وفيه عشر دعاوى الدعوى الأولى: وجوده تعالى وتقدس، برهانه أنا نقول كل حادث فلحدوثه سبب، والعالم حادث فيلزم منه إن له سبباً، ونعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى. ونعني بكل موجود سوى الله تعالى الأجسام كلها وأعراضها، وشرح ذلك بالتفصيل أنا لا نشك في أصل الوجود، ثم نعلم أن كل موجود اما متحيزاً أو غير متحيز، وأن كل متحيز إن لم يكن فيه ائتلاف فنسميه جوهراً فرداً، وإن ائتلف إلى غيره سميناه جسماً، وإن غير المتحيز أما أن يستدعي وجوده جسماً يقوم به ونسميه الأعراض، أو لا يستدعيه وهو الله سبحانه وتعالى، فأما ثبوت الأجسام وأعراضها، فمعلوم بالمشاهدة، ولا يلتفت إلى من ينازع في الأعراض وإن طال فيها صياحه وأخذ يلتمس منك دليلاً عليه، فإن شغبه ونزاعه والتماسه وصياحه، وإن لم يكن موجوداً فكيف نشتغل بالجواب عنه والإصغاء إليه، وإن كان موجوداً فهو لا محالة غير جسم المنازع إذ كان جسماً موجوداً من قبل، ولم يكن التنازع موجوداً فقد عرفت أن الجسم والعرض مدركان بالمشاهدة. فإما موجود ليس بجسم ولا جوهر متحيز ولا عرض فيه فلا يدرك بالحس ونحن ندعي وجوده وندعي أن العالم موجود به، وبقدرته، وهذا يدرك بالدليل لا بالحس، والدليل ما ذكرناه، فلنرجع إلى تحقيقه. فقد جمعنا فيه أصلين فلعل الخصم ينكرهما، فنقول له: في أي الأصلين تنازع ؟ فإن قال إنما أنازع في قولك إن كل حادث فله سبب فمن أين عرفت هذا، فنقول: إن هذا الأصل يجب الاقرار به، فإنه أولي ضروري في العقل، ومن يتوقف فيه فإنما يتوقف لأنه ربما لا ينكشف له ما نريده بلفظ الحادث، ولفظ السبب، وإذا فهمهما صدق عقله بالضرورة بأن لكل حادث سبباً، فانا نعني بالحادث ما كان معدوماً ثم صار موجوداً فنقول وجوده قبل أن وجد كان محالاً أو ممكناً، وباطل أن يكون محالاً لأن المحال لا يوجد قط، وإن كان ممكناً فلسنا نعني بالممكن إلا ما يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد ولكن لم يكن موجوداً لأنه ليس يجب وجوده لذاته إذ لو وجد وجوده لذاته لكان واجباً لا ممكناً، بل قد افتقر وجوده إلى مرجح لوجوده على العدم حتى يتبدل العدم بالوجود. فإذا كان استمرار عدمه من حيث أنه لا مرجح للوجود على العدم، فمن لم يوجد المرجح لا يوجد الوجود، ونحن لا نريد بالسبب إلا المرجح: والحاصل أن المعدوم المستمر العدم لا يتبدل عدمه بالوجود ما لم يتحقق أمر من الأمور يرجح جانب الوجود على استمرار العدم، وهذا إذا حصل في الذهن معنى لفظه كان العقل مضطراً إلى التصديق به. فهذا بيان اثبات هذا الأصل وهو على التحقيق شرح للفظ الحادث والسبب لاقامة دليل عليه.
فإن قيل لم تنكرون على من ينازع في الأصل الثاني، وهو قولكم أن العالم حادث، فنقول: إن هذا الأصل ليس بأولي في العقل، بل نثبته ببرهان منظوم من أصلين آخرين هو أنا نقول إذ قلنا أن العالم حادث أردنا بالعالم الآن، الأجسام والجواهر فقط، فنقول كل جسم فلا يخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فيلزم منه أن كل جسم فهو حادث ففي أي الأصلين النزاع ؟ فإن قيل لم قيل أن كل جسم أو متحيز فلا يخلو عن الحوادث ؟ قلنا: لأنه لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، فإن قيل: ادعيتم وجودهما ثم حدوثهما، فلا نسلم الوجود ولا الحدوث، قلنا هذا سؤال قد طال الجواب عنه في تصانيف الكلام، وليس يستحق هذا التطويل فإنه لا يصدر قط من مسترشد إذ لا يستريب عاقل قط في ثبوت الأعراض في ذاته من الآلام والأسقام والجوع والعطش وسائر الأحوال، ولا في حدوثها. وكذلك إذا نظرنا إلى أجسام العالم لم نسترب في تبدل الأحوال عليها، وإن تلك التبديلات حادثة، وإن صدر من خصم معاند فلا معنى للاشتغال به، وإن فرض فيه خصم معتقد لما نقوله فهو فرض محال إن كان الخصم عاقلاً، بل الخصم في حدوث العالم الفلاسفة وهم مصرحون بأن أجسام العالم تنقسم إلى السموات، وهي متحركة على الدوام، وآحاد حركاتها حادثة ولكنها دائمة متلاحقة على الاتصال أزلاً وأبداً وإلى العناصر الأربعة التي يحويها مقعر فلك القمر، وهي مشتركة في مادة حاملة لصورها وأعراضها وتلك المادة قديمة والصور والأعراض حادثة متعاقبة عليها أزلاً وأبداً وإن الماء ينقلب بالحرارة هواء، والهواء يستحيل بالحرارة ناراً، وهكذا بقية العناصر، وإنها تمتزج امتزاجات حادثة فتتكون منهما المعادن والنبات والحيوان، فلا تنفك العناصر عن هذه الصور الحادثة ولا تنفك السموات عن الحركات الحادثة أبداً، وإنما ينازعون في قولنا أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فلا معنى للإطناب في هذا الأصل، ولكنا لإقامة الرسم نقول: الجوهر بالضرورة لا يخلو عن الحركة والسكون، وهما حادثان. أما الحركة فحدوثها محسوس وإن فرض جوهر ساكن كالأرض، ففرض حركته ليس بمحال بل نعلم جوازه بالضرورة، وإذا وقع ذلك الجائز كان حادثاً وكان معدماً للسكون، فيكون السكون أيضاً قبله حادثاً لأن القديم لا ينعدم كما سنذكره في إقامة الدليل على بقاء الله تعالى، وإن أردنا سياق دليل على وجود الحركة زائدة على الجسم، قلنا: إنا إذا قلنا هذا الجوهر متحرك أثبتنا شيئاً سوى الجوهر متحرك أثبتنا شيئاً سوى الجوهر بدليل أنا إذا قلنا هذا الجوهر ليس بمتحرك، صدق قولنا وإن كان الجوهر باقياً ساكناً، فلو كان المفهوم من الحركة عين الجوهر لكان نفيها نفي عين الجوهر. وهكذا يطرد الدليل في إثبات السكون ونفيه، وعلى الجملة. فتكلف الدليل على الواضحات يزيدها غموضاً ولا يفيدها وضوحاً.
فإن قيل: فبم عرفتم أنها حادثة فلعلها كانت كامنة فظهرت، قلنا: لو كنا نشتغل في هذا الكتاب بالفضول الخارج عن المقصود لأبطلنا القول بالكمون والظهور في الأعراض رأساً، ولكن ما لا يبطل مقصودنا فلا نشتغل به، بل نقول: الجوهر لا يخلو عن كمون الحركة فيه أو ظهورها، وهما حادثان فقد ثبت أنه لا يخلو عن الحوادث.
فإن قيل: فلعلها انتقلت إليه من موضع آخر، فبم يعرف بطلان القول، بانتقال الأعراض ؟ قلنا: قد ذكر في إبطال ذلك أدلة ضعيفة لا نطول الكتاب بنقلها ونقضها، ولكن الصحيح في الكشف عن بطلانه أن نبين أن تجويز ذلك لا يتسع له عقل من لم يذهل عن فهم حقيقة العرض وحقيقة الانتقال، ومن فهم حقيقة العرض تحقق استحالة الانتقال فيه. وبيانه أن الانتقال عبارة أخذت من انتقال الجوهر من حيز إلى حيز، وذلك يثبت في العقل بأن فهم الجوهر وفهم الحيز وفهم اختصاص الجوهر بالحيز زائد على ذات الجوهر، ثم علم أن العرض لا بد له من محل كما لا بد للجوهر من حيز، فتتخيل أن إضافة العرض إلى المحل كإضافة الجوهر إلى الحيز فيسبق منه إلى الوهم إمكان الانتقال عنه، كما في الجوهر، ولو كانت هذه المقايسة صحيحة لكان اختصاص العرض بالمحل كوناً زائداً على ذات العرض والمحل كما كان اختصاص الجوهر بالحيز كوناً زائداً على ذات الجوهر والحيز، ولصار يقوم بالعرض عرض، ثم يفتقر قيام العرض بالعرض إلى إختصاص آخر يزيد على القائم والمقوم به، وهكذا يتسلل ويؤدي إلى أن لا يوجد عرض واحد ما لم توجد أعراض لا نهاية لها، فلنبحث عن السبب الذي لأجله فرق بين اختصاص العرض بالمحل وبين اختصاص الجوهر بالحيز في كون أحد الاختصاصيين زائداً على ذات المختص ودون الآخر، فمنه يتبين الغلط في توهم الانتقال. والسر فيه، أن المحل وإن كان لازماً للعرض كما أن الحيز لازم للجوهر، ولكن بين اللازمين فرق: إذ رب لازم ذاتي للشيء، ورب لازم ليس بذاتي للشيء، وأعني بالذاتي ما يجب ببطلانه بطلان الشيء، فإن بطل الوجود بطل به وجود الشيء، وإن بطل في العقل بطل وجود العلم به في العقل، والحيز ليس ذاتياً للجوهر فإنا نعلم الجسم والجوهر أولاً ثم ننظر بعد ذلك في الحيز، أهو أمر ثابت أم هو أمر موهوم ونتوصل إلى تحقيق ذلك بدليل وندرك الجسم بالحس في المشاهدة من غير دليل. فلذلك لم يكن الحيز المعين مثلاً لجسم زيد ذاتياً لزيد، ولم يلزم من فقد ذلك الحيز وتبدله بطلان جسم زيد، وليس كذلك طول زيد مثلاً لأنه عرض في زيد لا نعقله في نفسه دون زيد بل نعقل زيداً الطويل، فطول زيد يعلم تابعاً لوجود زيد ويلزم من تقدير عدم زيد بطلان طول زيد، فليس لطول زيد قوام في الوجود وفي العقل دون زيد. فاختصاصه بزيد ذاتي له، أي هو لذاته لا لمعنى زائد عليه هو اختصاص، فإن بطل ذلك الاختصاص بطلت ذاته والانتقال يبطل الاختصاص فتبطل ذاته، إذ ليس اختصاصه بزيد زائداً على ذاته، أعني ذات العرض، بخلاف اختصاص الجوهر بالحيز فإنه زائد عليه فليس في بطلانه، بالانتقال ما يبطل ذاته، ورجع الكلام إلى أن الانتقال يبطل الاختصاص بالمحل، فإن كان الاختصاص زائداً على الذات لم تبطل به الذات، وإن لم يكن معنى زائداً بطلت ببطلانه الذات، فقد انكشف هذا وآل النظر إلى أن اختصاص العرض بمحله لم يكن زائداً على ذات العرض كاختصاص الجوهر بحيزه، وأما العرض فإنه عقل بالجوهر لا بنفسه فذات العرض وكونه للجوهر المعين وليس له ذات سواه. فإذا قدرنا مفارقته لذلك الجوهر المعين فقد قدرنا عدم ذاته، وإنما فرضنا الكلام في الطول لتفهيم المقصود فإنه وإن لم يكن عرضاً ولكنه، عبارة عن كثرة الأجسام في جهة واحدة، ولكنه مقرب لغرضنا إلى الفهم، فإذا فهم فلننقل البيان إلى الأعراض. وهذا التوفيق والتحقيق وإن لم يكن لائقاً بهذا الإيجاز ولكن افتقر إليه لأن ما ذكر فيه غير مقنع ولا شاف. فقد فرغنا من إثبات أحد الأصلين، وهو أن العالم لا يخلو عن الحوادث، فإنه لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثات وليسا بمنتقلين، مع أن الإطناب ليس في مقابلة خصم معتقد، إذ أجمع الفلاسفة على أن أجسام العالم لا تخلو عن الحوادث، وهم المنكرون لحدوث العالم، فإن قيل: فقد بقي الأصل الثاني وهو قولكم إن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فما الدليل عليه ؟ قلنا: لأن العالم لو كان قديماً مع أنه لا يخلو عن الحوادث، لثبتت حوادث لا أول لها وللزم أن تكون دورات الفلك غير متناهية الاعداد، وذلك محال لأن كل ما يفضي إلى المحال فهو محال، ونحن نبين أنه يلزم عيه ثلاثة محالات:
الأول- أن ذلك لو ثبت لكان قد انقضى ما لا نهاية له، ووقع الفراغ منه وانتهى، ولا فرق بين قولنا انقضى ولا بين قولنا انتهى ولا بين قولنا تناهى، فيلزم أن يقال قد تناهى ما لا يتناهى، ومن المحال البين أن يتناهى ما لا يتناهى وأن ينتهي وينقضي ما لا يتناهى.
الثاني- أن دورات الفلك إن لم تكن متناهية فهي إما شفع وإما وتر، وإما لا شفع ولا وتر، وإما شفع ووتر معاً. وهذه الأقسام الأربعة محال؛ فالمفضي إليها محال إذ يستحيل عدد لا شفع ولا وتر، أو شفع ووتر، فإن الشفع هو الذي ينقسم إلى متساويين كالعشرة مثلاً، والوتر هو أحد الذي لا ينقسم إلى متساويين كالتسعة، وكل عدد مركب من آحاد إما أن ينقسم بمتساويين، أو لا ينقسم بمتساويين، وأما أن يتصف بالانقسام وعدم الانقسام، أو ينفك عنهما جميعاً فهو محال، وباطل أن يكون شفعاً لأن الشفع إنما لا يكون وتراً لأنه يعوزه واحد، فإذا انضاف إليه واحد صار وتراً، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد ؟ ومحال أن يكون وتراً. لأن الوتر يصير شفعاً بواحد، فيبقى وتراً لأنه يعوزه ذلك الواحد، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد ؟ الثالث- أنه يلزم عليه أن يكون عددان، كل واحد منهما لا يتناهى، ثم أن أحدهما أقل من الآخر، ومحال أن يكون ما لا يتناهى أقل مما لا يتناهى لأن الأقل هو الذي يعوزه شيء لو أضيف إليه لصار متساوياً، وما لا يتناهى كيف يعوزه شيء ؟ وبيانه أن زحل عندهم يدور في كل ثلاثين سنة دورة واحدة، والشمس في كل سنة دورة واحدة، فيكون عدد دورات زحل مثل ثلث عشر دورات الشمس، إذ الشمس تدور في ثلاثين سنة ثلاثين دورة، وزحل يدور دورة واحدة، والواحد من الثلاثين ثلث عشر. ثم دورات زحل لا نهاية لها وهي أقل من دورات الشمس، إذ يعلم ضرورة أن ثلث عشر الشيء أقل من الشيء، والقمر يدور في السنة اثنتي عشرة مرة، فيكون عدد دورات الشمس مثلاً نصف سدس دورات القمر، وكل واحد لا نهاية له وبعضه أقل من بعض، فذلك من المحال البين. فإن قيل: مقدورات الباري تعالى عندكم لا نهاية لها وكذا معلوماته، والمعلومات أكثر من المقدورات إذ ذات القديم تعالى وصفاته معلومة له وكذا الموجود المستمر الوجود، وليس شيء من ذلك مقدوراً. قلنا نحن: إذا قلنا لا نهاية لمقدوراته، لم نرد به ما نريد بقولنا لا نهاية لمعلوماته بل نريد به أن لله تعالى صفة يعبر عنها بالقدرة، يتأتى بها الايجاد، وهذا الثاني لا ينعدم قط.
وليس تحت قولنا- هذا الثأني لا ينعدم- إثبات أشياء فضلاً من أن توصف بأنها متناهية أو غير متناهية، وإنما يقع هذا الغلط لمن ينظر في المعاني من الألفاظ فيرى توازن لفظ المعلومات والمقدورات من حيث التصريف في اللغة، فيظن أن المراد بهما واحد. هيهات لا مناسبة بينهما البتة. ثم تحت قولنا المعلومات لا نهاية لها أيضاً سر يخالف السابق منه إلى الفهم، إذ السابق منه إلى الفهم إثبات أشياء تسمى معلومات لا نهاية لها، وهو محال، بل الأشياء هي الموجودات، وهي متناهية، ولكن بيان ذلك يستدعي تطويلا.
وقد اندفع الإشكال بالكشف عن معنى نفي النهاية عن المقدورات، فالنظر في الطرف الثاني وهو المعلومات مستغنى عنه في دفع الالزام، فقد بانت صحة هذا الأصل بالمنهج الثالث من مناهج الأدلة المذكورة في التمهيد الرابع من الكتاب وعند هذا يعلم وجود الصانع إذ بان القياس الذي ذكرناه، وهو قولنا أن العالم حادث وكل حادث فله سبب فالعالم له سبب. فقد ثبتت هذه الدعوى بهذا المنهج، ولكن بعد لم يظهر لنا إلا موجود السبب، فأما كونه حادثاً أو قديماً وصفاً له فلم يظهر بعد فلنشتغل به.
الدعوى الثانية: ندعي أن السبب الذي أثبتناه لوجود العالم قديم فإنه لو كان حادثاً لافتقر إلى سبب آخر، وكذلك السبب الآخر ويتسلسل إما إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن ينتهي إلى قديم لا محالة يقف عنده وهو الذي نطلبه ونسميه صانع العالم. ولا بد من الاعتراف به بالضرورة ولا نعني بقولنا قديم إلا أن وجوده غير مسبوق بعدم، فليس تحت لفظ القديم إلا إثبات موجود ونفي عدم سابق. فلا تظنن أن القدم معنى زائد على ذات القديم، فيلزمك أن تقول ذلك المعنى أيضاً قديم بقدم زائد عليه، ويتسلسل القوم إلى غير نهاية.
الدعوى الثالثة: ندعي أن صانع العالم مع كونه موجوداً لم يزل فهو باق لا يزال لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. وإنما قلنا ذلك لأنه لو العدم لافتقر عدمه إلى سبب فإنه طارئ بعد استمرار الوجود في القدم. وقد ذكرنا ان كل طارئ فلا بد له من سبب من حيث انه طارئ لا من حيث أنه موجود، وكما افتقر تبدل العدم بالوجود إلى مرجح للوجود على العدم، فكذلك يفتقر تبدل الوجود بالعدم إلى مرجح للعدم على الوجود، وذلك المرجح إما فاعل بعدم القدرة، أو ضد انقطاع شرط من شروط الوجود. ومحال أن يحال على القدرة؛ إذ لوجود شيء ثابت يجوز أن يصدر عن القدرة، فيكون القادر باستعماله فعل شيئاً والعدم ليس بشيء، فيستحيل أن يكون فعلاً واقعاً بأثر القدرة. فإنا نقول: فاعل العدم هل فعل شيئاً ؟ فإن قيل نعم، كان محالاً، لأن النفي ليس بشيء.
وإن قال المعتزلي أن المعدوم شيء وذات، فليس ذلك الذات من أثر القدرة، فلا يتصف أن يقول الفعل الواقع بالقدرة فعل ذلك الذات فإنها أزلية، وإنما فعله نفي وجود الذات، ونفي وجود الذات ليس شيئاً، فاذاً ما فعل شيئاً.
وإذا صدق قولنا ما فعل شيئاً صدق قولنا أنه لم يستعمل القدرة في أثر البتة، فبقي كما كان ولم يفعل شيئاً. وباطل أن يقال أنه يعدمه ضده لأن الضد إن فرض حادثاً اندفع وجوده بمضادة القديم، وكان ذلك أولى من أن ينقطع به وجود القديم.
ومحال أن يكون له ضد قديم كان موجوداً معه في القدم ولم يعدمه وقد أعدمه الآن، وباطل أن يقال انعدم لانعدام شرط وجوده، فإن الشرط إن كان حادثاً استحال أن يكون وجود القديم مشروطاً بحادث، وإن كان قديماً فالكلام في استحالة عدم الشرط كالكلام في استحالة عدم المشروط فلا يتصور عدمه.
فإن قيل فبما إذاً تفنى عندكم الجواهر والأعراض ؟ قلنا: أما الأعراض فبأنفسها، ونعني بقولنا بأنفسها أن ذواتها لا يتصور لها بقاء. ويفهم المذهب فيه بأن يفرض في الحركة، فإن الأكوان المتعاقبة في أحيان متواصلة لا توصف بأنها حركات إلا بتلاحقها على سبيل دوام التجدد ودوام الانعدام، فإنها إن فرض بقاؤها كانت سكوناً لا حركة، ولا تعقل ذات الحركة ما لم يعقل معها العدم عقيب الوجود. وهذا يفهم في الحركة بغير برهان.
وأما الألوان وسائر الأعراض، فإنما تفهم بما ذكرناه من أنه لو بقي لاستحال عدمه بالقدرة وبالضد كما سبق في القديم، ومثل هذا العدم محال في حق الله تعالى فإنا بينا قدمه أولاً واستمرار وجوده فيما لم يزل، فلم يكن من ضرورة وجوده حقيقة فناؤه عقيبه، كما كان من ضرورة وجود الحركة حقيقة أن تفنى عقيب الوجود. وأما الجواهر فانعدامها بان لا تخلق فيها الحركة والسكون فينقطع شرط وجودها فلا يعقل بقاؤها.
الدعوى الرابعة: ندعي أن صانع العالم ليس بجوهر متحيز لأنه قد ثبت قدمه، ولو كان متحيزاً لكان لا يخلو عن الحركة في حيزه أو السكون فيه، وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث كما سبق.
فإن قيل: بم تنكرون على من يسميه جوهراً، ولا يعتقده متحيزاً ؟ قلنا العقل عندنا لا يوجب الامتناع من اطلاق الألفاظ وإنما يمنع عنه إما لحق اللغة وإما لحق الشرع. أما حق اللغة فذلك إذا ادعى أنه موافق لوضع اللسان فيبحث عنه، فإن ادعى واضعه له أنه اسمه على الحقيقة، أي واضع اللغة وضعه له، فهو كاذب على اللسان وإن زعم أنه استعاره نظراً إلى المعنى الذي به شارك المستعار منه، فإن صلح للاستعارة لم ينكر عليه بحق اللغة وإن لم يصلح قيل له أخطأت على اللغة ولا يستعظم ذلك إلا بقدر استعظام صنيع من يبعد في الاستعارة، والنظر في ذلك لا يليق بمباحث العقول.
وأما حق الشرع وجواز ذلك وتحريمه، فهو بحث فقهي يجب طلبه على الفقهاء إذ لا فرق بين البحث عن جواز اطلاق الألفاظ من غير إرادة معنى فاسد وبين البحث عن جواز الأفعال. وفيه رأيان: أحدهما، أن يقال: لا يطلق اسم في حق الله تعالى إلا بالاذن، وهذا لم يرد فيه إذن فيحرم. وأما أن يقال لا يحرم إلا بالنهي وهذا لم يرد فيه نهي فينظر: فإن كان يوهم خطأ فيجب الاحتراز منه لأن إيهام الخطأ في صفات الله تعالى حرام. وإن لم يوهم خطأ يحكم بتحريمه، فكلا الطريقين محتمل. ثم الايهام يختلف باللغات وعادات الاستعمال فرب لفظ يوهم عند قوم ولا يوهم عند غيرهم.
الدعوى الخامسة: ندعي أن صانع العالم ليس بجسم، لأن كل جسم فهو متألف من جوهرين متحيزين، وإذا استحال أن يكون جوهراً استحال أن يكون جسماً، ونحن لا نعني بالجسم إلا هذا.
فإن سماه جسماً ولم يرد هذا المعنى كانت المضايقة معه بحق اللغة أو بحق الشرع لا بحق العقل فإن العقل لا يحكم في اطلاق الألفاظ ونظم الحروف والأصوات التي هي اصطلاحات، ولأنه لو كان جسماً لكان مقداراً بمقدار مخصوص ويجوز أن يكون أصغر منه أو أكبر، ولا يترجح أحد الجائزين عن الآخر إلا بمخصص ومرجح، كما سبق، فيفتقر إلى مخصص يتصرف فيه فيقدره بمقدار مخصوص، فيكون مصنوعاً لا صانعاً ومخلوقاً لا خالقاً.
الدعوى السادسة: ندعي أن صانع العالم ليس بعرض، لأنا نعني بالعرض ما يستدعي وجوده ذاتاً تقوم به، وذلك الذات جسم أو جوهر، ومهما كان الجسم واجب الحدوث كان الحال فيه أيضاً حادثاً لا محالة، إذ يبطل انتقال الأعراض، وقد بينا أن صانع العالم قديم فلا يمكن أن يكون عرضاً، وإن فهم من العرض ما هو صفة لشيء من غير أن يكون ذلك الشيء متحيزاً، فنحن لا ننكر وجود هذا فانا نستدل على صفات الله تعالى نعم يرجع النزاع إلى إطلاق اسم الصانع والفاعل، فإن إطلاقه على الذات الموصوفة بالصفات أولى من إطلاقه على الصفات. فإذا قلنا الصانع ليس بصفة، عنينا به أن الصنع مضاف إلى الذات التي تقوم بها الصفات لا إلى الصفات، كما أنا إذا قلنا النجار ليس بعرض ولا صفة، عنينا به أن صنعة النجارة غير مضافة إلى الصفات بل إلى الذات الواجب وصفها بجملة من الصفات حتى يكون صانعاً.
فكذا القول في صانع العالم، وإن أراد المنازع بالعرض أمراً غير الحال في الجسم وغير الصفة القائمة بالذات كان الحق في منعه للغة أو الشرع لا للعقل.
الدعوى السابعة: ندعي أنه ليس في جهة مخصوصة من الجهات الست، ومن عرف معنى لفظ الجهة ومعنى لفظ الاختصاص فهم قطعاً استحالة الجهات على غير الجواهر والأعراض، إذ الحيز معقول وهو الذي يختص الجوهر به، ولكن الحيز إنما يصير جهة إذا أضيف إلى شيء آخر متحيز.
فالجهات ست فوق وأسفل وقدام وخلف ويمين وشمال. فمعنى كون الشيء فوقنا هو أنه في حيز يلي جانب الرأس. ومعنى كونه تحتاً أنه في حيز يلي جانب الرجل. وكذا سائر الجهات؛ فكل ما قيل قيه أنه في جهة فقد قيل أنه في حيز مع زيادة إضافة.
وقولنا الشيء في حيز، يعقل بوجهين أحدهما: أنه يختص به بحيث يمنع مثله من أن يوجد بحيث هو، وهذا هو الجوهر، والآخر أن يكون حالاً في الجوهر فإنه قد يقال إنه بجهة، ولكن بطريق البتيعة للجوهر، فليس كون العرض في جهة ككون الجوهر، بل الجهة للجوهر أولى، وللعرض بطريق التبعية للجوهر، فهذان وجهان معقولان في الاختصاص بالجهة. فإن أراد الخصم أحدهما دل على بطلانه ما دل على بطلان كونه جوهراً أو عرضاً.
وإن أراد أمراً غير هذا فهو غير مفهوم فيكون الحق في إطلاق لفظه لم ينفك عن معنى غير مفهوم للغة والشرع لا العقل، فإن قال الخصم إنما أُريد بكونه بجهة معنى سوى هذا فلم ننكره، ونقول له: أما لفظك فإنما ننكره من حيث أنه يوهم المفهوم الظاهر منه وهو ما يعقل الجوهر والعرض وذلك كذب على الله تعالى. وأما مرادك منه فلست أنكره فإن ما لا أفهمه كيف أنكره! وعساك تريد به علمه وقدرته وأنا لا أنكر كونه بجهة على معنى أنه عالم وقادر، فإنك إذا فتحت هذا الباب، وهو أن تريد باللفظ غير ما وضع اللفظ له ويدل عليه في التفاهم لم يكن لما تريد به حصر فلا أنكره ما لم تعرب عن مرادك بما أفهمه من أمر يدل على الحدوث، فإن كان ما يدل على الحدوث فهو في ذاته محال ويدل أيضاً على بطلان القول بالجهة، لأن ذلك يطرق الجواز إليه ويحوجه إلى مخصص يخصصه بأحد وجوه الجواز وذلك من وجهين، أحدهما: أن الجهة التي تختص به لا تختص به لذاته، فإن سائر الجهات متساوية بالاضافة إلى المقابل للجهة، فاختصاصه ببعض الجهات المعينة ليس بواجب لذاته بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه، ويكون الاختصاص فيه معنى زائداً على ذاته وما يتطرق الجواز إليه استحال قدمه بل القديم عبارة عما هو واجب الوجود من جميع الجهات. فإن قيل اختص بجهة فوق لأنه أشرف الجهات، قلنا أي إنما صارت الجهة جهة فوق بخلقه العالم في هذا الحيز الذي خلقه فيه. فقيل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت أصلاً. إذ هما مشتقان من الرأس والرجل ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فوق والمقابل له تحت.
والوجه الثاني أنه لو كان بجهة لكان محاذياً لجسم العالم، وكل محاذ فإما أصغر منه وإما أكبر وإما مساو، وكل ذلك يوجب التقدير بمقدار، وذلك المقدار يجوز في العقل أن يفرض أصغر منه أو أكبر فيحتاج إلى مقدار ومخصص.
فإن قيل: لو كان الاختصاص بالجهة يوجب التقدير لكان العرض مقدراً، قلنا: العرض ليس في جهة بنفسه، بل بتبعيته للجوهر فلا جرم هو أيضاً مقدر بالتبعية. فإنا نعلم أنه لا توجد عشرة أعراض إلا في عشرة جواهر، ولا يتصور أن يكون في عشرين، فتقدير الأعراض عشرة لازم بطريق التبعية لتقدير الجواهر، كما لزم كونه بجهة بطريق التبعية. فإن قيل: فإن لم يكن مخصوصاً بجهة فوق، فما بال الوجوه والأيدي ترفع إلى السماء في الأدعية شرعاً وطبعاً، وما باله صلى الله عليه وسلم قال للجارية التي قصد إعتاقها فأراد أن يستيقن إيمانها أين الله فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة ؟ فالجواب عن الأول أن هذا يضاهي قول القائل: إن لم يكن الله تعالى في الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوره، وما بالنا نستقبله في الصلاة ؟ وإن لم يكن في الأرض، فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الأرض في السجود ؟ وهذا هذيان. بل يقال: قصد الشرع من تعبد الخلق بالكعبة في الصلاة ملازمة الثبوت في جهة واحدة، فإن ذلك لا محالة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب من التردد على الجهات، ثم لما كانت الجهات متساوية من حيث إمكان الاستقبال خصص الله بقعة مخصوصة بالتشريف والتعظيم وشرفها بالإضافة إلى نفسه واستمال القلوب إليها بتشريفه ليثيب على استقبالها، فكذلك السماء قبلة الدعاء، كما أن البيت قبلة الصلاة، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منزه عن الحلول في البيت والسماء ثم في الاشارة بالدعاء إلى السماء سر لطيف يعز من يتنبه لأمثاله، وهو أن نجاة العبد وفوزه في الآخرة، بأن يتواضع لله تعالى ويعتقد التعظيم لربه، والتواضع والتعظيم عمل القلب، وآلته العقل. والجوارح إنما استعملت لتطهير القلب وتزكيته، فإن القلب خلق خلقه يتأثر بالمواظبة على أعمال الجوارح، كما خلقت الجوارح متأثرة لمعتقدات القلوب، ولما كان المقصود أن يتواضع في نفسه بعقله وقلبه، بأن يعرف قدره ليعرف بخسة رتبته في الوجود لجلال الله تعالى وعلوه، وكان من أعظم الأدلة على خسته الموجبة لتواضعه أنه مخلوق من تراب، كلف أن يضع على التراب، الذي هو أذل الأشياء، وجهه الذي هو أعز الأعضاء، ليستشعر قلبه التواضع بفعل الجبهة في مماستها الأرض، فيكون البدن متواضعاً في جسمه وشخصه وصورته بالوجه الممكن فيه وهو معانقة التراب الوضيع الخسيس ويكون العقل متواضعاً لربه بما يليق به، وهو معرفة الضعة وسقوط الرتبة وخسة المنزلة عند الالتفات إلى ما خلق منه.
فكذلك التعظيم لله تعالى وضيعة على القلب فيها نجاته، وذلك أيضاً ينبغي أن تشترك فيه الجوارح، وبالقدر الذي يمكنه أن تحمل الجوارح، وتعظيم القلب بالإشارة إلى علو الرتبة على طريق المعرفة والاعتقاد وتعظيم الجوارح بالإشارة إلى جهة العلو الذي هو أعلى الجهات وأرفعها في الاعتقادات؛ فإن غاية تعظيم الجارحة استعمالها في الجهات، حتى أن من المعتاد المفهوم في المحاورات أن يفصح الإنسان عن علو رتبة غيره وعظيم ولايته فيقول: أمره في السماء السابعة، وهو إنما ينبه على علو الرتبة ولكن يستعير له علو المكان، وقد يشير برأسه إلى السماء في تعظيم من يريد تعظيم أمره، أي أمره في السماء، أي في العلو وتكون السماء عبارة عن العلو، فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقهم إلى تعظيم الله وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلا إلى ظواهر الجوارح والأجسام وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح ولم يعرف أن المظنة الأولى لتعظيم القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبة لا باعتقاد علو المكان، وأن الجوارح في ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة في التعظيم بقدر الممكن فيها، ولا يمكن في الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات، فهذا هو السر في رفع الوجوه إلى السماء عند قصد التعظيم، ويضاف إليه عند الدعاء أمر آخر وهو أن الدعاء لا ينفك عن سؤال نعمة من نعم الله تعالى، وخزائن نعمه السموات، وخزان أرزاقه الملائكة ومقرهم ملكوت السموات وهم الموكلون بالأرزاق. وقد قال الله تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون". والطبع يتقاضى الإقبال بالوجه على الخزانة التي هي مقر الرزق المطلوب، فطلاب الأرزاق من الملوك إذا أخبروا بتفرقة الأرزاق على باب الخزانة مالت وجوههم وقلوبهم إلى جهة الخزانة، وإن لم يعتقدوا أن الملك في الخزانة فهذا هو محرك وجوه أرباب الدين إلى جهة السماء طبعاً وشرعاً.
فأما العوام فقد يعتقدون أن معبودهم في السماء، فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم، تعالى رب الأرباب عما اعتقد الزائغون علواً كبير. وأما حكمه صلوات الله عليه بالإيمان للجارية لما أشارت إلى السماء، فقد انكشف به أيضاً إذ ظهر أن لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بالإشارة إلى جهة العلو، فقد كانت خرساء كما حكي، وقد كان يظن بها أنها من عبدة الأوثان، ومن يعتقد اله في بيت الأصنام فاستنطقت عن معتقدها فعرفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس في بيوت الأصنام كما يعتقدوه أولئك.
فإن قيل فنفي الجهة يؤدي إلى المحال، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، وذلك محال، قلنا: مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا متصلاً ولا منفصلاً محال، وإن كان موجود يقبل الاختصاص بالجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال، فإما موجود لا يقبل الاتصال، ولا الاختصاص بالجهة فخلو عن طرفي النقيض غير محال، وهو كقول القائل يستحيل موجود لا يكون عاجزاً ولا قادراً ولا عالماً ولا جاهلاً فإن أحد المتضادين لا يخلو الشيء عنه، فيقال له إن كان ذلك الشيء قابلاً للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما وأما الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة، فخلوه عنهما ليس بمحال. فكذلك شرط الاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز. فإذا فقد هذا لم يستحل الخلق عن متضادته فرجع النظر إذاً إلى أن موجوداً ليس بمتحيز، ولا هو في متحيز، بل هو فاقد شرط الاتصال، والاختصاص هل هو محال أم لا ؟ فإن زعم الخصم أن ذلك محال وجوده فقد دللنا عليه بأنه مهما بان، أن كل متحيز حادث وأن كل حادث يفتقر إلى فاعل ليس بحادث فقد لزم بالضرورة من هاتين المقدمتين ثبوت موجود ليس بمتحيز. أما الأصلان فقد أتبتناهما وأما الدعوى اللازمة منهما فلا سبيل إلى جحدها مع الإقرار بالأصلين.
فإن قال الخصم إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم، فيقال له ما الذي أردت بقولك غير مفهوم فإن أردت به أنه غير متخيل ولا متصور ولا داخل في الوهم فقد صدقت، فإنه لا يدخل في الوهم والتصور والخيال إلا جسم له لون وقدر، فالمنفك عن اللون والقدر لا يتصوره الخيال، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فلا يتوهم الشيء إلا على وفق مرآه ولا يستطيع أن يتوهم ما لا يوافقه.
وإن أراد الخصم أنه ليس بمعقول، أي ليس بمعلوم بدليل العقل فهو محاذ إذا قدمنا الدليل على ثبوته ولا معنى للمعقول إلا ما اضطر العقل إلى الأذعان للتصديق به بموجب الدليل الذي لا يمكن مخالفته. وقد تحقق هذا، فإن قال الخصم فما لا يتصور في الخيال لا وجود له، فلنحكم بأن الخيال لا وجود له في نفسه، فإن الخيال نفسه لا يدخل في الخيال والرؤية لا تدخل في الخيال وكذلك العلم والقدرة، وكذلك الصوت والرائحة ولو كلف الوهم أن يتحقق ذاتاً للصوت لقدر له لوناً ومقداراً وتصوره كذلك. وهكذا جميع أحوال النفس، من الخجل والوجل والفسق والغضب والفرح والحزن والعجب، فمن يدرك بالضرورة هذه الأحوال من نفسه ويسوم خياله أن يتحقق ذات هذه الأحوال فنجده يقصر عنه إلا بتقدير خطأ ثم ينكر بعد ذلك وجود موجود لا يدخل في خياله فهذا سبيل كشف الغطاء عن المسألة. وقد جاوزنا حد الاختصار ولكن المعتقدات المختصرة في هذا الفن أراها مشتملة على الاطناب في الواضحات والشروع في الزيادات الخارجة عن المهمات مع التساهل في مضايق الاشكالات فرأيت نقل الاطناب من مكان الوضوح، إلى مواقع الغموض أهم وأولى. الدعوى الثامنة: ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش، فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر لا محالة فإنه أما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساوياً وكل ذلك لا يخلو عن التقدير، وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير محاطاً به والخصم لا يعتقد ذلك بحال وهو لازم على مذهبه بالضرورة، وعلى الجملة يستقر على الجسم إلا جسم ولا يحل فيه إلا عرض وقد بان أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض، فلا يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى"؟ وما معنى قوله عليه السلام: "ينزل اللّه كل ليلة إلى السماء الدنيا" قلنا الكلام على الظواهر الواردة في هذا الباب طويل ولكن نذكر منهجاً في هذين الظاهرين يرشد إلى ما عداه وهو أنا نقول: الناس في هذا فريقان عوام وعلماء، والذي نراه اللائق بعوام الخلق أن لا يخاض بهم في هذه التأويلات بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبيه ويدل على الحدوث ونحقق عندهم أنه موجود ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وإذا سألوا عن معاني هذه الآيات زجروا عنها، وقيل ليس هذا بعشكم فادرجوا فلكل علم رجال. ويجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي الله عنه، بعض السلف حيث سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة، والايمان به واجب، وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات ولا إحاطتهم باللغات ولا تتسع لفهم توسيعات العرب في الاستعارات.
وأما العلماء فاللائق بهم تعريف ذلك وتفهمه، ولست أقول أن ذلك فرض عين إذ لم يرد به تكليف بل التكليف التنزيه عن كل ما تشبهه بغيره. فأما معاني القرآن، فلم يكلف الأعيان فهم جميعها أصلاً ولكن لسنا نرتضي قول من يقول، أن ذلك من المتشابهات كحروف أوائل السور، فإن حروف أوائل السور ليست موضوعة باصطلاح سابق للعرب للدلالة على المعاني، ومن نطق بحروف وهن كلمات لم يصطلح عليها، فواجب أن يكون معناه مجهولاً إلا أن يعرف ما أردته، فإذا ذكره صارت تلك الحروف كاللغة المخترعة من جهته. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل اللّه تعالى إلى السماء الدنيا"، فلفظ مفهوم ذكر للتفهم وعلم أنه يسبق إلى الإفهام منه المعنى الذي وضع له أو المعنى الذي يستعار، فكيف يقال إنه متشابه بل هو مخيل معنى خطأ عند الجاهل ومفهم معنى صحيحاً عند العالم، وهو كقوله تعالى: "وهو معكم أينما كنتم". فإنه يخيل عند الجاهل اجتماعاً مناقصاً لكونه على العرش، وعند العالم يفهم أنه مع الكل بالاحاطة والعلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"، فإنه عند الجاهل يخيل عضوين مركبين من اللحم والعظم والعصب مشتملين على الأنامل والأظفار، نابتين من الكف، وعند العالم يدل على المعنى المستعار له دون الموضوع له وهو ما كان الاصبع له، وكان سر الاصبع وروحه وحقيقته وهو القدرة على التقليب كما يشاء، كما دلت المعية عليه في قوله وهو معكم على ما تراد المعية له وهو العلم والاحاطة ولكن من شائع عبارات العرب العبارة بالسبب عن المسبب، واستعارة السبب للمستعار منه وكقوله تعالى: "من تقرَّب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن أتاني بمشي أتيته بهرولة" فإن الهرولة عند الجاهل تدل على نقل الأقدام وشدة العدو وكذا الاتيان يدل على القرب في المسافة.؟ وعند العاقل يدل على المعنى المطلوب من قرب المسافة بين الناس وهو قرب الكرامة والانعام وإن معناه أن رحمتي ونعمتي أشد انصباباً إلى عبادي من طاعتهم إلي وهو كما قال: "لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم لأشد شوقاً" تعالى الله عما يفهم من معنى لفظ الشوق بالوضع الذي هو نوع ألم وحاجة إلى استراحة، وهو عين النقص ولكن الشوق سبب لقبول المشتاق إليه والإقبال عليه وإفاضة النعمة لديه فعبر به عن المسبب، وكما عبر بالغضب والرضى عن إرادة الثواب والعقاب الذين هما ثمرتا الغضب والرضى ومسبباه في العادة. وكذا لما قال في الحجر الأسود إنه يمين الله في الأرض يظن الجاهل انه أراد به اليمين المقابل للشمال التي هي عضو مركب من لحم ودم وعظم منقسم بخمسة أصابع، ثم إنه إن فتح بصيرته علم أنه كان على العرش ولا يكون يمينه في الكعبة ثم لا يكون حجراً أسود فيدرك بأدنى مسكة أنه استعير للمصافحة، فإنه يؤمر باستلام الحجر وتقبيله كما يؤمر بتقبيل يمين الملك، فاستعير اللفظ لذلك. والكامل العقل البصير لا تعظم عنده هذه الأمور، بل يفهم معانيها على البديهة، فلنرجع إلى معنى الاستواء والنزول؛ أما الاستواء فهو نسبه للعرش لا محالة، ولا يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوماً، أو مراداً، أو مقدوراً عليه، أو محلاً مثل محل العرض، أو مكاناً مثل مستقر الجسم. ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقلاً وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة به له، فإن كان في جملة هذه النسبة، مع أنه لا نسبة سواها، نسبة لا يخيلها العقل ولا ينبو عنها اللفظ، فليعلم أنها المراد إما كونه مكاناً أو محلاً، كما كان للجوهر والعرض، إذاً اللفظ يصلح له ولكن العقل يخيله كما سبق، وإما كونه معلوماً ومراداً فالعقل لا يخيله، ولكن اللفظ لا يصلح له، وإما كونه مقدوراً عليه وواقعاً في قبضة القدرة ومسخراً له مع أنه أعظم المقدورات ويصلح الاستيلاء عليه لأن يمتدح به وينبه به على غيره الذي هو دونه في العظم، فهذا مما لا يخيله العقل ويصلح له اللفظ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعاً، أما صلاح اللفظ له فظاهر عند الخبير بلسان العرب، وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها، فمن المستحسن في اللغة أن يقال استوى الأمير على مملكته، حتى قال الشاعر:
قد استوى بشير على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
ولذلك قال بعض السلف رضي الله عنهم: يفهم من قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" ما فهم من قوله تعالى "ثم استوى إلى السماء وهي دخان". وأما قوله صلى الله عليه وسلم "ينزل اللّه تعالى إلى السماء الدنيا" فللتأويل فيه مجال من وجهين: أحدهما، في اضافة النزول إليه وأنه مجاز، وبالحقيقة هو مضاف إلى ملك من الملائكة كما قال تعالى "واسأل القرية" والمسؤول بالحقيقة أهل القرية. وهذا أيضاً من المتداول في الألسنة، أعني إضافة أحوال التابع إلى المتبوع، فيقال: ترك الملك على باب البلد، ويراد عسكره، فإن المخبر بنزول الملك على باب البلد قد يقال له هلا خرجت لزيارته فيقول لا، لأنه عرج في طريقه على الصيد ولم ينزل بعد، فلا يقال له فلم نزل الملك والآن تقول لم ينزل بعد ؟ فيكون المفهوم من نزول الملك نزول العسكر، وهذا جلي واضح.
والثاني، أن لفظ النزول قد يستعمل للتلطف والتواضع في حق الخلق كما يستعمل الارتفاع للتكبر، يقال فلان رفع رأسه إلى عنان السماء، أي تكبر، ويقال ارتفع إلى أعلى عليين، أي تعظم؛ وإن علا أمره يقال: أمره في السماء السابعة؛ وفي معارضته إذا سقطت رتبته يقال: قد هوى به إلى أسفل السافلين؛ وإذا تواضع وتلطف له تطامن إلى الأرض ونزل إلى أدنى الدرجات. فإذا فهم هذا وعلم أن النزول عن الرتبة بتركها أو سقوطها وفي النزول عن الرتبة بطريق التلطف وترك العقل الذي يقتضيه علو الرتبة وكمال الاستغناء، فبالنظر إلى هذه المعاني الثلاثة التي يتردد اللفظ بينها ما الذي يجوزه العقل ؟ أما النزول بطريق الانتقال فقد أحاله العقل كما سبق، فإن ذلك لا يمكن إلا في متحيز، وأما سقوط الرتبة فهو محال لأنه سبحانه قديم بصفاته وجلاله ولا يمكن زوال علوه، وأما النزول بمعنى اللطف والرحمة وترك الفعل اللائق بالاستغناء وعدم المبالاة فهو ممكن، فيتعين التنزيل عليه، وقيل إنه لما نزل قوله تعالى: "رفيع الدرجات ذو العرش" استشعر الصحابة رضوان الله عليهم من مهابة عظيمة واستبعدوا الانبساط في السؤال والدعاء مع ذلك الجلال، فأخبروا أن الله سبحانه وتعالى مع عظمة جلاله وعلو شأنه متلطف بعباده رحيم بهم مستجيب لهم مع الاستغناء إذا دعوه، وكانت استجابة الدعوة نزولاً بالاضافة إلى ما يقتضيه ذلك الجلال من الاستغناء وعدم المبالاة، فعبر عن ذلك بالنزول تشجيعاً لقلوب العباد على المباسطة بالأدعية بل على الركوع والسجود، فإن من يستشعر بقدر طاقته مبادئ جلال الله تعالى استبعد سجوده وركوعه، فإن تقرب العباد كلهم بالاضافة إلى جلال الله سبحانه أحس من تحريك العبد أصبعاً من أصابعه على قصد التقرب إلى ملك من ملوك الأرض، ولو عظم به ملكاً من الملوك لاستحق به التوبيخ، بل من عادة الملوك زجر الأرزال عن الخدمة والسجود بين أيديهم والتقبيل لعتبة دورهم استحقاراً لهم عن الاستخدام وتعاظماً عن استخدام غير الأمراء والأكابر، كما جرت به عادة بعض الخلفاء. فلولا النزول عن مقتضى الجلال باللطف والرحمة والاستجابة لاقتضى ذلك الجلال أن يبهت القلوب عن الفكر، ويخرس الألسنة عن الذكر، ويخمد الجوارح عن الحركة، فمن لاحظ ذلك الجلال وهذا اللطف استبان له على القطع أن عبارة النزول مطابقة للجلال ومطلقة في موضوعها لا على ما فهمه الجهال؛ فإن قيل فلم خصص السماء الدنيا ؟ قلنا: هو عبارة عن الدرجة الأخيرة التي لا درجة بعدها، كما يقال سقط إلى الثرى وارتفع إلى الثريا، على تقدير أن الثريا أعلى الكواكب والثرى أسفل المواضع. فإن قيل: فلم خصص بالليالي، فقال ينزل كل ليلة ؟ قلنا: لأن الخلوات مظنة الدعوات والليالي أعدت لذلك، حيث يسكن الخلق وينمحي عن القلوب ذكرهم، ويصفوا لذكر الله تعالى قلب الداعي، فمثل هذا الدعاء هو المرجو الاستجابة لا ما يصدر عن غفلة القلوب عند تزاحم الاشتغال. الدعوى التاسعة: ندعي أن الله سبحانه وتعالى مرئي، خلافاً للمعتزلة، وإنما أوردنا هذه المسألة في القطب الموسوم بالنظر في ذات الله سبحانه وتعالى لأمرين: أحدهما أن ننفي الرؤية عما يلزم على نفي الجهة، فأردنا أن نبين كيف يجمع بين نفي الجهة وإثبات الرؤية. والثاني أنه سبحانه وتعالى عندنا مرئي لوجوده ووجود ذاته، فليس ذلك إلا لذاته، فإنه ليس لفعله ولا لصفة من الصفات، بل كل موجود ذات فواجب أن يكون مرئياً، كما أنه واجب أن يكون معلوماً، ولست أعني به أنه واجب أن يكون معلوماً ومرئياً بالفعل بل بالقوة، أي هو من حيث ذاته له، فإن امتنع وجود الرؤية فلأمر آخر خارج عن ذاته، كما نقول: الماء الذي في النهر مرو، والخمر الذي في الدن مسكر، وليس كذلك لأنه يسكر ويروي عند الشرب ولكن معناه أن ذاته مستعدة لذلك فإذا فهم المراد منه فالنظر في طرفين: أحدهما في الجواز العقلي، والثاني في الوقوع الذي لا سبيل إلى دركه إلا بالشرع، ومهما دل الشرع على وقوعه فقد دل أيضاً لا محالة على جوازه ولكنا ندل بمسلكين واقعين عقليين على جوازه.
المسلك الأول، هو أنا نقول أن الباري سبحانه موجود وذات، وله ثبوت وحقيقة، وإنما يخالف سائر الموجودات في استحالة كونه حادثاً أو موصوفاً بما يدل على الحدوث، أو موصوفاً بصفة تناقض صفات الالهية من العلم والقدرة وغيرهما. فكل ما يصح لموجود فهو يصح في حقه تعالى إن لم يدل على الحدوث ولم يناقض صفة من صفاته. والدليل عليه تعلق العلم به؛ فإنه لما لم يؤد إلى تغير في ذاته ولا إلى مناقضة صفاته ولا إلى الدلالة على الحدوث، سوى بينه وبين الأجسام والأعراض في جواز تعلق العلم بذاته وصفاته. والرؤية نوع علم لا يوجب تعلقه بالمرئي تغير صفة ولا يدل على حدوث، فوجب الحكم بها على كل موجود، فإن قيل: فكونه مرئياً يوجب كونه بجهة وكونه بجهة يوجب كونه عرضاً أو جوهراً وهو محال، ونظم القياس أنه إن كان مرئياً فهو بجهة من الرأي وهذا اللازم محال فالمفضي إلى الرؤية محال.
قلنا: أحد الأصلين من هذا القياس مسلم لكم، وهو أن هذا اللازم محال، ولكن الأصل الأول وهو ادعاء هذا اللازم على اعتقاد الرؤية ممنوع. فنقول لم قلتم إنه إن كان مرئياً فهو بجهة من الرأي، أعلمتم ذلك بضرورة، أم بنظر ؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة، وأما النظر فلا بد من بيانه، ومنتهاهم أنهم لم يروا إلى الآن شيئاً إلا وكان بجهة من الرأي مخصوصة، فيقال: وما لم ير فلا يحكم باستحالته، ولو جاز هذا لجاز للمجسم أن يقول إنه تعالى جسم، لأنه فاعل، فإننا لم نر إلى الآن فاعلاً إلا جسماً. أو يقول إن كان فاعلاً وموجوداً فهو إما داخل العالم وإما خارجه، وإما متصل وإما منفصل، ولا تخلو عنه الجهات الست، فإنه لم يعلم موجود إلا وهو كذلك فلا فضل بينكم وبين هؤلاء. وحاصله يرجع إلى الحكم بأن ما شوهد وعلم ينبغي أن لا يعلم غيره إلا على وفقه، وهو كمن يعلم الجسم وينكر العرض ويقول: لو كان موجوداً لكان يختص بحيز ويمنع غيره من الوجود بحيث هو كالجسم. ومنشأ هذا إحالة موجودات اختلاف الموجودات في حقائق الخواص مع الاشتراك في أمور عامة. وذلك بحكم لا أصل له، على أن هؤلاء لا يغفل عن معارضتهم بأن الله يرى نفسه ويرى العالم وهو ليس بجهة من نفسه ولا من العالم، فإذا جاز ذلك فقد بطل هذا الخيال. وهذا مما يعترف به أكثر المعتزلة ولا نخرج عنه لمن اعترف به ومن أنكر منهم فلا يقدر على انكار رؤية الانسان نفسه في المرآة، ومعلوم أنه ليس في مقابلة نفسه فإن زعموا أنه لا يرى نفسه وإنما يرى صورة محاكية لصورته منطبعة في المرآة انطباع النفس في الحائط، فيقال إن هذا ظاهر الاستحالة: فإن من تباعد عن مرآة منصوبة في حائط بقدر ذراعين يرى صورته بعيدة عن جرم المرآة بذراعين، وإن تباعد بثلاثة أذرع فكذلك. فالبعيد عن المرآة بذراعين كيف يكون منطبعاً في المرآة وسمك المرآة ربما لا يزيد على سمك شعيرة ؟ فإن كانت الصورة في شيء وراء المرآة فهو محال، إذ ليس وراء المرآة إلا جدار أو هواء أو شخص آخر هو محجوب عنه، وهو لا يراه. وكذا عن يمين المرآة ويسارها وفوقها وتحتها وجهات المرآة الست، وهو يرى صورة بعيدة عن المرآة بذراعين، فلنطلب هذه الصورة من جوانب المرآة: فحيث وجدت فهو المرئي ولا وجود لمثل هذه الصورة المرئية في الأجسام المحيطة بالمرآة إلا في جسم والناظر، فهو المرئي إذاً بالضرورة. وقد تطلب المقابلة والجهة ولا ينبغي أن تستحقر هذا الإلزام فإنه لا مخرج للمعتزلة عنه، ونحن نعلم بالضرورة أن الانسان لو لم يبصر نفسه قط ولا عرف المرآة وقيل له أن يمكن أن تبصر نفسك في مرآة الحكم بأنه محال، وقال لا يخلو إما أن أرى نفسي وأنا في المرآة فهو محال، أو أرى مثل صورتي في جرم المرآة وهو محال، أو في جرم وراء المرآة وهو محال، أو المرآة في نفسها صورة وللأجسام المحيطة بها جسم صور، ولا تجتمع صورتان في جسم واحد إذ محال أن يكون في جسم واحد صورة إنسان وديد وحائط وإن رأيت نفسي حيث أنا فهو محال، إذ لست في مقابلة نفسي فكيف أرى نفسي، ولا بد بين المقابلة بين الرائي والمرئي وهذا التقسيم صحيح عند المعتزلي ومعلوم أنه باطل، وبطلانه عندنا لقوله إني لست في مقابلة نفسي فلا أراها وإلا فسائر أقسام كلامه صحيحة، فبهذا يستبين ضيق حوصلة هؤلاء عن التصديق بما لم يألفوه ولم تأنس به حواسهم. المسلك الثاني، وهو الكشف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق، وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان وهيهات ! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، فإن نفي من معانيه معنى لم يستحل في حق الله سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقة، أثبتناه في حق الله سبحانه وقضينا بأنه مرئي حقيقة، وإن لم يكى إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل. وتحصيله، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو، فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلاً لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.
ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا إن أدركنا الشيء بالقلب، أو بالدماغ إن أدركنا الشيء بالدماغ، وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين.
وأما المتعلق بعينه فليس ركناً في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، ولو كان لتعلقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة، وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود؛ أي موجود كان وأي ذات كان. فإذاً الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالاضافة إلى التخيل، فإنا نرى الصديق مثلاً ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل والتصور، ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ولا ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق وليس بينهما افتراق، إلا أن هذه الحالة الثانية كالاستكمال لحالة التخيل، وكالكشف لها، فتحدث فيها صورة الصديق عند فتح البصر حدوثاً أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال. والحادثة في البصر بعينها تطابق بيان الصورة الحادثة في الخيال، فإذاً التخيل نوع إدراك على رتبة، ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في الوضوح والكشف، بل هي كالتكميل له، فنسمي هذا الاستكمال بالاضافة إلى الخيال رؤية وإبصاراً، وكذا من الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وكل ما لا صورة له، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل؛ فإن كان ذلك ممكناً سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالاضافة إلى العلم رؤية، كما سميناه بالاضافة إلى التخيل رؤية. ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها. فنن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له. إلا أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم، والنفس في شغل البدن وكدورة صفائه، فهو مجوب عنه. وكما لا يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما في العين سبباً بحكم اطراد العادة لامتناع الإبصار للمتخيلات فلا يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكم حجب الاشغال بحكم اطراد العادة مانعاً من إبصار المعلومات. فإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وزكيت القلوب بالشراب الطهور، وصفيت بأنوع التصفية والتنقية، لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه أو في سائر المعلومات، يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة الإبصار عن التخيل، يعبر عن ذلك بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات. فلا مشاحة فيها وبعد إيضاح المعاني. وإذا كان ذلك ممكناً بأن خلقت هذه الحالة في العين، كان اسم الرؤية بحكم وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العين غير مستحيل. كما أن خلقها في القلب غير مستحيل فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية، علم أن العقل لا يحيله بل يوجبه، وأن الشرع قد شهد له فلا يبقى للمنازعة وجه إلا على سبيل العناد أو المشاحنة في إطلاق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها. ولنقتصر في هذا الموجز على هذا القدر.
الطرف الثاني في وقوعه شرعاً. وقد دل الشرع على وقوعه ومداركه كثيرة، ولكثرتها يمكن دعوى الإجماع على الأولين في ابتهالهم إلى الله سبحانه في طلب لذة النظر إلى وجهه الكريم. ونعلم قطعاً من عقائدهم أنهم كانوا ينتظرون ذلك وأنهم كانوا قد فهموا جواز انتظار ذلك وسؤاله من الله سبحانه، بقرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة من ألفاظه الصريحة التي لا تدخل في الحضر، بالاجماع الذي يدل على خروج المدارك عن الحصر. ومن أقوى ما يدل عليه سؤال موسى صلى الله عليه وسلم أرني أنظر إليك فإنه يستحيل أن يخفى عن نبي من أنبياء الله تعالى انتهى منصبه إلى أن يكلمه الله سبحانه شفاهاً أن يجهل من صفات ذاته تعالى ما عرفه المعتزلة. وهذا معلوم على الضرورة، فإن الجهل بكونه ممتنع الرؤية عند الخصم يوجب التفكير أو التضليل وهو جهل بصفة ذاته لأن استحالتها عندهم لذاته ولأنه ليس بجهة فكيف لم يعرف موسى عليه أفضل الصلاة أنه ليس بجهة، أو كيف عرف أنه ليس بجهة ولم يعرف أن رؤية ما ليس بجهة محال ؟ فليت شعري ماذا يضمر الخصم ويقدره من ذهول موسى صلى الله عليه وسلم، أيقدره معتقداً أنه جسم في جهة ذو لون، واتهام الأنبياء صلوات الله سبحانه وتعالى عليهم وسلامه كفر صراح، فإنه تكفير للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن القائل بأن الله سبحانه جسم وعابد الوثن والشمس واحد ! أو يقول علم استحالة كونه بجهة، ولكنه لم يعلم أن ما ليس بجهة فلا يرى، وهذا تجهيل للنبي عليه أفضل السلام لأن الخصم يعتقد أن ذلك من الجليات لا من النظريات. فأنت الآن أيها المسترشد مخير من أن تميل إلى تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم تسليماً، أو إلى تجهيل المعتزلي، فاختر لنفسك ما أليق بك والسلام.
فإن قيل: إن دل هذا لكم فقد دل عليكم، لسؤاله الرؤية في الدنيا ودل عليكم قوله تعالى "لن تراني" ودل قوله سبحانه "لا تدركه الأبصار".
قلنا: أما سؤاله الرؤية في الدنيا فهو دليل على عدم معرفته بوقوع وقت ما هو جائز في نفسه، والأنبياء كلهم عليهم أفضل السلام لا يعرفون من الغيب إلا ما عرفوا، وهو القليل، فمن أين يبعد أن يدعو النبي عليه أفضل السلام كشف غمة وإزالة بلية وهو يرتجي الإجابة في وقت لم تسبق في علم الله تعالى الإجابة فيه. وهذا من ذلك الفن.
وأما قوله سبحانه "لن تراني" فهو دفع لما التمسه، وإنما التمس في الآخرة، فلو قال أرني انظر إليك في الآخرة، فقال لن تراني، لكان ذلك دليلاً على نفي الرؤية، ولكن في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلامه عليه في الخصوص لا على العموم. وما كان أيضاً دليلاً على الاستحالة، فكيف وهو جواب عن السؤال في الحال ؟ وأما قوله لا تدركه الأبصار أي لا تحيط به ولا تكتنفه من جوانبه كما تحيط الرؤية بالأجسام، وذلك حق، أو هو عام فأريد بة في الدنيا، وذلك أيضاً حق، وهو ما أراده بقوله سبحانه "لن تراني" في الدنيا. ولنقتصر على هذا القدر في مسألة الرؤية، ولينظر المنصف كيف افترقت الفرق وتحزبت إلى مفرط ومفرط.
أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إلا في جهة، فأثبتوا الجهة حتى ألزمتهم بالضرورة الجسمية والتقدير والاختصاص بصفات الحدوث.
وأما المعتزلة وفانهم نفوا الجهة ولم يتمكنوا من إثبات الرؤية دونها، وخالفوا به قواطع الشرع، وظنوا أن في إثباتها إثبات الجهة، فهؤلاء تغلغلوا في التنزيه محترزين من التشبيه، فأفرطوا. والحشوية أثبتوا الجهة احترازاً من التعطيل فشبهوا، فوقف الله سبحانه أهل السنة للقيام بالحق، فتفطنوا للمسلك القصد وعرفوا أن الجهة منقية لأنها للجسمية تابعة وتتمة، وأن الرؤية ثابتة لأنها رديف العلم وفريقه، وهي تكملة له؛ فانتفاء الجسمية أوجب انتفاء الجهة التي من لوازمها. وثبوت العلم أوجب ثبوت الرؤية التي هي من روادفه وتكملاته ومشاركة له في خاصيته، وهي أنها لا توجب تغييراً في ذات المرئي، بل تتعلق به على ما هو عليه كالعلم. ولا يخفى عن عاقل أن هذا هو الاقتصاد في الاعتقاد.
