وإن كان مهماً فهو في حق بعض الخلق ليس بمهم بل المهم لهم تركه
إعلم أن الأدلة التي نحررها في هذا العلم تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلوب. والطبيب المستعمل لها إن لم يكن حاذقاً ثاقب العقل رصين الرأي كان ما يفسده بدوائه أكثر مما يصلحه. فليعلم المحصل لمضمون هذا الكتاب والمستفيد لهذه العلوم أن الناس أربع فرق: الفرقة الأولى: آمنت بالله وصدقت رسوله واعتقدت الحق وأضمرته واشتغلت إما بعبادة وإما بصناعة؛ فهؤلاء ينبغي أن يتركوا وما هم عليه ولا تحرك عقائدهم بالاستحثاث على تعلم هذا العلم، فإن صاحب الشرع صلوات الله عليه لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر من التصديق ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني. وهذا مما علم ضرورة من مجاري أحواله في تزكيته إيمان من سبق من أجلاف العرب إلى تصديقه ببحث وبرهان؛ بل بمجرد قرينة ومخيلة سبقت إلى قلوبهم فقادتها إلى الإذعان للحق والانقياد للصدق فهؤلاء مؤمنون حقاً فلا ينبغي أن تشوش عليهم عقائدهم، فإنه إذا تليت عليهم هذه البراهين وما عليها من الاشكالات وحلها لم يؤمن أن تعلق بأفهامهم مشكلة من المشكلات وتستولي عليها ولا تمحى عنها بما يذكر من طرق الحل. ولهذا لم ينقل عن الصحابة الخوض في هذا الفن لا بمباحثة ولا بتدريس ولا تصنيف، بل كان شغلهم بالعبادة والدعوة إليها وحمل الخلق على مراشدهم ومصالحهم في أحوالهم وأعمالهم ومعاشهم فقط.
الفرقة الثانية: طائفة مالت عن اعتقاد الحق كالكفرة والمبتدعة. فالجافي الغليظ منهم الضعيف العقل الجامد على التقليد الممتري على الباطل من مبتدأ النشوء إلى كبر السن لا ينفع معه إلا السوط والسيف. فأكثر الكفرة أسلموا تحت ظلال السيوف إذ يفعل الله بالسيف والسنان ما لا يفعل بالبرهان واللسان. وعن هذا إذا استقرأت تواريخ الأخبار لم تصادف ملحمة بين المسلمين والكفار إلا انكشفت عن جماعة من أهل الضلال مالوا إلى الانقياد، ولم تصادف مجمع مناظرة ومجادلة انكشفت إلا عن زيادة إصرار وعناد. ولا تظنن أن هذا الذي ذكرناه غض من منصب العقل وبرهانه ولكن نور العقل كرامة لا يخص الله بها إلا الآحاد من أوليائه، والغالب على الخلق القصور والاهمال، فهم لقصورهم لا يدركون براهين العقول كما لا تدرك نور الشمس أبصار الخفافيش. فهؤلاء تضر بهم العلوم كما تضر رياح الورد بالجعل. وفي مثل هؤلاء قال الامام الشافعي رحمه الله:
فمن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
الفرقة الثالثة: طائفة اعتقدوا الحق تقليداً وسماعاً ولكن خصوا في الفطرة بذكاء وفطنة فتنبهوا من أنفسهم لإشكالات تشككهم في عقائدهم وزلزلت عليهم طمأنينتهم، أو قرع سمعهم شبهة من الشبهات وحاكت في صدورهم. فهؤلاء يجب التلطف بهم في معالجتهم باعادة طمأنينتهم وإماطة شكوكهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم ولو بمجرد إستبعاد وتقبيح أو تلاوة آية أو رواية حديث أو نقل كلام من شخص مشهور عندهم بالفضل. فإذا زال شكه بذلك القدر فلا ينبغي أن يشافه بالأدلة المحررة على مراسم الجدال، فإن ذلك ربما يفتح عليه أبواباً أخر من الإشكالات. فإن كان ذكياً فطناً لم يقنعه إلا كلام يسير على محك التحقيق. فعند ذلك يجوز أن يشافه بالدليل الحقيقي وذلك على حسب الحاجة وفي موضع الاشكال على الخصوص. الفرقة الرابعة: طائفة من أهل الضلال يتفرس فيهم مخائل الذكاء والفطنة ويتوقع منهم قبول الحق بما اعتراهم في عقائدهم من الريبة أو بما يلين قلوبهم لقبول التشكيك بالجبلة والفطرة. فهؤلاء يجب التلطف بهم في استمالتهم إلى الحق وإرشادهم إلى الاعتقاد الصحيح لا في معرض المحاجة والتعصب، فإن ذلك يزيد في دواعي الضلال ويهيج بواعث التمادي والإصرار. وأكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحري والادلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزراء. فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة وعسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نظروا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقراً في قلب مجنون فضلاً عمن له قلب عاقل. والمجادلة والمعاندة داء محض لا دواء له، فليتحرز المتدين منه جهده وليترك الحقد والضغينة وينظر إلى كافة خلق الله بعين الرحمة، وليستعن بالرفق واللطف في ارشاد من ضل من هذه الأمة، وليتحفظ من النكد الذي يحرك داعية الضلال، وليتحقق أن مهيج داعية الاصرار بالعناد والتعصب معين على الاصرار على البدعة ومطالب بعهده اعانته في القيامة.