مقصود هذا الكتاب البحث عن أقسام الوجود، اعني الأقسام الكلية والبحث عن عوارضها الذاتية التي تلحقها من حيث الوجود، وهو المراد بأحكامه وقد سبق الفرق بين العوارض الذاتية والتي ليست بذاتية، ولواحق الشيء أعني محمولاته تنقسم إلى ما يوجد شيء أخص منه، وإلى ما لا يوجد شيء أخص منه، فالذي يوجد ما هو أخص منه ينقسم، فمنه فصول منه أعراض ذاتية، وقد سبق الفرق بينهما. وبالفصول ينقسم الشيء إلى أنواعه، وبالأعراض ينقسم إلى اختلاف أحواله، وقد سبق الفرق بين الفصول وبين الأعراض العامة، وإنقسام الوجود إلى الأقسام العشرة التي واحد منها جوهر وتسعة أعراض كما سبق، جملتها يشبه الإنقسام بالفصول وإن لم تكن بالحقيقة كذلك، إذ ذكرنا في تحقيق الفصل ودخوله في الماهية ما يخرج هذه الأمور عن الفصول، كما خرج الوجود والشيء عن الأجناس، وذلك بحكم ما سبق من الإصطلاح. وانقسامه إلى ما هو بالقوة والفعلن وإلى الواحد والكثير والمتقدم والمتأخر والعام والخاص والكلي والجزئي، والقديم والحادث والتام والناقص والعلة والمعلول، والواجب والممكن وما يجري مجراها، يشبه الإنقسام بالعوارض الذاتية، فإن هذه الأمور لا تلحق الموجود لأمر أعم منه إذ لا أعم من الوجود، ولا لأمر أخص منه كالحركة فإنها تلحق الموجود من حيث كونه جسما لا من حيث كونه موجودا. ومقصودنا من النظر في هذا ينقسم إلى فنين: (الفن الأول) في أقسام الوجود وهي عشرة أنواع في أنفسها، ثم يكون أمرها في النفس أعني العلم بها أيضا عشرة متباينة، فإن العلم معناه مثال مطابق للمعلوم كالصورة والنقش الذي هو مثال الشيء، فيكون لها عشر عبارات إذ الألفاظ تابعة للآثار الثابتة في النفس المطابقة للأشياء الخارجية، وتلك الألفاظ هي: الجوهر والكم والكيف والمضاف والأين، ومتى والوضع وله وأنيفعل وأن ينفعل. فهذه العبارات أوردها المنطقيون، ونحن نكشف معنى كل واحد منها، وبعد الإحاطة بالمعنى فلا مشاحة في الألفاظ.
القول في الجوهر
إعلم أن الموجود ينقسم بنوع من القسمة إلى الجوهر والعرض، وإسم كل من الجوهر والعرض مشترك كما سبق، ولكنا نعني الآن من جملتها شيئا واحدا فنريد بالجوهر الموجود لا في موضوع، ونريد بالموضوع المحل القريب الذي يقوم بنفسه لا بتقويم الشيء الحال فيه كاللون في الإنسان بل في الجسم، فغن ماهية الجسم لا تتقومب اللون بل اللون عارض يلحق بعد قوام ماهية الجسم بذاته، لا كصورة المائية في الماء، فإنها إذا فارقت عند إنقلاب الماء هواء، كان المفارق ما تتبدل الماهية بسببه لا كالحرارة والبرودة إذا فارقت الماء، فإن الماهية لا تبدل فإنا إذا سئلنا عن الحار والبارد: ما هو؟ قلنا: هو ماء. وإذا سئلنا عن الهواء لم نقل إنه ماء. وإن أوردنا ثم وقلنا ماء حار أو بارد ولم نورد ههنا فنقول ماء قد تخلخل وانتشر، فإن صورة المائية قد زالت.
والمتكلمون أيضا يسمون هذا أيضا عرضا، فإنهم يعنون بالعرض ما هو في محل، وهذه الصورة في محل والإصطلاح لا ينبغي أن ينازع فيه، فلكل فريق أن يصطلح في تخصيص العرض بما يريد، ولكن لا يمكن إنكار الفرق بين الحرارة بالنسبة إلى الماء التي تزول عند البرودة، وبين صورةالمائية التي تزول عند إنقلابه هواءن فإن الزائل ههنا يبدل المذكور في جواب ما هو والزائل لثم لا يبدله. والجوهر على إصطلاح المتكلمين عبارة عما ليس في محل، فصورة عندهم جوهر والمعنى المشترك بين الماء والهواء إذا استحال الماء هواء يسمى عندهم أيضا جوهرا وهو الهيولي، فإذا فهم معنى الموضوع، فالفرق بينه وبين المحمول إن الجوهر ينقسم إلى مال يس في الموضوع، ولا يمكن أن يكون محمولا، وإلى ما ليس في موضوع، ويمكن حمله على موضوع. والأول هو الجوهر الشخصي كزيد وعمرو. والثاني هو الجواهر الكلية كالإنسان والجسم والحيوان، فإنا نشير إلى موضوع مثل زيد ونحمل هذه الجواهر عليه، وتقول زيد إنسان وحيوان وجسم، فيكون المحمول جوهرا لا عرضا غلا أنه محمول عرف ذات الموضوع، وليس خارجا عن ذاته، لا كالعرض إذا حمل على الجوهر فإنه يعرف به شيء خارج عن ذاته، لا كالعرض إذا حمل على الجوهر فإنه يعرف به شيء خارج عن ذات الموضوع، إذ البياض يحملعلى الجوهر وهو خارج عن ذات الجوهر، ولذلك لا يحد هذا الموضوع بحد المحمول، إذ تقول في حد البياض: إنه لو يفرق البصر ولا يحد الموضوع. وأما الإنسان والحيوان والجسم ونظائرها فنحملها على شخص زيد، ويحد هذه الجواهر بحد، وهو بعينه حد الموضوع، إذ نقول لزيد: إنه حيوان ناطق مائت، او هو جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة؛ فبهذا يتهيأ الفرق بين الجواهر الكلية والجواهر الجزئية.
وأما الأعراض فجملتها في موضوع، ولكنها تنقسم إلى ما يقال علىموضوع بطريق الحمل عليه، وإلى ما لا يحمل على موضوع، فالمحمول على موضوع هي الأعراض الكلية كاللون مثلا، فإنه يحمل على البياض والسواد وغيره، فيقال: البياض لون والسواد لون. وأما الأعراض الشخصية فلايمكن حملها ككتابة زيد وبياض شخص، إذ لا يمكن أن يحمل على شىء حتى يقال هو كتابة زيد أو بياض شخص، وإذا قلت زيد كاتب أو أبيض لم يكن ذلك حملا للبياض بل معناه هو ذو كتابة. ومهما قلنا هو ذو إنسان لم يكن الإنسان محمولا، وكذا إذا ذو بياض، فإذا الشيء إنما يمكن أن يكون محمولا باعتبار كونه كليا، عرضيا كان أو جوهرا. وسيأتي حقيقة معنىالكلي في أحكام الوجود.
فإن قيل: فالجوهر الكلي أولى بمعنى الجوهرية أم الشخصي؟ قلنا: الجوهر الكلي على ما سيأتي قوامه بالشخصيات، إذ لولاها لم تكن الكليات موجودةن فالشخص في الرتبة متقدم عليه، لكن الشخص في صيرورته معقولا يفتقر إلى الكلي ولا يفتقر ف يالوجود إليه، وتحقيق هذا عند بيان معنى الكلي. فإن قيل: فما أقسام الجوهر؟ قلنا: إذا أريد بهذا الجوهر القائم لا في محل فقط أو القائم لا في موضوع انقسم إلى جسم، أعني إلى متحيز وغير متحيز، والجسم ينقسم إلى مغتذ وغير مغتذ. والمغتذي ينقسم إلى حيوان وإلى غير حيوان. والحيوان ينقسم إلى ناطق وغير ناطق، وهذا تدخل فيه الحيوانات كلها على اختلاف أصنافها، وينفصل كل نوع بفصل يخصه وإن كنا لا نشعر به. وغير المغتذي يدخل فيه السماء والواكب والعناصر الأربعة والمعادن كلها؛ فهذه أقسام الجواهر. وذهب أكثر المتكلمين أن الجواهر المتحيزة كلها جنس واحد، وإنما تختلف بأعراضها، إذ للجسم ماهية واحدة وهو كونه متحيزا مؤتلفا، فكونه حيا معناه قيام العلم والحياة به. والفلاسفة يقولون: إن هذه الجواهر مختلفة في أنفسها بإختلاف حدودها، وإن الصفات المقومات لها هيئات للأشياء التي بتبدل ماهيتها يتبدل جواب ما هو، ويوجب اختلافا في تحقيق الذات وتحقيق الحق في هذين المذهبين ليس من غرضنا، بل الغرض بيان معنى الجوهر وأقسامه. وقد حان القول في الكمية والمقدار.
اعلم أن الكم عرض، وهو عبارة عن المعنى الذي يقبل التجزؤ والمساواة والتفاوت لذاته، فالمساواة والتفاوت والتجزؤ من لواحق الكم، فإن لحق غيره فبواسطته لا من حيث ذات ذلك الغير، وهو ينقسم إلى الكم المتصل والمنفصل.
أما المتصل فهو كل مقدار يوجد لأجزائه حد مشترك يتلاقى عنده طرفاه، كالنقطة للخط والخط للسطح، والآن الفاصل، للزمان الماضي والمستقبل. والمتصل ينقسم إلى ذي وضع وإلى ما ليس بذي وضع، وذو الوضع هو الذي لأجزائه اتصال وثبات وتساوق في الوجود معا، بحيث يمكن أن يشار إلى كل واحد منهما أنه أين هو من الآخر، فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة فقط كالخط، ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو السطح، ومنه ما يقبل في جميعها على قوائم وهو الجسم. والمكان أيضا ذو وضع لأنه السطح الباطن من لحاوي فإنه يحيط بالمحوي فهو مكانه. وفريق يقولون: مكان الماء من الآنية الفضا الذي يقدر خلاء صرفا لو فارقه الماء ولم يخلفه غيره، وهذا أيضا عند القائل من جملة الكم المتصل فإنه مقدار يقبل الإنقسام والمساواة والتفاوت.
وأما الزمان فهو مقدار الحركة إلا أنه ليس له وضع، إذ لا وجود لأجزائه معا، وإن كان له إتصال إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن.
وأما المنفصل فهو الذي لا يوجد لأجزائه لا بالقوة ولا بالفعل شيء مشترك يتلاقى عنده طرفاه كالعدد والقول، فإن العشرة مثلا لا إتصال لبعض أجزائها بالبعض، فلو جعلت خمسة من جانب وخمسة من جانب لم يكن بينهما حد مشترك يجري مجرى النقطة من الخط والآن من الزمان، والأقاويل أيضا من جملة ما يتعلق بالكمية فإن كل ما يمكن أن يقدر ببعض أجزائه فهو ذو أقدار، إذ العشرة يقدرها الواحد بعشر مرات والإثنين بخمسة، وما من عدد إلا ويقدر ببعض أجزائهن وكذلك الزمان فإن الساعة تقدر الليل والنهار، والنهار والليل يقدر بهما الشهر، وبالشهر السنة. وهذه الأمور تجريمجرى الأذرع من الأطوال، فكذلك الأقاويل تقدر ببعض أجزائها، كما يقدر في العروض إذ به تعرف الموازنة والمساواة والوحدة والتفاوت، فهذه أقسام الكمية.
القول في الكيفية
والمعني بها الهيئات التي بها يحاب عن سؤال السائل عن آحاد الأشخاص إذا قال كيف هو، واحترزنا بالأشخاص عنالفصول فغن ذلك يذكر في السؤال عن المميز للشيء بأي شيء هو. وبالجملة هي عبارة عن كل هيئة قارة في الجسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج، ولا نسبة واقعة في أجزائه. وهذان الفصلان للإحتراز عن الإضافة والوضع كما سيأتي. ثم هذه الكيفية تنقسم إلى ما يختص بالكم من جهة ما هو كم كالتربيع للسطح، والإستقامة للخط والفردية للعدد وكذا الزوجية. وأما الذي لا يختص بالكم فينقسم إلى المحسوس وغير المحسوس.
أما المحسوس فهو الذي ينفعل عنه المحسوس أي يحدث فيها آثارا منها، كاللون والطعوم والحرارة والبرودة وغير ذلك مما يؤثر في الحواس الخمس، فما يكون من جملة ذلك راسخا يسمى كيفيات إنفعالية كصفرة الذهب وحلاوة العسل.
وما كان سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل يسمى إنفعالا. وأما غير المحسوس فينقسم إلى الإستعداد لأمر آخر، وإلى كمال لا يكون إستعدادا لغيره. أما الإستعداد فالذي للمقاومة والإنفعال يسمى قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة وقوة المذكرة والمصارعة، وإن كان استعدادا لعسر الفعل وسهولة الإنفعال سمي ضعفا يعني نفي القوة كالممراضية واللين. وفرق بين الصحة وبين المصحاحية، فإن المصحاح قد لا يكون صحيحا والممراض قد يكون صحيحا. وأما الكمالات التي لا يمكن أن تكون إستعدادا لكمال آخر وتكون غير محسوسة بذاتها كالعلم والصحة، فما كان منها سريع الزوال سمي حالات كغضب الحليم ومرض المصحاح، وما كان ثابتا سمي ملكة كالعلم والصحة، أعني العلم الثابت بطول الممارسة دون علوم الشادي التي هي معرضة للزوال، فإن العلم كيفية للنفس غير محسوسة.
القول في الإضافة
وهو المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر ليس له وجود غيره البتة، كالأبوة بالقياس إلى البنوة لا كالأب، فإن له وجودا يخصه كالإنسانية مثلا، وتميز هذا المعنى عن الكيف والكم لا خفاء به فهذا أصله. وأما أقسامه فإنه ينقسم بحسب سائر المقولات التي تعرض فيها الإضافة، فإنها تعرض للجواهر والأعراض، فإن عرضت للجوهر حدث منه الأب والإبن والمولى والعبد ونظيرها، وإن عرضت في الكم حدث منه الصغير والكبير والقليل والكثير والنصف والضعف ونظيره، وإن عرضت في الكيفية كانت منه الملكة والحال والحس والمحسوس والعلم والمعلوم، وإن عرضت في الأين ظهر منه فوق وأسفل وقدام وتحت ويمين وشمال، وإذا عرضت في المتى حصل منه السريع والبطيء والمتقدم والمتأخر، وكذلك باقي المقولات.
وتنقسم بنحو آخر من القسمة إلى ما يختلف فيه إسم المتضايفين: كالأب والإبن والموالى والعبد، وإلى ما يتوافق فيهما الإسمب: كالأخ مع الأخ والصديق والجار، وإلى ما يختلف بناء الإسم مع اتحاد ما منه الإشتقاق: كالمالك والمملوك والعالم والمعلوم والحاس والمحسوس.
ومهما لم يوجد المضاف من حيث هو مضاف سقطت الإضافة، فإن الأب إنسان، فهو باعتبار كونه إنسانا غير مضاف بل الدال على إضافته لفظ الأب. وأمارة اللفظ الدال على الإضافة التكافؤ من الجانبين، فإن الأب أب للإبن، والإبن ابن للأب. ولو قيل: الأب أب للإنسان لم يمكن ان يقال: الإنسان إنسان للأب.
وإذا قيل: السكان سكان لذي السكان، أمكنك أن تقول: وذو السكان هو ذر سكان بالسكان، مهما لم يكن لذي السكان وهو أحد المضايفين إسما خاصا، كما تقول لليد يد لذي اليد، وذو اليد ذو يد باليد. فلو قلنا: السكان سكان للذورق، لم ينقلب لأنه ليس لكل ذورق سكان، فيكون المضاف إليه غير مذكور فيه اللفظ الدال على الإضافة.
وإذا قلت: اليد يد الإنسان، لم يمكن أن تقول: الإنسان إنسان لليد، بل ينبغي أن يقال: اليد لذي اليد حتى ينقلب بطريق التكافؤ. ومن شرائد هذا التكافؤ ان يراعة إتحاد جهة الإضافة، حتى أن يؤخذ جميعا بالفعل أو جميعا بالقوة، وإلا ظن تقدم احدهما على الآخر.
ومن خواص الإضافة أنه إذا عرف أحد المضافين محصلا به عرف الآخر أيضا كذلك، فيكون وجود أحدهما مع وجود الآخر لا قبله ولا بعده، وربما يظن أن العلم والمعلوم ليسا متساويين بل المعلوم متقدم على العلم، وليس كذلك بل العلم مثال للمعلوم بكونه معلوما مع كون العلمف ي نفسه ومع كون الذات عالما بلا ترتيب، إلاّ أن يوحد المعلوم والمحسوس معلوما ومحسوسا بالقوة لا بالفعل، فيكون متقدما على العلم بالفعل، ولا يكون متقدما على العلم بالقوة.
القول في الأين
والمراد به نسبة الجوهر إلى مكانه الذي هو فيه، كقولك في جواب أين زيد: إنه في السوق او في الدار، ولسنا نعني به أن الأين البيت بل المفهوم من قولنا في البيت هو العرض له ولكل جسم أين، ولكن بعضها بين كما للإنسان واحد العالم، وبعضها يعلم على تأويل كما لجملة العالم، فإنه له أين على تأويل، فكل جسم له أين خاص قريب واينات مشتركة تشتمل عليه بعضها أصغر من بعض وأقرب إلى الأول، مثل زيد وهو في البيت، فإن أينه القريب مقعد الهواء المحيط به الملاقى لسطح بدنه ثم البلد ثم المعمور من الأرض ولذلك يقال: هو في البيت وفي البلد وفي المعمور وفي الأرض وفي العالم. وأما أنواع الإين فمنها ما هو أين بذاته،ومنها ما هو أين مضاف، فالذي هو أين بذاته كقولنافي الدار وفي السوق، وما هو أين بالإضافة فهو مثل فوق وأسفل ويمنة ويسرة وحول ووسط، وما بين وما يلي وعند ومع وعلى وما أشبه ذلك، ولكن لا يكون للجسم أين مضاف ما لم يكن له أين بذاته، فما كان فوق فلا بد وأن يكون له أين بذاته، إن كان معنى كونه فوق فوقية مكانية.
القول في متى
وهو نسبة الشيء إلى الزمان المحدود الذي يساوق وجوده، وتنطبق نهاياته على نهاية وجوده أو زمان محدود يكون هذا الزمان جزءا منه.
وبالجملة فما يقال في جواب متى والزمان المحدود هو الذي حد بحسب بعده من الآن، أما في الماضي أو المستقبل وذلك إما باسم مشهور كقولك أمس وأول من أمس وغدا والعام القابل وإلى مائة سنة وإما بحادث معلوم البعد من الآن كقولك على عهد الصحابة ووقت الهجرة، والزمان المحدود إما أول وإما ثان له؛ فزمانه الأول هو الذي يغلف وجوده وانطبق عليه غير منفصل عنه، وزمانه الثاني هوالزمان المحدود الأعظم الذي نهاية الأول جزء منه، مثل أن يكون الحرب في ست ساعات من يوم من شهر من سنة، فتلك الساعات الست هي الزمان الأول المطابق، واليوم والشهر والسنة أزمنة ثوان يضاف إليها باعتبار كون زمانه جزءا منها فيقال: وقع الحرب في السنة الفلانية ومساوقة الزمان لوجود الشيء غير تقدم الزمان له، فإنا نعني بالمساوق المنطبق، وذلك قد يكون بنهايات الزمان الذي ينقسم والمقدار جواب للسائل عن ذلك بكم، كما يقال: كم عاش فلان؟ فيقال: مائة سنة؛ فالزمان مقدار، وإذا قيل: كم دامت الحرب؟ فيقال: سنة؛ فهذا مطابق لا مقدم، فقد يكون المطابق ممتدا ولكن ليس من شرطه الإمتداد، ومن شرط الزمان المقدم الإمتداد والإنقسام.
القول في الوضع
وهو عبارة عن كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة بالإنحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان، إن كان في مكان يقله كالقيام والقعود والإضطجاع والإنبطاح، فإن هذا الإختلاف يرجع إلى تغاير نسبة الأعضاء إذ الساق يبعد من الفخذ في الإنتصاب وفي القعود قد تضاما، وإذا مد رجليه مستلقيا فوضع أجزائه كوضعه إذا انتصب، ولكن بالإضافة إلى الجهة والمكان يختلف إذ كان الرأس في القيام فوق الساق وليس ذلك عند الإستلقاء، ومهما مشى الإنسان فالوضع لا يتغير عليه والمكان يتغير، فليس الوضع هو تبدل المكان.
والوضع قد يكون للجسم بالإضافة إلى ذاته كأجزاء الإنسان، فغنه لو لم يكن جسم غيره لكان وضع أجزائه معقولا، وقد يكون بالإضافة إلى جسم آخر وذلك في أينه الذي يثب له بالإضافة من فوق وتحت ويمين ووسط وغيرها. ولما كانت الأمكنة ضربين: ضرب بالذات وضرب بالإضافة، صارالوضع أيضا ضربين، لكن لا يكون للشيء وضع بالإضافة ما لم يكن له وضع بذاته.
ولما كان المكان الذي بذاته لا بالإضافة ضربين: ضرب هو للجسم أول خاص، وضرب هو ثان ومشترك له ولغيره، صار له وضعه أحيانا بالقياس إلى مكان الأول الخاص وأحيانا إلى مكانه الثاني المشترك له ولغيره وآفاقه، إذ لكل إنسان موضع من القطبين مثلا زمن الآفاق، ولكل جزء من السماء وضع من أجزاء الأرض في كل حالة من الأحوال، وبحركته يبدل في الوضع فقط لا في المكان.
القول في العرض الذي يعبر عنه بله
وقد يسمى الجده. ولما مثل هذا بالمنتعل والمتسلح والمنطلس فلا يتحصل له معنى سوى أنه نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق على جميع بسيطه أوعلى بعضه، إذا كان المنطبق ينتقل بانتقال المحاد به المنطبق عليه، ثم منه ما هو طبيعي كالجلد للحيوان والخف للسلحفاة، ومنها ماهو إرادي كالقميص للإنسان. وأما الماء في الإناء فليس من هذا القبيل، لأن الإناء ينتقل بانتقال الماء، بل هو بالعكس فلا تدخل تلك النسبة في هذه المقولات بل في مقولة الاين؛ والله أعلم.
القول في أن يفعل
ومعناه نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره غير باقي الذات، بل لا يزال يتجدد كالتسخين والتحديد والقطع، فإن البرودة والسخونة والإنقطاع الحاصلة بالثلج والنار والأشياء الحارة في غيرها لها نسبة إلى أسبابها، عند من اعتقد أسبابا في الوجود، فتلك النسبة من جانب السبب يعر عنه بأن يفعل إذا قال يسخن ويبرد، ومعنى يسخن يفعل السخونة، ومعنى يبرد يفعل البرودة؛ فهذه النسبة هي التي عبر عنها بهذه العبارات، وقد يعتقد معتقد أن تسمية ذلك فعلا مجازا إذ كان يرى الفعل مجازا في كل من لا اختيار له، ولكن لا ينك رمع ذلك نسبة لأجلها يصدق قوله سخنته النار، فتلك النسبة جنس من الأعراض عبر عنه بالفعل أو بغيره، فلا مضايقة في العبارات.
القول في الإنفعال
وهو نبة الجوهر المتغير إلى السبب المغير، فإن كل منفعل فعن فاعل، وكل متسخن ومتبرد فعن مسخن ومبرد بحكم العادة المطردة عند أهل الحق، وبحكم ضرورة الجبلة عند المعتزلة والفلاسفة. والإنفعال على الجملة تغير، والتغير قد يكون من كيفية إلى كيفية مثل تصير الشعر من السواد إلى البياض، فغنه غيره الكبر على التدريج وصيره من السواد إلى البياض، فإنه غيّره الكبر على التدريج وصيره من السواد إلى البياض قليلا قليلا بالتدريج، ومثل تصير الماء من البرودة إلى الحرارة، فإنه حين ما يتسخن الماء يحسر عنه البرودة قليلا قليلا، وتحدث فيه الحرارة قليلا قليلا على الإتصال إلا أن ينقطع سلوكه، فيقف فهو في كل وقفة على حالة واحدة تفارق ما قبلها وما بعدها، فليست حالته مستقرة في وقت السلوك.
وعلى الجملة لا فرق بين قولك ينفعل وبين قولك يتغير. وأنواع التغير كثيرة وهي أنواع الإنفعال بعينه؛ فهذه هي الأجناس العالية للموجودات كلها، وقد جرى الرسم بحصرها في هذه العشرة؛ فإن قيل: فهذا الحصر أخذ تقليدا من المتقدمين أو عليه برهان؟ قلنا: التقليد شأن العميان، ومقصود هذا الكتاب أن تتهذب به طرق البرهان، فكيف يقنع فيه بالتقليد بل هو ثابت بالبرهان ووجهه أن هذا الحصر فيه ثلاث دعاوي: إحداهما أن هذه العشرة موجودة وهذا معلوم بمشاهدة العقل والحس كما فصلناه.
والآخر إنه ليس في الوجود شيء خارج عنها وعرف ذلك بل إن كل ما أدركه العقل ليس يخلو من جوهر أو عرض، وكل جوهر ينطلق عليه عبارة أو يختلج به خاطر فممكن إدراجه تحت هذه الجملة وأما أنه ليس بممكن أن يقتصر على تسعة فطريق معرفته أن تعرف تباين هذه الأقسام بما ذكرناه اختلافها، فيتم العلم بهذه الدعوى بهذه الجملة.
نعم لا يبعد ان يتشكك ناظر في وجه مباينة قسم لقسم حتى يلتبس عليه وجه الفرق بين الإضافة المحضة وبين النسبة إلى المكان أو نسبة الإنفعال، لأن هذه الأمور فيها أيضا نسبة، ولكن فيها وراء النسبة شيء، ولكن إذا أمعن النظر ظهر له التباين كما لا يبعد أن يتشكك في عرض من الأعراض أنه من قبيل هذا القسم أو ذاك، كما يتشكك ناظر في الفرق بين نسبة الجوهر إلى مكانه، وبين نسبته إلى جوهر بطريق المجازاة، وذلك إنما يعرض من حيث يكون إسم صفة ويكون كونه في المكان من حيث هو مضاف، ولا يوجد له إسم يدل عليه من حيث تلكلاصفة بغير إضافة حتى يتكلف، فيوضع له إسم الاين ويوضع للوقوع فيالزمان إسم متى، فمهما كان إسمه الدال عليه منحيث هو مضاف هو الذي جعل إسمه الدال عليه من حيث هو صفة إعترض هذا الشك، ويكون هذا تقصير من واضع الأسامي، وكذلك قد يعرض في هذا أن يكون إسم جنس يدل عليه من حيث هي مضافة، فيظن أن الجنس إضافة، ويتعجب أن الجنس كيف يكون من مقولة المضاف، ويكون النوع من مقولة أخرى، وسببه ما ذكرنا.
وأن تشكك في التكاثف والتخلخل أنه من مقولة الكيفية أو من مقولة الوضع وأنتشأ الشك من إشتراك الإسم ههنا، فإن التخلخل أن نتباعد أجزاء الجسم بعضها من بعض لتخللها أجسام غريبة من هذا أوغيره، والتكاثف معناه تقارب أجزائه بالتلبد حتى ينعصر ما فيه من هواء فيسيل من خلله فتتقارب أجزاؤه وتتماس.
الفن الثاني
في انقسام الوجود بأعراضه الذاتية إلى أصنافه وأحواله مثل كونه مبدأ وعلة ومعلولا، وانقسامه إلى ما هو بالقوة وما هو بالفعل وإلى القديم والحادث والقبل والبعد والمتقدم والمتأخر، والكلي والجزئي والتام والناقص والواحد والكثير والواجب والممكن، فإن هذه العوارض تثبت للموجود من حيث هو موجود، لا من حيث أنه شيء آخر أخص منه ككونه جسما أو عرضا أو غيرهما.
القول في الإنقسام إلى العلة والمعلول
واتصال الموجود بكونه مبدأ وعلة والمبدأ إسم لما يكون قد استتم وجوده في نفسه إما عن ذاته وإما عن غيره، ثم يحصل منه وجود شيء آخر يتقوم به، ويسمى هذا علة بالإضافة إلى ما هو مبدأ له، ثم لا يخلو إما أن يكون ?كالجزء من المعلول مثل الخشب وصورة السرير للسرير أو لا يكون كالجزء، فالذي يكون كالجزء قد لا يجب عن وجوده وجود المعلول بالفعل، ويسمى عنصرا وهو كالخشب للسرير، وقد يجب عن وجوده لا محالة وجود المعلول بالفعل وهو صورة السرير، ويسمى العنصر علة قابلية والصورة علة صورية، والذي ليس كالجزء ينقسم إلى مباين للمعلول وإلى ملاق. والملاقي ينقسم إلى ما يكتسب صفة من المعلول فينعت به، وهو كالموضوع للعرض إذ يقال الموضوع حار وبارد وأسود وأبيض، وإلى ما يكون بالعكس منه، وهو أن يكون المعلول يكتسب النعت من العلة فينعت المعلول بالعلة، وهو كصورة المائية للمادة المشتركة بين الماء والهواء عند الإستحالة.
وقد يسمى ذلك المشترك هيولي، ولا مشاحة في إطلاق هذا الإسم وإبداله.
وأما المباين فينقسم إلى ما منه الوجود وليس الوجود لاجله، وهو العلة الفاعلية كالنجار للسرير، وإلى ما لأجله وجود المعلول وهو العلة الغائية كالصلوح للجلوس للكرسي والسرير.
والعلة الأولى هي الغاية، فلولاها لما صار النجار نجارا، وكونها علة سابقة سائر العلل إذ بها صارت العلل علالا ووجودها متأخرا عن وجود الكل، وإنما المتقدم عليتها، والعلة أبدا أشرف من القابل لأن الفاعل مفيد والقابل مستفيد. ثم العلة قد تكوهن بالذات وقد تكون بالعرض، وقد تكون بالقوة وقد تكون بالفعل، وقد تكون قريبة وقد تكون بعيدة، وقد سبقت أمثلتها.
القول في الإنقسام إلى ما هو بالقوة وإلى ما هو بالفعل
الموجود قد يقال أنه بالفعل وقد يقال أنه بالقوة، وإسم القوة قد يطلق على معنى آخر فيلتبس بالقوة التي تقابل بالفعل، فليقدم بيانها إذ يقال قوة مبدأ التغيير إما في المنفعل وهو القوة الإنفعالية، وإما في الفاعل وهو القوة الفعلية. ويقال لما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال وما به يصير الشيء مقوما للآخر، ولما به يصير الشيء متغيرا أو ثابتا، فإن التغير لا يخلو من الضعف، وقوة المنفعل قد تكون محدودة متوجهة نحو شيء واحد معين، كقوة الماء على قبول الشكل دون حفظه، بخلاف الشمع الذي فيه قوة القبول والحفظ جميعا.
وقد يكون في الشيء قوة إنفعالية بالإضافة إلى الضدين، كقبول الشمع للتسخين والتبريد، وكذلك قوة الفاعل تتوجه إلى شيء واحد متعينن كقوة النار على الإحراق فقط، وقد تتوجه نحو أشياء كثيرة كقوة المختاربن على الأمور المختلفة، وقد يكون في الشيء لأمور ولكن بعضها يتوسط البعض كقوة القطن على قبول صورة الغزل والثوبية، وقد يسهو الناظر في لفظ القوة ويلتبس عليه القوة بهذا المعنى بالقوة التي تذكر بإزاء الفعل، والفرق بينهما ظاهر من أوجه: الأول: أن القوة التي بإزاء الفعل تنتهي مهما صار الشيء بالفعل، والقوة الأخرى تبقى موجودة في حالة كونها فاعلة.
الثاني: أن القوة الفاعلة لا يوصف بها إلا المبدأ المحرك، والقوة الثانية يوصف بها في الأكثر الأمر المنفعل. الثالث هو أن الفعل الذي بإزاء القوة الأخرى يوصف بها كل شيء من قبيل الموجودات الحاصلة، وإن كان انفعالا أو حالا لا فعلا ولا إنفعالا. فإن قيل: قولكم أن الشيء بالقوة لا بالفعل يرجع حاصله إلى الإستعداد للشيء، وقبول المحل له وهذا مفهوم، وأما لاقوة الأخرى التي هي فاعلة كقوة النار على الإحراق وهذا مفهوم، وأما القوة الأخرى التي هي فاعلة كقوة النار على الإحراق كيف يعترف بها من يرى أن النار لا تحرق، وإنما الله تعالى يخلق الإحراق عند وقوع اللقاء بين القطن والنار مثلا، بحكم إجراء الله تعالى العادة. قلنا: غرضنا لما ذكرنا شرح معنىالإسم لا تحقيق وجود المسمى، وقد نبهنا على وجه تحقيق الحق فيه في كتاب تهافت الفلاسفة والغرض أن لا يلتبس إحداهما بالأخرى إذا استعملهما معتقد ذلك.
القول في إنقسام الموجود إلى القديم وإلى الحادث والقبل والبعد
أما القديم فهو إسم مشترك بين القديم بحسب الذات وبين القديم بحسب الزمان، فالذي بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمان وجوده، وأما الذي بحسب الذات فهو الذي ليس لذاته مبدأ وعلة هو به موجود، والمشهور الحقيقي هو الأول، والثاني كأنه مستعار من الأول، وكأنه مجاز، وهو من إصطلاح الفلاسفة، وبهذا الإشتراك يشترك الحادث أيضا، فالحادث بحسب الزمان هو الذي لزمان وجوده إبتداء، وبحسب الذات هو الذي لذاته مبدأ هي به موجودة. والعالم عند الفلاسفة حادث بالمعنى الثاني قديم بالمعنى الأول، وصانع العالم قديم على التأويلين جميعا، وتسميتهم العالم حادثا بتأولهم مجاز محض، إذ المفهوم الكائن بعد إن لم يكن، والعالم عندهم ليس كائنا بعد إن لم يكن.
ومن تأويلاتهم قولهم: إن للعالم نسبة إلى طبيعة الوجود ونسبة إلى العدم، والوجود حاصل له لا من ذاته بل من غيره، وإذا قدرنا عدم ذلك الغير لكان له من ذاته العدم وما للشيء من ذاته قبل ما للشيء من غيره قبلية بالذات، فالعدم له قبل الوجود؛ فهذا هو التأويل وهو تكلف من الكلام في اطلاق اللفظ، بل ينكر عليهم ترك اعتقاد محل الحدوث، وإن وجود العالم ليس مسبوقا بعدم، وإذا لم يعتقد ذلك فالأسامي لا تغني ولا مشاحة فيها، والعجب أنهم يقولون: إنا باعتقاد حدوث العالم أولى؛ فإنا نقول: المعلول حادث في كل زمان، فوصف الحدوث له ثابت عندهم الدهر كله، وعندكم في حالة واحدة، وإن كان المفهوم من الحدوث ما ذكروه فهو أحق به إلا أن المفهوم من الحدوث ما ذكرناه، وقد نفوه وأطلقوا اللفظ على أمر آخر يستمر في جميع الأزمنة، وطريق بطلانه ذكرناه في تهافت الفلاسفة.
وأما القبل فإنه إسم مشترك في محاورات النظار والجماهير، إذ يطلق وتراد القبلية بالطبع كما يقال الواحد قبل الإثنين، وذلك في كل شيء لا يمكن أن يوجد الآخر إلا وهو موجود، ويوجد هو وليس الآخر بموجود، فما يمكن وجوده دون الآخر فهو قبل الآخر، وذلك الآخر، قد يقال له بعد وكأنه مستعار ومجاز، بل القبلية الظاهرة المشهورة هي القبلية الزمانية، وأمرها ظاهر، ويقال قبل للتقدم في المرتبة كتقدم الجنس على النوع بالإضافة إلىالجنس الأعلى، وقد يكون بالنسبة إلى شيء معين كما يقال الصف الأول قبل الصف الثاني، إذا صار المحراب هو المنسوب، ولو نسب إلى باب المسجد ربما كان الصف الأخير موصوفا بالقبلية، وقد يقال قبل بالشرف كما يقال محمد صلى الله عليه وسلم قبل موسى، وقبل أبي بكر وعمر وقد يقال قبل للعلة بالإضافة إلى المعلول مع أنهما في الزمان معا وفي كونهما بالقوة أو بالفعل يتساويان، ولكن من حيث أن لأحدهما الوجود غير مستفاد من الآخر ووجود الآخر مستفاد منه فهو متقدم عليه، وإذا تأملت حال المتقدم في جميع هذه المعاني رجع إلى ان المتقدم هو الذي له الوصف الذي للمتأخر بكل حال، وليس للمتأخر ذلك إلا وهو موجود للمتقدم.
القول في إنقسام الموجود إلى الكلي والجزئي
إعلم أن الكلي إسم مشترك ينطلق على معنيين، هو باحدهما موجود في الأعيان، وبالمعنى الثاني موجود في الأذهان لا في الأعيان. أما الأول فهو للشيء المأخوذ على الإطلاق منغير اعتبار ضم غيره إليه، واعتبار تجريده من غيره بل من غير التفات إلى أنه واحد، فإن الإنسان مثلا معقول بأنه حقيقة ما والزم شيء للإنسانية وأشده التصاقا به كونه واحدا أو كثيرا، إذ لا يتصور إلا كذلك، ولكن العقل قادر على أن يعتبر الإنسانية المطلقة من غير التفات إلى أنها واحدة أو أكثر، فإن الإنسان بما هو إنسان شيء وبما هو واحد أو أكثر، وذلك له بالقوة أم بالفعل شيء آخر، فإن الإنسان إنسان بلا شرط آخر البتة، ثم العموم أو الخصوص شرط زائد على ما هو إنسان، والوحدة والكثرة كذلك، فإن من علم الإنسان فقد علم أمرا واحدا ومن علم أن الإنسان المعلوم له وحدة فقد علم شيئين أحدهما الإنسان والآخر الوحدة، وكذلك إذا علم الكثرة، وكذا إذا علم الخصوص والعموم، فكل ذلك زائد على المعلوم، وليس ذلك إذا فرضت هذه الأحوال بالفعل فقط بل هو كذلك، وإن فرضت بالقوة فإنك تفرض بالقوة الإنسان المطلق من غير التفات إلى الوحدة والكثرة، وتفرض الوحدة والكثرة بعده فيكون في اعتبارك إنسانية وإضافة ما للإنسانية إلى الوحدة أو الكثرة، وفرض الوحدة والكثرة زائد على أصل الإنسانية.
نعم الكثرة والوحدة تلزم الإنسانية في الوجود لا محالة، وليس كل ما يلزم الشيء فهو له في ذاته، فنحن نعلم أن الإنسانية بما هي إنسانية واحدة أو كثيرة، ففرق بين قولنا: إن الإنسانية لا توجد وله إحدى الحالتين، وبين قولنا: إحدى الحالتين له بما هو إنسانية. وليس نقيض قولنا أن الإنسانية بما هي إنسانية واحدة أن الإنسانية بما هي إنسانية كثيرة، بل نقيضها أن الإنسانية ليست بما هي إنسانية واحدة، وإذا كان كذلك جاز أن توجد واحدة أو كثيرة، ولكن لا بما هي إنسانية، فالكلي قد يراد به الإنسانية المطلقة الخالية عن إشتراط الوحدة أو الكثرة قد يراد به الإنسانية المطلقة الخالية عن اشتراط الوحدة أو الكثرة أو غير ذلك من لواحقها المنفكة عن كل اعتبار، سوى الإنسانية بالنفي والإثبات جميعا، وفرق بين قولنا: إنسانية بلا شرط آخر، وبين قولنا: إنسانية بشرط أن لا يكون معه غيره، لأن الأخير فيه زيادة اشتراط نفي، والأول نعني به الإطلاق الذي هو منقطع البتة عما وراء الإنسانية نفيا كان أو إثباتا، فالكلي بهذا المعنى موجود في الأعيان فإن وجود الوحدة أو الكثرة او غير ذلك من اللواحق مع الإنسان، وإن لم يكن بما هو إنسانية، إذ لا تخرج الإنسانية عنها في الوجود، فإن لكل موجود مع غيره لا في ذاته وجودا يخصه، وانضمام غيره إليه لا يوجب نفي وجوده من حيث ذاته وجودا يخصه، وانضمام غيره إليه لا يوجب نفي وجوده من حيث ذاته، فالإنسانية عند الإعتبار موجودة بالفعل في آحاد الناس محمول على كل واحد، لا على أنه واحد بالذات ولا على انه كثير، فإن ذلك ليس بما هو إنسانية. والمعنى الثاني للكلي هو الإنسانية مثلا بشرط أنه مقولة بوجه من الوجوه المقولية على كثيرين، وهذا غير موجود في الأعيان، إذ يستحيل وجود شيء واحد بعينه يكون محمولا على كل واحد من الآحاد في وقت واحد معين. وذلك لأن الإنسان الذي اكتنفته الأعراض المخصصة لشخص زيد لمتكتنفه أعراض عمرو، حتى تكون تلك الإنسانية بعينها موجودة في عمرو، يكون هو ذلك في العدد بعينه، وربما يكتنفهما أعراض متعاندة، ولكن هذا المعبر عنه موجود في الأذهان على معنى أنه إذا سبق إلى الحس شخص زيد، حدث في النفس أثر، وهو انطباع صورة الإنسانية فيه، وهو لا يعلم، وهذه الصورة المأخوذة من الإنسانية المجردة من غير التفات إلى العوارض المخصصة لو أضيفت إلى إنسانية عمرو لطابقته، علىمعنى أنه لو ظهر للحس فرس بعده يحدث في النفس أثر آخر، ولو ظهر عمرو لم يتجدد في نفس أثر بل سائر أشخاص الناس في ذلك مستوية، سواء الأشخاص الموجودة والتي يمكن وجودها، لأنه استوت نسبته إلى الكل فسمي كليا بهذا الإعتبار، إذ نسبته إلى كل واحد واحدة، فلهذه الصورة نسبة إلى أحد الأشخاص وغيرها واحدة كان مثال مطابقها كذلك، لهذا قيل إنه كلي، ونسبته إلى النفس وإلى سائر الصور المرتسمة في النفس؛ وهذا هو الذي أشكل على المتكلمين وعبروا عنه بالحال، واختلفوا في إثباته ونفيه وقال قوم ليس بموجود ولا معدوم، وأنكره قوم وأشكل عليهم الإفتراق والإشتراك بين الأسماء إذ السواد والبياض يشتركان في اللونية ويفترقان في شيء فيفكيف يكون مافيه الإفتراق وما فيه الإشتراك واحدا؟ ومنشأ ذلك سوء فهم بعضم عن اعتقاد شيء له وجود في النفس لا وجود لهمن خارج، إذا ثبت في النفس صورة كلية، وليس في الوجود كونها كلية بهذا الإعتبار بل هو ثابت في الأعيان بالإعتبار الأول، ومعنى كليتها التماثل دون الإتحاد في الإنسانية الموجودة لزيد والإنسانية الموجودة لعمرو في كونها إنسانية بالعدد.
وأما مثاله في النفس العاقل للانسانية فمطابق له ولإنسانيته زيد وعمرو مطابقة واحدة، والصورة في نفسها واحدة ومع وحدتها مطابقة للكثرة، كأنها بالإضافة إليه أيضا واحدة، أعني تلك الكثرة؛ فهذا تحقيق معنى الكلي، وهو من أغمض ما يدرك وأهم ما يطلب إذ جميع المعقولات فرع لتحقيق هذه المعاني فلا بد من تبيينها.
وأما التام والناقص فليس المراد بهما الجزئي والكلي، بل التام يراد به الذي يوجد له جميع ما من شأنه أن يوجد، وليس مما يمكن أن يوجد له إلا وهو موجود له إما في كمال الوجود وإما في القوة الفعليةن وإما في القوة الإنفعالية وإما في الكمية. والناقص مايقابل التام الكامل.
القول في الإنقسام إلى الواحد والكثير ولواحقهما
إعلم أن الواحد إسم للشيء الذي لا يقبل القسمة من الجهة التي قيل له أنه واحد، ولكن الجهات التي يمتنع بسببها الإنقسام وتثبت الوحدة بالإضافة إلهيا كثيرة.
فمنها ما لا ينقسم في الجنس فيكون واحدا في الجنس كقولنا: الفرس والإنسان واحد في الحيوانية، إذ لا إختلاف بينهما إلا في العدد وفي لنوع والعوارض.
أما الحيوانية فليس بينهما فيها اختلاف وإنقسام. ومنها ما لا ينقسم في النوع كقولك: الجاهل والعالم واحد بالنوع أي بالإنسانية. ومنها ما ينقسم بالعرض العام كقولنا: الغراب والفار واحد في السواد. ومنها ما لا ينقسم بالمناسبة كقولنا: نسبة الملك إلى المدينةن ونسبة العقل إلى النفس واحدة. ومنها ما لا ينقسم في الموضوع كقولنا: النامي والذابل واحد في الموضوع، وكذلك تجتمع رائحة التفاح وطعمه ولونه في موضوع واحد فيقال: هذه الأشياء واحدة أي في الموضوع لا بكل وجه. ومنها ما لا ينقسم معناه في العدد أو ينقسم إلى أعداد مشتركة في شيء كالرأس، فإنه واحد من الشخص أي ينقسم إلى أجزاء يكون لها معنى الرأس ومنها ما لا ينقسم بالحد أي لا توجد حقيقته لغيره وليس له نظير في كمال ذاته، كما يقال الشمس واحد وأحق الأشياء باسم الواحد واحد بالعدد. ثم ينقسم إلى ما فيه كثرة بالفعل ويكون واحدا بالتركيب والإجتماع كالبيت الواحد مثلا، وإلى ما لا كثرة فيه بالفعل ولكن فيه كثرة بالقوة لا بالفعل كالجسم من حيث هو جسم أي ذو صورة جسمية اتصالية، وإلى ما لا كثرة فيه لا بالفعل ولا بالقوة وهنو كل جوهر واحد ليس بجسم عند الفلاسفة، وذات الأول الحق كذلك بالإتفاق، ويثبت هذا للجوهر الواحد الفرد المتحيز عند المتكلمين فإنه لا ينقسم لا بالقوة ولا بالفعل، وهو واحد بالعدد.
والذي يقبل القسمة لا بالقوة ولا بالفعل هو الأحق باسم الواحد، فالمعنى المفهوم من الكثرة على مقابلة الوحدة في كل رتبة، والكثير على الإطلاق على مقابلة الواحد على الإطلاق، وهو ما يوجد فيه واحد وليس واحدا من جهة ما هو فيه، أي يوجد فيه واحد ليس هو وحدة فيه، وهو الذي يجاب عنه بالحساب.
وقد يكون الكثير كثيرا بالإضافة والإتحاد في الكيفية يسمى مشابهة، وفي الكمية يسمى مساواةن وفي الجنس يسمى مجانسة، وفي النوع يسمى مشاكلة، والإتحاد في الأطراف يسمى مطابقة، فيخرج من هذا بيان معنى الواحد بالجنس والواحد بالنوع، والواحد بالعدد والواحد بالعرض والواحد بالمساواة، فجملة النسب للواحد هي التشابه والمساواة والمطابقة والمجانسة والمشاكلة، وأنواع الكثير مقابلات لذلك.