الدعوى العاشرة: ندعي أنه سبحانه واحد. فإن كونه واحداً يرجع إلى ثبوت ذاته ونفي غيره، فليس هو نظر في صفة زائدة على الذات، فوجب ذكره في هذا القطب.
فنقول: الواحد قد يطلب ويراد به أنه لا يقبل القسمة، أي لا كمية له ولا جزء ولا مقدار، والباري تعالى واحد بمعنى سلب الكمية المصححة للقسمة عنه؛ فإنه غير قابل للانقسام. إذ الانقسام لما له كمية، والتقسيم تصرف في كمية بالتفريق والتصغير، وما لا كمية له لا بتصور انقسامه. وقد يطلق ويراد أنه لا نظير له في رتبته كما تقول الشمس واحدة، والباري تعالى أيضاً بهذا المعنى واحد؛ فإنه لا ند له. فأما انه لا ضد له فظاهراً، إذ المفهوم من الضد هو الذي يتعاقب مع الشيء على محل واحد ولا تجامع وما لا محل له فلا ضد له، والباري سبحانه لا محل له فلا ضد له.
وأما قولنا لا ند له، نعني به أن ما سواه هو خالقه لا غير، وبرهانه أنه لو قدر له شريك لكان مثله في كل الوجوه أو أرفع منه أو كان دونه. وكل ذلك محال. فالمفضي إليه محال، ووجه استحالة كونه مثله من كل وجه أن كل اثنين هما متغايران، فإن لم يكن تغاير لم تكن الإثنينية معقولة، فإنا لا نعقل سوادين إلا في محلين، أو في محل واحد في وقتين، فيكون أحدهما مفارقاً للآخر ومبايناً له ومغايراً إما في المحل وإما في الوقت، والشيئان تارة يتغايران بتغاير الحد والحقيقة، كتغاير الحركة واللون فإنهما وإن اجتمعا في محل واحد في وقت واحد فهما اثنان، إذ أحدهما مغاير للآخر بحقيقته، فإن استوى اثنان في الحقيقة والحد كالسوادين، فيكون الفرق بينهما إما في المحل أو في الزمان؛ فإن فرض سوادان مثلاً في جوهر واحد في حالة واحدة كان محالاً إذ لم تعرف الاثنينية. ولو جاز أن يقال هما اثنان ولا مغايرة، لجاز أن يشار إلى إنسان واحد ويقال أنه انسانان بل عشرة وكلها متساوية متماثلة في الصفة والمكان وجميع العوارض واللوازم، من غير فرقان، وذلك محال بالضرورة، فإن كان ند الله سبحانه متساوياً له في الحقيقة والصفات استحال وجوده، إذ ليس مغايره بالمكان إذ لا مكان ولا زمان فإنهما قديمان، فإذاً لا فرقان، وإذا ارتفع كل فرق ارتفع العدد بالضرورة، ولزمت الوحدة. ومحال أن يقال يخالفه بكونه أرفع منه. فإن الأرفع هو الإله والإله عبارة عن أجل الموجودات وأرفعها، والآخر المقدر ناقص ليس بالإله. ونحن إنما نمنع العدد في الإله، والإله هو الذي يقال فيه بالقول المطلق أنه أرفع الموجودات وأجلها. وإن كان أدنى منه كان محالاً، لأنه ناقص ونحن نعبر بالاله عن أجل الموجودات فلا يكون الأجل إلا واحداً، وهو الإله ولا يتصور اثنان متساويان في صفات الجلال، إذ يرتفع عند ذلك الافتراق ويبطل العدد كما سبق. فإن قيل: بم تنكرون على من لا ينازعكم في إيجاد من يطلق عليه اسم الإله، مهما كان الإله، عبارة عن أجل الموجودات، ولكنه يقول العالم كله بجملته ليس بمخلوق خالق واحد، بل هو مخلوق خالقين، أحدهما مثلاً خالق السماء والآخر خالق الأرض، أو أحدهما خالق الجمادات والآخر خالق الحيوانات وخالق النبات: فما المحيل لهذا ؟ فإن لم يكن على استحالة هذا دليل، فمن أين ينفعكم قولكم أن اسم الإله لا يطلق على هؤلاء ؟ فإن هذا القائل يعبر بالإله عن الخالق، أو يقول أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشر، أو أحدهما خالق الجواهر والآخر خالق الأعراض، فلا بد من دليل على استحالة ذلك.
فنقول: يدل على استحالة ذلك أن هذه التوزيعات للمخلوقات على الخالقين في تقدير هذا السائل لا تعدو قسمين: إما أن تقتضي تقسيم الجواهر والأعراض جميعاً حتى خلق أحدهما بعض الأجسام والأعراض دون البعض، أو يقال كل الأجسام من واحد وكل الأعراض من واحد، وباطل أن يقال إن بعض الأجسام بخلقها واحد كالسماء مثلاً دون الأرض؛ فإنا نقول خالق السماء هل هو قادر على خلق الأرض أم لا، فإن كان قادراً كقدرته، لم يتميز أحدهما في القدرة عن الآخر، فلا يتميز في المقدور عن الآخر فيكون المقدور بين قادرين ولا تكون نسبته إلى أحدهما بأولى من الآخر، وترجع الاستحالة إلى ما ذكرناه من تقدير تزاحم متماثلين من غير فرق، وهو محال. وإن لم يكن قادراً عليه فهو محال لأن الجواهر متماثلة وأكوانها التي هي اختصاصات بالأحياز متماثلة، والقادر على الشيء قادر على مثله إذ كانت قدرته قديمة بحيث يجوز أن يتعلق بمقدورين وقدرة كل واحد منهما تتعلق بعدة من الأجسام والجواهر، فلم تتقيد بمقدور واحد. وإذا جاوز المقدور الواحد على خلاف القدرة الحادثة، لم يكن بعض الأعداد بأولى من بعض، بل يجب الحكم بنفي النهاية عن مقدوراته ويدخل كل جوهر ممكن وجوده في قدرته.
والقاسم الثاني أن يقال: أحدهما يقدر على الجوهر والآخر على الأعراض وهما مختلفان، فلا تجب من القدرة على أحدهما القدرة على الآخر، وهذا محال، لأن العرض لا يستغني عن الجوهر، والجوهر لا يستغني عن العرض، فيكون فعل كل واحد منهما موقوفاً على الآخر، فكيف يخلقه وربما لا يساعده خالق الجوهر على خلق الجوهر عند إرادته لخلق العرض، فيبقى عاجزاً متحيراً والعاجز لا يكون قادراً. وكذلك خالق الجوهر إن أراد خلق الجوهر بما خالفه خالق العرض فيمتنع على الآخر خلق الجوهر فيؤدي ذلك إلى التمانع.
فإن قيل: مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده الآخر على العرض وكذا بالعكس. قلنا: هذه المساعدة هل هي واجبة لا يتصور في العقل خلافها فإن أوجبتموها فهو تحكم، بل هو أيضاً مبطل للقدرة، فإن خلق الجوهر من واحد كأنه يضطر الآخر إلى خلق العرض، وكذا بالعكس؛ فلا تكون له قدرة على الترك ولا تتحقق القدرة مع هذا. وعلى الجملة فترك المساعدة إن كان ممكناً فقد تعذر العقل وبطل معنى المقدرة والمساعدة إن كانت واجبة صار الذي لا بد له من مساعدة مضطراً لا قدرة له.
فإن قيل. فيكون أحدهما خالق الشر والآخر خالق الخير، قلنا: هذا هوس، لأن الشر ليس شراً لذاته، بل هو من حيث ذاته مساو للخير ومماثل له، والقدرة على الشيء قدرة على مثله، فإن إحراق بدن المسلم بالنار شر، وإحراق بدن الكافر خير ودفع شر، والشخص الواحد إذا تكلم بكلمة الإسلام انقلب الإحراق في حقه شراً، فالقادر على إحراق لحمه بالنار عند سكوته عن كلمة الإيمان لا بد أن يقدر على إحراقه عند النطق بها، لأن نطقه بها صوت ينقضي لا يغير ذات اللحم، ولا ذات النار، ولا ذات الاحتراق، ولا يغلب جنساً فتكون الاحتراقات متماثلة، فيجب تعلق القدرة بالكل ويقتضي ذلك تمانعاً وتزاحماً. وعلى الجملة: كيفما فرض الأمر تولد منه اضطراب وفساد وهو الذي أراد الله سبحانه بقوله "لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا" فلا مزيد على بيان القرآن. ولنختم هذا القطب بالدعوى العاشرة فلم يبق مما يليق بهذا الفن إلا بيان استحالة كونه سبحانه محلاً للحوادث، وسنشير إليه في أثناء الكلام في الصفات رداً على من قال بحدوث العلم والإرادة وغيرهما.