القطب الرابع: إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات ما أخبر هو عنه

وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في اثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.


الباب الثاني: في بيان إن ما جاء به من الحشر والنشر والصراط والميزان وعذاب القبر حق، وفيه مقدمة وفصلان.


الباب الثالث: فيه نظر في ثلاثة أطراف. الباب الرابع: في بيان من يجب تكفيره من الفرق ومن لا يجب، والاشارة إلى القوانين التي ينبغي أن يعول عليها في التكفير، وبه اختتام الكتاب.

الباب الأول

في اثبات نبوة نبينا محمد

صلى الله عليه وسلم

وإنما نفتقر إلى إثبات نبوته، على الخصوص، وعلى ثلاثة فرق: الفرقة الأولى، العيسوية: حيث ذهبوا إلى أنه رسول إلى العرب فقط لا إلى غيرهم، وهذا ظاهر البطلان فإنهم اعترفوا بكونه رسولاً حقاً، ومعلوم أن الرسول لا يكذب، وقد ادعى هو أنه رسول مبعوث إلى الثقلين، وبعث رسوله إلى كسرى وقيصر وسائر ملوك العجم وتواتر ذلك منه فما قالوه محال متناقض.

الفرقة الثانية، اليهود: فإنهم انكروا صدقه لا بخصوص نظر فيه وفي معجزاته، بل زعموا أنه لا نبي بعد موسى عليه السلام، فأنكروا نبوة محمد وعيسى عليهما السلام. فينبغي أن تثبت عليهم نبوة عيسى لأنه ربما يقصر فهمهم عن درك إعجاز القرآن ولا يقصرون عن درك إعجاز إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فيقال لهم ما الذي حملكم على التفريق بين من يستدل على صدقه بإحياء الموتى وبين من يستدل بقلب العصا ثعباناً ؟ ولا يجدون إليه سبيلاً البتة، إلا أنهم ضلوا بشبهتين: إحداهما، قولهم: النسخ محال في نفسه لأنه يدل على البدء والتغيير وذلك محال على الله تعالى، والثانية لفهم بعض الملحدة أن يقولوا: قد قال موسى عليه السلام: عليكم بديني ما دامت السموات والأرض، وإنه قال إني خاتم الأنبياء.

أما الشبهة الأولى فبطلانها بفهم النسخ، وهو عبارة عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت المشروط استمراره بعد لحقوق خطاب يرفعه، وليس من المحال أن يقول السيد لعبده قم مطلقاً، ولا يبين له مدة القيام، وهو يعلم أن القيام مقتضى منه إلى وقت بقاء مصلحته في القيام، ويعلم مدة مصلحته ولكن لا ينبه عليها، ويفهم العبد أنه مأمور بالقيام مطلقاً وأن الواجب الاستمرار عليه أبداً إلا أن يخاطبه السيد بالقعود؛ فإذا خاطبه بالقعود قعد ولم يتوهم بالسيد أنه بدا له أو ظهرت له مصلحة كان لا يعرفها، والآن قد عرفها، بل يجوز أن يكون قد عرف مدة مصلحة القيام وعرف أن الصلاح في أن لا ينبه العبد عليها ويطلق الأمر له إطلاقاً حتى يستمر على الامتثال، ثم إذا تغيرت مصلحته أمره بالقعود، فهكذا ينبغي أن يفهم اختلاف أحكام الشرائع. فإن ورود النبي ليس بناسخ لشرع من قبله بمجرد بعثته، ولا في معظم الأحكام، ولكن في بعض الأحكام كتغير قبلة وتحليل محرم وغير ذلك، وهذه المصالح تختلف بالأعصار والأحوال فليس فيه ما يدل على التغير ولا على الاستبانة بعد الجهل ولا على التناقض. ثم هذا إنما يستمر لليهود إذ لو اعتقدوا أنه لم يكن شريعة من لدن آدم إلى زمن موسى لم ينكروا وجود نوح وإبراهيم وشرعهما، ولا يتميزون فيه عمن ينكر نبوة موسى وشرعه وكل ذلك إنكار ما علم على القطع بالتواتر.

وأما الشبهة الثانية فسخيفة من وجهين. أحدهما، أنه لو صح ما قالوه عن موسى لما ظهرت المعجزات على يد عيسى، فإن ذلك تصديق بالضرورة، فكيف يصدق الله بالمعجزة من يكذب موسى وهو أيضاً مصدق له، أفتنكرون معجزة عيسى وجوداً أو تنكرون إحياء الموتى دليلاً على صدق المتحدي ؟ فإن أنكروا شيئاً منهم لزمهم في شرع موسى لزوماً لا يجدون عنه محيصاً، وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب من نقل إليهم من موسى عليه السلام قوله إني خاتم الأنبياء. والثاني: أن هذه الشبهة إنما لقنوها بعد بعثة نبينا محمد عليه السلام وبعد وفاته، ولو كانت صحيحة لاحتج اليهود بها وقد حملوا بالسيف على الاسلام، وكان رسولنا عليه السلام مصدقاً بموسى عليه السلام وحاكماً على اليهود بالتوراة في حكم الرجم وغيره، فلا عرض عليه من التوارة ذلك، وما الذي صرفهم عنه ومعلوم قطعاً أن اليهود لم يحتجوا به لأن ذلك لو كان لكان مفحماً لا جواب عنه ولتواتر نقله، ومعلوم أنهم لم يتركوه مع القدرة عليه ولقد كانوا يحرصون على الطعن في شرعه بكل ممكن حمايةً لدمائهم وأموالهم ونسائهم، فإذا ثبت عليهم نبوة عيسى أثبتنا نبوة نبينا عليه السلام بما نثبتها على النصارى.

الفرقة الثالثة، وهم يجوزون النسخ ولكنهم ينكرون نبوة نبينا من حيث أنهم ينكرون معجزته في القرآن. وفي إثبات نبوته بالمعجزة طريقتان: الطريقة الأولى، التمسك بالقرآن، فإنا نقول: لا معنى للمعجزة إلا ما يقترن بتحدي النبي عند استشهاده على صدقه على وجه يعجز الخلق عن معارضته، وتحديه على العرب مع شغفهم بالفصاحة وإغراقهم فيها متواتر، وعدم المعارضة معلوم، إذ لو كان لظهر، فإن أرذل الشعراء لما تحدوا بشعرهم وعورضوا ظهرت المعارضات والمناقضات الجارية بينهم، فإذاً لا يمكن إنكار تحديه بالقرآن ولا يمكن إنكار اقتدار العرب على طريق الفصاحة ولا يمكن انكار حرصهم على دفع نبوته بكل ممكن حماية لدينهم ودمهم ومالهم وتخلصاً من سطوة المسلمين وقهرهم، ولا يمكن إنكار عجزهم لأنهم لو قدروا لفعلوا، فإن العادة قاضية بالضرورة بأن القادر على دفع الهلاك عن نفسه يشتغل بدفعه، ولو فعلوا لظهر ذلك ونقل. فهذه مقدمات بعضها بالتواتر وبعضها بجاري العادات وكل ذلك مما يورث اليقين فلا حاجة إلى التطويل. وبمثل هذا الطريق تثبت نبوة عيسى ولا يقدر النصراني على إنكار شيء من ذلك؛ فإنه يمكن أن يقابل بعيسى فينكر تحديه بالنبوة أو استشهاده باحياء الموتى أو وجود إحياء الموتى أو عدم المعارضة أو يقال عورض ولم يظهر، وكل ذلك مجاحدات لا يقدر عليها المعترف بأصل النبوات، فإن قيل: ما وجه إعجاز القرآن ؟ قلنا الجزالة والفصاحة مع النظم العجيب والمنهاج الخارج عن مناهج كلام العرب في خطبهم وأشعارهم وسائر صنوف كلامهم، والجمع بين هذا النظم وهذه الجزالة معجز خارج عن مقدور البشر، نعم ربما يرى للعرب أشعار وخطب حكم فيها بالجزالة، وربما ينقل عن بعض من قصد المعارضة مراعاة هذا النظم بعد تعلمه من القرآن، ولكن من غير جزالة بل مع ركاكة كما يحكى عن ترهات مسيلمة الكذاب حيث قال: الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فهذا وأمثاله ربما يقدر عليه مع ركاكة يستغثها الفصحاء ويستهزؤون بها، وأما جزالة القرآن فقد قضى كافة العرب منها العجب ولم ينقل عن واحد منهم تشبث بطعن في فصاحته، فهذا إذاً معجز وخارج عن مقدور البشر من هذين الوجهين، أعني من اجتماع هذين الوجهين، فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به، والجواب أن ما ذكروه هوس، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف مع ما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي وشن الغارات، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات، فلو قال نبي آية صدقي أني في هذا اليوم أحرك أصبعي ولا يقدر أحد من البشر على معارضتي، فلم يعارضه أحد في ذلك اليوم، ثبت صدقه، وكان فقد قدرتهم على الحركة مع سلامة الأعضاء من أعظم المعجزات. وإن فرض وجود القدرة ففقد داعيتهم وصرفهم عن المعارضة من أعظم المعجزات، مهما كانت حاجتهم ماسةً إلى الدفع باستيلاء النبي على رقابهم وأموالهم، وذلك كله معلوم على الضرورة. فهذا طريق تقدير نبوته على النصارى، ومهما تشبثوا بانكار شيء من هذه الأمور الجليلة فلا تشتغل إلا بمعارضتهم بمثله في معجزات عيسى عليه السلام. الطريقة الثانية: أن تثبت نبوته بجملة من الأفعال الخارقة للعادات التي ظهرت عليه، كانشقاق القمر، ونطق العجماء، وتفجر الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى في كفه، وتكثير الطعام القليل، وغيره من خوارق العادات، وكل ذلك دليل على صدقه. فإن قيل: آحاد هذه الوقائع لم يبلغ نقلها مبلغ التواتر. قلنا: ذلك أيضاً إن سلم فلا يقدح في العرض مهما كان المجموع بالغاً مبلغ التواتر، وهذا كما أن شجاعة علي رضوان الله عليه وسخاوة حاتم معلومان بالضرورة على القطع تواتراً، وآحاد تلك الوقائع لم تثبت تواتراً، ولكن يعلم من مجموع الآحاد على القطع ثبوت صفة الشجاعة والسخاوة، فكذلك هذه الأحوال العجيبة بالغة جملتها مبلغ التواتر، لا يستريب فيها مسلم أصلاً. فإن قال قائل من النصارى: هذه الأمور لم تتواتر عندي لا جملتها ولا آحادها. فيقال: ولو انحاز يهودي إلى قطر من الأقطار ولم يخالط النصارى وزعم أنه لم تتواتر عنده معجزات عيسى، وإن تواترت فعلى لسان النصارى وهم مهتمون به، فبماذا ينفصلون عنه ؟ ولا انفصال عنه إلا أن يقال: ينبغي أن يخالط القوم الذين تواتر ذلك بينهم حتى يتواتر ذلك إليك، فإن الأصم لا تتواتر عنده الأخبار، وكذا المتصامم، فهذا أيضاً عذرنا عند إنكار واحد منهم التواتر على هذا الوجه.

الباب الثاني

في بيان وجوب التصديق بأمور

ورد بها الشرع وقضى بجوازها العقل

وفيه مقدمة وفصلان، أما المقدمة: فهو أن ما لا يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشرع، وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما. أما المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وارادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت لم يثبت الشرع، إذ الشرع يبنى على الكلام فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع. فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه ونفس الكلام أيضاً فيما اخترناه لا يمكن اثباته بالشرع. ومن المحققين من تكلف ذلك وادعاه كما سبقت الاشارة إليه.

وأما المعلوم بمجرد السمع فتخصيص أحد الجائزين بالوقوع فإن ذلك من موافق العقول، وإنما يعرف من الله تعالى بوحي والهام ونحن نعلم من الوحي إليه بسماع كالحشر والنشر والثواب والعقاب وأمثالهما، وأما المعلوم بهما فكل ما هو واقع في مجال العقل ومتأخر في الرتبة عن إثبات كلام الله تعالى كمسألة الرؤية وانفراد الله تعالى بخلق الحركات والأغراض كلها وما يجري هذا المجرى، ثم كلما ورد السمع به ينظر، فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال، وجب التصديق بها ظناً إن كانت ظنية، فإن وجوب التصديق باللسان والقلب عمل يبنى على الأدلة الظنية كسائر الأعمال فنحن نعلم قطعاً إنكار الصحابة على من يدعي كون العبد خالقاً لشيء من الأشياء وعرض من الأعراض، وكانوا ينكرون ذلك بمجرد قوله تعالى "خالق كل شيء" ومعلوم أنه عام قابل للتخصيص فلا يكون عمومه إلا مظنوناً، إنما صارت المسألة قطعية بالبحث على الطرق العقلية التي ذكرناها، ونعلم أنهم كانوا ينكرون ذلك قبل البحث عن الطرق العقلية ولا ينبغي أن يعتقد بهم أنهم لم يلتفتوا إلى المدارك الظنية إلا في الفقهيات بل اعتبروها أيضاً في التصديقات الاعتقادية والقولية.

وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول، وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع بل هو قابل للتأويل، فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضاً لأدلة السمع فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة، وليس يشترط اشتماله على القضاء لتجويز، وبين الرتبتين فرق ربما يزل ذهن البليد حتى لا يدرك الفرق بين قول القائل: اعلم أن الأمر جائز، وبين قوله: لا أدري إنه محال أم جائز، وبينهما ما بين السماء والأرض، إذ الأول جائز على الله تعالى والثاني غير جائز، فإن الأول معرفة بالجواز والثاني عدم معرفة بالاحالة، ووجوب التصديق جائز في القسمين جميعاً فهذه هي المقدمة.

أما الفصل الأول ففي

بيان قضاء العقل بما جاء الشرع به

من الحشر والنشر وعذاب القبر والصراط والميزان

أما الحشر فيعنى به إعادة الخلق وقد دلت عليه القواطع الشرعية، وهو ممكن بدليل الابتداء. فإن الاعادة خلق ثان ولا فرق بينه وبين الابتداء وإنما يسمى إعادة بالاضافة إلى الابتداء السابق، والقادر على الانشاء والابتداء قادر على الاعادة وهو المعني بقوله: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإن قيل فماذا تقولون: أتعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعاً، أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض ؟ قلنا: كل ذلك ممكن وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات. وأحد الوجهين أن تنعدم الأعراض ويبقى جسم الانسان متصوراً بصورة التراب مثلاً، فتكون قد زالت منه الحياة واللون والرطوبة والتركيب والهيئة وجملة من الأعراض، ويكون معنى إعادتها أن تعاد إليها تلك الأعراض بعينها وتعاد إليها أمثالها، فإن العرض عندنا لا يبقى والحياة عرض والموجود عندنا في كل ساعة عرض آخر، والانسان هو ذلك الانسان باعتبار جسمه فإنه واحد لا باعتبار أعراضه، فإن كل عرض يتجدد هو غير الآخر، فليس من شرط الإعادة فرض إعادة الأعراض، وإنما ذكرنا هذا لمصير بعض الأصحاب إلى استحالة إعادة الأعراض، وذلك باطل، ولكن القول في إبطاله يطول ولا حاجة إليه في غرضنا هذا. والوجه الآخر أن تعدم الأجسام أيضاً ثم تعاد الأجسام بأن تخترع. مرة ثانية، فإن قيل: فيم يتميز المعاد عن مثل الأول ؟ وما معنى قولكم أن المعاد هو عين الأول ولم يبق للمعدوم عين حتى تعاد ؟ قلنا: المعدوم منقسم في علم الله إلى ما سبق له وجود وإلى ما لم يسبق له وجود، كما أن العدم في الأزل ينقسم إلى ما سيكون له وجود وإلى ما علم الله تعالى أنه لا يوجد؛ فهذا الانقسام في علم الله لا سبيل إلى انكاره، والعلم شامل والقدرة واسعة، فمعنى الإعادة أن نبذل بالوجود العدم الذي سبق له الوجود، ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعدم لم يسبق له وجود، فهذا معنى الإعادة، ومهما قدر الجسم باقياً ورد الأمر إلى تجديد أعراض تماثل الأول حصل تصديق الشرع ووقع الخلاص عن إشكال الإعادة وتمييز المعاد عن المثل، وقد أطنبنا في هذه المسألة في كتاب التهافت، وسلكنا في إبطال مذهبهم تقرير بقاء النفس التي هي غير متحيز عندهم وتقدير عود تدبيرها إلى البدن سواء كان ذلك البدن هو عين جسم الانسان أو غيره، وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده؛ فإن ذلك الكتاب مصنف لابطال مذهبهم لا لاثبات المذهب الحق، ولكنهم لما قدروا أن الانسان هو ما هو باعتبار نفسه وأن اشتغاله بتدبير كالعارض له والبدن آلة لهم، ألزمناهم بعد اعتقادهم بقاء النفس وجوب التصديق بالاعادة وذلك برجوع النفس إلى تدبير بدن من الأبدان، والنظر الآن في تحقيق هذا الفصل ينجر إلى البحث عن الروح والنفس والحياة وحقائقها، ولا تحتمل المعتقدات التغلغل إلى هذه الغايات في المعقولات، فما ذكرناه كاف في بيان الاقتصاد في الاعتقاد للتصديق بما جاء به الشرع، وأما عذاب القبر فقد دلت عليه قواطع الشرع إذ تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم بالاستعاذة منه في الأدعية واشتهر قوله عند المرور بقبرين: إنهما ليعذبان ودل عليه قوله تعالى "وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً" الآية، وهو ممكن، فيجب التصديق به. ووجه إمكانه ظاهر، وإنما تنكره المعتزلة من حيث يقولون إنا نرى شخص الميت مشاهدة وهو غير معذب وإن الميت ربما تفترسه السباع وتأكله، وهذا هوس؛ أما مشاهدة الشخص فهو مشاهدة لظواهر الجسم والمدرك للعقاب جزء من القلب أو من الباطن كيف كان وليس من ضرورة العذاب ظهور حركة في ظاهر البدن، بل الناظر إلى ظاهر النائم لا يشاهد ما يدركه النائم من اللذة عند الاحتلام ومن الألم عند تخيل الضرب وغيره، ولو انتبه النائم وأخبر عن مشاهداته وآلامه ولذاته من لم يجر له عهد بالنوم لبادر إلى الانكار اغتراراً بسكون ظاهر جسمه، كمشاهدة إنكار المعتزلة لعذاب القبر وأما الذي تأكله السباع فغاية ما في الباب أن يكون بطن السبع قبراً، فاعادة الحياة إلى جزء يدرك العذاب ممكن، فما كل متألم يدرك الألم من جميع بدنه، وأما سؤال منكر ونكير فحق، والتصديق به واجب لورود الشرع به وامكانه، فإن ذلك لا يستدعي منهما إلا تفهيماً بصوت أو بغير صوت، ولا يستدعي منه إلا فهماً، ولا يستدعي الفهم إلاحياة، والإنسان لا يفهم بجميع بدنه بل بجزء من باطن قلبه، واحياء جزء يفهم السؤال ويجيب ممكن مقدور عليه، فيبقى قول القائل إنا نرى الميت ولا نشاهد منكراً ونكيراً ولا نسمع صوتهما في السؤال ولا صوت الميت في الجواب، فهذا يلزمه منه أن ينكر مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام وسماعه كلامه وسماع جبريل جوابه ولا يستطيع مصدق الشرع أن ينكر ذلك، إذ ليس فيه إلا أن الله تعالى خلق له سماعاً لذلك الصوت ومشاهدة لذلك الشخص، ولم يخلق للحاضرين عنده ولا لعائشة رضي الله تعالى عنها وقد كانت تكون عنده حاضرة في وقت ظهور بركات الوحي، فانكار هذا مصدره الإلحاد وإنكار سعة القدرة، وقد فرغنا عن إبطاله ويلزم منه أيضاً إنكار ما يشاهده النائم ويسمعه من الأصوات الهائلة المزعجة، ولولا التجربة لبادر إلى الانكار كل من سمع من النائم حكاية أحواله، فتعساً لمن ضاقت حوصلته عن تقدير اتساع القدرة لهذه الأمور المستحقرة بالاضافة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، مع ما فيهما من العجائب. والسبب الذي ينفر طباع أهل الضلال عن التصديق بهذه الأمور بعينه منفر عن التصديق بخلق الانسان من نطفة قذرة مع ما فيه من العجائب والآيات أولاً أن المشاهدة تضطره إلى التصديق فإذاً ما لا برهان على إحالته لا ينبغي أن ينكر بمجرد الاستبعاد.

وأما الميزان فهو أيضاً حق وقد دلت عليه قواطع السمع، وهو ممكن فوجب التصديق به. فإن قيل: كيف توزن الأعمال وهي أعراض وقد انعدمت، والمعدوم لا يوزن ؟ وإن قدرت إعادتها وخلقها في جسم الميزان كان محالاً لاستحالة إعادة الأعراض. ثم كيف تخلق حركة يد الانسان وهي طاعته في جسم الميزان ؟ أيتحرك بها الميزان فيكون ذلك حركة الميزان لا حركة يد الانسان أم لا تتحرك فتكون الحركة قد فاتت بجسم ليس هو متحركاً بها، وهو محال ؟ ثم إن تحرك فيتفاوت من الميزان بقدر طول الحركات وكثرتها لا بقدر مراتب الأجور، فرب حركة بجرء من البدن يزيد إثمها على حركة جميع البدن فراسخ فهذا محال. فنقول: قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: "توزن صحائف الأعمال فإن الكرام الكاتبين يكتبون الأعمال في صحائف هي أجسام، فإذا وضعت في الميزان خلق الله تعالى في كفتها ميلاً بقدر رتبة الطاعات وهو على ما يشاء قدير".فإن قيل: فأي فائدة في هذا ؟ وما معنى المحاسبة ؟ قلنا: لا نطلب لفعل الله تعالى فائدة: "لا يسأل عما يفعل وهو يسألون". تم قد دللنا على هذا. ثم أي بعد في أن تكون الفائدة فيه أن يشاهد العبد مقدار أعماله ويعلم أنه مجزي بها بالعدل أو يتجاوز عنه باللطف، ومن يعزم على معاقبة وكيله بجنايته في أمواله أو يعزم على الإبراء فمن أين يبعد أن يعرفه مقدار جنايته بأوضح الطرق ليعلم أنه في عقوبته عادل وفي التجاوز عنه متفضل. هذا إن طلبت الفائدة لأفعال الله تعالى، وقد سبق بطلان ذلك. وأما الصراط فهو أيضاً حق، والتصديق به واجب، لأنه ممكن. فإنه عبارة عن جسر ممدود على متن جهنم يرده الخلق كافة، فإذا توافوا عليه قيل للملائكة "وقفوهم إنهم مسؤولون" فإن قيل: كيف يمكن ذلك وفيما روى أدق من الشعر وأحد من السيف، فكيف يمكن المرور عليه ؟ قلنا هذا إن صدر ممن ينكر قدرة الله تعالى، فالكلام معه في إثبات عموم قدرته وقد فرغنا عنها. وإن صدر من معترف بالقدرة فليس المشي على هذا بأعجب من المشي في الهواء، والرب تعالى قادر على خلق قدرة عليه، ومعناه أن يخلق له قدرة المشي على الهواء ولا يخلق في ذاته هوياً إلى أسفل، ولا في الهواء انحراف، فإذا أمكن هذا في الهواء فالصراط أثبت من الهواء بكل حال.

الفصل الثاني:

في الاعتذار عن الإخلال بفصول

شحنت بها المعتقدات فرأيت الإعراض عن ذكرها أولى لأن المعتقدات المختصرة حقها أن لا تشتمل إلا على المهم الذي لا بد منه في صحة الاعتقاد.

أما الأمور التي لا حاجة إلى إخطارها بالبال، وإن خطرت بالبال فلا معصية في عدم معرفتها وعدم العلم بأحكامها، فالخوض فيها بحث عن حقائق الأمور وهي غير لائقة بما يراد منه تهذيب الاعتقاد، وذلك الفن تحصره ثلاثة فنون: عقلي، ولفظي، وفقهي. أما العقلي، فالبحث عن القدرة الحادثة أنها تتعلق بالضدين أم لا، وتتعلق بالمختلفات أم لا، وهل يجوز قدرة حادثة تتعلق بفعل مباين لمحل القدرة وأمثال له. وأما اللفظي فكالبحث عن المسمى باسم الرزق ما هو، ولفظ التوفيق والخذلان والايمان ما حدودها ومسبباتها. وأما الفقهي فكالبحث عن الأمر بالمعروف متى يجب، وعن التوبة ما حكمها، إلى نظائر ذلك. وكل ذلك ليس بمهم في الدين، بل المهم أن ينفي الانسان الشك عن نفسه في ذات الله تعالى، على القدر الذي حقق في القطب الأول، وفي صفاته وأحكامها كما حقق في القطب الثاني، وفي أفعاله بأن يعتقد فيها الجواز دون الوجوب كما في القطب الثالث، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرف صدقه ويصدقه في كل ما جاء به كما ذكرناه في القطب الرابع، وما خرج عن هذا فغير مهم. ونحن نورد من كل فن مما أهملناه مسألة ليعرف بها نظائرها ويحقق خروجها عن المهمات المقصودات في المعتقدات.