القول في إنقسام الوجود إلى الممكن والواجب
اعلم أن الممكن إسم مشترك يطلق على معان: الأول وهو الإصلاح العامي التعبير به عما ليس بممتنع الوجودن وعلى هذا يدخل الواجب الوجود فيه، ويكون الأول الحق ممكن الوجود، أي ليس محال الوجود، وتكون الأشياء بهذا الإعتبار قسمين: ممتنع وممكن أي ممتنع وما ليس بممتنع، ويدخل فيه الجائز والواجب.
الثاني الوضع الخاصي وهو أن يراد به سلب الضرورة في الوجود والعدم جميعا، وهو الذي لا استحالة في وجوده ولا في عدمه، وخرج الواجب عنه، ويكون المذكور بهذا الإعتبار ثلاثة: ممتنع وجوده أي ضروري عدمه، وواجب وجوده أي ضروري وجوده، وشيء لا ضروري في وجوده ولا في عدمه، بل نسبته إليهما واحدة، وهو المراد بالممكن.
الثالث أن يعبر عن ممكن لا ضرورة في وجوده بحال من الأحوال، وهو أخص من الذي سبق وذلك كالكتابة للإنسان لا كالتغيير للمتحرك، فإنه ضروري في حال كونه متحركا، ولا كالكسوف للقمر فإنه ضروري عند توسط الأرض بينه وبين الشمس، فيصير الأعداد على هذا الوضع أربعة: واجب وممكن وموجود له ضرورة وموجود لا ضرورة له البتة.
الرابع أن يخصص الشيء المعدوم في الحال الذي لا يستحيل وجوده في الإستقبال فيقال له ممكن أي له الوجود بالقوة لا بالفعل، وعلى هذا لا يقال العالم في حال وجوده ممكن بل يقال كان قبل الوجوب ممكنا.
وأما الواجب الوجود فهو الذي متى فرض معدوما غير موجود لزم منه محال، ثم الواجب وجوده ينقسم إلى ما هو واجب لذاته وإلى ما هنو واجب لغيره لا لذاته. أما الواجب لذاته فهوالذي فرض عدمه محال لذاته لا بفرض شيء آخر به محالا فرض عدمه، فالعالم واجب الوجود مهما فرضنا المشيئة الأزلية متعلقى بوجوده، ولكن صار الوجوب له من المشيئة لا من ذاته والوجوب لله من ذاته لا من غيره، وعلى الجملة كل ما حصل وجوبه بوجوده واجب بسبب وجود سببه لا محالة وأنه ما دام ممكن الوجود لا يترجح وجوده على عدمه، ولما تساوى الوجود والعدم بقي في العدم غير موجود، فقد صح وجوده لوجوب وجوده لمصادفة علته كمال ما به صار علة لوجوده.
ومن هذا تتضح أمور كثيرة: أحدهما أنه يستحيل فرض شيء هو واجب الوجود بذاته ويبقى وجوبه فلا يكون وجوب وجوده بغيره، ويكون ذلك الغير فضله. الثاني أن كل ما هوواجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته، لأنه إما أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود أو واجب الوجود أو ممتنع الوجود، والقسمان الأخيران باطلان إذ لو كان ممتنع الوجود بذاته لما تصور له وجود بغيره، ولو كان واجب الوجود بذاته.
والحاصل أن كل ممكن بذاته فهو واجب بغيره، فالممكن أن اعتبرت علته وقدر وجودها كان واجب الوجود، وإن قدر عدم علته كان ممتنع الوجود، وإن لم يلتفت إلى علته لا باعتبار العدم ولا باعتبار الوجود كان له في ذاته المعنى الثالث، وهو الإمكان، فإذن كل ممكن فهو ممتنع وواجب أي ممتنع عند تقدير عدم العلة، فيكون ممتنعا بغيره لا لذاته أو ممكنا من حيث ذاته إذا لم تعتبر معه علته نفيا وإثباتا، وليس الجمع بين هذه الأمور متناقضا، بل نزيد عيه فنقول: الممتنع أيضا منقسم إلى ممتنع لذاته وإلى ممتنع لغيره، فإجتماع السواد والبياض ممتنع لذاته، وكون السلب والإثبات في شيء واحد صادقا ممتنعا لذاته، وفرض القيامة اليوم، وقد علم الله تعالى أنه لا يقيمها اليوم مستحيل، ولكن لا لذاته كاستحالة الجمع بين البياض والسواد، ولكن لسبق علم الله بأنه لا يكون وإستحالة كون العلم جهلا، فكان امتناعه لغيره لا لذاته.
الثالث أنه لا يجوز أن يكون شيئان كل واحد منهما واجب الوجود لصاحبه، لأن ما يجب لغيره فله علة أقدم منه تقدما بالذات لا بالزمان، ويستحيل أن يكون المتقدم بالذات متأخرا بالذات، وهو من حيث أنه علة يجب أن يتقدم بالذات، وهو من حيث أنه معلول يجب أن يتأخر، وذلك محال إذ يلزم منه أن يكون الشيء قبل ما هو قبله بالذات.
الرابع أن واجب الوجود بذاته لا بد أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته، حتى لا يكون محلا للحوادث ولا متغيرا، فلا يكون له إرادة منتظرة ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات منتظرة عن وجوده، بل كل ما يمكن أن يكون له فيجب أن يكون حاضرا بذاته متأخرا عن ذاته لازما يمكن أن يكون له ولا يكون له، فإنما يكون حيث يكون لعلة وتنتفي، وحيث ينتفي بعدم ذلك العلة فيكون وجوده في حالتي عدم تلك الصفة ووجودها متعلقا بأمر خارج منه، إما نفي وإما اثبات حتى يستحيل خلوه عنه، فلا يكون واجب الوجود بذاته بل يستحيل ذاته إلا مع نفي تلك الصفة أو وجودها.
ويشترط بحالة الوجود وجود العلة، وبحال العدم إما عدم تلك العلة أو وجود علة معدومة، فلا تخلو ذاتها عن اشتراط شيء غير ذاتها لتصور ذلك بباقي ما فسرنا به واجب الوجود.
هذا ما أردنا أن نذكر من أحكام الوجود وأقسامه ولنقبض عنان البيان عند هذا فإنه خوض في التفصيل، وليس وضع هذا الكتاب لبيان تفاصيل الأمور بل لبيان طريق تعرف حقائق الأمور، وتمهيد قانون النظر وتثقيف معيار العلم ليميز بينه وبين الخيال والظن القريبين منه.
وإذا كانت السعادة في الدنيا والآخرة لا تنال إلا بالعلم والعمل، وكان يشتبه العلم الحقيقي بما لا حقيقة له، وافتقر بسببه إلى معيار فكذلك يشتبه العمل الصالح النافع في الآخرة بغيره، فيفتقر إلى ميزان تدرك به حقيته.
فلنصنف كتابا في ميوان العمل كما صنفناه في معيارالعلم، ولنفرد ذلك الكتاب بنفسه ليتجرد لهمن لا رغبة له في هذا الكتاب. والله يوفق متأمل الكتابين للنظر إليهما بعين العقل لا بعين التقليد، إنه ولي التأييد والتسديد.
آمين.