الباب الأول: أصول الإيمان

ابتداء قاعدة الاعتقاد الذي هو أصل الإيمان

إعلم أيها السلطان أنك مخلوق ولك خالق وهو خالق العالم وجميع ما في العالم، وأنه لا شريك له، فرد لا مثل له، كان في الأزل وليس لكونه زوال، ويكون مع الأبد وليس لبقائه فناء، وجوده في الأبد والأزل وما للعدم إليه سبيل، وهو موجود بذاته، وكل أحد محتاج إليه وليس له إلى أحد احتياج، وجوده به ووجود كل شيء به.

الأصل الثاني في تنزيه الخالق تعالى

إعلم أن البارئ، تعالى ذكره، ليس له صورة ولا مثل، وأنه لا ينزل ولا يحل في قالب، وأنه تعالى منزّه عن الكيف والكم، وعن لماذا وكم، وأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبه شيء، وكلما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التخيل والتمثيل والتكيف فانه منزّه عن ذلك، لأن ذلك من صفات المخلوقين وهو خالقها فلا يوصف بها، وأنه تعالى جدّه ليس في مكان ولا على مكان، فإن المكان لا يحصره، وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه، وعرشه تحت قدرته وتسخيره، وأنه قبل العرش كان فترها عن المكان وليس العرش بحامل له بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، واستواؤه على العرش كما قال، وعلى الوجه الذي قال وبالمعنى الذي أراد، استواء منزهاً عن الاستقرار والمماسة والتمكن والحلول والانتقال، وهو سبحانه فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب الى البعيد والقريب من حبل الوريد، وهوعلى كل شيء قدير وشهيد، فعّال لما يريد لا يزال في نعوت الجمال، وصفات الجلال، منزهاً عن الزوال والانتقال، مستعيناً عن زيادة الاستكمال، وأنه منزه عن الحاجة إلى المكان قبل خلقه العرش وبعد خلقه العرش، وأنه متّصف بالصفة التي كان عليها في الأزل، ولا سبيل إلى التغير والانقلاب إلى صفاته، وهو سبحانه مقدّس عن صفات المخلوقين ومنزّه عنهم، وهو في الدنيا معلوم وفي الآخرة مرئي كما نعلمه ي الدنيا بلا مثل ولا شبيه، لأن تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

الأصل الثالث في القدرة

وأنه تعالى على كل شيء قدير وملكه في نهاية الكمال، ولا سبيل إلى العجز والنقصان بل ما شاء وما يشاء يفعل، وأن السموات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش في قبضة قدرته وتحت قهره وتسخيره ومشيئته، وهو مالك لا ملك إلا ملكه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

الأصل الرابع في العلم

وأنه تعالى عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء، فليس شيء في العلا إلى الثرى إلا قد أحاط به علمه لأن الأشياء جميعها بعلمه ظهرت وبإرادته خلقها وبقدرته كونها، وأنه تعالى يعلم عدة رمال القفار، وقطرات الأمطار، وورق الأشجار، وغوامض الأفكار، وما دارت عليه الرياح والهواء في علمه ظاهر مثل عدد نجوم السماء. وأن جميع ما في العالم بإرادته ومشيئته وليس شيء من قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو ضر، زيادة أو نقصان، راحة أو تعب، صحة أو صب، إلا بحكمه وتدبيره، ومشيئته وتقديره. لو اجتمع الأنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحرَكوا في العالم ذرة أو يسكنوها أو ينقصوا منها أو يزيدوا فيها بغير إرادته وحوله وقوته لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا، وما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، ولا ترد مشيئته ومهما كان ويكون أو هو كائن فإنه بتدبيره وأمره وتسخيره.

الأصل الخامس والسادس في أنه سميع بصير

وكما أنه عالم بجميع المعلومات فإنه سميع لكل مسموع، بصير لكل مبصر، وأنه بسمع واحد وبصر واحد يرى دبيب النملة في الليلة المظلمة، ولا يخفى عن سمعه صوت الدود تحت أطباق الأرض، وأن سمعه ليس بأذن وبصره ليس بعين. وكما أن علمه لا يصدر عن فكرة ففعله بغير آلة وعدة يقول للشيء كن فيكون.

الأصل السابع في الكلام

وأن أمره تعالى على جميع الخلق نافذ واجب مهما أخبره من وعد ووعيد فانه حق وأمره كلامه. وكما أنه عالم مريد قدير سميع بصير فهو متكلم وكلامه بغير حلق ولا لسان، ولا فم ولا أسنان، والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزَلة على الأنبياء، عليهم السلام جميعها، كلامه. وكلامه صفته وكل صفاته قديمة، وكما أن الكلام عند الآدمي حرف وصوت فكلام الله منزَه عن الأصوات والحروف.

الأصل الثامن في أفعاله تعالى

وأن جميع ما في العالم مخلوق له تعالى وليس معه شريك ولا خالق بل هو الخالق الواحد، ومهما خلقه من تعب ومرض وفقر وعجز وجهل فعدل منه، ولا يمكن الظلم في أفعاله لأن الظالم هو الذي يتصرف في ملك غيره، والخالق تعالى لا يتصرف إلا في ملكه، وليس معه مالك سواء، وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له، وهو المالك بلا شبيه ولا شريك، وليس لأحد عليه اعتراض بلم وكيف، ولكن له الحكم والأمر في كل أفعاله وما لأحد غير التسليم والنظر إلى صنعه والرضا بقضائه.

الأصل التاسع في ذكر الآخرة

وأنه تعالى خلق العالم من نوعين جسد وروح، وجعل الجسد منزلاً للروح لتأخذ زاداً لآخرتها من هذا العالم، وجعل لكل روح مدة مقدّرة تكون في الجسد، فآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان، فإذا جاء الأجل فرّق بين الروح والجسد، وإذا وضع الميت في قبره أعيدت روحه إلى جسده ليجيب سؤال منكر ونكير، وهما شخصان هائلان عظيمان فيسألانه من ربك ومن نبيك فإن استعجم ولم يجب عذّباه وملآ قبره حيات وعقارب. ويوم القيامة، يوم الحساب والمكافأة والمناقشة والمجازاة، تردّ الروح إلى الجسد وتنشر الصحف وتعرض الأعمال على الخلائق، فينظر كل إنسان في كتابه فيرى أعماله، ويشاهد أفعاله، ويعلم مقدار طاعته ومعصيته، وتوزن أعماله في ميزان الأعمال ثم يؤمر بالجواز على الصراط. والصراط أدق من الشعرة وأحدّ من الشفرة فكل من كان في هذا العالم على الطريقة المستقيمة الصالحة، وسلوك المحجة الواضحة، عبر على الصراط وجازه في راحة واستراحة، وإن لم يكن على السيرة المحمودة، والأعمال الصالحة الرشيدة وعصي مولاه، واتَبع هواه، فأنه لا يجد الطريق على الصراط ولا يهتدي إلى الجواز ويقع في جهنم. والكل يوقفون على الصراط ويُسألون عن أفعالهم؛ فيُسأل الصادقون عن صدقهم ويمتحن المراؤون والمنافقون ويفضحون، فمن الناس قوم يدخلون الجنة بغير حساب وجماعة يحاسبون بالرفق والمسامحة، وجماعة يحاسبون بالصعوبة والمناقشة والمحاققة، ثم يسحب الكفار إلى نار جهنم بحيث لا يجدون خلاصاً، ويدخل أهل الجنة ويؤمر بالعصاة إلى النار، وكل من نالته شفاعة الأنبياء والعلماء والأكابر عُفي عنه، وكل من ليس له شفيع عوقب بمقدار إثمه وعُذب بقدر جرمه، ثم يدخل الجنة إن كان قد سلم معه أيمانه.

الأصل العاشر في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولما قدّر الله تعالى هذا التقدير وجعل الإنسان وأحواله، واكتسابه وأعماله، منها ما هو سبب لسعادته، ومنها ما هو سبب لشقاوته،والإنسان لا يقدر أن يعرف ذلك من تلقاء نفسه، خلق الله تعالى، بحكم فضله ورحمته، وطوله ومنته، ملائكة وبعثهم إلى أشخاص قد حكم لهم بالسعادة في الأزل وهم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فأرسلهم إلى الخلق ليوضحوا لهم طرق السعادة والشقاوة لئلا يكون للناس على الله حجة، وأرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم آخراً، وجعله بشيراً ونذيراً، فأوصل نبوّته إلى درجة الكمال، فلم يبقَ للزيادة فيه مجال، ولهذا جعله خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، وأمر الخلائق من الأنس والجن بطاعته واتباعه وجعله سيد الأولين والآخرين، وجعل أصحابه خير أصحاب الأنبياء، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ذكر فروع شجرة الإيمان إعلم أيها السلطان أن كل ما كان في قلب الإنسان من معرفة واعتقاد فذلك أصل الإيمان، وما كان جارياً على أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع الإيمان. فإذا كان الفرع ذاوياً دلّ على ضعف الأصل فإنه لا يثبت عند الموت، وعمل البدن عنوان إيمان القلب.

والأعمال التي هي فروع الإيمان هي تجنب المحارم وأداء الفرائض، وهما قسمان: أحدهما بينك وبين الله تعالى مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة واجتناب شرب الشراب والعفة عن الحرام.

والأخرى بينك وبين الخلق وهي العدل في الرعية والكف عن الظلم.

والأصل في ذلك أن تعمل فيما بينك وبين الخالق تعالى من طاعة أمره والازدجار بزجره، وما تختار أن تعتمده عبيدك في حقك، وأن تعمل فيما بينك وبين الناس ما تؤثر أن يعمل معك من سواك إذا كان غيرك السلطان وكنت من رعيته. واعلم أنّ ما كان بينك وبين الخالق سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة.