القطب الثاني: في الصفات

وفيه سبعة دعاوى  إذ ندعى أنه سبحانه قادر عالم حي مريد سميع بصير متكلم، فهذه سبعة صفات. ويتشعب عنها نظر في أمرين أحدهما ما به تخص آحاد الصفات، والثاني ما تشترك فيه جميع الصفات. فلنفتح البداية بالقسم الأول وهو اثآت أصل الصفات وشرح خصوص أحكامها.

القسم الأول

أصل الصفات

الصفة الأولى

القدرة

ندعي أن محدث العالم قادر، لأن العالم فعل محكم مرتب متقن منظوم مشتمل على أنواع من العجائب والآيات، وذلك يدل على القدرة. ونرتب القياس فنقول: كل فعل محكم فهو صادر من فاعل قادر، والعالم فعل محكم فهو إذاً صادر من فاعل قادر، ففي أي الأصلين النزاع ؟ فإن قيل فلم قلتم أن العالم فعل محكم، قلنا: عنينا بكونه محكماً ترتبه ونظامه وتناسبه، فمن نظر في أعضاء نفسه الظاهرة والباطنة ظهر له من عجائب الاتقان ما يطول حصره، فهذا أصل تدرك معرفته بالحس والمشاهدة فلا يسع جحده. فإن قيل: فبم عرفتم الأصل الآخر وهو أن كل فعل مرتب محكم ففاعله قادر ؟ قلنا: هذا مدركه ضرورة العقل؛ فالعقل يصدق به بغير دليل ولا يقدر العاقل على جحده، ولكنا مع هذا نجرد دليلاً يقطع دابر الجحود والعناد، فنقول: نعني بكونه قادراً أن الفعل الصادر منه لا يخلو إما أن يصدر عنه لذاته أو لزائد عليه، وباطل أن يقال صدر عنه لذاته، إذ لو كان كذلك لكان قديماً مع الذات فدل أنه صدر لزائد على ذاته، والصفة الزائدة التي بها تهيأ للفعل الموجود نسميها قدرةً، إذ القدرة في وضع اللسان عبارة عن الصفة التي يتهيأ الفعل للفاعل وبها يقع الفعل، فإن قيل ينقلب عليكم هذا في القدرة فإنها قديمة والفعل ليس بقديم، قلنا سيأتي جوابه في أحكام الإرادة فيما يقع الفعل به، وهذا الوصف مما دل عليه التقسيم القاطع الذي ذكرناه. ولسنا نعني بالقدرة إلا هذه الصفة، وقد أثبتناها فلنذكر أحكامها. ومن حكمها أنها متعلقة بجميع المقدورات، وأعني بالمقدورات الممكنات كلها التي لا نهاية لها. ولا يخفى أن الممكنات لا نهاية لها فلا نهاية إذاً للمقدورات، ونعني بقولنا لا نهاية للممكنات أن خلق الحوادث بعد الحوادث لا ينتهي إلى حد يستحيل في العقل حدوث حادث بعده، فالإمكان مستمر أبداً والقدرة واسعة لجميع ذلك، وبرهان هذه الدعوى وهي عموم تعلق القدرة أنه قد ظهر أن صانع كل العالم واحد، فإما أن يكون له بإزاء كل مقدور قدرة والمقدورات لا نهاية لها فتثبت قدرة متعددة لا نهاية لها وهو محال كما سبق في إبطال دورات لا نهاية لها، وإما أن تكون القدرة واحدة كما سبق في إبطال دورات لا نهاية لها، وإما أن تكون القدرة واحدة فيكون تعلقها مع اتحادها بما يتعلق به من الجواهر والأعراض مع اختلافها لأمر تشترك فيه ولا يشترك في أمر سوى الامكان، فيلزم منه أن كل ممكن فهو مقدور لا محالة وواقع بالقدرة.

وبالجملة، إذا صدرت منه الجواهر والأعراض استحال أن لا يصدر منه أمثالها، فإن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ لم يمتنع التعدد في المقدور لنسبته إلى الحركات كلها والألوان كلها على وتيرة واحدة فتصلح لخلو حركة بعد حركة على الدوام، وكذا لون بعد لون وجوهر بعد جوهر وهكذا .. وهو الذي عنيناه بقولنا إن قدرته تعالى متعلقة بكل ممكن فإن الإمكان لا ينحصر في عدد. ومناسبة ذات القدرة لا تختص بعدد دون عدد ولا يمكن أن يشار إلى حركة فيقال أنها خارجة عن إمكان تعلق القدرة بها، مع أنها تعلقت بمثلها إذ بالضرورة تعلم أن ما وجب للشيء وجب لمثله ويتشعب عن هذا ثلاثة فروع.

الفرع الأول: إن قال قائل هل تقولون أن خلاف المعلوم مقدور ؟ قلنا: هذا مما اختلف فيه، ولا يتصور الخلاف فيه إذا حقق وأزيل تعقيد الألفاظ وبيانه أنه قد ثبت أن كل ممكن مقدور وأن المحال ليس بمقدور. فانظر أن خلاف المعلوم محال أو ممكن ولا تعرف ذلك إلا إذا عرفت معنى المحال والممكن وحصلت حقيقتهما وإلا فإن تساهلت في النظر، ربما صدق على خلاف المعلوم أنه محال وأنه ممكن وأنه ليس بمحال، فإذاً صدق أنه محال وأنه ليس بمحال والنقيضان لا يصدفان معاً. فاعلم أن تحت اللفظ اجمالاً وإنما ينكشف لك ذلك بما أقوله وهو أن العالم مثلاً يصدق عليه أنه واجب وأنه محال وأنه ممكن. أما كونه واجباً فمن حيث أنه إذا فرضت إرادة القديم موجودة وجوداً واجباً كان المراد أيضاً واجباً بالضرورة لا جائزاً، إذ يستحيل عدم المراد مع تحقق الإرادة القديمة وأما كونه محالاً فهو أنه لو قدر عدم تعلق الارادة بايجاده فيكون لا محالة حدوثه محالاً إذ يؤدي إلى حدوث حادث بلا سبب وقد عرف أنه محال. وأما كونه ممكناً فهو أن تنظر إلى ذاته فقط، ولا تعتبر معه لا وجود الإرادة ولا عدمها، فيكون له وصف الإمكان، فإذاً الاعتبارات ثلاثة: الأول أن يشترط فيه وجود الإرادة وتعلقها فهو بهذا الاعتبار واجب.

الثاني أن يعتبر فقد الإرادة فهو بهذا الاعتبار محال.

الثالث أن نقطع الالتفات عن الإرادة والسبب فلا نعتبر وجوده ولا عدمه ونجرد النظر إلى ذات العالم فيبقى له بهذا الاعتبار الأمر الثالث وهو الإمكان. ونعني به أنه ممكن لذاته، أي إذا لم نشترط غير ذاته كان ممكناً فظهر منه أنه يجوز أن يكون الشيء الواحد ممكناً محالاً، ولكن ممكناً باعتبار ذاته محالاً باعتبار غيره، ولا يجوز أن يكون ممكناً لذاته محالاً لذاته، فهما متناقضان فنرجع إلى خلاف المعلوم فنقول: إذا سبق في علم الله تعالى إماتة زيد صبيحة يوم السبت مثلاً فنقول: خلق الحياة لزيد صبيحة يوم السبت ممكن أم ليس بممكن ؟ فالحق فيه أنه ممكن ومحال؛ أي هو ممكن باعتبار ذاته إن قطع الالتفات إلى غيره، ومحال لغيره لا لذاته وذلك إذا اعتبر معه الالتفات إلى تعلق ذاتها وهو ذات العلم، إذ ينقلب جهلاً، ومحال أن ينقلب جهلاً فبان أنه ممكن لذاته محال للزوم استحالة في غيره. فإذا قلنا حياة زيد في هذا الوقت مقدورة، لم نرد به إلا أن الحياة من حيث أنها حياة ليس بمحال، كالجمع بين السواد والبياض. وقدرة الله تعالى من حيث أنها قدرة لا تنبو عن التعلق بخلق الحياة ولا تتقاصر عنه لفتور ولا ضعف ولا سبب في ذات القدرة، وهذان أمران يستحيل إنكارهما، أعني نفي القصور عن ذات القدرة وثبوت الإمكان لذات الحياة من حيث أنها حياة فقط من غير التفات إلى غيرها، والخصم إذا قال غير مقدور على معنى أن وجوده يؤدي إلى استحالة فهو صادق في هذا المعنى، فإنا لسنا ننكره ويبقى النظر في اللفظ هل هو صواب من حيث اللغة إطلاق هذا الاسم عليه أو سلبه، ولا يخفى أن الصواب إطلاق اللفظ فإن الناس يقولون فلان قادر على الحركة والسكون، إن شاء تحرك وإن شاء سكن، ويقولون إن له في كل وقت قدرة على الضدين ويعلمون أن الجاري في علم الله تعالى وقوع أحدهما، فالاطلاقات شاهدة لما ذكرناه وحظ المعنى فيه ضروري لا سبيل إلى جحده.

الفرع الثاني: إن قال قائل إذا ادعيتم عموم القدرة في تعلقها بالممكنات، فما قولكم في مقدورات الحيوان وسائر الأحياء من المخلوقات، أهي مقدورة لله تعالى أم لا ؟ فإن قلتم ليست مقدورة، فقد نقضتم قولكم إن تعلق القدرة عام، وإن قلتم إنها مقدورة له لزمكم إثبات مقدور بين قادرين وهو محال، وإنكار كون الإنسان وسائر الحيوان قادراً فهو مناكرة للضرورة ومجاحدة لمطالبات الشريعة، إذ تستحيل المطالبة بما لا قدرة عليه ويستحيل أن يقول الله لعبده ينبغي أن تتعاطى ما هو مقدور لي وأنا مستأثر بالقدرة عليه ولا قدرة لك عليه.

فنقول: في الانفصال قد تحزب الناس في هذا أحزاباً؛ فذهبت المجبرة إلى انكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة والحركة الاختيارية، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع، وذهبت المعتزلة إلى انكار تعلق قدرة الله تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين وزعمت أن جميع ما يصدر منها من خلق العباد واختراعهم لا قدرة لله تعالى عليها بنفي ولا إيجاب فلزمتها شناعتان عظيمتان: إحداهما انكار ما أطبق عليه السلف رضي الله عنهم من أنه لا خالق إلا الله ولا مخترع سواه، والثانية نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه من الحركات، فإن الحركات التي تصدر من الإنسان وسائر الحيوان لو سئل عن عددها وتفاصيلها ومقاديرها لم يكن عنده خبر منها، بل الصبي كما ينفصل من المهد يدب إلى الثدي باختياره ويمتص، والهرة كما ولدت تدب إلى ثدي أمها وهي مغمضة عينها، والعنكبوت تنسج من البيوت أشكالاً غريبة يتحير المهندس في استدارتها وتوازي أضلاعها وتناسب ترتيبها وبالضرورة تعلم انفكاكها عن العلم بما تعجز المهندسون عن معرفته، والنحل تشكل بيوتها على شكل التسديس فلا يكون فهيا مربع ولا مدور ولا مسبع ولا شكل آخر وذلك لتميز شكل المسدس بخاصية دلت عليها البراهين الهندسية لا توجد في غيرها، وهو مبني على اصول أحدها، أن أحوى الأشكال وأوسعها الشكل المستدير المنفك عن الزوايا الخارجة عن الاستقامة، والثاني، أن الأشكال المستديرة إذا وضعت متراصة بقيت بينها فرج معطلة لا محالة، والثالث، أن أقرب الأشكال القليلة الأضلاع إلى المستديرة في الاحتواء هو شكل المسدس، والرابع أن كل الأشكال القريبة من المستديرة كالمسبع والمثمن والمخمس إذا وضعت جملة متراصة متجاورة بقيت بينها فرج معطلة ولم تكن متلاصقة، وأما المربعة فإنها متلاصقة ولكنها بعيدة عن احتواء الدوائر لتباعد زواياها عن أوساطها، ولما كان النحل محتاجاً إلى شكل قريب من الدوائر ليكون حاوياً لشخصه فإنه قريب من الاستدارة، وكان محتاجاً لضيق مكانه وكثرة عدده إلى أن لا يضيع موضعاً بفرج تتخلل بين البيوت ولا تتسع لأشخاصها ولم يكن في الأشكال مع خروجها عن النهاية شكل يقرب من الاستدارة وله هذه الخاصية وهو التراص والخلو عن بقاء الفرج بين أعدادها إلا المسدس، فسخرها الله تعالى لاختيار الشكل المسدس في صناعة بيتها؛ فليت شعري أعرف النحل هذه الدقائق التي يقصر عن دركها أكثر عقلاء الإنس أم سخره لنيل ما هو مضطر إليه الخالق المنفرد بالجبروت وهو في الوسط مجري فتقدير الله تعالى يجري عليه وفيه، وهو لا يدريه ولا قدرة له على الامتناع عنه، وإن في صناعات الحيوانات من هذا الجنس عجائب لو أوردت منها طرفاً لامتلأت الصدور من عظمة الله تعالى وجلاله، فتعساً للزائغين عن سبيل الله المغترين بقدرتهم القاصرة ومكنتهم الضعيفة الظانين أنهم مساهمون الله تعالى في الخلق والاختراع وإبداع مثل هذه العجائب والآيات. هيهات هيهات ! ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار الأرض والسموات فهذه أنواع الشناعات اللازمة على مذهب المعتزلة فانظر الآن إلى أهل السنة كيف وفقوا للسداد ورشحوا للاقتصاد في الاعتقاد. فقالوا: القول بالجبر محال باطل، والقول بالاختراع اقتحام هائل، وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد. والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال كما سنبينه.

فإن قيل فما الذي حملكم على اثبات مقدور بين قادرين ؟  قلنا: البرهان القاطع على أن الحركة الاختيارية مفارقة للرعدة، وإن فرضت الرعدة مراد للمرتعد ومطلوبة له أيضاً ولا مفارقة إلا بالقدرة، ثم البرهان القاطع على أن كل ممكن تتعلق به قدرة الله تعالى وكل حادث ممكن وفعل العبد حادث فهو إذاً ممكن فإن لم تتعلق به قدرة الله تعالى فهو محال، فإنا نقول: الحركة الاختيارية من حيث أنها حركة حادثة ممكنة مماثلة لحركة الرعدة فيستحيل أن تتعلق قدرة الله تعالى بإحداهما وتقصر عن الأخرى وهي مثلها، بل يلزم عليه محال آخر وهو أن الله تعالى لو أراد تسكين يد العبد إذا أراد العبد تحريكها فلا يخلو إما أن توجد الحركة والسكون جميعاً أو كلاهما لا يوجد فيؤدي إلى اجتماع الحركة والسكون أو إلى الخلو عنهما، والخلو عنهما مع التناقض يوجب بطلان القدرتين، إذ القدرة ما يحصل بها المقدور عند تحقق الإرادة وقبول المحل، فإن ظن الخصم أن مقدور الله تعالى يترجح لأن قدرته أقوى فهو محال، لأن تعلق القدرة بحركة واحدة لا تفضل تعلق القدرة الأخرى بها، إذ كانت فائدة القدرتين الاختراع وإنما قوته باقتداره على غيره واقتداره على غيره غير مرجح في الحركة التي فيها الكلام، إذ حظ الحركة من كل واحدة من القدرتين أن تصير مخترعة بها والاختراع يتساوى فليس فيه أشد ولا أضعف حتى يكون فيه ترجيح، فإذاً الدليل القاطع على إثبات القدرتين ساقنا إلى إثبات مقدور بين قادرين.

فإن قيل: الدليل لا يسوق إلى محال لا يفهم وما ذكرتموه غير مفهوم.

قلنا: علينا تفهيمه وهو أنا نقول اختراع الله سبحانه للحركة في العبد معقول دون أن تكون الحركة مقدورة للعبد، فمهما خلق الحركة وخلق معها قدرة عليها كان هو المستبد بالاختراع للقدرة والمقدور جميعاً، فخرج منه أنه منفرد بالاختراع وأن الحركة موجودة وأن المتحرك عليها قادر وبسبب كونه قادراً فارق حاله حال المرتعد فاندفعت الإشكالات كلها. وحاصله أن القادر الواسع القدرة هو قادر على الاختراع للقدرة والمقدور معاً، ولما كان اسم الخالق والمخترع مطلقاً على من أوجد الشيء بقدرته وكانت القدرة والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى، سمي خالقاً ومخترعاً. ولم يكن المقدور مخترعاً بقدرة العبد وإن كان معه فلم يسم خالقاً ولا مخترعاً ووجب أن يطلب لهذا النمط من النسبة اسم آخر مخالف فطلب له اسم الكسب تيمناً بكتاب الله تعالى، فإنه وجد إطلاق ذلك على أعمال العباد في القرآن وأما اسم الفعل فتردد في إطلاقه ولا مشاحة في الأسامي بعد فهم المعاني.

فإن قيل: الشأن في فهم المعنى وما ذكرتموه غير مفهوم، فإن القدرة المخلوقة الحادثة إن لم يكن لها تعلق بالمقدور لم تفهم؛ إذ قدرة لا مقدور لها محال، كعلم لا معلوم له. وإن تعلقت به فلا يعقل تعلق القدرة بالمقدور إلا من حيث التأثير والايجاد وحصول المقدور به. فالنسبة بين المقدور والقدرة نسبة المسبب إلى السبب وهو كونه به، فإذا لم يكن به لم تكن علاقة فلم تكن قدرة، إذ كل ما لا تعلق له فليس بقدرة إذ القدرة من الصفات المتعلقة.

قلنا: هي متعلقة، وقولكم أن التعلق مقصور على الوقوع به يبطل بتعلق الارادة والعلم، وإن قلتم أن تعلق القدرة مقصور على الوقوع بها فقط فهو أيضاً باطل، فإن القدرة عندكم تبقى إذا فرضت قبل الفعل، فهل هي متعلقة أم لا؟ فإن قلتم لا فهو محال، وإن قلتم نعم فليس المعني بها وقوع المقدور بها، إذ المقدور بعد لم يقع فلا بد من إثبات نوع آخر من التعلق سوى الموقوع بها، إذ التعلق عند الحدوث يعبر عنه بالوقوع به والتعلق قبل ذلك مخالف له فهو نوع آخر من التعلق، فقولكم إن تعلق القدرة به نمط واحد خطأ وكذلك القادرية القديمة عندهم فإنها متعلقة بالعلم في الأزل وقبل خلق العالم، فقولنا أنها متعلقة صادق وقولنا أن العالم واقع بها كاذب، لأنه لم يقع بعد فلو كانا عبارتين عن معنى واحد لصدق أحدهما حيث يصدق الآخر.

فإن قيل: معنى تعلق القدرة قبل وقوع المقدور أن المقدور إذا وقع بها.

قلنا: فليس هذا تعلقاً في الحال بل هو انتظار تعلق، فينبغي أن يقال القدرة موجودة وهي صفة لا تعلق لها ولكن ينتظر لها تعلق إذا وقع وقع المقدور بها، وكذا القادرية ويلزم عليه محال، وهو أن الصفة التي لم تكن من المتعلقات صارت من المتعلقات وهو محال.

فإن قيل: معناه أنها متهيئة لوقوع المقدور بها. قلنا: ولا معنى للتهيؤ إلا انتظار الوقوع بها، وذلك لا يوجب تعلقاً في الحال. فكما عقل عندكم قدرة موجودة متعلقة بالمقدور والمقدور غير واقع بها عقل عندنا أيضاً قدرة كذلك والمقدور غير واقع بها ولكنه واقع بقدرة الله تعالى، فلم يخالف مذهبنا ههنا مذهبكم إلا في قولنا أنها وقعت بقدرة الله تعالى، فإذا لم يكن من ضرورة وجود القدرة ولا تعلقها بالمقدور وجود المقدور بها؛ فمن أين يستدعي عدم وقوعها بقدرة الله تعالى ووجوده بقدرة الله تعالى لا فضل له على عدمه من حيث انقطاع النسبة عن القدرة الحادثة إذ النسبة، إذا لم تمتنع بعدم المقدور، فكيف تمتنع بوجود المقدور ؟ وكيف ما فرض المقدور موجوداً أو معدوماً فلا بد من قدرة متعلقة لا مقدور لها في الحال.

فإن قيل: فقدرة لا يقع بها مقدور، والعجز، بمثابة واحدة، قلنا: إن عنيتم به أن الحالة التي يدركها الإنسان عند وجودها مثل ما يدركها عند العجز في الرعدة فهو مناكرة للضرورة وإن عنيتم أنها بمثابة العجز في أن المقدور لم يقع بها فهو صدق ولكن تسميته عجزاً خطأ وإن كان من حيث القصور إذا نسبت إلى قدرة الله تعالى ظن أنه مثل العجز، وهذا كما أنه لو قيل القدرة قبل الفعل، على أصلهم، مساوية للعجز من حيث أن المقدور غير واقع بها لكان اللفظ منكراً من حيث أنها حالة مدركة يفارق إدراكها في النفس إدراك العجز، فكذلك هذا، ولا فرق وعلى الجملة فلا بد من إثبات قدرتين متفاوتتين، إحداهما أعلى والأخرى بالعجز أشبه مهما أضيفت إلى الأعلى، وأنت بالخيار بين أن تثبت للعبد قدرة توهم نسبة العجز للعبد من وجه، وبين أن تثبت لله سبحانه ذلك تعالى الله عما يقول الزائغون. ولا تستريب إن كنت منصفاً في أن نسبة القصور والعجز بالمخلوقات أولى بل لا يقال أولى لاستحالة ذلك في حق الله تعالى فهذا غاية ما يحتمله هذا المختصر من هذه المسألة.

الفرع الثالث: فإن قال قائل: كيف تدعون عموم تعلق القدرة بجملة الحوادث وأكثر ما في العالم من الحركات وغيرها متولدات يتولد بعضها من بعض بالضرورة، فإن حركة اليد مثلاً بالضرورة تولد حركة الخاتم، وحركة اليد في الماء تولد حركة الماء، وهو مشاهد، والعقل أيضاً يدل عليه إذ لو كانت حركة الماء والخاتم بخلق الله تعالى لجاز أن يخلق حركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء، وهو محال، وكذا في المتولدات مع انشعابها.

فنقول: ما لا يفهم لا يمكن التصرف فيه بالرد والقبول، فإن كون المذهب مردوداً أو مقبولاً بعد كونه معقولاً. والمعلوم عندنا من عبارة التولد أن يخرج جسم من جوف جسم كما يخرج الجنين من بطن الأم والنبات من بطن الأرض، وهذا محال في الأعراض؛ إذ ليس لحركة اليد جوف حتى تخرج منه حركة الخاتم ولا هو شيء حاو لأشياء حتى يرشح منه بعض ما فيه، فحركة الخاتم إذا لم تكن كامنة في ذات حركة اليد فما معنى تولدها منها ؟ فلا بد من تفهيمه، وإذا لم يكن هذا مفهوماً فقولكم إنه مشاهد حماقة، إذ كونها حادثة معها مشاهد لا غير، فأما كونها متولد منها فغير مشاهد، وقولكم إنه لو كان بخلق الله تعالى لقدر على أن يخلق حركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء فهذا هوس يضاهي قول القائل لو لم يكن العلم متولداً من الإرادة لقدر على أن يخلق الارادة دون العلم أو العلم دون الحياة، ولكن نقول: المحال غير مقدور ووجود المشروط دون الشرط غير معقول، والارادة شرطها العلم والعلم شرطه الحياة وكذلك شرط شغل الجوهر لحيز فراغ ذلك الحيز، فإذا حرك الله تعالى اليد فلا بد أن يشغل بها حيزاً في جوار الحيز الذي كانت فيه، فما لم يفرغه كيف يشغله به ؟ ففراغه شرط اشتغاله باليد، إذ لو تحرك ولم يفرغ الحيز من الماء بعدم الماء أو حركته لاجتمع جسمان في حيز واحد وهو محال، فكان خلو أحدهما شرطاً للآخر فتلازما فظن أن أحدهما متولد من الآخر وهو خطأ فأما اللازمات التي ليست شرطاً فعندنا يجوز أن تنفك عن الاقتران بما هو لازم لها، بل لزومه بحكم طرد العادة كاحتراق القطن عند مجاورة النار وحصول البرودة في اليد عند مماسة الثلج، فإن كل ذلك مستمر بجريان سنة الله تعالى، وإلا فالقدرة من حيث ذاتها غير قاصرة عن خلق البرودة في الثلج والمماسة في اليد مع خلق الحرارة في اليد بدلاً عن البرودة. فإذاً ما يراه الخصم متولداً قسمان:  أحدهما شرط فلا يتصور فيه إلا الاقتران، والثاني ليس بشرط فيتصور فيه غير الاقتران إذ خرقت العادات.

فإن قال قائل لم تدلوا على بطلان التولد ولكن أنكرتم فهمه وهو مفهوم، فإنا لا نريد به ترشح الحركة من الحركة بخروجها من جوفها ولا تولد برودة من برودة الثلج بخروج البرودة من الثلج وانتقالها أو بخروجها من ذات البرودة، بل نعني به وجود موجود عقيب موجود وكونه موجوداً وحادثاً به فالحادث نسميه متولداً والذي به الحدوث نسميه مولداً وهذه التسمية مفهومة فما الذي يدل على بطلانه ؟ قلنا: إذا أقررتم بذلك دل على بطلانه ما دل على بطلان كون القدرة الحادثة موجودة فإنا إذا أحلنا أن نقول حصل مقدور بقدرة حادثة فكيف لا يخيل الحصول بما ليس بقدرة واستحالته راجعة إلى عموم تعلق القدرة، وإن خروجه عن القدرة مبطل لعموم تعلقها وهو محال ثم هو موجب للعجز والتمانع كما سبق.

نعم، وعلى المعتزلة القائلين بالتولد مناقضات في تفصيل التولد لا تحصى، كقولهم إن النظر يولد العلم، وتذكره لا يولده إلى غير ذلك مما لا نطول بذكره، فلا معنى للإطناب فيما هو مستغنى عنه، وقد عرفت من جملة هذا أن الحادثات كلها، جواهرها وأعراضها الحادثة منها في ذات الأحياء والجمادات، واقعة بقدرة الله تعالى، وهو المستبد باختراعها، وليس تقع بعض المخلوقات ببعض بل الكل يقع بالقدرة وذلك ما أردنا أن نبين من إثبات صفة القدرة لله تعالى وعموم حكمها وما اتصل بها من الفروع واللوازم.

الصفة الثانية

العلم

ندعي أن الله تعالى عالم بجميع المعلومات الموجودات والمعدومات؛ فإن الموجودات منقسمة إلى قديم وحادث، والقديم ذاته وصفاته ومن علم غيره فهو بذاته وصفاته أعلم، فيجب ضرورة أن يكون بذاته عالماً وصفاته إن ثبت أنه عالم بغيره. ومعلوم أنه عالم بغيره لأن ما ينطلق عليه اسم الغير فهو صنعه المتقن وفعله المحكم المرتب وذلك يدل على قدرته على ما سبق؛ فإن من رأى خطوطاً منظومة تصدر على الاتساق من كاتب ثم استراب في كونه عالماً بصنعة الكتابة كان سفيهاً في استرابته، فإذاً قد ثبت أنه عالم بذاته وبغيره.

فإن قيل فهل لمعلوماته نهاية ؟ قلنا: لا؛ فإن الموجودات في الحال وإن كانت متناهية فالممكنات في الاستقبال غير متناهية، ونعلم أن الممكنات التي ليست بموجودة أنه سيوجدها أولا يوجدها، فيعلم إذاً ما لا نهاية له بل لو أردنا أن نكثر على شيء واحد وجوهاً من النسب والتقديرات لخرج عن النهاية والله تعالى عالم بجميعها.

فإنا نقول مثلاً ضعف الاثنين أربعة، وضعف الأربعة ثمانية، وضعف الثمانية ستة عشر، وهكذا نضعف ضعف الإثنين وضعف ضعف الضعف ولا يتناهى، والإنسان لا يعلم من مراتبها إلا ما يقدره بذهنه، وسينقطع عمره ويبقى من التضعيفات ما لا يتناهى. فإذاً معرفة أضعاف أضعاف الإثنين، وهو عدد واحد، يخرج عن الحصر وكذلك كل عدد، فكيف غير ذلك من النسب والتقديرات، وهذا العلم مع تعلقه بمعلومات لا نهاية لها واحد كما سيأتي بيانه من بعد مع سائر الصفات.

الصفة الثالثة

الحياة

ندعي أنه تعالى حي وهو معلوم بالضرورة، ولم ينكره أحد ممن اعترف بكونه تعالى عالماً قادراً. فإن كون العالم القادر حياً ضروري إذ لا يعني بالحي إلا ما يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره، والعالم بجميع المعلومات والقادر على جميع المقدورات كيف لا يكون حياً، وهذا واضح والنظر في صفة الحياة لا يطول.

الصفة الرابعة

الإرادة

ندعي أن الله تعالى مريد لأفعاله وبرهانه أن الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من البعض إلا بمرجح، ولا تكفي ذاته للترجيح، لأن نسبة الذات إلى الضدين واحدة فما الذي خصص أحد الضدين بالوقوع في حال دون حال ؟ وكذلك القدرة لا تكفي فيه، إذ نسبة القدرة إلى الضدين واحدة، وكذلك العلم لا يكفي خلافاً للكعبي حيث اكتفى بالعلم عن الإرادة لأن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ولا يغيره.

 فإن كان الشيء ممكناً في نفسه مساوياً للممكن الآخر الذي في مقابلته فالعلم يتعلق به على ما هو عليه ولا يجعل أحد الممكنين مرجحاً على الآخر، بل نعقل الممكنين ويعقل تساويهما، والله سبحانه وتعالى يعلم أن وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكناً، وأن وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساوياً له في الإمكان لأن هذه الامكانات متساوية، فحق العلم أن يتعلق بها كما هو عليه فإن اقتضت صفة الإرادة وقوعه في وقت معين تعلق العلم بتعيين وجوده في ذلك الوقت لعلة تعلق الارادة به فتكون الإرادة للتعيين علة ويكون العلم متعلقاً به تابعاً له غير مؤثر فيه، ولو جاز أن يكتفى بالعلم عن الارادة لاكتفي به عن القدرة، بل كان ذلك يكفي في وجود أفعالنا حتى لا نحتاج إلى الإرادة، إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم الله تعالى به وكل ذلك محال.

فإن قيل: وهذا ينقلب عليكم في نفس الارادة، فإن القدرة كما لا تناسب أحد الضدين فالارادة القديمة أيضاً لا تتعين لأحد الضدين، فاختصاصها بأحد الضدين ينبغي أن يكون بمخصص ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية، إذ يقال الذات لا تكفي للحدوث، إذ لو حدث من الذات لكان مع الذات غير متأخر فلا بد من القدرة والقدرة لا تكفي إذ لو كان للقدرة لما اختص بهذا الوقت وما قبله وما بعده في النسبة إلى جواز تعلق القدرة بها على وتيرة، فما الذي خصص هذا الوقت فيحتاج إلى الارادة ؟ فيقال: والارادة لا تكفي، فإن الإرادة القديمة عامة التعلق كالقدرة، فنسبتها إلى الأوقات واحدة ونسبتها إلى الضدين واحدة، فإن وقع الحركة مثلاً بدلاً عن السكون لأن الارادة تعلقت بالحركة لا بالسكون.

فيقال: وهل كان يمكن أن يتعلق بالسكون ؟ فإن قيل: لا، فهو محال؛ وإن قيل: نعم، فهما متساويان؛ أعني الحركة والسكون في مناسبة الإرادة القديمة فما الذي أوجب تخصيص الإرادة القديمة بالحركة دون السكون فيحتاج إلى مخصص ثم يلزم السؤال في مخصص المخصص ويتسلسل إلى غير نهاية..

قلنا: هذا سؤال غير معقول حير عقول الفرق ولم يوفق للحق إلا أهل السنة فالناس فيه أربع فرق: قائل يقول إن العالم وجد لذات الله سبحانه وتعالى وإنه ليس للذات صفة زائدة البتة، ولما كان الذات قديمة كان العالم قديماً وكانت نسبة العالم إليه كنسبة المعلول إلى العلة، ونسبة النور إلى الشمس، والظل إلى الشخص؛ وهؤلاء هم الفلاسفة.

وقائل يقول إن العالم حادث ولكن حدث في الوقت الذي حدث فيه لا قبله ولا بعده لإرادة حادثة حدثت له لا في محل فاقتضت حدوث العالم، وهؤلاء هم المعتزلة.

وقائل يقول حدث بإرادة حادثة حدثت في ذاته، وهؤلاء هم القائلون بكونه محلاً للحوادث. وقائل يقول حدث العالم في الوقت الذي تعلقت الارادة القديمة بحدوثه في ذلك الوقت، من غير حدوث إرادة ومن غير تغير صفة القديم، فانظر إلى الفرق وانسب مقام كل واحد إلى الآخر، فإنه لا ينفك فريق عن إشكال لا يمكن حله إلا إشكال أهل السنة فإنه سريع الانحلال.

أما الفلاسفة فقد قالوا بقدم العالم، وهو محال، لأن الفعل يستحيل أن يكون قديماً؛ إذ معنى كونه فعلاً أنه لم يكن ثم كان، فإن كان موجوداً مع الله أبداً فكيف يكون فعلاً ؟ بل يلزم من ذلك دورات لا نهاية لها على ما سبق، وهو محال من وجوه، ثم إنهم مع اقتحام هذا الإشكال لم يتخلصوا من أصل السؤال وهو أن الإرادة لم تعلقت بالحدوث في وقت مخصوص لا قبله ولا بعده، مع تساوي نسب الأوقات إلى الإرادة، فإنهم إن تخلصوا عن خصوص الوقت لم يتخلصوا عن خصوص الصفات، إذ العالم مخصوص بمقدار مخصوص ووضع مخصوص، وكانت نقايضها ممكنة في العقل، والذات القديمة لا تناسب بعض الممكنات دون بعض، ومن أعظم ما يلزمهم فيه، ولا عذر لهم عنه أمران أوردناهما في كتاب تهافت الفلاسفة ولا محيص لهم عنهما البتة: أحدهما، أن حركات الأفلاك بعضها مشرقية أي من المشرق إلى المغرب، وبعضها مغربية أي من مغرب الشمس إلى المشرق، وكان عكس ذلك في الإمكان مساوياً له، إذ الجهات في الحركات متساوية، فكيف لزم من الذات القديمة أو من دورات الأفلاك وهي قديمة عندهم أن تتعين جهة عن جهة تقابلها وتساويها من كل وجه ؟ وهذا لا جواب عنه. الثاني، أن الفلك الأقصى الذي هو الفلك التاسع عندهم المحرك لجميع السماوات بطريق القهر في اليوم والليلة مرة واحدة يتحرك على قطبين شمالي وجنوبي، والقطب عبارة عن النقطتين المتقابلتين على الكرة الثابتتين عند حركة الكرة على نفسها، والمنطقة عبارة عن دائرة عظيمة على وسط الكرة بعدها من النقطتين واحد.

فنقول: جرم الفلك الأقصى متشابه، وما من نقطة إلا ويتصور أن تكون قطباً. فما الذي أوجب تعيين نقطتين من بين سائر النقط التي لا نهاية لها عندهم، فلا بد من وصف زائد على الذات من شأنه تخصيص الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة. وقد استوفينا تحقيق الالتزامين في كتاب التهافت. وأما المعتزلة فقد اقتحموا أمرين شنيعين باطلين: أحدهما، كون الباري تعالى مريداً بإرادة حادثة لا في محل، وإذا لم تكن الإرادة قائمة به فقول القائل إنه مريدها هجر من الكلام، كقوله إنه مريد بإرادة قائمة بغيره.

والثاني، أن الإرادة لم حدثت في هذا الوقت على الخصوص، فإن كانت بإرادة أخرى فالسؤال في الإرادة الأخرى لازم، ويتسلسل إلى غير نهاية، وإن كان ليس بإرادة فليحدث العالم في هذا الوقت على الخصوص لا بارادة، فإن افتقار الحادث إلى الارادة لجوازه لا لكونه جسماً أو اسماً أو إرادة أو علماً. والحادثات في هذا متساوية، ثم لم يتخلصوا من الإشكال إذ يقال لهم لم حدثت الإرادة في هذا الوقت على الخصوص ولم حدثت إرادة الحركة دون إرادة السكون، فإن عندهم يحدث لكل حادث إرادة حادثة متعلقة بذلك الحادث فلم لم تحدث إرادة تتعلق بضده ؟ وأما الذين ذهبوا إلى حدوث الإرادة في ذاته تعالى لا متعلقة بذلك الحادث فقد دفعوا أحد الإشكالين وهو كونه مريداً بإرادة في غير ذاته ولكن زادوا إشكالاً آخر وهو كونه محلاً للحوادث، وذلك يوجب حدوثه. ثم قد بقيت عليهم بقية الإشكال ولم يتخلصوا من السؤال.

وأما أهل الحق فإنهم قالوا إن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن أضدادها المماثلة لها، وقول القائل إنه لم تعلقت بها وأضدادها مثلها في الامكان، هذا سؤال خطأ فإن الإرادة ليست إلا عبارة عن صفة شأنها تمييز الشيء على مثله.

فقول القائل لم ميزت الإرادة الشيء عن مثله، كقول القائل لم أوجب العلم انكشاف المعلوم، فيقال: لا معنى للعلم إلا ما أوجب انكشاف المعلوم، فقول القائل لم أوجب الانكشاف كقوله لم كان العلم علماً، ولم كان الممكن ممكناً، والواجب واجباً، وهذا محال؛ لأن العلم علم لذاته وكذا الممكن والواجب وسائر الذوات، فكذلك الإرادة وحقيقتها تمييز الشيء عن مثله.

فقول القائل لم ميزت الشيء عن مثله كقوله لم كانت الإرادة إرادة والقدرة قدرة، وهو محال، وكل فريق مضطر إلى اثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة، فكان أقوم الفرق قيلاً وأهداهم سبيلاً من أثبت هذه الصفة ولم يجعلها حادثة، بل قال هي قديمة متعلقة بالأحداث في وقت مخصوص، فكان الحدوث في ذلك الوقت لذلك، وهذا ما لا يستغني عنه فريق من الفرق وبه ينقطع التسلسل في لزوم هذا السؤال.

والآن فكما تمهد القول في أصل الإرادة فاعلم انها متعلقة بجميع الحادثات عندنا من حيث أنه ظهر أن كل حادث فمخترع بقدرته، وكل مخترع بالقدرة محتاج إلى ارادة تصرف القدرة إلى المقدور وتخصصها به، فكل مقدور مراد، وكل حادث مقدور، فكل حادث مراد والشر والكفر والمعصية حوادث، فهي إذاً لا محالة مرادة. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا مذهب السلف الصالحين ومعتقد أهل السنة أجمعين وقد قامت عليه البراهين.

وأما المعتزلة فإنهم يقولون إن المعاصي كلها والشرور حادثة بغير إرادته، بل هو كاره لها. ومعلوم أن أكثر ما يجري في العالم المعاصي فإذاً ما يكرهه أكثر مما يريده فهو إلى العجز والقصور أقرب بزعمهم، تعالى رب العالمين عن قول الظالمين.

فإن قيل: فكيف يأمر بما لا يريد ؟ وكيف يريد شيئاً وينهى عنه ؟ وكيف يريد الفجور والمعاصي والظلم والقبيح ومريد القبيح سفيه ؟ قلنا: إذا كشفنا عن حقيقة الأمر وبينا أنه مباين للإرادة وكشفنا عن القبيح والحسن وبينا أن ذلك يرجع إلى موافقة الأعراض ومخالفتها، وهو سبحانه منزه عن الأعراض فاندفعت هذه الإشكالات وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

الصفة الخامسة والسادسة

في السمع والبصر

ندعي ان صانع العالم سميع بصير، ويدل عليه الشرع والعقل. أما الشرع فيدل عليه آيات من القرآن كثيرة كقوله "وهو السميع البصير" وكقول إبراهيم عليه السلام لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يعني عنك شيئاً ونعلم أن الدليل غير منقلب عليه في معبوده وأنه كان يعبد سميعاً بصيراً ولا يشاركه في الإلزام.

فإن قيل: إنما أريد به العلم.

قلنا: إنما تصرف ألفاظ الشارع عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام إذا كان يستحيل تقديرها على الموضوع، ولا استحالة في كونه سميعاً بصيراً، بل يجب أن يكون كذلك، فلا معنى للتحكم بإنكار ما فهمه أهل الإجماع من القرآن.

فإن قيل: وجه استالته إنه إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلاً للحوادث، وهو محال، وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتاً معدوماً وكيف يرى العالم في الأزل والعالم معدوم والمعدوم لا يرى ؟ قلنا: هذا السوال يصدر عن معتزلي أو فلسفي. أما المعتزلي فدفعه هين، فإنه سلم أنه يعلم الحادثات، فنقول: يعلم الله الآن إن العالم كان موجوداً قبل هذا فكيف علم في الأزل أنه يكون موجوداً وهو بعد لم يكن موجوداً ؟ فإن جز إثبات صفة تكون عند وجود العالم علما بأنه كائن، وفعله بأنه سيكون وبعده بأنه كان وقبله بأنه سيكون، وهو لا يتغير عبر عنه بالعلم بالعالم والعلمية، جاز ذلك في السمع والسمعية والبصر والبصرية. وإن صدر من فلسفي فهو منكر لكونه عالماً بالحادثات المعينة الداخلة في الماضي والحال والمستقبل، فسبيلنا أن ننقل الكلام إلى العلم ونثبت عليه جواز علم قديم متعلق بالحادثات كما سنذكره، ثم إذا ثبت ذلك في العلم قسنا عليه السمع والبصر.

وأما المسلك العقلي، فهو أن نقول: معلوم أن الخالق أكمل من المخلوق، ومعلوم أن البصير أكمل ممن لا يبصر، والسميع أكمل ممن لا يسمع، فيستحيل أن يثبت وصف الكمال للمخلوق ولا نثبته للخالق. وهذان أصلان يوجبان الإقرار بصحة دعوانا ففي أيهما النزاع ؟ فإن قيل: النزاع في قولكم واجب أن يكون الخالق أكمل من المخلوق.

قلنا: هذا مما يجب الاعتراف به شرعاً وعقلاً، والأمة والعقلاء مجمعون عليه، فلا يصدر هذا السؤال من معتقد. ومن اتسع عقله لقبول قادر يقدر على اختراع ما هو أعلى وأشرف منه فقد انخلع عن غريزة البشرية ونطق لسانه بما ينبو عن قبوله قلبه إن كان يفهم ما يقوله، ولهذا لا نرى عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد.

فإن قيل: النزاع في الأصل الثاني، وقو قولكم إن البصير أكمل وإن السمع والبصر كمال.

قلنا: هذا أيضاً مدرك ببديهة العقل، فإن العلم كمال والسمع والبصر كمال ثان للعلم، فإنا بينا أنه استكمال للعلم والتخيل، ومن علم شيئاً ولم يره ثم رآه استفاد مزيد كشف وكمال فكيف يقال إن ذلك حاصل للمخلوق وليس بحاصل للخالق أو يقال إن ذلك ليس بكمال، فإن لم يكن كمالاً فهو نقص أو لا هو نقص ولا هو كمال، وجميع هذه الأقسام محال، فظهر ان الحق ما ذكرناه.

فإن قيل: هذا يلزمكم في الإدراك الحاصل بالشم والذوق واللمس لأن فقدها نقصان ووجودها كمال في الإدراك، فليس كمال علم من علم الرائحة ككمال علم من أدرك بالشم، وكذلك بالذوق فأين العلم بالطعوم من إدراكها بالذوق.

والجواب إن المحققين من أهل الحق صرحوا بإثبات أنواع الإدراكات مع السمع والبصر والعلم الذي هو كمال في الإدراك دون الأسباب التي هي مقترنة بها في العادة من المماسة والملاقاة، فإن ذلك محال على الله تعالى. كما جوزوا ادراك البصر من غير مقابلة بينه وبين المبصر، وفي طرد هذا القياس دفع هذا السؤال ولا مانع منه ولكن لما لم يرد الشرع إلا بلفظ العلم والسمع والبصر فلم يمكن لنا إطلاق غيره. وأما ما هو نقصان في الإدراك فلا يجوز في حقه تعالى البتة، فإن قيل يجر هذا إلى إثبات التلذذ والتألم، فالخدر الذي لا يتألم بالضرب ناقص، والعنين الذي لا يتلذذ بالجماع ناقص، وكذا فساد الشهوة نقصان، فينبغي أن نثبت في حقه شهوة، قلنا هذه الأمور تدل على الحدوث وهي في أنفسها إذا بحث عنها نقصانات، وهي محوجة إلى أمور توجب الحدوث، فالألم نقصان، ثم هو محوج إلى سبب هو ضرب، والضرب مماسة تجري بين الأجسام، واللذة ترجع إلى زوال الألم إذا حققت أو ترجع إلى درك ما هو محتاج إليه ومشتاق إليه، والشوق والحاجة نقصان، فالموقوف على النقصان ناقص، ومعنى الشهوة طلب الشيء الملائم ولا طلب إلا عند فقد المطلوب ولا لذة إلا عند نيل ما ليس بموجود، وكل ما هو ممكن وجوده لله فهو موجود فليس يفوته شيء حتى يكون بطلبه مشتهياً وبنيله ملتذاً، فلم تتصور هذه الأمور في حقه تعالى وإذا قيل إن فقد التألم والإحساس بالضرب نقصان في حق الخدر، وإن إدراكه كمال وإن سقوط الشهوة من معدته نقصان، وثبوتها كمال أريد به أنه كمال بالإضافة إلى ضده الذي هو مهلك في حقه، فصار كمالاً بالإضافة إلى الهلاك لأن النقصان خير من الهلاك فهو إذاً ليس كمالاً في ذاته بخلاف العلم وهذه الادراكات.

الصفة السابعة

الكلام

ندعي أن صانع العالم متكلم كما أجمع عليه المسلمون، واعلم أن من أراد إثبات الكلام بأن العقل يقضي بجواز كون الخلق مرددين تحت الأمر والنهي وكل صفة جائزة في المخلوقات تستند إلى صفة واجبة في الخالق، فهو في شطط، إذ يقال له: إن أردت جواز كونهم مأمورين من جهة الخلق الذين يتصور منهم الكلام، فمسلم، وإن أردت جوازه على العموم من الخلق والخالق فقد أخذت محل النزاع مسلماً في نفس الدليل وهو غير مسلم، ومن أراد إثبات الكلام بالإجماع أو بقول الرسول فقد سام نفسه خطة خسف لأن الإجماع يستند إلى قول الرسول عليه السلام ومن أنكر كون الباري متكلماً فبالضرورة ينكر تصور الرسول، إذ معنى الرسول المبلغ لرسالة المرسل، فإن لم يكن للكلام متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصور الرسول؟ ومن قال أنا رسول الأرض أو رسول الجبل إليكم فلا يصغى إليه لاعتقادنا استحالة الكلام والرسالة من الجبل والأرض، ولله المثل الأعلى، ولكن من يعتقد استحالة الكلام في حق الله تعالى استحال منه أن يصدق الرسول إذ المكذب بالكلام لا بد أن يكذب بتبليغ الكلام، والرسالة عبارة عن تبليغ الكلام، والرسول عبارة عن المبلغ، فلعل الأقوم منهج ثالث وهو الذي سلكناه في اثبات السمع والبصر في أن الكلام للحي أما أن يقال هو كمال أو يقال هو نقص، أو يقال لا هو نقص ولا هو كمال، وباطل أن يقال هو نقص أو هو لا نقص ولا كمال فثبت بالضرورة أنه كمال، وكل كمال وجد للمخلوق فهو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى كما سبق.

فإن قيل: الكلام الذي جعلتموه منشأ نظركم هو كلام الخلق، وذلك إما أن يراد به الأصوات والحروف أو يراد به القدرة على ايجاد الأصوات والحروف في نفس القادر أو يراد به معنى ثالث سواهما، فإن أريد به الأصوات والحروف فهي حوادث ومن الحوادث ما هي كمالات في حقنا ولكن لا يتصور قيامها في ذات الله سبحانه وتعالى، وإن قام بغيره لم يكن هو متكلماً به بل كان المتكلم به المحل الذي قام به؛ وإن أريد به القدرة على خلق الأصوات فهو كمال ولكن المتكلم ليس متكلماً باعتبار قدرته على خلق الأصوات فقط بل باعتبار خلقه للكلام في نفسه، والله تعالى قادر على خلق الأصوات فله كمال القدرة ولكن لا يكون متكلماً به إلا إذا خلق الصوت في نفسه، وهو محال إذ يصير به محلاً للحوادث فاستحال أن يكون متكلماً؛ وإن أريد بالكلام أمر ثالث فليس بمفهوم وإثبات ما لا يفهم محال. قلنا: هذا التقسيم صحيح والسؤال في جميع أقسامه معترف به إلا في إنكار القسم الثالث، فإنا معترفون باستحالة قيام الأصوات بذاته وباستحالة كونه متكلماً بهذا الاعتبار. ولكنا نقول الإنسان يسمى متكلماً باعتبارين أحدهما بالصوت والحرف والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت وحرف، وذلك كمال وهو في حق الله تعالى غير محال، ولا هو دال على الحدوث. ونحن لا نثبت في حق الله تعالى إلا كلام النفس، وكلام النفس لا سبيل إلى إنكاره في حق الإنسان زائداً على القدرة والصوت حتى يقول الانسان زورت البارحة في نفسي كلاماً ويقال في نفس فلان كلام وهو يريد أن ينطق به ويقول الشاعر:

لا يعجبنك من أثير خـطـه

 

حتى يكون مع الكلام أصيلا

إن الكلام لفي الفؤاد وإنـمـا

 

جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

وما ينطق به الشعراء يدل على أنه من الجليات التي يشترك كافة الخلق في دركها فكيف ينكر.
فإن قيل: كلام النفس بهذا التأويل معترف به ولكنه ليس خارجاً عن العلوم الإدراكات وليس جنساً برأسه البتة، ولكن ما يسميه الناس كلام النفس وحديث النفس هو العلم بنظم الألفاظ والعبارات وتأليف المعاني المعلومة على وجه مخصوص فليس في القلب إلا معاني معلومة وهي العلوم وألفاظ مسموعة هي معلومة بالسماع، وهو أيضاً علم معلوم اللفظ. وينضاف إليه تأليف المعاني والألفاظ على ترتيب. وذلك فعل يسمى فكراً وتسميه القدرة التي عنها يصدر الفعل قوة مفكرة. فإن أثبتم في النفس شيئاً سوى نفس الفكر الذي هو ترتيب الألفاظ والمعاني وتأليفها، وسوى القوة المفكرة التي هي قدرة عليا وسوى العلم بالمعاني مفترقها ومجموعها، وسوى العلم بالألفاظ المرتبة من الحروف مفترقها ومجموعها فقد أثبتم أمراً منكراً لا نعرفه. وإيضاحه أن الكلام إما أمر أو نهي أو خبر أو استخبار.

أما الخبر فلفظ يدل على علم في نفس المخبر، فمن علم الشيء وعلم اللفظ الموضوع للدلالة على ذلك الشيء كالضرب مثلاً فإنه معنى معلوم يدرك بالحس، ولفظ الضرب الذي هو مؤلف من الضاد والراء والباء الذي وضعته العرب للدلالة على المعنى المحسوس وهي معرفة أخرى، فكان له قدرة على اكتساب هذه الأصوات بلسانه، وكانت له إرادة للدلالة وإرادة لاكتساب اللفظ ثم منه قوله ضرب ولم يفتقر إلى أمر زائد على هذه الأمور. فكل أمر قدرتموه سوى هذا فنحن نقدر نفيه، ويتم مع ذلك قولك ضرب ويكون خبراً وكلاماً، وأما الاستخبار فهو دلالة على أن في النفس طلب معرفة، وأما الأمر فهو دلالة على أن في النفس طلب فعل المأمور وعلى هذا يقاس النهي وسائر الأقسام من الكلام ولا يعقل أمر آخر خارج عن هذا وهذه الجملة، فبعضها محال عليه كالأصوات وبعضها موجود لله كالارادة والعلم والقدرة، وأما ما عدا هذا فغير مفهوم.

والجواب أن الكلام الذي نريده معنى زائد على هذه الجملة ولنذكره في قسم واحد من أقسام الكلام وهو الأمر حتى لا يطول الكلام.

فنقول: قول السيد لغلامه قم، لفظ يدل على معنى، والمعنى المدلول عليه في نفسه هو كلام، وليس ذلك شيئاً مما ذكرتموه، ولا حاجة إلى الإطناب في التقسيمات وإنما بتوهم رده ما أراد إلى الأمر أو إلى إرادة الدلالة ومحال أن يقال إنه إرادة الدلالة، لأن الدلالة تستدعي مدلولاً والمدلول غير الدليل وغير إرادة الدلالة، ومحال أن يقال إنه إرادة الآمر .. لأنه قد يأمر وهو لا يريد الامتثال بل يكرهه، كالذي يعتذر عند السلطان الهام بقتله توبيخاً له على ضرب غلامه، بأنه إنما ضربه لعصيانه، وآيته أنه يأمره بين يدي الملك فيعصيه، فإذا أراد الاحتجاج به وقال للغلام بين يدي الملك قم فإني عازم عليك بأمر جزم لا عذر لك فيه ولا يريد أن تقوم فهو في هذا الوقت آمر بالقيام قطعاً، وهو غير مريد للقيام قطعاً، فالطلب الذي قام بنفسه الذي دل لفظ الأمر عليه هو الكلام وهو غير إرادة القيام وهذا واضح عند المصنف. فإن قيل هذا الشخص ليس بآمر على الحقيقة ولكنه موهم أنه أمر، قلنا: هذا باطل من وجهين: أحدهما، أنه لو لم يكن آمراً لما تمهد عذره عند الملك ولقيل له أنت في هذا الوقت لا يتصور منك الأمر لأن الأمر هو طلب الامتثال ويستحيل أن تريد الآن الامتثال وهو سبب هلاكك، فكيف تطمع في أن تحتج بمعصيتك لأمرك وأنت عاجز عن أمره إذ أنت عاجز عن إرادة ما فيه هلاكك وفي امتثاله هلاكك ؟ ولا شك في أنه قادر على الاحتجاج وأن حجته قائمة وممهدة لعذره، وحجته بمعصية الأمر، فلو تصور الأمر مع تحقق كراهة الامتثال لما تصور احتجاج السيد بذلك البتة، وهذا قاطع في نفسه لمن تأمله. والثاني، هو أن هذا الرجل لو حكى الواقعة للمفتيين وحلف بالطلاق الثلاث إني أمرت العبد بالقيام بين يدي الملك بعد جريان عقاب الملك فعصى، لأفتى كل مسلم بأن طلاقه غير واقع وليس للمفتي أن يقول أنا أعلم أن يستحيل أن تريد في مثل هذا الوقت امتثال الغلام وهو سبب هلاكك، والأمر هو إرادة الامتثال فإذا ما أمرت هذا لو قاله المفتي فهو باطل بالاتفاق، فقد انكشف الغطاء ولاح وجود معنى هو مدلول اللفظ زائداً على ما عداه من المعاني، ونحن نسمي ذلك كلاماً وهو جنس مخالف للعلوم والإرادات والاعتقادات، وذلك لا يستحيل ثبوته لله تعالى بل يجب ثبوته فإنه نوع كلام فإذا هو المعني بالكلام القديم.

وأما الحروف فهي حادثة وهي دلالات على الكلام والدليل غير المدلول ولا يتصف بصفة المدلول، وإن كانت دلالته ذاتية كالعالم فإنه حادث ويدل على صانع قديم فمن أين يبعد أن تدل حروف حادثة على صفة قديمة مع أن هذه دلالة بالاصطلاح ؟ ولما كان كل كلام النفس دقيقاً زل عى ذهن أكثر الضعفاء فلم يثبتوا إلا حروفاً وأصواتاً ويتوجه لهم على هذا المذهب أسئلة واستبعادات نشير إلى بعضها ليستدل بها على طريق الدفع في غيرها.

الاستبعاد الأول: قول القائل كيف سمع موسى كلام الله تعالى؛ أسمع صوتاً وحرفاً ؟ فإن قلتم ذلك فإذا لم يسمع كلام الله فإن كلام الله ليس بحرف، وإن لم يسمع حرفاً ولا صوتاً فكيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت ؟قلنا: سمع كلام الله تعالى وهو صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى ليس بحرف ولا صوت، فقولكم كيف سمع كلام الله تعالى كلام من لا يفهم المطلوب من سؤال كيف، وإنه ماذا يطلب به وبماذا يمكن جوابه فلتفهم ذلك حتى تعرف استحالة السؤال. فنقول: السمع نوع إدراك، فقول القائل كيف سمع كقول القائل كيف أدركت بحاسة الذوق حلاوة السكر، وهذا السؤال لا سبيل إلى شفائه إلا بوجهين أحدهما أن نسلم سكراً إلى هذا السائل حتى يذوقه ويدرك طعمه وحلاوته، فنقول أدركت أنا كما أدركته أنت الآن وهذا هو الجواب الشافي والتعريف التام. والثاني أن يتعذر ذلك إما لفقد السكر أو لعدم الذوق في السائل للسكر، فنقول: أدركت طعمه كما أدركت أنت حلاوة العسل فيكون هذا جواباً صواباً من وجه وخطأ من وجه. أما وجه كونه صواباً فإنه تعريف بشيء يشبه المسؤول عنه من وجه، وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه وهو أصل الحلاوة، فإن طعم العسل يخالف طعم السكر وإن قاربه من بعض الوجوه وهو أصل الحلاوة، وهذا غاية الممكن. فإن لم يكن السائل قد ذاق حلاوة شيء أصلاً تعذر جوابه وتفهيم ما سأل عنه وكان كالعنين يسأل عن لذه الجماع وقط ما أدركه فيمتنع تفهيمه، إلا أن نشبهه له الحالة التي يدركها المجامع بلذة الأكل فيكون خطأ من وجه إذ لذة الجماع والحالة التي يدركها المجامع لا تساوي الحالة التي يدركها الآكل إلا من حيث أن عموم اللذة قد شملها فإن لم يكن قد التذ بشيء قط تعذر أصل الجواب. وكذلك من قال كيف سمع كلام الله تعالى فلا يمكن شفاؤه في السؤال إلا بأن نسمعه كلام الله تعالى القديم وهو متعذر، فإن ذلك من خصائص الكليم عليه السلام، فنحن لا نقدر على إسماعه أو تشبيه ذلك بشيء من مسموعاته وليس في مسموعاته ما يشبه كلام الله تعالى، فإن كل مسموعاته التي ألفها أصوات والأصوات لا تشبه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه، بل الأصم لو سأل وقال كيف تسمعون أنتم الأصوات وهو ما سمع قط صوتاً لم نقدر على جوابه، فإنا إن قلنا كما تدرك أنت المبصرات فهو إدراك في الاذن كإدراك البصر في العين كان هذا خطأ، فإن إدراك الأصوات لا يشبه إبصار الألوان، فدل أن هذا السؤال محال بل لو قال القائل كيف يرى رب الأرباب في الآخرة، كان جوابه محالاً لا محالة لأنه يسأل عن كيفية ما لا كيفية له، إذ معنى قول القائل كيف هو أي مثل أي شيء هو مما عرفناه، فإن كان ما يسأل عنه غير مماثل لشيء مما عرفه، كان الجواب محالاً ولم يدل ذلك على عدم ذات الله تعالى، فكذلك تعذر هذا لا يدل على عدم كلام الله تعالى بل ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه صفة قديمة ليس كمثلها شي، كما أن ذاته ذات قديمة ليس كمثلها شيء، وكما ترى ذاته رؤية تخالف رؤية الأجسام والأعراض ولا تشبهها فيسمع كلامه سماعاً يخالف الحروف والأصوات ولا يشبهها.

الاستبعاد الثاني: أن يقال كلام الله سبحانه حال في المصاحف أم لا، فإن كان حالاً فكيف حمل القديم في الحادث ؟ فإن قلتم لا، فهو خلاف الإجماع، إذ احترام المصحف مجمع عليه حتى حرم على المحدث مسه وليس ذلك إلا لأن فيه كلام الله تعالى.

فنقول: كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب مقروء بالألسنة، وأما الكاغد والحبر والكتابة والحروف والأصوات كلها حادثة لأنها أجسام وأعراض في أجسام فكل ذلك حادث. وإن قلنا إنه مكتوب في المصحف، أعني صفة تعالى القديم، لم يلزم أن تكون ذات القديم في المصحف، كما أنا إذا قلنا النار مكتوبة في الكتاب لم يلزم منه أن تكون ذات النار حالة فيه، إذ لو حلت فيه لاحترق المصحف، ومن تكلم بالنار فلو كانت ذات النار بلسانه لاحترق لسانه، فالنار جسم حار وعليه دلالة هي الأصوات المقطعة تقطيعاً يحصل منه النون والألف والراء، فالحار المحرق ذات المدلول عليه لا نفس الدلالة، فكذلك الكلام القديم القائم بذات الله تعالى هو المدلول لا ذات الدليل والحروف أدلة وللأدلة حرمة إذ جعل الشرع لها حرمة فلذلك وجب احترام المصحف لأن فيه دلالة على صفة الله تعالى.

 الاستبعاد الثالث: إن القرآن كلام الله تعالى أم لا ؟ فإن قلتم لا فقد خرقتم الإجماع، وإن قلتم نعم فما هو سوى الحروف والأصوات، ومعلوم أن قراءة القارئ هي الحروف والأصوات. فنقول: ها هنا ثلاثة ألفاظ: قراءة، ومقروء، وقرآن. أما المقروء فهو كلام الله تعالى، أعني صفته القديمة القائمة بذاته، وأما القراءة: فهي في اللسان عبارة عن فعل القارئ الذي كان ابتدأه بعد أن كان تاركاً له، ولا معنى للحادث إلا أنه ابتدأ بعد أن لم يكن، فإن كان الخصم لا يفهم هذا من الحادث فلنترك لفظ الحادث والمخلوق، ولكن نقول: القراءة فعل ابتدأه القارئ بعد أن لم يكن يفعله وهو محسوس. وأما القرآن، فقد يطلق ويراد به المقروء فإن أريد به ذلك فهو قديم غير مخلوق وهو الذي أراده السلف رضوان الله عليهم بقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، أي المقروء بالألسنة، وإن أريد به القراءة التي هي فعل القارئ ففعل القارئ لا يسبق وجود القارئ وما لا يسبق وجود الحادث فهو حادث. وعلى الجملة: من يقول ما أحدثته باختياري من الصوت وتقطيعه وكنت ساكتاً عنه قبله فهو قديم، فلا ينبغي أن يخاطب ويكلف بل ينبغي أن يعلم المسكين أنه ليس يدري ما يقوله، ولا هو يفهم معنى الحرف، ولا هو يعلم معنى الحادث، ولو علمهما لعلم أنه في نفسه إذا كان مخلوقاً كان ما يصدر عنه مخلوقاً، وعلم أن القديم لا ينتقل إلى ذات حادثة. فلنترك التطويل في الجليات فإن قول القائل بسم الله إن لم تكن السين فيه بعد الباء لم يكن قرآناً بل كان خطأ، وإذا كان بعد غيره ومتأخراً عنه فكيف يكون قديماً ونحن نريد بالقديم ما لا يتأخر عن غيره أصلاً.

الاستبعاد الرابع: قولهم: أجمعت الأمة على أن القرآن معجزة للرسول عليه السلام وأنه كلام الله تعالى، فإنه سور وآيات ولها مقاطع ومفاتح ؟ وكيف يكون للقديم مقاطع ومفاتح ؟ وكيف ينقسم بالسور والآيات ؟ وكيف يكون القديم معجزة للرسول عليه السلام والمعجزة هي فعل خارق للعادة ؟ وكل فعل فهو مخلوق فكيف يكون كلام الله تعالى قديماً ؟ قلنا: أتنكرون أن لفظ القرآن مشترك بين القراءة والمقروء أم لا ؟ فإن اعترفتم به فكل ما أورده المسلمون من وصف القرآن بما هو قديم، كقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، أرادوا به المقروء وكل ما وصفوه به مما لا يحتمله القديم، ككونه سوراً وآيات ولها مقاطع ومفاتح، أرادوا به العبارات الدالة على الصفة القديمة التي هي قراءة، وإذا صار الاسم مشتركاً امتنع التناقض، فالاجماع منعقد على أن لا قديم إلا الله تعالى، والله تعالى يقول حتى عاد كالعرجون القديم. ولكن نقول: اسم القديم مشترك بين معنيين، فإذا ثبت من وجه لم يستحل نفيه من وجه آخر، فكذا يسمى القرآن وهو جواب عن كل ما يوردونه من الإطلاقات المتناقضة فإن أنكروا كونه مشتركاً، فنقول: أما إطلاقه لإرادة المقروء دل عليه كلام السلف رضي الله عنهم إن القرآن كلام الله سبحانه غير مخلوق، مع علمهم بأنهم وأصواتهم وقراءاتهم وأفعالهم مخلوقة وأما إطلاقه لإرادة القراءة فقد قال الشاعر:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

 

يقطّع الليل تسبيحـاً وقـرآنـا

يعني القراءة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن والترنم يكون بالقراءة. وقال كافة السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقالوا: القرآن معجزة، وهي فعل الله تعالى إذ علموا أن القديم لا يكون معجزاً فبان أنه اسم مشترك. ومن لم يفهم اشتراك اللفظ ظن تناقضاً في هذه الاطلاقات. الاستبعاد الخامس: أن يقال: معلوم أنه لا مسموع الآن إلا الأصوات، وكلام الله مسموع الآن بالإجماع وبدليل قوله تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه" فنقول: إن كان الصوت المسموع للمشرك عند الإجارة هو كلام الله تعالى القديم القائم بذاته فأي فضل لموسى عليه السلام في اختصاصه بكونه كليماً لله على المشركين وهم يسمعون ؟ ولا يتصور عن هذا جواب إلا أن نقول: مسموع موسى عليه السلام صفة قديمة قائمة بالله تعالى، ومسموع المشرك أصوات دالة على تلك الصفة. وتبين به على القطع الاشتراك إما في اسم الكلام وهو تسمية الدلالات باسم المدلولات، فإن الكلام هو كلام النفس تحقيقاً، ولكن الألفاظ لدلالتها عليه أيضاً تسمى كلاماً كما تسمى علماً؛ إذ يقال سمعت علم فلان وإنما نسمع كلامه الدال على علمه. وأما في اسم المسموع فإن المفهوم المعلوم بسماع غيره قد يسمى مسموعاً، كما يقال: سمعت كلام الأمير على لسان رسوله ومعلوم أن كلام الأمير لا يقوم بلسان رسوله بل المسموع كلام الرسول الدال على كلام الأمير. فهذا ما أردنا أن نذكره في إيضاح مذهب أهل السنة في كلام النفس المعدود من الغوامض، وبقية أحكام الكلام نذكرها عند التعرض لأحكام الصفات.

القسم الثاني من هذا القطب

في أحكام الصفات عامة

ما يشترك فيها أو يفترق وهي أربعة أحكام

الحكم الأول

إن الصفات السبعة التي دللنا عليها ليست هي الذات بل هي زائدة على الذات، فصانع العالم تعالى عندنا عالم بعلم وحي بحياة وقادر بقدرة، هكذا في جميع الصفات، وذهبت المعتزلة والفلاسفة إلى إنكار ذلك. وقالوا: القديم ذات واحدة قديمة ولا يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة، وإنما الدليل يدل على كونه عالماً قادراً حياً لا على العلم والقدرة والحياة. ولنعين العلم من الصفات حتى لا نحتاج إلى تكرير جميع الصفات، وزعموا أن العلمية حال للذات وليست بصفة، لكن المعتزلة ناقضوا في صفتين إذ قالوا إنه مريد بإرادة زائدة على الذات ومتكلم بكلام هو زائد على الذات، إلا أن الإرادة يخلقها في غير محل والكلام يخلقه في جسم جماد ويكون هو المتكلم به. والفلاسفة طردوا قياسهم في الإرادة. وأما الكلام فإنهم قالوا إنه متكلم بمعنى أنه يخلق في ذات النبي عليه السلام سماع أصوات منظومة، إما في النوم وإما في اليقظة، ولا يكون لتلك الأصوات وجود من خارج البتة، بل في سمع النبي، كما يرى النائم أشخاصاً لا وجود لها، ولكن تحدث صورها في دماغه، وكذلك يسمع أصواتاً لا وجود لها حتى أن الحاضر عند النائم لا يسمع، والنائم قد يسمع، ويهوله الصوت الهائل ويزعجه وينتبه خائفاً مذعوراً. وزعموا أن النبي إذا كان عالي الرتبة في النبوة ينتهي صفاء نفسه إلى أن يرى في اليقظة صوراً عجيبة ويسمع منها أصواتاً منظومة فيحفظها، ومن حواليه لا يرون ولا يسمعون. وهذا المعني عندهم برؤيه الملائكة وسماع القرآن منهم، ومن ليس في الدرجة العالية في النبوة فلا يرى ذلك إلا في المنام. فهذا تفصيل مذاهب الضلال، والغرض إثبات الصفات والبرهان القاطع هو أن من ساعد على أنه تعالى عالم فقد ساعد على أن له علماً، فإن المفهوم من قولنا عالم ومن له علم واحد، فإن العاقل يعقل ذاتاً ويعقلها على حالة وصفة بعد ذلك، فيكون قد عقل صفة وموصوفاً والصفة علم مثلاً. وله عبارتان: إحداهما طويلة وهي أن نقول هذه الذات قد قام بها علم والأخرى وجيزة أوجزت بالتصريف والاشتقاق. وهي أن الذات عالمة كما نشاهد الانسان شخصاً ونشاهد نعلاً ونشاهد دخول رجله في النعل، فله عبارة طويلة وهو أن نقول هذا الشخص رجله داخلة في نعله أو نقول هو منتعل ولا معنى لكونه منتعلاً إلا أنه ذو نعل وما يظن من أن قيام العلم بالذات يوجب للذات حالة تسمى عالمية، هوس محض، بل العلم هي الحالة، فلا معنى لكونه عالماً إلا كون الذات على صفة وحال تلك الصفة الحال وهي العلم فقط، ولكن من يأخذ المعاني من الألفاظ فلا بد أن يغلط.

 فإذا تكررت الألفاظ بالاشتقاقات فاشتقاق صفة العالم من لفظ العلم أورث هذا الغلط، فلا ينبغي أن يغتر به. وبهذا يبطل جميع ما قيل وطول من العلة والمعلول وبطلان ذلك جلي بأول العقل لمن لم يتكرر على سمعه ترديد تلك الألفاظ، ومن علق ذلك بفهمه فلا يمكن نزعه منه إلا بكلام طويل لا يحتمله هذا المختصر. والحاصل هو أنا نقول للفلاسفة والمعتزلة: هل المفهوم من قولنا عالم عين المفهوم من قولنا موجوداً وفيه إشارة إلى وجود وزيادة. فإن قالوا لا، فإذاً كل من قال هو موجود عالم، كأنه قال هو موجود وهذا ظاهر الاستحالة، وإذا كان في مفهومه زيادة فتلك الزيادة هل هي مختصة بذات الموجود أم لا ؟ فإن قالوا لا فهو محال إذ يخرج به عن أن يكون وصفاً له وإن كان مختصاً بذاته فنحن لا نعني بالعلم إلا ذلك وهي الزيادة المختصة بالذات الموجودة الزائدة على الوجود التي يحسن أن يشتق للموجود بسببه منه اسم العالم، فقد ساعدتم على المعنى وعاد النزاع إلى اللفظ، وإن أردت إيراده على الفلاسفة قلت: مفهوم قولنا قادر مفهوم قولنا عالم أم غيره ؟ فإن كان هو ذلك بعينه فكأنا قلنا قادر قادر، فإنه تكرار محض، وإن كان غيره فإذا هو المراد فقد أثبتم مفهومين أحدهما يعبر عنه بالقدرة والآخر بالعلم ورجع الإنكار إلى اللفظ.

فإن قيل: قولكم أمر مفهومه عين المفهوم من قولكم آمر وناه ومخبر أو غيره، فإن كان عينه فهو تكرار محض، وإن كان غيره فليكن له كلام هو أمر وآخر هو نهي وآخر هو خبر. وليكن خطاب كل شيء مفارقاً لخطاب غيره. وكذلك مفهوم قولكم إنه عالم بالأعراض أهو عين مفهوم قولكم إنه عالم بالجواهر أو غيره ؟ فإن كان عينه فليكن الإنسان العالم بالجوهر عالماً بالعرض بعين ذلك العلم، حتى يتعلق علم واحد بمتعلقات مختلفة لا نهاية لها، وإن كان غيره فليكن لله علوم مختلفة لا نهاية لها وكذلك الكلام والقدرة والإرادة وكل صفة لا نهاية لمتعلقاتها ينبغي أن لا يكون لأعداد تلك الصفة نهاية، وهذا محال، فإن جاز أن تكون صفة واحدة تكون هي الأمر وهي النهي وهي الخبر وتنوب عن هذه المختلفات جاز أن تكون صفة واحدة تنوب عن العلم والقدرة والحياة وسائر الصفات. ثم إذا جاز ذلك جاز أن تكون الذات بنفسها كافية ويكون فيها معنى القدرة والعلم وسائر الصفات من غير زيادة وعند ذلك يلزم مذهب المعتزلة والفلاسفة.

والجواب أن نقول: هذا السؤال يحرك قطباً عظيماً من اشكالات الصفات ولا يليق حلها بالمختصرات. ولكن إذا سبق القلم إلى إيراده فلنرمز إلى مبدأ الطريق في حله، وقد كع عنه أكثر المحصلين وعدلوا إلى التمسك بالكتاب والإجماع، وقالوا هذه الصفات قد ورد الشرع بها، إذ دل الشرع على العلم وفهم منه الواحد لا محالة والزائد على الواحد لم يرد فلا يعتقده. وهذا لا يكاد يشفي فإنه قد ورد بالأمر والنهي والخبر والتوراة والإنجيل والقرآن فما المانع من أن يقال: الأمر غير النهي والقرآن غير التوراة وقد ورد بأنه تعالى يعلم السر والعلانية والظاهر والباطن والرطب واليابس وهلم جرا إلى ما يشتمل القرآن عليه.. فلعل الجواب ما نشير إلى مطلع تحقيقه وهو أن كل فريق من العقلاء مضطر إلى أن يعترف بأن الدليل قد دل على أمر زائد على وجود ذات الصانع سبحانه، وهو الذي يعبر عنه بأنه عالم وقادر وغيره.

والاحتمالات فيه ثلاثة: طرفان وواسطة، والاقتصاد أقرب إلى السداد. أما الطرفان فأحدهما في التفريط وهو الاقتصار على ذات واحدة تؤدي جميع هذه المعاني وتنوب عنها كما قالت الفلاسفة. والثاني طرف الإفراط وهو إثبات صفة لا نهاية لآحادها من العلوم والكلام والقدرة، وذلك بحسب عدد متعلقات هذه الصفات؛ وهذا إسراف لا صائر إليه إلا بعض المعتزلة وبعض الكرامية. والرأي الثالث هو القصد والوسط. وهو أن يقال: المختلفات لاختلافها درجات في التقارب والتباعد؛ فرب شيين مختلفين بذاتيهما كاختلاف الحركة والسكون واختلاف القدرة والعلم الجوهر والعرض، ورب شيئين يدخلان تحت حد وحقيقة واحدة ولا يختلفان لذاتيهما وإنما يكون الاختلاف فيهما من جهة تغاير التعلق؛ فليس الاختلاف بين القدرة والعلم كالاختلاف بين العلم بسواد والعلم بسواد آخر أو بياض آخر، ولذلك إذ حددت العلم تجد دخل فيه العلم بالمعلومات كلها، فنقول: الاقتصاد في الاعتقاد أن يقال: كل اختلاف يرجع إلى تباين الذوات بأنفسها فلا يمكن أن يكفي الواحد منها، وينوب عن المختلفات. فوجب أن يكون العلم غير القدرة وكذلك الحياة وكذا الصفات السبعة، وأن تكون الصفات غير الذات من حيث أن المباينة بين الذات الموصوفة وبين الصفة أشد من المباينة بين الصفتين.

وأما العلم بالشيء فلا يخالف العلم بغيره إلا من جهة تعلقه بالمتعلق، فلا يبعد أن تتميز الصفة القديمة بهذه الخاصية وهو أن لا يوجب تباين المتعلقات فيها تبايناً وتعدداً. فإن قيل فليس في هذا قع دابر الإشكال، لأنك إذ اعترفت باختلاف ما بسبب اختلاف المتعلق، فالإشكال قائم، فما لك وللنظر في سبب الاختلاف بعد وجود الاختلاف ..

فأقول: غاية الناصر لمذهب معين أن يظهر على القطع ترجيح اعتقاده على اعتقاد غيره، وقد حصل هذا على القطع، إذ لا طريق إلا واحد من هذه الثلاث، أو اختراع رابع لا يعقل. وهذا الواحد إذا قوبل بطرفيه المتقابلين له علم على القطع رجحانه، وإذ لم يكن بد من اعتقاد ولا معتقد إلا هذه الثلاث، وهذا أقرب الثلاث، فيجب اعتقاده وإن بقي ما يحبك في الصدر من اشكال يلزم على هذا. واللازم على غيره أعظم منه وتعليل الإشكال ممكن إما قطعه بالكلية والمنظور فيه هي الصفات القديمة المتعالية عن افهام الخلق فهو أمر ممتنع إلا بتطويل لا يحتمله الكتاب، هذا هو الكلام العام.

وأما المعتزلة فإنا نخصهم بالاستفراق بين القدرة والإرادة. ونقول لو جاز أن يكون قادراً بغير قدرة جاز أن يكون مريداً بغير إرادة ولا فرقان بينهما.

فإن قيل: هو قادر لنفسه فلذلك كان قادراً على جميع المقدورات ولو كان مريداً لنفسه لكان مريداً لجملة المرادات، وهو محال، لأن المتضادات يمكن إرادتها على البدل لا على الجمع، وأما القدرة فيجوز أن تتعلق بالضدين.

والجواب أن نقول: قولوا إنه مريد لنفسه ثم يختص ببعض الحادثات المرادات كما قلتم قادر لنفسه ولا تتعلق قدرته إلا ببعض الحادثات، فإن جملة أفعال الحيوانات والمتولدات خارجة عن قدرته وإرادته جميعاً عندكم، فإذا جاز ذلك في القدرة جاز في الإرادة أيضاً.

وأما الفلاسفة فإنهم ناقضوا في الكلام وهو باطل من وجهين. أحدهما قولهم إن الله تعالى متكلم مع انهم لا يثبتون كلام النفس ولا يثبتون الأصوات في الوجود، وإنما يثبتون سماع الصوت بالحلق في اذن النبي من غير صوت من خارج. ولو جاز أن يكون ذلك بما يحدث في دماغ غيره موصوفاً بأنه متكلم لجاز أن يكون موصوفاً بأنه مصوت ومتحرك لوجود الصوت والحركة في غيره، وذلك محال، والثاني أن ما ذكروه رد للشرع كله؛ فإن ما يدركه النائم خيال لا حقيقة له، فإذا رددت معرفة النبي لكلام الله تعالى إلى التخيل الذي يشبه اضغاث أحلام فلا يثق به النبي ولا يكون ذلك علماً. وبالجملة هؤلاء لا يعتقدون الدين والاسلام وإنما يتجملون بإطلاق عبارات احتراز من السيف والكلام معهم في أصل الفعل، وحدث العالم والقدرة فلا تشتغل معهم بهذه التفصيلات. فإن قيل أفتقولون إن صفات الله تعالى غير الله تعالى ؟ قلنا: هذا خطأ فإنا إذا قلنا الله تعالى، فقد دللنا به على الذات مع الصفات لا على الذات بمجردها، إذ اسم الله تعالى لا يصدق على ذات قد أخلوها عن صفات الالهية، كما لا يقال الفقه غير الفقيه ويد زيد غير زيد ويد النجار غير النجار، لأن بعض الداخل في الاسم لا يكون عين الداخل في الاسم، فيد زيد ليس هو زيد ولا هو غير زيد بل كلا اللفظين محال، وهكذا كل بعض فليس غير الكل ولا هو بعينه الكل، فلو قيل الفقه غير الانسان فهو تجوز ولا يجوز أن يقال غير الفقيه، فإن الانسان لا يدل على صفة الفقه، فلا جرم يجوز أن يقال الصفة غير الذات التي تقوم بها الصفة، كما يقال العرض القائم بالجوهر هو غير الجوهر على معنى ان مفهوم اسمه غير مفهوم اسم الآخر، وهذا حصر جائز بشرطين: أحدهما، أن لا يمنع الشرع من اطلاقه، وهذا مختص بالله تعالى، والثاني، أن لا يفهم من الغير ما يجوز وجوده دون الذي هو غيره بالإضافات إليه، فإنه إن فهم ذلك لم يمكن أن يقال سواد زيد غير زيد، لأنه لا يوجد دون زيد، قد انكشف بهذا ما هو حظ المعنى وما هو حظ اللفظ فلا معنى للتطويل في الجليات.

الحكم الثاني

في الصفات: ندعي أن هذه الصفات كلها قائمة بذاته لا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته، سواء كان في محل أو لم يكن في محل. وأما المعتزلة فإنهم حكموا بأن الإرادة لا تقوم بذاته تعالى، فإنها حادثة وليس هو محلاً للحوادث، ولا يقوم بمحل آخر لأنه يؤدي إلى أن يكون ذلك المحل هو المريد به، فهي توجد لا في محل، وزعموا أن الكلام لا يقوم بذاته لأنه حادث ولكن يقوم بجسم هو جماد حتى لا يكون هو المتكلم به، بل المتكلم به هو الله سبحانه، أما البرهان على أن الصفات ينبغي أن تقوم بالذات فهو عند من فهم ما قدمناه مستغنى عنه، فإن الدليل لما دل على وجود الصانع سبحانه دل بعده على أن الصانع تعالى بصفة كذا ولا نعني بأنه تعالى على صفة كذا، إلا أنه تعالى على تلك الصفة، ولا فرق بين كونه على تلك الصفة وبين قيام الصفة بذاته. وقد بينا أن مفهوم قولنا عالم واحد وبذاته تعالى علم واحد، كمفهوم قولنا مريد، وقامت بذاته تعالى إرادة واحدة، ومفهوم قولنا لم تقم بذاته إرادة وليس بمريد واحد. فتسميته الذات مريدة بإرادة لم تقم به كتسميته متحركاً بحركة لم تقم به. وإذا لم تقم الارادة بة فسواء كانت موجودة أو معدومة فقول القائل إنه مريد لفظ خطأ، لا معنى له، وهكذا المتكلم، فإنه متكلم باعتبار كونه محلاً للكلام، إذ لا فرق بين قولنا هو متكلم وبين قولنا قام الكلام به، ولا فرق بين قولنا ليس بمتكلم وقولنا لم يقم بذاته كلام، كما في كونه مصوتاً ومتحركاً. فإن صدق على الله تعالى قولنا لم يقم بذاته كلام صدق قولنا ليس بمتكلم لأنهما عبارتان عن معنى واحد. والعجب من قولهم إن الإرادة توجد لا في محل، فإن جاز وجود صفة من الصفات لا في محل فليجز وجود العلم والقدرة والسواد والحركة، بل الكلام فلم قالوا يخلق الأصوات في محل فلتخلق في غير محل. وإن لم يعقل الصوت إلا في محل لأنه عرض وصفة فكذا الارادة. ولو عكس هذا لقيل إنه خلق كلاماً لا في محل وخلق إرادة في محل لكان العكس كالطرد. ولكن لما كان أول المخلوقات يحتاج إلى الإرادة، والمحل مخلوق، لم يمكنهم تقدير محل الارادة موجوداً قبل الإرادة؛ فإنه لا محل قبل الإرادة إلا ذات الله تعالى ولم يجعلوه محلاً للحوادث. ومن جعله محلاً للحوادث أقرب حال منهم فإن استحالة وجود إرادة في غير محل، واستحالة كونه مريداً بإرادة لا تقوم به، واستحالة حدوث إرادة حادثة به بلا إرادة تدرك ببديهة العقل أو نظره الجلي فهذه ثلاثة استحالات جلية. واما استحالة كونه محلاً للحوادث فلا يدرك إلا بنظر دقيق كما سنذكر.

الحكم الثالث

إن الصفات كلها قديمة، فإنها إن كانت حادثة كان القديم سبحانه محلاً للحوادث، وهو محال. أو كان يتصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة، كما سبق، ولم يذهب أحد إلى حدوث الحياة والقدرة وإنما اعتقدوا ذلك في العلم بالحوادث وفي الإرادة وفي الكلام ونحن نستدل على استحالة كونه محلاً للحوادث من ثلاثة أوجه:  الدليل الأول: إن كل حادث فهو جائز الوجود، والقديم الأزلي واجب الوجود، ولو تطرق الجواز إلى صفاته لكان ذلك مناقضاً لوجوب وجوده فإن الجواز والوجوب يتناقضان. فكل ما هو واجب الذات فمن المحال أن يكون جائز الصفات وهذا واضح بنفسه.

الدليل الثاني: وهو الأقوى، أنه لو قدر حلول حادث بذاته لكان لا يخلو إما أن يرتقي الوهم إلى حادث يستحيل قبله حادث، أو لا يرتقي إليه، بل كان حادث، فيجوز أن يكون قبله حادث، فإن لم يرتق الوهم إليه لزم جواز اتصافه بالحوادث أبداً، ولزم منه حوادث لا أول لها. وقد قام الدليل على استحالته. وهذا القسم ما ذهب إليه أحد من العقلاء وإن ارتقى الوهم إلى حادث استحال قبله حدوث حادث فتلك الاستحالة لقبول الحادث في ذاته، لا تخلو إما أن تكون لذاته أو لزائد عليه. وباطل أن يكون لزائد عليه، فإن كل زائد يفرض ممكن تقدير عدمه، فيلزم منه تواصل الحوادث أبداً وهو محال، فلم يبق إلا أن استحالته من حيث أن واجب الوجود يكون على صفة يستحيل معها قبول الحوادث لذاته. فإذا كان ذلك مستحيلاً في ذاته أزلاً. فإن ذلك يبقى فيما لا يزال لأنه لذاته لا يقبل اللون باتفاق العقلاء. ولم يجز أن تتغير تلك الاستحالة إلى الجواز فكذلك سائر الحوادث. فإن قيل: هذا يبطل يحدث العالم، فإنه كان ممكناً قبل حدوثه ولم يكن الوهم يرتقي إلى وقت يستحيل حدوثه قبله ومع ذلك يستحيل حدوثه أزلاً ولم يستحل على الجملة حدوثه.

قلنا هذا الإلزام فاسد؛ فإنا لم نحل إثبات ذات تنبو عن قبول حادث لكونها واجبة الوجود، ثم تتقلب إلى جواز قبول الحوادث. والعالم ليس له ذات قبل الحدوث موصوفة بأنها قابلة للحدوث أو غير قابلة حتى ينقلب إلى قبول جواز الحدوث، فيلزم ذلك على مساق دليلنا، نعم، يلزم ذلك المعتزلة حيث قالوا للعالم ذات في العدم قديمة، قابلة للحدوث، يطرأ عليها الحدوث بعد أن لم يكن، فأما على أصلنا فغير لازم، وإنما الذي نقوله في العالم أنه فعل وقدم الفعل محال، لأن القديم لا يكون فعلاً.

الدليل الثالث: هو أنا نقول: إذا قدرنا قيام حادث بذاته فهو قبل ذلك إما أن يتصف بضد ذلك الحادث أو بالانفكاك عن ذلك الحادث. وذلك الضد أو ذلك الانفكاك إن كان قديماً استحال بطلانه وزواله لأن القديم لا يعدم وإن كان حادثاً كان قبله حادث لا محالة، وكذا قبل ذلك الحادث حادث يؤدي إلى حوادث لا أول لها وهو محال، ويتضح ذلك بأن تفرض في صفة معينة كالكلام مثلاً، فإن الكرامية قالوا إنه في الأزل متكلم، على معنى أنه قادر على خلق الكلام في ذاته. ومهما أحدث شيئاً في غير ذاته أحدث في ذاته قوله كن ولا بد أن يكون قبل إحداث هذا القول ساكتاً، ويكون سكوته قديماً. وإذا قال جهم أنه يحدث في ذاته علماً فلا بد أن يكون قبله غافلاً وتكون غفلته قديمة. فنقول: السكوت القديم والغفلة القديمة يستحيل بطلانهما لما سبق من الدليل على استحالة عدم القديم. فإن قيل السكوت ليس بشيء إنما يرجع إلى عدم الكلام، والغفلة ترجع إلى عدم العلم والجهل وأضداده، فإذا وجد الكلام لم يبطل شيء إذ لم يكن شيء إلا الذات القديمة، وهي باقية، ولكن انضاف إليها موجود آخر وهو الكلام والعلم. فأما أن يقال: انعدم شيء فلان ويتنزل ذلك منزلة وجود العالم، فإنه يبطل العدم القديم ولكن العدم ليس بشيء حتى يوصف بالقدم ويقدر بطلانه. والواجب من وجهين أحدهما أن قول القائل السكوت هو عدم الكلام وليس بصفة والغفلة عدم العلم وليست بصفة، كقوله البياض هو عدم السواد وسائر الألوان وليس بلون. والسكون هو عدم الحركة وليس بعرض، وذلك محال. والدليل الذي دل على استحالته بعينه يدل على استحالة هذا، والخصوم في هذه المسألة معترفون بأن السكون وصف زائد على عدم الحركة، فإن كل من يدعي أن السكون هو عدم الحركة لا يقدر على اثبات حدوث العالم. فظهور الحركة بعد السكون إذاً دل على حدوث المتحرك، فكذلك ظهور الكلام بعد السكوت يدل على حدوث المتكلم، من غير فرق. إذ المسلك الذي به يعرف كون السكون معنى هو مضاد للحركة بعينه يعرف به كون السكوت معنى يضاد الكلام، وكون الغفلة معنى يضاد العلم، وهو أنا إذا أدركنا تفرقة بين حالتي الذات الساكنة والمتحركة فإن الذات مدركة على الحالتين. والتفرقة مدركة بين الحالتين ولا نرجع التفرقة إلى زوال أمر وحدوث أمر فإن الشيء لا يفارق نفسه، فدل ذلك على أن كل قابل للشيء فلا يخلو عنه، أو عن ضده وهذا مطرد في الكلام، وفي العلم. ولا يلزم على هذا الفرق بين وجود العلم وعدمه، فإن ذلك لا يوجب ذاتين. فإنه لم تدرك في الحالتين ذات واحدة يطرأ عليها الوجود بل لا ذات للعالم قبل الحدوث، والقديم ذات قبل حدوث الكلام، علم على وجه مخالف للوجه الذي علم عليه بعد حدوث الكلام، يعبر عن ذلك الوجه بالسكوت وعن هذا بالكلام، فهما وجهان مختلفان أدركت عليهما ذات مستمرة الوجود في الحالتين وللذات هيئة وصفة وحالة بكونه ساكتاً، كما أن له هيئة بكونه متكلماً، وكما له هيئة بكونه ساكتاً ومتحركاً وأبيض وأسود وهذه الموازنة مطابقة لا مخرج منها. الوجه الثاني في الانفصال هو أن يسلم أيضاً أن السكوت ليس بمعنى، وإنما يرجع ذلك إلى ذات منفكة عن الكلام، فالانفكاك عن الكلام حال للمنفك لا محالة ينعدم بطريان الكلام، فحال الانفكاك تسمى عدماً أو وجوداً أو صفة أو هيئة، فقد انتفى الكلام والمنتفي قديم. وقد ذكرنا أن القديم لا ينتفي سواء كان ذاتاً أو حالاً أو صفة، وليست الاستحالة لكونه ذاتاً فقط بل لكونه قديماً، ولا يلزم عدم العالم، فإنه انتفى مع القديم لأن عدم العالم ليس بذات ولا حصل منه حال لذات حتى يقدر تغيرها وتبدلها على الذات والفرق بينهما ظاهر. فإن قيل الأعراض كثيرة والخصم لا يدعي كون الباري محل حدوث شيء منها كالألوان والآلام واللذات وغيرها، وإنما الكلام في الصفات السبعة التي ذكرتموها ولا نزاع من جملتها في الحياة والقدرة، وإنما النزاع في ثلاثة: في القدرة والإرادة والعلم، وفي معنى العلم السمع والبصر عند من يثبتهما. وهذه الصفات الثلاثة لا بد أن تكون حادثة، ثم يستحيل أن تقوم بغيره، لأنه لا يكون متصفاً بها فيجب أن تقوم بذاته فيلزم منه كونه محلاً للحوادث.

