الباب الثالث: في ذكر الكتاب وآدابهم

قالت العلماء ليس شيء أفضل من القلم لأنه به يمكن اعادة السالف والماضي. ومن فضل القلم وشرفه أ الله تعالى اقسم به فقال عز من قائل: (ن والَقلَم وما يسطرَون) . وقال تعالى: (اِِقرَأ ورُبكَ الأكَرمُ الذِي عَلَمَ بِالَقلمِ عَلَمَ الِإنسانِ ما لم يعَلم) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو سائر إلى يوم القيامة الحديث) . قال عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) . قال معناه كاتب حاسب. وقال إن القلم صائغ الكلام.

حكمة: قال ابن المعتز القلم معدن والعقل جوهر والقلم صائغ والخط صناعة. قال جالينوس القلم طبيب الكلام. قال بليناس القلم طلسم كبير. قال اسكندر الدنيا تحت شيئين السيف والقلم والسيف تحت القلم والقلم أدب المتعملين وبضاعتهم وبه يعرف رأي كل إنسان من قريب وبعيد ومهما كان الرجل مجرباً للزمان فانه ما لم ينظر في الكتب لا يكون كامل العقل لأن مدة عمر الإنسان معلومة ومعلوم أيضاً أن في هذه المدة القريبة والعمر قصير كم يمكنه أن يدرك بتجربته ومعلوم أيضاً كم يمكنه أن يحفظ بقلبه. السيف والقلم حاكمان في جميع الأشياء، ولولا السيف والقلم ما قدمت الدنيا. وأما الكتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الاكابر. وقالت الحكماء والملوك القدماء: ينبغي أن يكون الكاتب عالماً بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض، ومعرفة استخراج الافتاء، ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم، ومعرفة الاجتماع والاستقبال، والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية، ومعرفة ريح الجنوب ولشمال، وعلم الشعر والقوافي. ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالماً ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وان يحرس نفسه أن يكون مجتمعاً متصلاً. وأن يكون الخط مبنياً ويعطي كل حرف حقه كما يحكى أنه كان لامير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنع عامل فكتب إلى عمرو بن العاص كتاباً لم يظهر سين سم الله الرحمن الرحيم فاستدعاه عمرو وقال له اظهر أولاً سين بسم الله ثم توجه بعد ذلك إلى عملك. وأول ما ينبغي للكاتب أن يعلم براية القلم فإن الإنسان إذا كان يحسن الخط ويعرف أن يبري قلمه فإن الخط على كل حال يجيء صالحاً.

حكاية: كان لشاهنشاه عشرة من الوزراء وكان في حملتهم لصاحب إسماعيل بن عباد فاجتمع الوزراء على تنكيسه واتفقوا على التضريب عليه وقالوا أن الصاحب لا يقدر أن يبري قلمه فلما علم بذلك شاهنشاه جمعهم وقالوا أن الصاحب أي أدب فيكم ليس لي مثله حتى تتجاسروا أن تتحدثوا عني بحضرة شاهنشاه وأن أبي علمني الوزارة ولم يعلمني التجارة أقل أدبي براية القلم وهل فيكم من يقدر أن يكتب كتاباً تاماً بقلم مكسور الرأس فجز الجماعة عن ذلك فقال له شاهنشاه اكتب أنت فأخذ الصاحب قلماً وكسر رأسه وكتب به درجاً تاماً فأقر الجماعة بفضله، واعترفوا بسداده ونبله، وأجود الأقلام ما كان مستقيماً أصفر اللون رقيق الوسط، والقلم المحرف من جانبه الايمن يصلح للخط العربي والفارسي والعبري واللسان الدري يجب أن يكون قلمه محرفاً من الجانب الأيسر، وخير الأقلام ما وصفه يحيى بن جعفر البرمكي في كتاب كتبه إلى يحيى بن ليث قلم لا غليظ ولا رقيق وسطه دقيق، يجب أن تكون السكين التي يبرى بها الأقلام في غاية الحدة وان تكون براية القلم على شكل منقار الكركي محرفاً من الجانب الايمن، وينبغي أن يكون المقط الذي يقط عليه في غاية الصلابة، ويجب أن تكون الانقاش فارسية خفيفة الوزن والكاغد صقيلاً متساوياً وان يجوز مده لانه يتوحش بذلك الخط وأن تكون صور الحروف يشبه بعضها بعضاً ولا يقدر ذلك إلا حكيم عاقل أو من تعودت بذلك أنامله.

وكان عبد الله بن رافع كاتباً لامير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال كنت أكتب يوماً فقال لي أمير المؤمنين ألق دواتك وأطل جلفة قلمك ووسع ما بين السطور واجمع ما بين الحروف وكان عبد الله بن جبلة كاتباً محسناً فقال لغلمانه لتكون أقلامكم بحرية فإن لم تكن بحرية فلتكن صفراً واقطعوا عقد الأقلام لئلا تنعقد الأمور، ولا يجوز انفاذ كتاب بغير ختم فإن كرم الكتاب ختمه.

وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: (أنِي ألقِي إِلي كِتَابٍ كَرِيمٍ) . أي مختوم.وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً إلى العجم وقال انهم لا يريدون كتاباً بغير ختم فختمه بخاتمه المبارك وكان عليه ثلاثة أسطر محمد رسول الله. خبر روى صخر بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب كتاباً إلى النجاشي رماه على التراب ثم أنفذه فلا جرم أنه أسلم. ولما كتب كتاباً إلى كسرى أنوشروان لم يلقه على التراب لا جرم أنه لم يسلم وقال صلى الله عليه وسلم تربوا كتبكم فإنه أنجح لحوائجكم. وقال تربوا الكتاب فإن التراب مبارك وإذا كتب الكتاب فليقرأ قبل طيه فإن رأى فيه خطأ تدراكه وأصلحه. وينبغي أن يجتهد الكاتب أن يكون الكلام قصيراً والمعنى طويلاً، وأن لا يكرر كلمة يكتبها، وأن يحترز من الألفاظ الثقيلة الغثة ليكون كاتبها محموداً. وفي باب الكتابة كلام طويل كثير ان ذكرناه طال الكتاب ونقتنع منه بهذا القدر فقد قيل خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل.