التمهيد الرابع: في بيان مناهج الأدلة التي انتهجناها في هذا الكتاب

إعلم أن مناهج الأدلة متشعبة وقد أوردنا بعضها في كتاب محك النظر وأشبعنا القول فيها في كتاب معيار العلم. ولكنا في هذا الكتاب نحترز عن الطرق المتغلقة والمسالك الغامضة قصداً للايضاح وميلاً إلى الإيجاز واجتناباً للتطويل. ونقتصر على ثلاثة مناهج: المنهج الأول: السبر والتقسيم وهو ان نحصر الأمر في قسمين ثم يبطل أحدهما فيلزم منه ثبوت الثاني. كقولنا: العالم إما حادث وإما قديم، ومحال أن يكون قديماً فيلزم منه لا محالة أن يكون حادثاً أنه حادث وهذا اللازم هو مطلوبنا وهو علم مقصود إستفدناه من علمين آخرين أحدهما قولنا: العالم إما قديم أو حادث فإن الحكم بهذا الانحصار علم.

والثاني: قولنا ومحال أن يكون قديماً فإن هذا علم آخر.

والثالث: هو اللازم منهما وهو المطلوب بأنه حادث. وكل علم مطلوب، فلا يمكن أن يستفاد الا من علمين هما أصلان ولا كل أصلين، بل إذا وقع بينهما إزدواج على وجه مخصوص وشرط مخصوص، فإذا وقع الازدواج على شرطه أفاد علماً ثالثاً وهو المطلوب، وهذا الثالث قد نسميه دعوى إذا كان لنا خصم، ونسميه مطلوباً إذا كان لم يكن لنا خصم، لأنه مطلب الناظر ونسميه فائدة وفرعاً بالاضافة إلى الأصلين فإنه مستفاد منهما. ومهما أقر الخصم بالأصلين يلزمه لا محالة الاقرار بالفرع المستفاد منهما وهو صحة الدعوى.

المنهج الثاني: أن نرتب أصلين على وجه آخر مثل قولنا: كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو أصل، والعالم لا يخلو عن الحوادث فهو أصل آخر، فيلزم منهما صحة دعوانا وهو أن العالم حادث وهو المطلوب فتأمل. هل يتصور أن يقر الخصم بالأصلين ثم يمكنه إنكار صحة الدعوى فتعلم قطعاً أن ذلك محال.

المنهج الثالث: أن لا نتعرض لثبوت دعوانا، بل ندعي إستحالة دعوى الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال وما يفضي إلى المحال فهو محال لا محالة. مثاله: قولنا إن صح قول الخصم أن دورات الفلك لا نهاية لها لزم منه صحة قول القائل أن ما لا نهاية له قد انقضى وفرغ منه، ومعلوم أن هذا اللازم محال فيعلم منه لا محالة أن المفضي إليه محال وهو مذهب الخصم. فههنا أصلان: أحدهما قولنا إن كانت دورات الفلك لا نهاية لها فقد انقضى ما لا نهاية له، فإن الحكم بلزوم إنقضاء ما لا نهاية له- على القول بنفي النهاية عن دورات الفلك- علم ندعيه ونحكم به. ولكن يتصور فيه من الخصم إقراراً وإنكار بأن يقول: لا أسلم أنه يلزم ذلك. والثاني قولنا إن هذا اللازم محال فإنه أيضاً أصل يتصور فيه إنكار بأن يقول: سلمت الأصل الأول ولكن لا أسلم هذا الثاني وهو إستحالة إنقضاء ما لا نهاية له، ولكن لو أقر بالأصلين كان الاقرار بالمعلوم الثالث اللازم منهما واجباً بالضرورة؛ وهو الاقرار باستحالة مذهبه المفضي إلى هذا المحال. فهذه ثلاث مناهج في الاستدلال جلية لا يتصور إنكار حصول العلم منها، والعلم الحاصل هو المطلوب والمدلول، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل. والعلم بوجه لزوم هذا المطلوب من ازدواج الأصلين علم بوجه دلالة الدليل، وفكرك الذي هو عبارة عن إحضارك الأصلين في الذهن وطلبك التفطن لوجه لزوم العلم الثالث من العلمين الأصلين هو النظر؛ فإذن عليك في درك العلم المطلوب وظيفتان؛ إحداهما: إحضار الأصلين في الذهن وهذا يسمى فكراً، والآخر: تشوقك إلى التفطن لوجه لزوم المطلوب من ازدواج الأصلين وهذا يسمى طلباً. فلذلك قال من جرد التفاته إلى الوظيفة الأولى حيث أراد حد النظر أنه الفكر. وقال من جرد التفاته إلى الوظيفة الثانية في حد النظر أنه طلب علم أو غلبة ظن. وقال من التفت إلى الأمرين جميعاً أنه الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو غلبة ظن. فهكذا ينبغي أن تفهم الدليل والمدلول ووجه الدلالة وحقيقة النظر ودع عنك ما سودت به أوراق كثيرة من تطويلات وترديد عبارات لا تشفي غليل طالب ولا تسكن نهمة متعطش ولن يعرف قدر هذه الكلمات الوجيزة إلا من انصرف خائباً عن مقصده بعد مطالعة تصانيف كثيرة. فإن رجعت الآن في طلب الصحيح إلى ما قيل في حد النظر دل ذلك على انك تخص من هذا الكلام بطائل ولن ترجع منه إلى حاصل، فإنك إذا عرفت أنه ليس ههنا إلا علوم ثلاثة: علمان هما أصلان يترتبان ترتباً مخصوصاً، وعلم ثالث يلزم منهما وليس عليك فيه الا وظيفتان: إحداهما إحضار العلمين في ذهنك، والثانية التفطن لوجه العلم الثالث منهما. والخيرة بعد ذلك اليك في اطلاق لفظ النظر في ان تعبر به عن الفكر الذي هو احضار العلمين، أو عن التشوف الذي هو طلب التفطن لوجه لزوم العلم الثالث، أو عن الأمرين جميعاً، فإن العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها.