أما المسألة الأولى العقلية: فكاختلاف الناس في أن من قتل هل يقال إنه مات بأجله ؟ ولو قدر عدم قتله هل كان يجب موته أم لا ؟ وهذا فن من العلم لا يضر تركه، ولكنا نشير إلى طريق الكشف فيه. فنقول: كل شيئين لا ارتباط لأحدهما بالآخر، ثم اقترنا في الوجود، فليس يلزم من تقدير نفي أحدهما انتفاء الآخر. فلو مات زيد وعمرو معاً ثم قدرنا عدم موت زيد لم يلزم منه لا عدم موت عمرو ولا وجود موته، وكذلك إذا مات زيد عند كسوف القمر مثلاً، فلو قدرنا عدم الموت لم يلزم عدم الكسوف بالضرورة، ولو قدرنا عدم الكسوف لم يلزم عدم الموت إذ لا ارتباط لأحدهما بالآخر، فأما الشيئان اللذان بينهما علاقة وارتباط فهما ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون العلاقة متكافئة كالعلاقة بين اليمين والشمال والفوق والتحت، فهذا مما يلزم فقد أحدهما عند تقدير فقد الآخر لأنهما من المتضايفان التي لا يتقوم حقيقة أحدهما إلا مع الآخر.

الثاني: أن لا يكون على التكافؤ، لكن لأحدهما رتبة التقدم كالشرط مع المشروط. ومعلوم أنه يلزم عدم الشرط، فإذا رأينا علم الشخص مع حياته وإرادته مع علمه فيلزم لا محالة من تقدير انتفاء الحياة انتفاء العلم، ومن تقدير انتفاء العلم انتفاء الارادة، ويعبر عن هذا بالشرط وهو الذي لا بد منه لوجود الشيء ولكن ليس وجود الشيء به بل عنه ومعه. الثالث: العلاقة التي بين العلة والمعلول. ويلزم من تقدير عدم العلة عدم المعلول إن لم يكن للمعلول إلا علة واحدة، وإن تصور أن تكون له علة أخرى فيلزم من تقدير نفي كل العلل نفي المعلول، ولا يلزم من تقدير نفي علة بعينها نفي المعلول مطلقاً، بل يلزم نفي معلول تلك العلة على الخصوص. فإذا تمهد هذا المعنى رجعنا إلى القتل والموت؛ فالقتل عبارة عن حز الرقبة وهو راجع إلى أعراض هي حركات في يد الضارب والسيف وأعراض هي افتراقات في أجزاء رقبة المضروب، وقد اقترن بها عرض آخر وهو الموت، فإن لم يكن بين الحز والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحز نفي الموت فإنهما شيئان مخلوقان معاً على الاقتران بحكم إجراء العادة لا ارتباط لأحدهما بآخر، فهو كالمقترنين اللذين لم تجر العادة باقترانهما وإن كان الحز علة الموت ومولده، وإن لم تكن علة سواه لزم من انتفائه انتفاء الموت، ولكن لا خلاف في أن للموت عللاً من أمراض وأسباب باطنة سوى الحز عند القائلين بالعلل، فلا يلزم من نفي الحز نفي الموت مطلقاً ما لم يقدر مع ذلك إنتفاء سائر العلل، فنرجع إلى غرضنا فنقول: من اعتقد من أهل السنة أن الله مستبد بالاختراع بلا تولد، ولا يكون مخلوق علة مخلوق، فنقول: الموت أمر استبد الرب تعالى باختراعه مع الحز، فلا يجب من تقدير عدم الحز عدم الموت وهو الحق؛ ومن اعتقد كونه علة وانضاف إليه مشاهدته صحة الجسم وعدم مهلك من خارج اعتقد أنه لو انتفى الحز وليس ثم علة أخرى وجب انتفاء المعلول لانتفاء جميع العلل، وهذا الاعتقاد صحيح لو صح اعتقاد التعليل وحصر العلل فيما عرف انتفاؤه فإذاً هذه المسألة يطول النزاع فيها، ولم يشعر أكثر الخائضين فيها بمثارها فينبغي أن نطلب هذا من القانون الذي ذكرناه في عموم قدرة الله تعالى وإبطال التولد. ويبنى على هذا أن منق تل ينبغي أن يقال إنه مات بأجله لأن الأجل عبارة عن الوقت الذي خلق الله تعالى فيه موته سواء كان معه حز رقبة أو كسوف قمر أو نزول مطر أو لم يكن، لأن كل هذه عندنا مقترنات وليست مؤثرات ولكن اقتران بعضها يتكرر بالعادة، وبعضها لا يتكرر، فأما من جعل الموت سبباً طبيعياً من الفطرة وزعم أن كل مزاج فله رتبة معلومة في القوة إذا خليت ونفسها تمادت إلى منتها مدتها، ولو فسدت على سبيل الاحترام كان ذلك استعجالاً، بالإضافة إلى مقتضى طباعها، والأجل عبارة عن المدة الطبيعية، كما يقال الحائط مثلاً يبقى مائة سنة بقدر إحكام بنائه، ويمكن أن يهدم بالفأس في الحال، والأجل يعبر به عن مدته التي له بذاته وقوته، فيلزم من ذلك أن يقال إذا هدم بالفأس لم ينهدم بأجله وإن لم يتعرض له من خارج حتى انحطت أجزاؤه فيقال انهدم بأجله، فهذا اللفظ ينبيء على ذلك الأصل. المسألة الثانية وهي اللفظية: فكاختلافهم في أن الايمان هل يزيد وينقص أم هو على رتبة واحدة. وهذا الاختلاف منشؤه الجهل بكون الاسم مشتركاً، أعني اسم الايمان، وإذا فصل مسميات هذا اللفظ ارتفع الخلاف. وهو مشترك بين ثلاثة معان: إذ قد يعبر به عن التصديق اليقين البرهاني، وقد يعبر به عن الاعتقاد التقليدي إذا كان جزماً، وقد يعبر به عن تصديق معه العمل بموجب التصديق ودليل اطلاقه على الأول أن من عرف الله تعالى بالدليل ومات عقيب معرفته فإنا نحكم بأنه مات مؤمناً. ودليل اطلاقه على التصديق التقليدي أن جماهير العرب كانوا يصدقون رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم بمجرد إحسانه إليهم وتلطفه بهم ونظرهم في قوانين أحواله من غير نظر في أدلة الواحدانية ووجه دلالة المعجزة، وكان يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وقد قال تعالى "وما أنت بمؤمن لنا" أي بمصدق، ولم يفرق بين تصديق وتصديق، ودليل إطلاقه على الفعل، قوله عليه السلام: لا يزني الزاني وهو مؤمن حين يزني وقوله عليه السلام: الايمان بضعة وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق فنرجع إلى المقصود ونقول: إن أطلق الإيمان بمعنى التصديق البرهاني لم يتصور زيادته ولا نقصانه، بل اليقين إن حصل بكماله فلا مزيد عليه. وإن لم يحصل بكماله فليس بيقين، وهي خطة واحدة ولا يتصور فيها زيادة ونقصان إلا أن يراد به زيادة وضوح أي زيادة طمأنينة النفس إليه بأن النفس تطمئن إلى اليقينيات النظرية في الابتداء إلى حل ما، فإذا تواردت الأدلة على شيء واحد أفاد بظاهر الأدلة زيادة طمأنينة. وكل من مارس العلوم أدرك تفاوتاً في طمأنينية نفسه إلى العلم الضروري، وهو العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وإلى العلم يحدث العالم وإن محدثه واحد، ثم يدرك أيضاً تفرقة بين آحاد المسائل بكثرة أدلتها وقلتها. فالتفاوت في طمأنينية النفس مشاهد لكل ناظر من باطنه، فإذا فسرت الزيادة به لم يمنعه أيضاً في هذا التصديق.

أما إذا أطلق بمعنى التصديق التقليدي فذلك لا سبيل إلى جحد التفاوت فيه؛ فإنا ندرك بالمشاهدة من حال اليهودي في تصميمه على عقده ومن حال النصراني والمسلم تفاوتاً، حتى أن الواحد منهم لا يؤثر في نفسه وحل عقد لمبه التهويلات والتخويفات ولا التحقيقات العلمية ولا التخيلات الإقناعية، والواحد منهم مع كونه جازماً في اعتقاده تكون نفسه أطوع لقبول اليقين، وذلك لأن الاعتقاد على القلب مثل عقدة ليس فيها انشراح وبرد يقين. والعقدة تختلف في شدتها وضعفها فلا ينكر هذا التفاوت منصف وإنما ينكره الذين سمعوا من العلوم والاعتقادات أساميها ولم يدركوا من أنفسهم ذوقها، ولم يلاحظوا اختلاف أحوالهم وأحوال غيرهم فيها. وأما إذا أطلق بالمعنى الثالث وهو العمل مع التصديق، فلا يخفى بطرق التفاوت إلى نفس العمل، وهل يتطرق بسبب المواظبة على العمل تفاوت إلى نفس التصديق، هذا فيه نظر، وترك المداهنة في مثل هذا المقام أولى والحق أحق ما قيل. فأقول: إن المواظبة على الطاعات لها تأثير في تأكيد طمأنينة النفس إلى الاعتقاد التقليدي ورسوخه في النفس، وهذا أمر لا يعرفه إلا من سبر أحوال نفسه وراقبها في وقت المواظبة على الطاعة وفي وقت الفترة ولاحظ تفاوت الحال في باطنه، فإنه يزداد بسبب المواظبة على العمل أنسة لمعتقداته، ويتأكد به طمأنينته، حتى أن المعتقد الذي طالت منه المواظبة على العمل بموجب اعتقاده أعصا نفساً على المحاول تغييره وتشكيكه ممن لم تطل مواظبته، بل العادات تقضي بها، فإن من يعتقد الرحمة في قلبه على يتيم فإن أقدم على مسح رأسه وتفقد أمره صادف في قلبه عند ممارسة العمل بموجب الرحمة زيادة تأكيد في الرحمة، ومن يتواضع بقلبه لغيره فإذا عمل بموجبه ساجداً له أو مقبلاً يده ازداد التعظيم والتواضع في قلبه ولذلك تعبدنا بالمواظبة على أفعال هي مقتضى تعظيم القلب من الركوع والسجود ليزداد بسببها تعظيم القلوب، فهذه أمور يجحدها المتحذلقون في الكلام الذين أدركوا ترتيب العلم بسماع الألفاظ ولم يدركوها بذوق النظر. فهذه حقيقة المسألة، ومن هذا الخبر اختلافهم في معنى الرزق. وقول المعتزلة: إن ذلك مخصوص بما يملكه الإنسان حتى ألزموا أنه لا رزق لله تعال على البهائم، فربما قالوا هو مما لم يحرم تناوله، فقيل لهم فالظلمة ماتوا وقد عاشوا عمرهم لم يرزقوا، وقد قال أصحابنا إنه عبارة عن المنتفع به كيف كان، ثم هو منقسم إلى حلال وحرام، ثم طولوا في حد الرزق وحد النعمة وتضييع الوقت بهذا وأمثاله دأب من لا يميز بين المهم وغيره ولا يعرف قدر بقية عمره، وإنه لا قيمة له فينبغي أن يضيع العمر إلا بالمهم وبين يدي الأنظار أمور مشكلة البحث عنها أهم من البحث عن موجب الألفاظ ومقتضى الإطلاقات، فنسأل الله أن يوفقنا للاشتغال لما يعنينا. المسألة الثالثة الفقهية: فمثل اختلافهم في أن الفاسق هل له أن يحتسب ؟ وهذا نظر فقهي، فمن أين يليق بالكلام ثم بالمختصرات. ولكنا نقول الحق أن له أن يحتسب وسبيله التدرج في التصوير؛ وهو أن نقول: هل يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كون الآمر والناهي معصوماً عن الصغائر والكبائر جميعاً ؟ فإن شرط ذلك كان خرقاً للاجماع، فإن عصمة الأنبياء عن الكبائر إنما عرفت شرعاً، وعن الصغائر مختلف فيها، فمتى يوجد في الدنيا معصوم ؟ وإن قلتم إن ذلك لا يشترط حتى يجوز للابس الحرير مثلاً وهو عاص به أن يمنع من الزنى وشرب الخمر، فنقول: وهل لشارب الخمر أن يحتسب على الكافر ويمنعه من الكفر ويقاتله عليه ؟ فإن قالوا لا، خرقوا الاجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على العصاة والمطيعين ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، فإن قالوا نعم، فنقول: شارب الخمر هل له أن يمنع من القتل أم لا ؟ فإن قيل لا، قلنا: فما الفرق بين هذا وبين لابس الحرير إذا منع من الخمر والزاني إذا منع من الكفر ؟ وكما أن الكبيرة فوق الصغيرة فالكبائر أيضاً متفاوتة، فإن قالوا نعم، وضبطوا ذلك بأن المقدم على شيء لا يمنع من مثله ولا فيما دونه وله أن يمنع مما فوقه، فهذا الحكم لا مستند له إذ الزنى فوق الشرب ولا يبعد أن يزني ويمنع من الشراب ويمنع منه، ربما يشرب ويمنع غلمانه وأصحابه من الشرب، ويقول: ترك ذلك واجب عليكم وعلي والأمر بترك المحرم واجب علي مع الترك فلي أن أتقرب بأحد الواجبين، ولم يلزمني مع ترك أحدهما ترك الآخر، فإذن كما يجوز أن يترك الآمر بترك الشرب وهو بتركه يجوز أن يشرب ويأمر بالترك فهما واجبان فلا يلزم بترك أحدهما ترك الآخر. فإن قيل: فيلزم على هذا أمور شنيعة وهو أن يزني الرجل بامرأة مكرهاً إياها على التمكين، فإن قال لها في أثناء الزنى عند كشفها وجهها باختيارها لا تكشفي وجهك فاني لست محرماً لك، والكشف لغير المحرم حرام، وأنت مكرهة على الزنى مختارة في كشف الوجه فأمنعك من هذا، فلا شك من أن هذه حسبة باردة شنيعة لا يصير إليها عاقل؛ وكذلك قوله إن الواجب علي شيئان العمل والأمر للغير، وأنا أتعاطى أحدهما وإن تركت الثاني كقوله: إن الواجب علي الوضوء دون الصلاة وأنا أصلي وإن تركت الوضوء، والمسنون في حقي الصوم والتسحر وأنا أتسحر وإن تركت الصوم، وذلك محال، لأن السحور للصوم والوضوء للصلاة، وكل واحد شرط الآخر وهو متقدم في الرتبة على المشروط، فكذلك نفس المرء مقدمة على غيره، فليهذب نفسه أولا ثم غيره أما إذا أهمل نفسه واشتغل بغيره كان ذلك عكس الترتيب الواجب، بخلاف ما إذا هذب نفسه وترك الحسبة وتهذيب غيره، فإن ذلك معصية ولكنه لا تناقض فيه. وكذلك الكافر ليس له ولاية الدعوة إلى الاسلام ما لم يسلم هو بنفسه، فلو قال الواجب علي شيئان ولي أن أترك أحدهما دون الثاني لم يكن منه، والجواب أن حسبة الزاني بالمرأة عليها ومنعها من كشفها وجهها جائزة عندنا، وقولكم إن هذه حسبة باردة شنيعة فليس الكلام في أنها حارة أو باردة مستلذة أو مستبشعة، بل الكلام في أنها حق أو باطل وكم من حق مستبرد مستثقل وكم من باطل مستحلى مستعذب، فالحق غير اللذيذ والباطل غير الشنيع، والبرهان القاطع فيه هو أنا نقول: قوله لها لا تكشفي وجهك فإنه حرام، ومنعه إياها بالعمل قول وفعل، وهذا القول والفعل إما أن يقال هو حرام أو يقال واجب أو يقال هو مباح، فإن قلتم إنه واجب فهو المقصود، وإن قلتم إنه مباح فله أن يفعل ما هو مباح، وإن قلتم إنه حرام فما مستند تحريمه ؟ وقد كان هذا واجباً قبل اشتغاله بالزنى فمن أين يصير الواجب حراماً باقتحامه محرماً، وليس في قوله الأخير صدق عن الشرع بأنه حرام، وليس في فعله إلا المنع من اتحاد ما هو حرام، والقول بتحريم واحد منهما محال. ولسنا نعني بقولنا للفاسق ولاية الحسبة إلا أن قوله حق وفعله ليس بحرام، وليس هذا كالصلاة والوضوء فإن الصلاة هي المأمور بها وشرطها الوضوء، فهي بغير وضوء معصية وليست بصلاة، بل تخرج عن كونها صلاة وهذا القول لم يخرج عن كونه حقاً ولا الفعل خرج عن كونه منعاً من الحرام، وكذلك السحور عبارة عن الاستعانة على الصوم بتقديم الطعام ولا تعقل الاستعانة من غير العزم على  ايجاد المستعان عليه. وأما قولكم أن تهذيبه نفسه أيضاً شرط لتهذيبه غيره، فهذا محل النزاع. فمن أين عرفتم ذلك ؟ ولو قال قائل: تهذيب نفسه عن المعاصي شرط للغير ومنع الكفار، وتهذيبه نفسه عن الصغائر شرط للمنع عن الكبائر كان قوله مثل قولكم، وهو خرق للاجماع. وأما الكافر فإن حمل كافراً آخر بالسيف على الإسلام فلا يمنعه منه، ويقول عليه أن يقول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن يأمر غيره به ولم يثبت أن قوله شرط لأمره، فله أن يقول وأن يأمر وإن لم ينطق. فهذا غور هذه المسألة، وإنما أردنا إيرادها لتعلم أن أمثال هذه المسائل لا تليق بفن الكلام ولا سيما بالمعتقدات المختصرة والله أعلم بالصواب.

الباب الثالث

في الامامة

النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات، ثم إنها مثار للتعصبات والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض بل وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ ! ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد فإن القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديدة النفار، ولكنا نوجز القول فيه ونقول: النظر فيه يدور على ثلاثة أطراف: الطرف الأول: في بيان وجوب نصب الإمام.

ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل، فإنا بينا أن الوجوب يؤخذ من الشرع إلا أن يفسر الواجب بالفعل الذي فيه فائدة وفي تركه أدنى مضرة، وعند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، ولكنا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع ونقول: نظام أمر الدين مقصود لصاحب الشرع عليه السلام قطعاً، وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع فيحصل من المقدمتين صحة الدعوى وهو وجوب نصب الإمام.

فإن قيل: المقدمة الأخيرة غير مسلمة وهو أن نظام الدين لا يحصل إلا بإمام مطاع، فدلوا عليها.

فنقول: البرهان عيه أن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع، فهاتان مقدمتان ففي أيهما النزاع ؟ فإن قيل لم قلتم إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، بل لا يحصل إلا بخراب الدنيا، فإن الدين والدنيا ضدان والاشتغال بعمارة أحدهما خراب الآخر، قلنا: هذا كلام من لا يفهم ما نريده بالدنيا الآن، فإنه لفظ مشترك قد يطلق على فضول التنعم والتلذذ والزيادة على الحاجة والضرورة، وقد يطلق على جميع ما هو محتاج إليه قبل الموت. وأحدهما ضد الدين والآخر شرطه، وهكذا يغلط من لا يميز بين معاني الألفاظ المشتركة. فنقول: نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات، والأمن هو آخر الآفات، ولعمري من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وليس يأمن الإنسان على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة، فإذن بان نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين. وأما المقدمة الثانية وهو أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حياً، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا وراءهم ولمي كن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك.

الطرف الثاني: في بيان من يتعين من سائر الخلق لأن ينصب إماماً. فنقول: ليس يخفى أن التنصيص على واحد نجعله إماماً بالتشهي غير ممكن، فلا بد له من تميز بخاصية يفارق سائر الخلق بهذا، فتلك خاصية في نفسه وخاصية من جهة غيره. أما من نفسه فأن يكون أهلاً لتدبير الخلق وحملهم على مراشدهم. وذلك بالكفاية والعلم والورع، وبالجملة خصائص القضاة تشترط فيه مع زيادة نسب قريش؛ وعلم هذا الشرط الرابع بالسمع حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش فهذا تميزه عن أكثر الخلق ولكن ربما يجتمع في قريش جماعة موصوفون بهذه الصفة فلا بد من خاصية أخرى تميزه، وليس ذلك إلا التولية أو التفويض من غيره، فإنما يتعين للإمامة مهما وجدت التولية في حقه على الخصوص من دون غيره، فيبقى الآن النظر في صفة المولى فإن ذلك لا يسلم لكل أحد بل لا بد فيه من خاصية وذلك لا يصدر إلا من أحد ثلاثة: إما التنصيص من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما التنصيص من جهة إمام العصر بأن يعين لولاية العهد شخصاً معيناً من أولاده أو سائر قريش، وإما التفويض من رجل ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة، وذلك قد يسلم في بعض الأعصار لشخص واحد مرموق في نفسه مرزوق بالمتابعة مسؤول على الكافة، ففي بيعته وتفويضه كفاية عن تفويض غيره لأن المقصود أن يجتمع شتات الآراء لشخص مطاع وقد صار الإمام بمبايعة هذا المطاع مطاعاً، وقد لا يتفق ذلك لشخص واحد بل لشخصين أو ثلاثة أو جماعة فلا بد من اجتماعهم وبيعتهم واتفاقهم على التفويض حتى تتم الطاعة. بل أقول: لو لم يكن بعد وفاة الإمام الاقرشي واحد مطاع متبع فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق بشوكته وكفايته وكان موصوفاً بصفات الأئمة فقد انعقدت إمامته ووجبت طاعته، فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته، وفي منازعته إثارة الفتن إلا أن من هذا حاله فلا يعجز أيضاً عن أخذ البيعة من أكابر الزمان وأهل الحل والعقد، وذلك أبعد من الشبهة فلذلك لا يتفق مثل هذا في العادة إلا عن بيعة وتفويض. فإن قيل: فإن كان المقصود حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الآراء ويمنع الخلق من المحاربة والقتال ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد، فلو انتهض لهذا الأمر من فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم فماذا ترون فيه، أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته ؟ قلنا: الذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته لأن ما يفوتنا من المصارفة بين كونه عالماً بنفسه أو مستفتياً من غيره دون ما يفوتنا بتقليد غيره إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها. وربما يؤدي ذلك إلى هلاك النفوس والأموال، وزيادة صفة العلم إنما تراعى مزية وتتمة للمصالح فلا يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشوق إلى مزاياها وتكملاتها، وهذه مسائل فقهية فيلون المستعبد لمخالفته المشهود على نفسه استبعاده ولينزل من غلوائه فالأمر أهون مما يظنه، وقد استقضينا تحقيق هذا المعنى في الكتاب الملقب بالمستظهري المصنف في الرد على الباطنية، فإن قيل فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها، فأي أحواله أحسن: أن يقول القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار، فهو بين ثلاثة أمور إما أن يمنع الناس من الأنكحة والتصرفات المنوطة بالقضاة وهو مستحيل ومؤدي إلى تعطيل المعايش كلها ويفضي إلى تشتيت الآراء ومهلك للجماهير والدهماء أو يقول إنهم يقدمون على الأنكحة والتصرفات ولكنهم مقدمون على الحرام، إلا أنه لا يحكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة الحال، وإما أن نقول يحكم بانعقاد الإمامة مع فوات شروطها لضرورة الحال ومعلوم أن البعيد مع  الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالاضافة، ويجب على العاقل اختياره، فهذا تحقيق هذا الفصل وفيه غنية عند البصير عن التطويل ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته وإنما يثبت بطول الألفة في سمعه فلا تزال النفرة عن نقيضه في طبعه إذ فطام الضعفاء عن المألوف شديد عجز عنه الأنبياء فكيف غيرهم.

فإن قيل: فهلا قلتم إن التنصيص واجب من النبي والخليفة كي يقطع ذلك دابر الاختلاف كما قالت بعض الإمامية إذ ادعوا أنه واجب، قلنا: لأنه لو كان واجباً لنص عليه الرسول عليه السلام، ولم ينص هو ولم ينص عمر أيضاً بل ثبتت إمامة أبو بكر وإمامة عثمان وإمامة علي رضي الله عنهم بالتفويض، فلا تلتفت إلى تجاهل من يدعي أنه صلى الله عليه وسلم نص على علي لقطع النزاع ولكن الصحابة كابروا النص وكتموه، فأمثال ذلك يعارض بمثله ويقال: بم تنكرون على من قال إنه نص على أبي بكر فأجمع الصحابة على موافقته النص ومتابعته، وهو أقرب من تقدير مكابرتهم النص وكتمانه، ثم إنما يتخيل وجوب ذلك لتعذر قطع الاختلاف وليس ذلك بمعتذر، فإن البيعة تقطع مادة الاختلاف والدليل عليه عدم الاختلاف في زمان أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم، وقد توليا البيعة، وكثرته في زمان علي رضي الله عنه ومعتقد الإمامية أنه تولى بالنص.

الطرف الثالث: في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. اعلم أن للناس في الصحابة والخلفاء إسراف في أطراف؛ فمن مبالغ في الثناء حتى يدعي العصمة للأئمة، ومنهم متهجم على الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة. فلا تكونن من الفريقين واسلك طريق الاقتصاد في الاعتقاد. واعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار وتواترت الأخبار بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة، كقوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وكقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وما من واحد إلا وورد عليه ثناء خاص في حقه يطول نقله، فينبغي أن تستصحب هذا الاعتقاد في حقهم ولا تسيء الظن بهم كما يحكى عن أحوال تخالف مقتضى حسن الظن، فأكثر ما ينقل مخترع بالتعصب في حقهم ولا أصل له وما ثبت نقله فالتأويل متطرق إليه ولم يجز ما لا يتسع العقل لتجويز الخطأ والسهو فيه، وحمل أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه. والمشهور من قتال معاوية مع علي ومسير عائشه رضي الله عنهم إلى البصرة والظن بعائشة أنها كانت تطلب تطفئة الفتنة ولكن خرج الأمر من الضبط، فأواخر الأمور لا تبقى على وفق طلب أوائلها، بل تنسل عن الضبط، والظن بمعاوية أنه كان على تأويل وظن فيما كان يتعاطاه وما يحكى سوى هذا من روايات الآحاد فالصحيح منه مختلط بالباطل والاختلاف أكثره اختراعات الروافض والخوارج وأرباب الفضول الخائضون في هذه الفنون. فينبغي أن تلازم الإنكار في كل ما لم يثبت، وما ثبت فيستنبط له تأويلاً. فما تعذر عليك فقل: لعل له تأويلاً وعذراً لم أطلع عليه. واعلم أنك في هذا المقام بين أن تسيء الظن بمسلم وتطعن عليه وتكون كاذباً أو تحسن الظن به وتكف لسانك عن الطعن وأنت مخطئ مثلاً، والخطأ في حسن الظن بالمسلم أسلم من الصواب بالطعن فيهم، فلو سكت إنسان مثلاً عن لعن ابليس أو لعن أبي جهل أو أبي لهب أو من شئت من الأشرار طول عمره لم يضره السكوت، ولو هفا هفوة بالطعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك، بل أكثر ما يعلم في الناس لا يحل النطق به لتعظيم الشرع الزجر عن الغيبة، مع أنه إخبار عما هو متحقق في المغتاب. فمن يلاحظ هذه الفصول ولم يكن في طبعه ميل إلى الفضول آثر ملازمته السكوت وحسن الظن بكافة المسلمين وإطلاق اللسان بالثناء على جميع السلف الصالحين. هذا حكم الصحابة عامة. فأما الخلفاء الراشدون فهم أفضل من غيرهم، وترتيبهم في الفضل عند أهل السنة كترتيبهم في الإمامة، وهذا لمكان أن قولنا فلان أفضل من فلان أن معناه إن محله عند الله تعالى في الآخرة أرفع، وهذا غيب لا يطلع عليه إلا الله ورسوله إن أطلعه عليه، ولا يمكن أن يدعي نصوص قاطعة من صاحب الشرع متواترة مقتضية للفضيلة على هذا الترتيب، بل المنقول الثناء على جميعهم. واستنباط حكم الترجيحات في الفضل من دقائق ثنائه عليهم رمي في عماية واقتحام أمر آخر أغنانا الله عنه، ويعرف الفضل عند الله تعالى بالأعمال مشكل أيضاً وغايته رجم ظن، فكم من شخص متحرم الظاهر وهو عند الله بمكان ليس في قلبه وخلق خفي في باطنه، وكم من مزين بالعبادات الظاهرة وهو في سخط الله لخبث مستكن في باطنه فلا مطلع على السرائر إلا الله تعالى. ولكن إذا ثبت أنه لا يعرف الفضل إلا بالوحي ولا يعرف من النبي إلا بالسماع وأولى الناس بالسماع ما يدل على تفاوت الفضائل الصحابة الملازمون لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وهم قد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم. وليس يظن منهم الخيانة في دين الله تعالى لغرض من الأغراض، وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف به مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب. فهذا ما أردنا أن نقتصر عليه من أحكام الإمامة والله أعلم وأحكم.

الباب الرابع

بيان من يجب تكفيره من الفرق

اعلم أن للفرق في هذا مبالغات وتعصبات، فربما انتهى بعض الطوائف إلى تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي يعزى إليها، فإذا أردت أن تعرف سبيل الحق فيه فاعلم قبل كل شيء أن هذه مسألة فقهية، أعني الحكم بتكفير من قال قولاً وتعاطى فعلاً، فإنها تارة تكون معلومة بأدلة سمعية وتارة تكون مظنونة بالاجتهاد، ولا مجال لدليل العقل فيها البتة، ولا يمكن تفهيم هذا إلا بعد تفهيم قولنا: إن هذا الشخص كافر والكشف عن معناه، وذلك يرجع إلى الإخبار عن مستقره في الدار الآخرة وأنه في النار على التأبيد، وعن حكمه في الدنيا وأنه لا يجب القصاص بقتله ولا يمكن من نكاح مسلمة ولا عصمة لدمه وماله، إلى غير ذلك من الأحكام، وفيه أيضاً إخبار عن قول صادر منه وهو كذب، أو اعتقاد وهو جهل، ويجوز أن يعرف بأدلة العقل كون القول كذباً وكون الاعتقاد جهلاً، ولكن كون هذا الكذب والجهل موجباً للتكفير أمر آخر، ومعناه كونه مسلطاً على سفك دمه وأخذ أمواله، ومعنى كونه مسلطاً على سفك دمه وأخذ أمواله ومبيحاً لإطلاق القول بأنه مخلد في النار؛ وهذه الأمور شرعية ويجوز عندنا أن يرد الشرع بأن الكذاب أو الجاهل أو المكذب مخلد في الجنة وغير مكترث بكفره، وإن ماله ودمه معصوم ويجوز أن يرد بالعكس أيضاً نعم ليس يجور أن يرد بأن الكذب صدق وأن الجهل علم، وذلك ليس هو المطلوب بهذه المسألة بل المطلوب أن هذا الجهل والكذب هل جعله الشرع سبباً لإبطال عصمته والحكم بأنه مخلد في النار ؟ وهو كنظرنا في أن الصبي إذا تكلم بكلمتي الشهادة فهو كافر بعد أو مسلم ؟ أي هذا اللفظ الذي صدر منه وهو صدق، والاعتقاد الذي وجد في قلبه وهو حق، هل جعله الشرع سبباً لعصمة دمه وماله أم لا ؟ وهذا إلى الشرع. فأما وصف قوله بأنه كذب أو اعتقاده بأنه جهل، فليس إلى الشرع، فإذاً معرفة الكذب والجهل يجوز أن يكون عقلياً وأما معرفة كونه كافر أو مسلماً فليس إلا شرعياً، بل هو كنظرنا في الفقه في أن هذا الشخص رقيق أو حر، ومعناه أن السبب الذي جرى هل نصبه الشرع مبطلاً لشهادته وولايته ومزيلاً لأملاكه ومسقطاً للقصاص عن سيده المستولي عليه، إذا قتله، فيكون كل ذلك طلباً لأحكام شرعية لا يطلب دليلها إلا من الشرع. ويجوز الفتوى في ذلك بالقطع مرة وبالظن والاجتهاد أخرى، فإذا تقرر هذا الأصل فقد قررنا في أصول الفقه وفروعه أن كل حكم شرعي يدعيه مدع فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع من إجماع أو نقل أو بقياس على أصل، وكذلك كون الشخص كافراً إما أن يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الأصل، والأصل المقطوع به أن كل من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فهو كافر أي مخلد في النار بعد الموت، ومستباح الدم والمال في الحياة، إلى جملة الأحكام. إلا أن التكذيب على مراتب.

الرتبة الأولى: تكذيب اليهود والنصارى وأهل الملل كلهم من المجوس وعبدة الأوثان وغيرهم، فتكفيرهم منصوص عليه في الكتاب ومجمع عليه بين الأمة، وهو الأصل وما عداه كالملحق به.

الرتبة الثانية: تكذيب البراهمة المنكرين لأصل النبوات، والدهرية المنكرين لصانع العالم. وهذا ملحق بالمنصوص بطريق الأولى، لأن هؤلاء كذبوه وكذبوا غيره من الأنبياء، أعني البراهمة، فكانوا بالتكفير أولى من النصارى واليهود، والدهرية أولى بالتكفير من البراهمة لأنهم أضافوا إلى تكذيب الأنبياء إنكار المرسل ومن ضرورة إنكار النبوة، ويلتحق بهذه الرتبة كل من قال قولاً لا تثبت النبوة في أصلها أو نبوة نبينا محمد على الخصوص إلا بعد بطلان قوله. الرتبة الثالثة: الذين يصدقون بالصانع والنبوة ويصدقون النبي، ولكن يعتقدون أموراً تخالف نصوص الشرع ولكن يقولون أن النبي محق، وما قصد بما ذكره إلا صلاح الخلق ولكن لم يقدر على التصريح بالحق لكلال أفهام الخلق عن دركه، وهؤلاء هم الفلاسفة. ويجب القطع بتكفيرهم في ثلاثة مسائل وهي: إنكارهم لحشر الأجساد والتعذيب بالنار، والتنعيم في الجنة بالحور بالعين والمأكول والمشروب والملبوس. والأخرى: قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث وإنما يعلم الكليات، وإنما الجزئيات تعلمها الملائكة السماوية. والثالثة: قولهم إن العالم قديم وإن الله تعالى متقدم على العالم بالرتبة مثل تقدم العلة على المعلول، وإلا فلم تر في الوجود إلا متساويين. وهؤلاء إذا أوردوا عليهم آيات القرآن زعموا أن اللذات العقلية تقصر الأفهام عن دركها، فمثل لهم ذلك باللذات الحسية وهذا كفر صريح، والقول به إبطال لفائدة الشرائع وسد لباب الاهتداء بنور القرآن واستبعاد للرشد من قول الرسل، فإنه إذا جاز عليهم الكذب لأجل المصالح بطلت الثقة بأقوالهم فما من قول يصدر عنهم إلا ويتصور أن يكون كذباً، وإنما قالوا ذلك لمصلحة. فإن قيل: فلم قلتم مع ذلك بأنهم كفرة ؟ قلنا لأنه عرف قطعاً من الشرع أن من كذب رسول الله فهو كافر وهؤلاء مكذبون ثم معالمون للكذب بمعاذير فاسدة وذلك لا يخرج الكلام عن كونه كذباً.

