التمهيد الثالث: في بيان الاشتغال بهذا العلم من فروض الكفايات

إعلم أن التبحر في هذا العلم والاشتغال بمجامعه ليس من فروض الأعيان وهو من فروض الكفايات. فأما أنه ليس من فروض الأعيان فقد إتضح لك برهانه في التمهيد الثاني. إذ تبين أنه ليس يجب على كافة الخلق إلا التصديق الجزم وتطهير القلب عن الريب والشك في الإيمان. وإنما تصير إزالة الشك فرض عين في حق من اعتراه الشك.

فإن قلت فلم صار من فروض الكفايات وقد ذكرت أن أكثر الفرق يضرهم ذلك ولا ينفعهم ؟ فاعلم أنه قد سبق أن ازالة الشكوك في أصول العقائد واجبة، واعتوار الشك غير مستحيل وإن كان لا يقع إلا في الأقل، ثم الدعوة إلى الحق بالبرهان مهمة في الدين. ثم لا يبعد أن يثور مبتدع ويتصدى لإغواء أهل الحق بإفاضة الشبهة فيهم فلا بد ممن يقاوم شبهته بالكشف ويعارض إغواءه بالتقبيح، ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم. ولا تنفك البلاد عن أمثال هذه الوقائع، فوجب أن يكون في كل قطر من الأقطار وصقع من الأصقاع قائم بالحق مشتغل بهذا العلم يقاوم دعاة المبتدعة ويستميل المائلين عن الحق ويصفي قلوب أهل السنة عن عوارض الشبهة. فلو خلا عنه القطر خرج به أهل القطر كافة، كما لو خلا عن الطبيب والفقيه. نعم من أنس من نفسه تعلم الفقه أو الكلام وخلا الصقع عن القائم بهما ولم يتسع زمانه للجمع بينهما واستفتي في تعيين ما يشتغل به منهما؛ أوجبنا عليه الاشتغال بالفقه فإن الحاجة إليه أعم والوقائع فيه أكثر فلا يستغني أحد في ليله ونهاره عن الاستعانة بالفقه. واعتوار الشكوك المحوجة إلى علم الكلام باد بالإضافة إليه كما أنه لو خلا البلد عن الطبيب والفقيه كان التشاغل بالفقه أهم؛ لأنه يشترك في الحاجة إليه الجماهير والدهماء. فأما الطب فلا يحتاج إليه الأصحاء، والمرضى أقل عدداً بالإضافة إليهم. ثم المريض لا يستغني عن الفقه كما لا يستغني عن الطب وحاجته إلى الطب لحياته الفانية وإلى الفقه لحياته الباقية وشتان بين الحالتين. فإذا نسبت ثمرة الطب إلى ثمرة الفقه علمت ما بين الثمرتين. ويدلك على أن الفقه أهم العلوم اشتغال الصحابة رضي الله عنهم بالبحث عنه في مشاورتهم ومفاوضاتهم. ولا يغرنك ما يهول به من يعظم صناعة الكلام من أنه الأصل والفقه فرع له فإنها كلمة حق ولكنها غير نافعة في هذا المقام، فإن الأصل هو الاعتقاد الصحيح والتصديق الجزم وذلك حاصل بالتقليد والحاجة إلى البرهان ودقائق الجدل نادرة. والطبيب أيضاً قد يلبس فيقول وجودك ثم وجودك ثم وجود بدنك موقوف على صناعتي وحياتك منوطة بي فالحياة والصحة أولاً ثم الاشتغال بالدين ثانياً. ولكن لا يخفى ما تحت هذا الكلام من التمويه وقد نبهنا عليه.