فان قلت غرضي أن أعرف اصطلاح المتكلمين وأنهم عبروا بالنظر عماذا، فاعلم أنك إذا سمعت واحداً يجد النظر بالفكر، وآخر بالطلب، وآخر بالفكر الذي هو يطلب به، لم تسترب في اختلاف اصطلاحاتهم على ثلاثة أوجه. والعجب ممن لا يتفطن هذا ويفرض الكلام في حد النظر.

مسألة خلافية: ويستدل بصحة واحد من الحدود وليس يدري أن حظ المعنى المعقول من هذه الأمور لا خلاف فيه وأن الأصطلاح لا معنى للخلاف فيه. وإذا أنت امعنت النظر واهتديت السبيل عرفت قطعاً أن أكثر الأغاليط نشأت من ضلال من طلب المعاني من الألفاظ، ولقد كان من حقه أن يقدر المعاني أولاً ثم ينظر في الألفاظ ثانياً، ويعلم أنها اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات. ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق، ونكل عن التحقيق.

فإن قلت: إني لا استريب في لزوم صحة الدعوى من هذين الأصلين إذا أقر الخصم بهما على هذا الوجه، ولكن من أين يجب على الخصم الاقرار بهما ومن أين تقتضي هذه الأحوال المسلمة الواجبة التسليم؟ فاعلم أن لها مدارك شتى ولكن الذي نستعمله في هذا الكتاب نجتهد أن لا يعد ستة: الأول منها: الحسيات، أعني المدرك بالمشاهدة الظاهرة والباطنة، مثاله أنا إذا قلنا مثلاً كل حادث فله سبب، وفي العالم حوادث فلا بد لها من سبب. فقولنا: في العالم حوادث، أصل واحد يجب الإقرار به، فإنه يدرك بالمشاهدة الظاهرة حدوث أشخاص الحيوانات والنباتات والغيوم والامطار ومن الأعراض والأصوات والألوان. وان تخيل أنها منتقلة، فالانتقال حادث ونحن لم ندع إلا حادثاً ولم نعين أن ذلك الحادث جوهر أو عرض أو انتقال أو غيره. وكذلك يعلم بالمشاهدة الباطنة حدوث الآلام والافراح والغموم في قلبه فلا يمكنه انكاره.

الثاني: العقل المحض، فإنا إذا قلنا: العالم أما قديم مؤخر، وإما حادث مقدم، وليس وراء القسمين قسم ثالث، وجب الاعتراف به على كل عاقل. مثاله أن تقول: كل ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، والعالم لا يسبق الحوادث فهو حادث، فأحد الأصلين قولنا أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث.