الرتبة الرابعة: المعتزلة والمشبهة والفرق كلها سوى الفلاسفة، وهم الذين يصدقون ولا يجوزون الكذب لمصلحة وغير مصلحة، ولا يشتغلون بالتعليل لمصلحة الكذب بل بالتأويل ولكنهم مخطئون في التأويل، فهؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد. والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وهذه الفرق منقسمون إلى مسرفين وغلاة، وإلى مقتصدين بالإضافة إليهم، ثم المجتهد يرى تكفيرهم وقد يكون ظنه في بعض المسائل وعلى بعض الفرق أظهر. وتفصيل آحاد تلك المسائل يطول ثم يثير الفتن والأحقاد، فإن أكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع تكفير المكذب للرسول، وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلاً ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه، وثبت أن العصمة مستفادة من قول لا إله إلا الله قطعاً، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع. وهذا القدر كاف في التنبيه على أن إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان فإن البرهان إما أصل أو قياس على أصل، والأصل هو التكذيب الصريح ومن ليس بمكذب فليس في معنى الكذب أصلاً فيبقى تحت عموم العصمة بكلمة الشهادة. الرتبة الخامسة: من ترك التكذيب الصريح ولكن ينكر أصلاً من أصول الشرعيات المعلومة بالتواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقول القائل: الصلوات الخمس غير واجبة، فإذا قرئ عليه القرآن والأخبار قال: لست أعلم صدر هذا من رسول الله، فلعله غلط وتحريف. وكمن يقول: أنا معترف بوجوب الحج ولكن لا أدري أين مكة وأين الكعبة، ولا أدري أن البلد الذي تستقبله الناس ويحجونه هل هي البلد التي حجها النبي عليه السلام ووصفها القرآن. فهذا أيضاً ينبغي أن يحكم بكفره لأنه مكذب ولكنه محترز عن التصريح، وإلا فالمتواترات تشترك في دركها العوام والخواص وليس بطلان ما يقوله كبطلان مذهب المعتزلة فإن ذلك يختص لدركه اؤلوا البصائر من النظار إلا أن يكون هذا الشخص قريب العهد بالاسلام ولم يتواتر عنده بعد هذه الأمور فيمهله إلى أن يتواتر عنده، ولسنا نكفره لأنه أنكر أمراً معلوماً بالتواتر، وإنه لو أنكر غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة أو أنكر نكاحه حفصة بنت عمر، أو أنكر وجود أبي بكر وخلافته لم يلزم تكفيره لأنه ليس تكذيباً في أصل من أصول الدين مما يجب التصديق به بخلاف الحج والصلاة وأركان الإسلام، ولسنا نكفره بمخالفة الاجماع، فإن لنا نظرة في تكفير النظام المنكر لأصل الاجماع، لأن الشبه كثيرة في كون الاجماع حجة قاطعة وإنما الاجماع عبارة عن التطابق على رأي نظري وهذا الذي نحن فيه تطابق على الأخبار غير محسوس، وتطابق العدد الكبير على الأخبار غير محسوس على سبيل التواتر الموجب للعلم الضروري، وتطابق أهل الحق والعقد على رأي واحد نظري لا يوجب العلم إلا من جهة الشرع ولذلك لا يجوز أن يستدل على حدوث العالم بتواتر الأخبار من النظار الذين حكموا به، بل لا تواتر إلا في المحسوسات. الرتبة السادسة: أن لا يصرح بالتكذيب ولا يكذب أيضاً أمراً معلوماً على القطع بالتواتر من أصول الدين ولكن منكر ما علم صحته إلا الاجماع، فأما التواتر فلا يشهد له كالنظام مثلاً، إذ أنكر كون الاجماع حجة قاطعة في أصله. وقال: ليس يدل على استحالة الخطأ على أهل الاجماع دليل عقلي قطعي ولا شرعي متواتر لا يحتمل التأويل، فكلما تستشهد به من الأخبار والآيات له تأويل بزعمه، وهو في قوله خارق لإجماع التابعين؛ فإنا نعلم إجماعهم على أن ما أجمع عليه الصحابة حق مقطوع به لا يمكن خلافه فقد أنكر الإجماع وخرق الإجماع وهذا في محل الاجتهاد، ولي فيه نظر، إذ الاشكالات كثيرة في وجه كون الاجماع حجة فيكاد يكون ذلك الممهد للعذر ولكن لو فتح هذا الباب انجر إلى أمور شنيعة وهو أن قائلاً لو قال: يجوز أن يبعث رسول بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيبعد التوقف في تكفيره ومستند استحالة ذلك عند البحث تستمد من الاجماع لا محالة فإن العقل لا يحيله وما نقل فيه من قوله: لا نبي بعدي ومن قوله تعالى: خاتم النبيين فلا يعجز هذا القائل عن تأويله فيقول: خاتم النبيين أراد به أولي العزم من الرسل، فإن قالوا النبيين عام، فلا يبعد تخصيص العام. وقوله لا نبي بعدي لم يرد به الرسول، وفرق بين النبي والرسول والنبي أعلى رتبة من الرسول إلى غير ذلك من أنواع الهذيان. فهذا وأمثاله لا يمكن أن ندعي استحالته من حيث مجرد اللفظ فإنا في تأويل ظواهر التشبيه قضينا باحتمالات أبعد من هذه ولم يكن ذلك مبطلاً للنصوص، ولكن الرد على هذا القائل أن الأمة فهمت بالإجماع من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً وعدم رسول الله أبداً وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص فمنكر هذا لا يكون إلا منكر الإجماع، وعند هذا يتفرع مسائل متقاربة مشتبكة يفتقر كل واحد منها إلى نظر، والمجتهد في جميع ذلك يحكم بموجب ظنه يقيناً وإثباتاً والغرض الآن تحرير معاقد الأصول التي ياتي عليها التكفير وقد نرجع إلى هذه المراتب السلتة ولا يعترض فرع إلا ويندرج تحت رتبة من هذه الرتب، فالمقصود التأصيل دون التفصيل. فإن قيل: السجود بين يدي الصنم كفر، وهو فعل مجرد لا يدخل تحت هذه الروابط، فهل هو أصل آخر ؟ قلنا: لا، فإن الكفر في اعتقاده تعظيم الصنم، وذلك تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ولكن يعرف اعتقاده تعظيم الصنم تارة بتصريح لفظه، وتارةً بالإشارة إن كان أخرساً، وتارة بفعل يدل عليه دلالة قاطعة كالسجود حيث لا يحتمل أن يكون السجود لله وإنما الصنم بين يديه كالحائط وهو غافل عنه أو غير معتقد تعظيمه، وذلك يعرف بالقرائن. وهذا كنظرنا أن الكافر إذا صلى بجماعتنا هل يحكم باسلامه، أي هل يستدل على اعتقاد التصديق ؟ فليس هذا إذن نظراً خارجاً عما ذكرناه. ولنقتصر على هذا القدر في تعريف مدارك التكفير وإنما أوردناه من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا له والمتكلمون لم ينظروا فيه نظراً فقهياً، إذ لم يكن ذلك من فنهم، ولم ينبه بعضهم بها لقرب المسألة من الفقهيات، لأن النظر في الأسباب الموجبة للتكفير من حيث أنها أكاذيب وجهالات نظر عقلي، ولكن النظر من حيث أن تلك الجهالات مقتضية بطلان العصمة وإنما الخلود في النار نظر فقهي وهو المطلوب.

ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد وحذفنا الحشو والفضول المستغنى عنه، الخارج من أمهات العقائد، وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه على الجلي الواضح الذي لا تقصر أكثر الأفهام عن دركه، فنسأل الله تعالى ألا يجعله وبالاً علينا، وأن يضعه في ميزان الصالحات إذا ردت إلينا أعمالنا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً آمين.