما يعنون بالعقل الكلي.

وأما عقل الكل فيطلق على معنيين: أحدهما وهو الأوفق للفظ أن يراد بالكل جملة العالم، فعقل الكل على هذا المعنى بمعنى شرح اسمه أنه جملة الذوات المجردة عن المادة، من جميع الجهات التي لا تتحرك لا بالذات ولا بالعرض، ولا تحرك إلا بالشوق، وآخر رتبة هذه الجملة هي العقل الفعال المخرج للنفس الإنسانية في العلوم العقلية من القوة إلى الفعل، وهذه الجملة هي مبادي الكل بعد المبدأ الأول. والمبدأ الأول هو مبدع الكل، وأما الكل بالمعنى الثاني فهو الجرم الأقصى، أعني الفلك التاسع الذي يدور في اليوم والليلة مرة فيتحرك كل ما هو حشوه من السموات كلها، فيقال لجرمه جرم الكل، ولحركته حركة الكل، وهو أعظم المخلوقات، وهو المراد بالعرش عندهم.

فعقل الكل بهذا المعنى هو جوهر يجرد عن المادة من كل الجهات، وهو المحرك لحركة الكل على سبيل التشويق لنفسه ووجوده أول وجود مستفاد عن الأول، ويزعمون أنه المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فاقبل" الحديث إلى آخره. وأما النفس الكلي فالمراد به المعنى المعقول المقول على كثيرين مختلفين في العدد، في جواب ما هو التي كل واحدة منها نفس خاصة لشخص، كما ذكرنا في العقل الكلي.

ونفس الكل على قياس عقل الكل جملة الجواهر الغير الجسمانية التي هي كمالات مدبرة للأجسام السماوية المحركة لها على سبيل الإختيار العقلي. ونسبة نفس الكل إلى عقل الكل كنسبة أنفسنا إلى العقل الفعال. ونفس الكل هو مبدأ قريب لوجود الأجسام الطبيعية ومرتبته في نيل الوجود بعد مرتبة عقل الكل، ووجوده فايض عن وجوده. وحد الملك أنه جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير مائت، هو واسطة بين الباري عز وجل. والأجسام الأرضية فمنه عقلي ومنه نفسي؛ هذا حده عندهم. وحد العلة عندهم أنها كل ذات وجود ذات آخر إنما هو بالفعل من وجود هذا الفعل ووجود هذا بالفعل ليس من وجود ذلك بالفعل.

وأما المعلول هو كل ذات وجوده بالفعل من وجود غيره، ووجود ذلك الغير ليس من وجوده، ومعنى قولنا من وجوده غير معنى قولنا مع وجودهن فإن معنى قولنا من وجوده هوأن يكون الذات باعتبار نفسها ممكنة الوجود، وإنما يجب وجودها بالفعل لا من ذاتها، بل لأن ذاتا أخرى موجودة بالفعل يلزم عنها وجوب هذا الذات، ويكون لها في نفسها بشرط عدم العلة الإمتناع.

وأما قولنا مع وجوده فهو أن يكون كل واحد من الذاتين فرض موجودا لزم أن يعلم أن الآخر موجود، وإذا فرض مرفوعا لزم أن الآخر مرفوع، والعلة والمعلول معا بمعنى هذين اللزومين، وإن كان بين وجهي اللزومين اختلاف لأن أحدهما، وهو المعلول، إذا فرض موجودا لزم ان يكون الآخر قد كان موجودا حتى وجد هذا. وأما الآخر، وهو العلة فإذا فرض موجودا حتى وجد هذا. وأما الآخر وهو العلة فإذا فرض موجودا لزم أن يتبع وجوده وجود المعلول، وإذا كان المعلول مرفوعا لزم أن يحكم ان العلة كانت أولا مرفوعة حتى رفع، لا أن رفع المعلول أوجب رفع العلةن وأما العلة فإذا رفعناها وجب رفع المعلول بإيجاب رفع العلة. حد الإبداع هو اسم مشترك لمفهومين: أحدهما تأسيس الشيء لا عن مادة ولا بواسطة شيء، والمفهوم الثاني ان يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسط، وله في ذاته ان لا يكون موجودا، وقد أفقد الذي له في ذاته إفقادا تاما. وبهذا المفهوم العقل الأول مبدع في كل حال لأنه ليس وجوده من ذاته، فله من ذاته العدم، وقد أفقد ذلك إفقادا تاما.

وحد الخلق هو إسم مشترك، فقد يقال خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان؟ وقد يقال: خلق لهذا المعنى الثاني لكن بطريق الإختراع من غير سبق مادة فيها قوة وجوده وإمكانه.

حد الأحداث هو إسم مشترك يطلق على وجهين: أحدهما زماني، ومعنى الأحداث الزماني الإيجاد للشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق، ومعنى الأحداث الغير الزماني هو إفادة الشيء وجودا، وذلك الشيء ليس له في ذاته ذلك الوجود، لا بحسب زمان دون زمان بل بحسب كل زمان.

حد القدم والقدم يقال على وجوه، يقال قدم بالقياس، وقدم مطلق، والقدم بالقياس هو شيء زمانه في الماضي أكثر من زمان شيء آخر، فهو قدم بالقياس إليه. وأما القدم المطلق فهو أيضا على وجهين يقال بحسب الزمان وبحسب الذات، فأما الذي بحسب الزمان فهو الشيء الذي وجد في زمان ماض غير متناه. وأما القديم بحسب الزمان هو الذي ليس له وجود زماني وهو موجود للملائكة والسموات وجملة أصول العالم عندهم. والقديم بحسب الذات هو الذي ليس له مبدأ علي، أي ليس له علة، وليس ذلك إلا الباري عز وجل.

القسم الثالث هو المستعمل في الطبيعيات ونذكر منها خمسة وخمسين لفظا وهي: الصورة، والهيولي، والموضوع، والمحمول، والمادة، والعنصر، والأسطقس، والركن، والطبيعة، والطبع، والجسم، والجوهر، والعرض، والنار، والهواء، والماء، والأرض، والعالم، والفلك، والكوكب، والشمس، والقمر، والحركة، والدهر، والزمان، والآن، والمكان، والخلا، والملا، والعدم، والسكون، والسرعة، والبطء، والإعتماد، والميل، والخفة، والثقل، والحرارة، والرطوبة، والبرودة، واليبوسة، والخشن، والملس، والصلب، واللين، والرخو، والمشف، والتخلخل، والإجتماع، والتجانس، والمداخل، والمتصل، والإتحاد، والتتالي، والتوالي.

حد الصورة: واسم الصورة مشترك بين ستة معان: الأول هو النوع يطلق ويراد به النوع الذي تحت الجنس، وحده بهذا المعنى حد النوع، وقد سبق في مقدمات كتاب القياس.

الثاني الكمال الذي به يستكمل النوع استكماله الثاني فإنه يسمى صورة، وحده بهذا المعنى كل موجود في الشىء لا كجزء منه، ولا يصح قوامه دونه ولأجله وجد الشيء مثل العلوم والفضائل في الإنسان.

الثالث ماهية الشيء كيف كان قد يسمى صورة، فحده بهذا المعنى، كل موجود في الشيء لا كجزء منه، ولا يصح قوامه دونه كيف كان.

الرابع الحقيقة التي تقوم المحل بها، وحدّه بهذا المعنى أنه الموجود في شيء آخر لا كجزء منه ولا يصح وجودها مفارقا له، لكن وجوده هو بالفعل حاصل له مثل صورة الماء في هيولي الماء، إنما يقوم بالفعل بصورة الماء أو بصورة أخرى حكمها حكم سورة الماء، والصورة التي تقابل بالهيولي هي هذه الصورة.

الخامس الصورة التي تقوم النوع يسمى صورة، وحده بهذا المعنى أنه الموجود في شيء لا كجزء منه نولا يصح قوامه مفارقا له، ولا يصح قوام ما فيه دونه، إلا أن النوع الطبيعي يحصل به كصورة الإنسانية والحيوانية في الجسم الطبيعي الموضوع له.

السادس الكمال المفارق وقد يسمى صورة مثل النفس للإنسان، وحده بهذا المعنى أنه جزء غير جسماني مفارق يتم به، وبجزء جسماني نوع طبيعي.

حد الهيولي إما الهيولي المطلقة فهي جوهر وجوده بالفعل، إنما يحصل بقبوله الصورة الجسمانية كقوة قابلة للصورة، وليس له في ذاته صورة إلا بمعنى القوة، وهو الآن عندهم قسم الجسم المنقسم بالقسمة المعنوية، لست أول بالقسمة الكمية المقدارية إلى الصورة والهيولي، والقول في إثبات ذلك طويل ودقيق، وقد يقال هيولي لكل شيء من شأنه أني قبل كمالا وأمرا ما ليس فيه، فيكون بالقياس إلى ما ليس فيه هيولي وبالقياس إلى ما فيه موضوع، فمادة السرير موضوع لصورة السرير، هيولي الصورة الرمادية التي تحصل بالإحتراق. الموضوع قد يقال لكل شيء من شأنه أن يكون له كمال ما، وكان ذلك الكمال حاضرا، وهو الموضوع له، ويقال موضوع لكل محل متقوم بذاته مقوم لمايحله، كما يقال هيولي للمحل الغير المتقوم بذاته بل بما يحله، ويقال موضوع لكل معنى بسلب أو إيجاب وهو الذي يقابل بالمحمول.

المادة قد يقال إسما مرادفا للهيولي، ويقال مادة لكل موضوع يقبل الكمال بإجتماعه إلى غيره، ووروده عليه يسيرا مثل المني والدم لصورة الحيوان، فربما كان ما يجامعه من نوعه وربما لم يكن من نوعه.
العنصر إسم للأصل الأول في الموضوعات، فيقال عنصر للمحل الأول الذي باستحالته يقبل صورا تتنوع بها الكائنات الحاصلة منه، إما مطلقا وهو العقل الأول، وإما بشرط الجسمية وهوالمحل الأول من الأجسام التي تتكون عنه سائر الأجسام الكائنة لقبوله صورها.

الأسطقس هوالجسم الأول الذي باجتماعه إلى أجسام أول مخالفة له في النوع يقال له أسطقس، فلذلك قيل إنه آخر ما ينتهي غليه تحليل الأجسام، فلا توجد عند الإنقسام إليه قسمة إلا إلى أجزاء متشابهة.

الركن هو جوهر بسيط، وهو جزء ذاتي للعالم مثل الأفلاك والعناصر، فالشيء بالقياس إلى العالم ركن وبالقياس إلى ما يتركب منه اسطقس، وبالقياس إلى ما تكون عنه عنصر، سواء كان كونه عنه بالتركيب والإستحالة معا أو بالإستحالة المجردة عنه، فإن الهواء عنصر السحاب بتكاثفه، وليس اسطقسا له، وهو اسطقس وعنصر للنبات.

والفلك هو ركن وليس باسطقس ولا عنصر لصورة، ولصورته موضوع، وليس له عنصر مهما عني بالموضوع محل لأمر هو فيه بالفعل ولم يعن به محل متقدم. وهذه الأسماء التي هي الهيولي والموضوع والعنصر والمادة والأسطقس والركن قد يستعمل على سبيل الترادف، فيبدل بعضها مكان بعض بطريق المسامحة، حيث يعرف المراد بالقرينة.

الطبيعة مبدأ أول بالذات لحركة الشيء وكمال ذاتي للشيء، فالحجر إذا هوى إلى أسفل فليس يهوي لكونه جسما بل لمعنى آخر يفارقه سائر الأجسام فيه، فهو معنى به يفارق النار التي تميل إلى فوق، وذلك المعنى مبدأ لهذا النوع من الحركة ويسمى طبيعية. وقد يسمى نفس الحركة طبيعة فيقال طبيعة الحجر الهوى. وقد يقال طبيعة للعنصر والصورة الذاتية. والأطباء يطلقون لفظ الطبيعة على المزاج وعلى الحرارة الغريزيةن وعلى هيئات الأعضاء وعلى الحركات وعلى النباتية، ولكل واحد حد آخر ليس يتعلق الغرض به، فلذلك اقتصرنا على الأول.

الطبع هو كل هيئة يستكمل بها نوع من الأنواع، فعليه كانت أو انفعالية، وكأنها أعم من الطبيعة، وقد يكون الشيء عن الطبيعة وليس بالطبع مثل الأصبع الزائدة، ويشبه أن يكون هو بالطبع بحسب الطبيعة الشخصية، وليست بالطبع بحسب الطبيعة الكلية، ولعموم الطبع للفعل والإنفعال كان أعم من الطبيعة التي هي مبدأ فعلي.

الجسم إسم مشترك قد يطلق على المسمى به من حيث أنه متصل محدود ممسوح في أبعاد ثلاثة بالقوة؛ أعني أنه ممسوح بالقوة وإن لم يكن بالفعل. وقد يقال جسم لصورة يمكن أن يعرض فيها أبعاد كيف نسبت طولا وعرضا وعمقا، ذات حدود متعينة، وهذا يفارق الأول في أنه لو لم يشترط كون الجملة محدودا ممسوحا بالقوة أو بالفعل، أو اعتقد أن أجسام العالم لا نهاية لها، لكا كل جزء منها يسمى جسما بهذا الإعتبار، والفرق بين الكم وهذه الصورة أن قطعة من الماء ولاشمع كلما بدلت أشكالها تبدلت فيها الأبعاد المحدودة الممسوحة، ولم يبق واحد منها بعينه واحدا بالعدد، وبقيت الصورة القابلة لهذه الأحوال واحدة بالعدد من غير تبدل. والصورة القابلة لهذه الأحوال هي جسمية،وكذلك إذا تكاثف الجسم مثلا كانقلاب الهواء بالتكاثف سحابا أو ماء، أو تخلخل مثلا الجمد لما يستحيل صورته الجسمية، واستحال أبعاده ومقداره، ولهذا يظهر الفرق بين الصورة الجسمية التي هي من باب الكم، وبين الصورة التي هي من باب الجوهر.

الجوهر إسم مشترك يقال جوهر لذات كل كالإنسان، أو كالبياض فيقال جوهر البياض وذاته، ويقال جوهر لكل موجود، وذاته لا يحتاج في الوجود إلى ذات اخرى تقارنها حتى يكون بالفعل، وهو معنى قولهم الجوهر قائم بنفسه، ويقال جوهر لما كان بهذه الصفة وكان من شأنه أن يقبل الأضداد بتعاقبها عليه، ويقال جوهر لكل ذات وجوده ليس في موضوع، وعليه اصطلاح الفلاسفة القدماء. وقد سبق الفرق بين الموضوع والمحل فيكون معنى قولهم الموجود لا في موضوع الموجود غير مقارن الوجود لمحل قائم بنفسه مقوم له، ولا بأس بأن يكون في محل لا يتقوم المحل دونه بالفعل، فإنه وإن كان في محل فليس في موضوع، فكل موجود إن كان كالبياض والحرارة والحركة والعلم فهو جوهر بالمعنى الأول، والمبدأ الأول جوهر بالمعاني كلها إلا بالوجه الثالث وهو تعاقب الأضداد.

نعم قد يتحاشى عن إطلاق لفظ الجوهر عليه تأدبا من حيث الشرع. والهيولي جوهر بالمعنى الرابع والثالث، وليس جوهرا بالمعنى الثاني، والصورة جوهر بالمعنى الرابع وليس جوهرا بالمعنى الثاني والثالث، والمتكلمون يخصصون إسم الجوهر بالجوهر الفرد المتحيز الذي لا ينقسم ويسمون المنقسم جسما لا جوهران وبحكم ذلك يمتنعون عن إطلاق إسم الجوهر على المبدأ عز وجل، والمشاحة في الأسماء بعد إيضاح المعاني دأب ذوي القصور.

العرض غسم مشترك فيقال لكل موجود في محل عرض، ويقال عرض لكل موجود في موضوع، ويقال عرض للمعنى الكلي المفرد المحمول على كثيرين حملا غير مقوم، وهو العرض الذي قابلناه بالذاتي في كتاب مقدمات القياس. ويقال عرض لكل معنى موجود للشيء خارج عن طبعه، ويقال عرض لكل معنى يحمل على الشيء لأجل وجوده في آخر يفارقه، ويقال عرض لكل معنى وجوده في أول الأمر لا يكون؛ فالصورة عرض بالمعنى الأول فقط، وهو الذي يعنيه المتكلم إذا ما قابله بالجوهر والأبيض، أي الشيء ذو البياض الذي يحمل على الثلج والجص والكافور ليس هو عرضا بالوجه الأول والثاني، وهو عرض بالوجه الثالث، وذلك لأن هذا الأبيض الذي هو نوع محمول غير مقوم، وهو جوهر ليس في موضوع ولا محل، فالبياض هو الحال في محل وموضوع، والبياض لا يحمل على الثلج فلا ثلج بياضن بل يقال أبيض، ومعناه انه شيء ذو أبيض فلا يكون هذا حملا مقوما. وحركة الحجر إلى أسفل عرض بالوجه الأول والثاني والثالث، وليس عرضا بالوجه الرابع والخامس والسادس، بل حركته إلى فوق عرض بجميع هذه الوجوه، وحركة القاعد في السفينة عرض بالوجه السادس والرابع.

الفلك عندهم جسم بسيط كري غير قابل للكون والفساد، متحرك بالطبع على الوسط مشتمل عليه.
الكوكب جسم بسيط كري، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن يكون غير قابل للكون والفساد متحرك على الوسط غير مشتمل عليه.

الشمس كوكب هو أعظم الكواكب كلها جرما وأشدها ضوءا، ومكانه الطبيعي في الكرة الرابعة.

القمر هو كوكب مكانه الطبيعي في الأسفل، من شأنه أن يقبل النور من الشمس على أشكال مختلفة ولونه الذاتي إلى السواد.

النار جسم بسيط طباعة أن يكون حارا يابسا متحركا بالطبع عن الوسط، يستقر تحت كرة القمر.
الهواء جرم بسيط طباعه أن يكون حارا رطبا مشفا لطيفا، متحركا إلى المكان الذي تحت كرة النار فوق كرة الأرض.

الماء جرم بسيط طباعه أن يكون باردا رطبا مشفا، متحركا إلى المكان الذي تحت كرة الهواء وفوق الأرض.
الأرض جسم بسيط طباعه أن يكون باردا يابسا، متحركا إلى الوسط نازلا فيه.

العالم هو مجموع الأجسام الطبيعية البسيطة كلها ويقال عالمالكل جملة موجودات متجانسة، كقولهم عالم الطبيعة وعالم النفس وعالم العقل.

الحركة كمال أول بالقوة من جهة ما هو بالقوة، وإن شئت قلت هو خروج من القوة إلى الفعل لا في آن واحد، كل تغير عندهم يسمى حركة. واما حركة الكل فهو حركة الجرم الأقصى على الوسط مشتملة على جميع الحركات التي على الوسط وأسرع منها.
الدهر هوالمعنى المعقول من إضافة الثبات إلى النفس في الزمان كله.
الزمان هومقدار الحركة موسوم من جهة التقدم والتأخر.

الآن هو ظرف يشترك فيه الماضي والمستقبل من الزمان، وقد يقال أن الزمان صغير المقدار عن الوهم متصل بالآن الحقيقي من جنسه.