ويجب على الخصم الإقرار به، لأن ما لا يسبق الحادث إما أن يكون مع الحادث أو بعده ولا يمكن قسم ثالث، فإن ادعى قسماً ثالثاً كان منكراً لما هو بديهي في العقل، وإن انكر أن ما هو مع الحادث أو بعده ليس بحادث فهو أيضاً منكر للبديهة. الثالث: التواتر، مثاله أنا نقول محمد صلوات الله وسلامه عليه صادق لأن كل من جاء بالمعجزة فهو صادق، وقد جاء هو بالمعجزة فهو إذاً صادق، فإن قيل أنا لا نسلم أنه جاء بالمعجزة فنقول: قد جاءنا بالقرآن والقرآن معجزة، فإذاً قد جاء بالمعجزة. فإن سلم الخصم أحد الأصلين وهو أن القرآن معجزة، أما بالطوع أو بالدليل، وأراد إنكار الأصل الثاني وهو أنه قد جاء بالقرآن، وقال لا أسلم أن القرآن مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، لم يمكنه ذلك لأن التواتر يحصل العلم به كما حصل لنا العلم بوجوده وبدعواه النبوة وبوجود مكة ووجود موسى وعيسى وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

الرابع: أن يكون الأصل مثبتاً بقياس آخر يستند بدرجة واحدة أو درجات كثيرة إما إلى الحسيات أو العقليات أو المتواترات، فإن ما هو فرع الأصلين يمكن أن يجعل أصلاً في قياس آخر. مثاله أنا بعد أن نفرغ من الدليل على حدوث العالم يمكننا أن نجعل حدوث العالم أصلاً في نظم قياس، مثلاً أن نقول كل حادث فله سبب والعالم حادث فإذا له سبب، فلا يمكنهم انكار كون العالم حادثاً بعد أن اثبتنا بالدليل حدوثه.

الخامس: السمعيات، مثاله انا ندعي مثلاً ان المعاصي بمشيئة الله تعالى، ونقول كل كائن فهو بمشيئة الله تعالى والمعاصي كائنة فهي إذاً بمشيئة الله تعالى؛ فأما قولنا هي كائنة فمعلوم وجودها بالحس، وكونها معصية بالشرع، وأما قولنا كل كائن بمشيئة الله تعالى فإذا أنكر الخصم ذلك منعه الشرع مهما كان مقراً بالشرع أو كان قد أثبت عليه بالدليل فإنا نثبت هذا الأصل بإجماع الأمة على صدق قول القائل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فيكون السمع مانعاً من الانكار.

السادس: أن يكون الأصل مأخوذاً من معتقدات الخصم ومسلماته. فإنه وإن لم يقم لنا عليه دليل أو لم يكن حسياً ولا عقلياً، انتفعنا باتخاذه إياه أصلاً في قياسنا وامتنع عليه الإنكار الهادم لمذهبه. وأمثلة هذا مما تكثر فلا حاجة إلى تعيينه. فإن قلت: فهل من فرق بين هذه المدارك في الانتفاع بها في المقاييس النظرية ؟ فاعلم أنها متفاوتة في عموم الفائدة، فإن المدارك العقلية والحسية عامة مع كافة الخلق إلا من لا عقل له ولا حس له وكان الأصل معلوماً فالحس الذي فقده كالأصل المعلوم بحاسة البصر إذا استعمل مع الأكمه فإنه لا ينفع، والأكمه إذا كان هو الناظر لم يمكنه أن يتخذ ذلك أصلاً، وكذلك المسموع في حق الأصم. وأما المتواتر فإنه نافع ولكن في حق من تواتر إليه، فأما من لم يتواتر إليه ممن وصل إلينا في الحال من مان بعيد لم تبلغه الدعوة فأردنا أن نبين له بالتواتر أن نبينا وسيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم تسليماً وعلى آله وصحبه تحدى بالقرآن، لم يقدر عليه ما لم يمهله مدة من يتواتر عنده، ورب شيء يتواتر عند قوم دون قوم، فقول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة قتل المسلم بالذمي متواتر عند الفقهاء من أصحابه دون العوام من المقلدين وكم من مذهب له في أحاد المسائل لم يتواتر عند أكثر الفقهاء وأما الأصل المستفاد من قياس آخر فلا ينفع إلا مع من قدر معه ذلك القياس.

وأما مسلمات المذاهب فلا تنفع الناظر وإنما تنفع المناظر مع من يعتقد ذلك المذهب. وأما السمعيات فلا تنفع إلا من يثبت السمع عنه، فهذه مدارك علوم هذه الأصول المفيدة بترتيبها ونظمها العلم بالأمور المجهولة المطلوبة وقد فرغنا من التمهيدات فلنشتغل بالأقطاب التي هي مقاصد الكتاب.