أما العلم بالحوادث فقد ذهب جهم إلى أنها علوم حادثة وذلك لأن الله تعالى الآن عالم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا، وهو في الأزل إن كان عالماً بأنه كان قد وجد كان هذا جهلاً لا علماً، وإذا لم يكن عالماً بأنه قد وجد كان جهلاً لا علماً، وإذا لم يكن عالماً وهو الآن عالم فقد ظهر حدوث العلم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا. وهكذا القول في كل حادث. وأما الإرادة فلا بد من حدوثها فإنها لو كانت قديمة لكان المراد معها. فإن القدرة والارادة مهما تمتا وارتفعت العوائق منها وجب حصول المراد، فكيف يتأخر المراد عن الإرادة والقدرة من غير عائق ؟ فلهذا قالت المعتزلة بحدوث إرادة في غير محل وقالت الكرامية بحدوثها في ذاته وربما عبروا عنه بأنه يخلق ايجاداً في ذاته عند وجود كل موجود وهذا راجع إلى الارادة. وأما الكلام فكيف يكون قديماً وفيه إخبار عما مضى، فكيف قال في الأزل "إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه" ولم يكن قد خلق نوحاً بعد، وكيف قال في الأزل لموسى "فاخلع نعليك" ولم يخلق بعد موسى، فكيف أمر ونهى من غير مأمور ولا منهي. وإذا كان ذلك محالاً ثم علم بالضرورة أنه آمر وناه، واستحال ذلك في القدم، علم قطعاً أنه صار آمراً ناهياً بعد أن لم يكن، فلا معنى لكونه محلاً للحوادث إلا هذا. والجواب أنا نقول: مهما حللنا الشبهة في هذه الصفات الثلاثة انتهض منه دليل مستقل على إبطال كونه محلاً للحوادث، إذ لم يذهب إليه ذاهب إلا بسبب هذه الشبهة، وإذا انكشف كان القول بها باطلاً كالقول بأنه محل للألوان وغيرها مما لا يدل دليل على الاتصاف بها. فنقول: الباري تعالى في الأزل علم بوجود العالم في وقت وجوده وهذا العلم صفة واحدة مقتضاها في الأزل العلم بأن العالم يكون من بعد، وعند الوجود العلم بأنه كائن وبعده العلم بأنه كان، وهذه الأحوال تتعاقب على العالم ويكون مكشوفاً لله تعالى تلك الصفة وهي لم تتغير. وإنما المتغير أحوال العالم، وإيضاحه بمثال وهو أنا إذا فرضنا للواحد منا علماً بقدوم زيد عند طلوع الشمس وحصل له هذا العلم قبل طلوع الشمس ولم ينعدم بل بقي ولم يخلق له علم آخر عند طلوع الشمس فما حال هذا الشخص عند الطلوع،. أيكون عالماً بقدوم زيد أو غير عالم ؟ ومحال أن يكون غير عالم لأنه قدر بقاء العلم بالقدوم عند الطلوع، وقد علم الآن الطلوع فيلزمه بالضرورة أن يكون عالماً بالقدوم، فلو دام عند انقضاء الطلوع فلا بد أن يكون عالماً بأن كان قد قدم والعلم الواحد أفاد الاحاطة بأنه سيكون وإنه كائن وأنه قد كان فهكذا ينبغي أن يفهم علم الله القديم الموجب بالاحاطة بالحوادث، وعلى هذا ينبغي أن يقال السمع والبصر، فإن كل واحد منهما صفة يتصف بها المرئي والمسموع عند الوجود من غير حدوث تلك الصفة ولا حدوث أمر فيها، وإنما الحادث المسموع والمرئي. والدليل القاطع على هذا هو أن الاختلاف بين الأحوال شيء واحد في انقسامه إلى الذي كان ويكون وهو كائن لا يزيد على الاختلاف بين الذوات المختلفة. ومعلوم أن العلم لا يتعدد بتعدد الذوات فكيف يتعدد بتعدد أحوال ذات واحدة. وإذا كان علم واحد يفيد الإحاطة بذوات مختلفة متباينة فمن أين يستحيل أن يكون علم واحد يفيد إحاطة بأحوال ذات واحدة بالاضافة إلى الماضي والمستقبل، ولا شك أن جهماً ينفي النهاية عن معلومات الله تعالى ثم لا يثبت علوماً لا نهاية لها فيلزمه أن يعترف بعلم واحد يتعلق بمعلومات مختلفة فكيف يستبعد ذلك في أحوال معلوم واحد يحققه أنه لو حدث له علم بكل حادث لكان ذلك العلم لا يخلو إما أن يكون معلوماً أو غير معلوم، فإن لم يكن معلوماً فهو محال، لأنه حادث، وإن جاز حادث لا يعلمه مع أنه في ذاته أولى بأن يكون متضحاً له فبان يجوز ألا يعلم الحوادث المباينة لذاته أولى، وإن كان معلوماً فإما أن يفتقر إلى علم آخر وكذلك العلم يفتقر إلى علوم أخر لا نهاية لها، وذلك محال. وإما أن يعلم الحادث والعلم بالحادث نفس ذلك العلم فتكون ذات العلم واحدة ولها معلومان: أحدهما ذات، والآخر ذات الحادث، فيلزم منه لا محالة تجويز علم واحد يتعلق بمعلومين مختلفين فكيف لا يجوز علم واحد يتعلق بأحوال معلوم واحد مع اتحاد العلم وتنزهه عن التغير، وهذا لا مخرج منه؛ فأما الإرادة فقد ذكرنا أن حدوثها بغير إرادة أخرى محال، وحدوثها بإرادة بتسلسل إلى غير نهاية، وإن تعلق الإرادة القديمة بالأحداث غير محال. ويستحيل أن تتعلق الإرادة بالقديم فلم يكن العالم قديماً لأن الإرادة تعلقت باحداثه لا بوجوده في القدم. وقد سبق إيضاح ذلك. وكذلك الكرامي إذا قال يحدث في ذاته إيجاداً في حال حدوث العالم بذلك يحصل حدوث العالم في ذلك الوقت، فيحتاج إلى مخصص آخر فيلزمهم في الإيجاد ما لزم المعتزلة في الإرادة الحادثة، ومن قال منهم إن ذلك الإيجاد هو قوله كن، وهو صوت، فهو محال من ثلاثة أوجه، أحدها: استحالة قيام الصوت بذاته، والآخر: أن قوله كن حادث أيضاً، فإن حدث من غير أن يقول له كن فليحدث العالم من غير أن يقال له كن، فإن افتقر قوله كن في أن يكون، إلى قول آخر، افتقر القول الآخر إلى ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل إلى غير نهاية. ثم لا ينبغي أن يناظر  من انتهى عقله إلى أن يقول يحدث في ذاته بعدد كل حادث في كل وقت، قوله كن فيجتمع آلاف آلاف أصوات في كل لحظة. ومعلوم أن النون والكاف لا يمكن النطق بهما في وقت واحد بل ينبغي أن تكون النون بعد الكاف لأن الجمع بين الحرفين محال وإن جمع ولم يرتب لم يكن قولاً مفهوماً ولا كلاماً، وكما يستحيل الجمع بين حرفين مختلفين فكذلك بين حرفين متماثلين، ولا يعقل في أوان ألف ألف كاف كما لا يعقل الكاف والنون فهؤلاء حقهم أن يسترزقوا الله عقلاً وهو أهم لهم من الاشتغال بالنظر. والثالث: أن قوله كن خطاب مع العالم في حالة العدم أو في حالة الوجود، فإن كان في حالة العدم فالمعدوم لا يفهم الخطاب، فكيف يمتثل بأن يتكون بقوله كن ؟ وإن كان في حالة الوجود فالكائن كيف يقال له كن ؟ فانظر ماذا يفعل الله تعالى بمن ضل عن سبيله فقد انتهى ركاكة عقله إلى أن لا يفهم المعني بقوله تعالى "إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" وأنه كناية عن نفاذ القدرة وكمالها حتى انجر بهم إلى هذه المخازي، نعوذ بالله من الخزي والفضيحة يوم الفزع الأكبر يوم تكشف الضمائر وتبلى السرائر فيكشف إذ ذاك ستر الله عن خبائث الجهال، ويقال للجاهل الذي اعتقد في الله تعالى وفي صفاته غير الرأي السديد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وأما الكلام فهو قديم، وما استبعدوه من قوله تعالى "فاخلع نعليك" ومن قوله تعالى "إنا أرسلنا نوحاً" استبعاد مستنده تقديرهم الكلام صوتاً وهو محال فيه، وليس بمحال إذ فهم كلام النفس. فإنا نقول يقوم بذات الله تعالى خبر عن إرسال نوح العبارة عنه قبل إرساله: إنا نرسله، وبعد إرساله: إنا أرسلنا، واللفظ يختلف باختلاف الأحوال والمعنى القائم بذاته تعالى لا يختلف، فإن حقيقته أنه خبر متعلق بمخبر ذلك الخبر هو إرسال نوح في الوقت المعلوم وذلك لا يختلف باختلاف الأحوال كما سبق في العلم، وكذلك قوله اخلع نعليك لفظة تدل على الأمر والأمر اقتضاء وطلب يقوم بذات الأمر وليس شرط قيامه به أن يكون المأمور موجوداً ولكن يجوز أن يقوم بذاته قبل وجود المأمور، فإذا وجد المأمور كان مأموراً بذلك الاقتضاء بعينه من غير تحدد اقتضاء آخر. وكم من شخص ليس له ولد ويقوم بذاته اقتضاء طلب العلم منه على تقدير وجوده، إذ يقدر في نفسه أن يقول لولده اطلب العلم وهذا الاقتضاء يتنجز في نفسه على تقدير الوجود، فلو وجد الولد وخلق له عقل وخلق له علم بما في نفس الأب من غير تقدير صياغة لفظ مسموع، وقدر بقاء ذلك الاقتضاء على وجوده لعلم الابن أنه مأمور من جهة الأب بطلب العلم في غير استئناف اقتضاء متجدد في النفس، بل يبقى ذلك الاقتضاء نعم العادة جارية بأن الابن لا يحدث له علم إلا بلفظ يدل على الاقتضاء الباطن، فيكون قوله بلسانه أطلب العلم، دلالة على الاقتضاء الذي في ذاته سواء حدث في الوقت أو كان قديماً بذاته قبل وجود ولده. فهكذا ينبغي أن يفهم قيام الأمر بذات الله تعالى فتكون الألفاظ الدالة عليه حادثة والمدلول قديماً ووجود ذلك المدلول لا يستدعي وجود المأمور بل تصور وجوده مهما كان المأمور مقدر الوجود، فإن كان مستحيل الوجود ربما لا يتصور وجود الاقتضاء ممن يعلم استحالة وجوده. فلذلك لا نقول إن الله تعالى يقوم بذاته اقتضاء فعل ممن يستحيل وجوده، بل ممن علم وجوده، وذلك غير محال. فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر وناه، فإن قلتم أنه آمر فكيف يكون آمر لا مأمور له؟ وإن قلتم لا فقد صار آمراً بعد أن لم يكن.

قلنا: واختلف الأصحاب في جواب هذا، والمختار أن تقول هذا نظر يتعلق أحد طرفيه بالمعنى والآخر بإطلاق الاسم من حيث اللغة. فأما حظ المعنى فقد انكشف وهو أن الاقتضاء القديم معقول وإن كان سابقاً على وجود المأمور كما في حق الولد ينبغي أن يقال اسم الأمر ينطلق عليه بعد فهم المأمور ووجوده أم ينطلق عليه قبله ؟ وهذا أمر لفظي لا ينبغي للناظر أن يشتغل بأمثاله، ولكن الحق أنه يجوز اطلاقه عليه كما جوزوا تسمية الله تعالى قادراً قبل وجود المقدور، ولم يستبعدوا قادراً ليس له مقدور موجود بل قالوا القادر يستدعي مقدوراً معلوماً لا موجوداً فكذلك الآمر يستدعي مأموراً معلوماً موجوداً والمعدوم معلوم الوجود قبل الوجود، بل يستدعي الأمر مأموراً به كما يستدعي مأموراً ويستدعي آمراً أيضاً والمأمور به يكون معدوماً ولا يقال إنه كيف يكون آمر من غير مأمور به، بل يقال له مأمور به هو معلوم وليس يشترط كونه موجوداً، بل يشترط كونه معدوماً بل من أمر ولده على سبيل الوصية بأمر ثم توفي فأتى الولد بما أوصي به يقال امتثل أمر والده والأمر معدوم والأمر في نفسه معدوم ونحن مع هذا نطلق اسم امتثال الأمر، فإذا لم يستبعد كون المأمور ممتثلاً للأمر ولا وجود للأمر ولا للآمر ولم يستبعد كون الأمر أمراً قبل وجود المأمور به، فمن أين يستدعي وجود المأمور ؟ فقد انكشف من هذا حظ اللفظ والمعنى جميعاً ولا نظر إلا فيهما. فهذا ما أردنا أن نذكره في استحالة كونه محلاً للحوادث إجمالاً وتفصيلاً.

الحكم الرابع

إن الأسامي المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبعة صادقة عليه أزلاً وأبداً، فهو في القدم كان حياً قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً، وأما ما يشتق له من الأفعال كالرازق والخالق والمعز والمذل فقد اختلف في أنه يصدق في الأزل أم لا. وهذا إذا كشف الغطاء عنه تبين استحالة الخلاف فيه.

والقول الجامع أن الأسامي التي يسمى بها الله تعالى أربعة: الأول: أن لا يدل إلا على ذاته كالموجود، وهذا صادق أزلاً وأبداً. الثاني: ما يدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم، فإنه يدل على وجود غير مسبوق بعدم أزلاً، والباقي فإنه يدل على الوجود وسلب العدم عنه آخراً وكالواحد فإنه يدل على الوجود وسلب الشريك، وكالغنى فإنه يدل على الوجود وسلب الحاجة فهذا أيضاً يصدق أزلاً وأبداً لأن ما يسلب عنه يسلب لذاته فيلازم الذات على الدوام.

الثالث: ما يدل على الوجود وصفة زائدة من صفات المعنى كالحي والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم وما يرجع إلى هذه الصفات السبعة كالآمر والناهي والخبير ونظائره، فذلك أيضاً يصدق عليه أزلاً وأبداً عند من يعتقد قدم جميع الصفات.

الرابع: ما يدل على الوجود مع إضافة إلى فعل من أفعاله كالجواد والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله، وهذا مختلف فيه، فقال قوم هو صادق أزلاً إذ لو لم يصدق لكان اتصافه به موجباً للتغير وقال قوم لا يصدق إذ لا خلق في الأزل فكيف خالقاً. والكاشف للغطاء عن هذا أن السيف في الغمد يسمى صارماً وعند حصول القطع به وفي تلك الحالة على الاقتران يسمى صارماً، وهما بمعنيين مختلفين، فهو في الغمد صارم بالقوة وعند حصول القطع صارم بالفعل وكذلك الماء في الكوز يسمى مروياً وعند الشرب يسمى مروياً وهما إطلاقان مختلفان فمعنى تسمية السيف في الغمد صارماً أن الصفة التي يحصل بها القطع في الحال لقصور في ذات السيف وحدته واستعداده بل لأمر آخر وراء ذاته. فبالمعنى الذي يسمى السيف في الغمد صارماً يصدق اسم الخالق على الله تعالى في الأزل فإن الخلق إذ أجري بالفعل لم يكن لتجدد أمر في الذات لم يكن، بل كل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود في الأزل. وبالمعنى الذي يطلق حالة مباشرة القطع للسيف اسم الصارم لا يصدق في الأزل فهذا حظ المعنى. فقد ظهر أن من قال إنه لا يصدق في الأزل هذا الاسم فهو محق وأراد به المعنى الثاني، ومن قال يصدق في الأزل فهو محق وأراد به المعنى الأول. وإذا كشف الغطاء على هذا الوجه ارتفع الخلاف. فهذا تمام ما أردنا ذكره في قطب الصفات وقد اشتمل على سبعة دعاو، وتفرع عن صفة القدرة ثلاثة فروع، وعن صفة الكلام خمسة استبعادات، واجتمع من الأحكام المشتركة بين الصفات أربعة أحكام، فكان المجموع قريباً من عشرين دعوى هي أصول الدعاوى وإن كان تنبني كل دعوى على دعاوى بها يتوصل إلى اثباتها فلنشتغل بالقطب الثالث من الكتاب إن شاء الله تعالى.