المكان هو السطح الباطن من الجوهر الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي. وقد يقال مكان للسطح الأسفل الذي يستقر عليه شيء، يقله، ويقال مكان بمعنىثالث إلا أنه غير موجود، وهو أبعاد متناهية كأبعاد المتمكن يدخل فيها أبعاد المتمكن، وإن كان يجوز أن يلفى من غير متمكن كان هو الخلا، وإن كان لا يجوز إلا أن يشغلها جسم موجود فيه فليس بخلا. الخلا بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قوائم لا في مادة، من شأنه أن يملأه جسم وان يخلو عنه، ومهما لم يكن هذا موجودا كان هذا الحد شرحا للإسم.

الملا هو جسم من جهة ما تمانع أبعاده دخول جسم آخر فيه.

العدم الذي هو أحد المبادي للحوادث هو ان لا يكون في شيء ذات شيء، من شأنه أن يقبله ويكون فيه.

السكون هو عدم الحركة فيما من شأنه أن يتحرك بأن يكون هو في حالة واحدة من الكم والكيف والأين والوضع زمانا، فيوجد عليه في آنين.

السرعة كون الحركة قاطعة لمسافة طويلة في زمان قصير.

البطء والميل هو كيفية بها يكون الجسم مدافعا لما يمنعه عن الحركة إلى جهته.

الخفة قوة طبيعية يتحرك بها الجسم عن الوسط بالطبع.

الثقل قوة طبيعية يتحرك بها الجسم إلى الوسط بالطبع.

الحرارة كيفية فعلية محركة لما تكون فيه إلى فوق لأحداثها الخفة، فيعترض ان تجمع المتجانسات وتفرق المخلتفات، وتحدث تخلخلا من باب الكيف في الكيفي، وتكاثفا من باب الوضع فيه بتحليله وتصعيده اللطيف.

البرودة كيفية فعلية يفعل بين المتجانسات وغير المتجانسات، بحصرها الأجسام بتقليصها وعقدها اللذين من باب الكيف.
الرطوبة كيفية انفعالية بها يقبل الجسم الحصر والتشكيل الغريب بسهولة، ولا يحفظ ذلك بل يرجع إلى شكل نفسه ووضعه الذي بحسب حركة جرمه في الطبع.

اليبوسة كيفية انفعالية لجسم عسير الحصر والتشكيل الغريب عسر الترك والعود إلى شكله الطبيعي.

الخشن هو جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء مختلفة الوضع.

الأملس هو جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء متساوية الوضع.

الصلب هو الجرم الذي لا يقبل دفع سطحه إلى داخل إلا بعسر.

اللين هو الجرم الذي يقبل ذلك.

الرخو جرم ليس سريع الإنفصال المشف جرم ليس له في ذاته لون، ومن شأنه يرى بتوسطه ماوراءه.
التخلخل اسم مشترك يقال تخلخل لحركة الجسم من مقدار إلى مقدار أكبر، يلزمه أن يصير قوامه أرق. ويقال تخلخل لكيفية هذا القوام.

ويقال تخلخل لحركة أجزاء الجسم عن تقارب بينها إلى تباعد فيتخللها جرم أرق منها، وهذه حركة في الوضع والأول في الكم. ويقال تخلخل لنفس وضع أجزاء هذا، ويفهم حد التكاثف من حد التخلخل، ويعلم أنه مشترك يقع على أربعة معان مقابلة لتلك المعانيي: واحدة منها حركة في الكم، والآخر كيفية، والثالث حركة في الوضع، والرابع وضع.

الإجتماع وجود أشياء كثيرة يعمها معنى واحد، والإفتراق مقابله.

المتجانسان هما اللذان لهما تشابه معا في الوضع، وليس يجوز أن يقع بينهما ذو وضع.

المداخل هو الذي يلاقي الآخر بكلية حتى يكفيهما مكان واحد.

المتصل إسم مشترك يقال لثلاثة معان: أحدها هو الذي يقال له متصل في نفسه الذي هو فصل من فصول الكم، وحدّه أنه ما من شأنه أن يوجد بين أجزائه حد مشترك، ورسمه أنه القابل للإنقسام بغير نهاية. والثاني والثالث هما بمعنى المتصل، وأولهما من عوارض الكم المتصل بالمعنى الأول من جهة ما هو كم متصل، وهو أن المتصلين هما اللذان نهايتاهما واحدة، والثالث شركة في الوضع ولكن مع وضع، وذلك أن كل ما نهايته ونهاية شيء آخر واحد بالفعل يقال إنه متصل، مثل خطي زاوية. والمعنى الثالث هو من عوارض الكم المتصل من جهة ما هو في مادة، وهو أن المتصلين بهذا المعنى هما اللذان نهاية كل واحد منهما ملازم لنهاية الآخر في الحركة، وإن كان غيره بالفعل مثل إتصال الأعضاء بعضها ببعض وإتصال الرباطات بالعظام. وبالجملة كل مماس ملازم عسير القبول للإنفصال الذي هو مقابل للماسة.

الإتحاد إسم مشترك، فيقال إتحاد لإشتراك أشياء فيمحمول واحد ذاتي أو عرضي، مثل اتحاد الكافور والثلج في البياض، والإنسان والثور في الحيوانية. ويقال إتحاد لإشتراك محمولات في موضوع واحدن مثل اتحاد الطعم والرائحة في التفاح. ويقال اتحاد لإجتماع الموضوع والمحمول في ذات واحدة كجزئي الإنسان من البدن والنفس ويقال اتحاد لإجتماع أجسام كثيرة إما بالتتالي كالمائدة، وإما بالجنس كالكرسي والسرير، وإما باتصال كأعضاء الحيوان، وأحق هذا الباب بإسم الإتحاد هو حصول جسم واحد بالعدد من إجتماع أجسام كثيرة لبطلان خصوصياتها، لأجل إرتفاع حدودها المنفردة وبطلان إستقلالها بالإتصال.

التتالي هو كون شيء بعد شيء بالقياس إلى مبدأ محدود، وليس بينهما شيء من بابهما. القسم الثالث ما يستعمل في الرياضيات، ولما لم نتكلم في كتاب تهافت الفلاسفة على الرياضيات اقتصرنا من هذه الألفاظ على قدر يسير، وقد يدخل بعضها في الإلهيات والطبيعيات في الأمثلة والإستشهادات، وهي ست ألفاظ: النهاية، وما لا نهاية، والنقطة، والخط، والسطح، والبعد.

النهاية هي غاية ما يصير الشيء ذو الكمية إلى حيث لا يوجد وراءه شيء منه.

ما لا نهاية له هو كم ذو أجزاء كثيرة، بحيث لا يوجد شيء خارج عنه وهومن نوعه، وبيحث لا ينقضي.

النقطة ذات غير منقسمة، ولها وضع وهي نهاية الخط.

الخط هو مقدار لا يقبل الإنقسام إلا من جهة واحدة وهو نهاية السطح.

السطح مقدار يمكن أن يحدث فيه قسمان متقاطعان على قوائم، وهو نهاية الجسم.

البعد هو كل ما يكون بين نهايتين غير متلاقيتين ويمكن الإشارة إلى جهته، ومن شأنه أنه يتوهم أيضا فيه نهايات من نوع تينك النهايتين، والفرق بين البعد والمقادير الثلاثة أنه قد يكون بعد خطي من غير خط، وبعد سطحي من غير سطح. مثاله أنه إذا فرض في جسم لا إنفصال في داخله نقطتان كان بينهما بعد ولم يكن بينهما خط. وكذلك إذا توهم فيه خطان متقابلان كان بينهما بعد ولم يكن بينهما سطح، لأنه إنما يكون بينهما سطح إذا انفصل بالفعل بأحد وجوه الإنفصال، وإنما يكون فيه خط إذا كان فيه سطح، ففرق إذا بين الطول والخط وبين العرض والسطح، لأن البعد الذي بين النقطتين المذكورتين هو طول وليس بخط، والبعد بين الخطين المذكورين هو عرض وليس بسطح، وإن كان كل خط ذا طول، وكل سطح ذا عرض وقد نجز غرضنا من كتاب الحد قانونا وتفصيلا.