كتاب أسرار الزكاة - الفصل الرابع: في صدقة التطوع وفضلها وآداب أخذها وإعطائها

الفصل الرابع

في صدقة التطوع وفضلها وآداب أخذها وإعطائها

بيان فضيلة الصدقة

من الأخبار: قوله صلى الله عليه وسلم "تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار" وقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقال صلى الله عليه وسلم "ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً إلا كان اللهه آخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبغل الثمرة مثل أحد" وقال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبههم منه بمعروف" وقال صلى الله عليه وسلم "كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس" وقال صلى الله عليه وسلم "الصدقة تسد سبعين باباً من الشر" وقال صلى الله عليه وسلم "صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما الذي أعطى من سعة بأفضل أجراً من الذي يقبل من حاجة" ولعل المراد به الذي يقصد من دفع حاجته التفرغ للدين فيكون مساوياً للمعطي الذي يقصد بإعطائه عمارة دينه. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفاقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" وقد قال صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه "تصدقوا فقال رجل إن عندي ديناراً فقال أنفقه على نفسك فقال: إن عندي آخر قال أنفقه على زوجتك قال إن عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال إن عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال إن عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم أنت أبصر به" وقال صلى الله عليه وسلم "لا تحل الصدقة لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" وقال "ردوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام" وقال صلى الله عليه وسلم "لو صدق السائل ما أفلح من رده" وقال عيسى عليه السلام. من رد سائلاً خائباً من بيته لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام وكان نبينا صلى الله عليه وسلم لا يكل خصلتين إلى غيره كان يضع طهوره بالليل ويخمره وكان يناول المسكين بيده" وقال صلى الله عليه وسلم "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافاً" وقال صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يكسو مسلماً غلا كان في حفظ الله عز وجل مادامت عليه منه رقعة". الآثار: قال عروة بن الزبير لقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفاً وإن درعها لمرقع وقال مجاهد في قول الله عز وجل "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" فقال: وهم يشتهونه وكان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا. وقال عمر عبد العزيز: الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه. وقال ابن أبي الجعد: إن الصدقة لتدفع سبعين باباً من السوء وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضفعاً وإنها لتفك لحيى سبعين شيطاناً. وقال ابن مسعود: إن رجلاً عبد الله سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط عمله ثم مر بمسكين فتصدق عليه برغيف فغفر الله له ذنبه ورد عليه عمل السبعين سنة. وقال لقمان لابنه: إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة. وقال يحيى بن معاذ ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان يقال ثلاثة من كنوز الجنة كتمان المرض وكتمان الصدقة وكتمان المصائب. وروى مسنداً وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة أنا أفضلكن. وكان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكر ويقول سمعت الله يقول "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" والله يعلم أني أحب السكر. وقال النخعي: إذا كان الشيء لله عز وجل لا يسرني أن يكون فيه عيب. وقال عبيد بن عمير: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط وأعطش ما كانوا قط وأعرى ما كانوا قط، فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله، وقال الحسن: لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ولكنه ابتلى بعضكم ببعض. وقال الشعبي: من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه. وقال مالك: لا نرى بأساً بشرب المؤمن من الماء الذي يتصدق به ويسقى في المسجد لأنه إنما جعل للعطشان من كان، ولم يرد به أهل الحاجة والمسكنة على الخصوصويقال: إن الحسن مر به نخاس ومعه جارية فقال للنخاس أترضى في ثمنها الدرهم والدرهمين؟ قال: لا، قال فاذهب فإن الله عز وجل رضي في الحور العين بالفلس واللقمة.

بيان إخفاء الصدقة وإظهارها قد اختلف طريق طلاب الإخلاص في ذلك فمال قوم إلى أن الإخفاء أفضل ومال قوم إلى أن الإظهار أفضل ونحن نشير إلى ما في كل واحد من المعاني والآفات ثم نكشف الغطاء عن الحق فيه.
أما الإخفاء ففيه خمسة معان الأول أنهه أبقى للستر على الآخذ فإن أخذه ظاهراً هتك لستر المروءة وكشف عن الحاجة وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف. الثاني أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم فإنهم ربما يحسدون أن ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه آخذ مع الاستغناء أو ينسبونه إلى أخذ زيادة. والحسد وسوء الظن والغيبة من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى. وقال أبو أيوب السختياني: إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسداً. وقال بعض الزهاد: ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين له هذا؟ وعن إبراهيم التيمي: أنه رؤي عليه قميص جديد فقال بعض إخوانه من أين لك هذا؟ فقال كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أن أهله علموا به ما قبلته. الثالث إعانة المعطي على إسرار العمل فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر والإعانة على إتمام المعروف معروف، والكتمان لا يتم إلا باثنين فمهما أظهر هذا انكشف أمر المعطي. ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فرده إليه ودفع إليه آخر شيئاً في السر فقبله، فقيل له في ذلك فقال: إن هذا عمل الأدب في إخفاء معروفه فقبلته وذاك أساء أدبه في عمله فرددته عليه وأعطى رجل لبعض الصوفية شيئاً في الملأ فرده فقال له: لم ترد على الله عز وجل ما أعطاك؟ فقال: إنك أشركت غير الله سبحانه فيما كان لله تعالى ولم تقنع بالله عز وجل فرددت عليك شركك. وقبل بعض العارفين في السر شيئاً كان رده في العلانية فقيل له في ذلك؛ فقال عصيت الله بالجهر فلم أك عوناً لك على المعصية وأطعته بالإخفاء فأعنتك على برك. وقال الثوري: لو علمت أن أحدهم لا يذكر صدقة ولا يتحدث بها لقبلت صدقته. الرابع أن في إظهار الأخذ ذلاً وامتهاناً وليس للمؤمن أن يذل نفسه. كان بعض العلماء يأخذ في السر ولا يأخذ في العلانية ويقول: إن في إظهاره إذلالاً للعلم وامتهاناً لأهله فما كنت بالذي أرفع شيئاً من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله الخامس الاحتراز عن شبهة الشركة قال صلى الله عليه وسلم "من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها" وبأن يكون ورقاً أو ذهباً لا يخرج عن كونه هدية قال صلى الله عليه وسلم "أفضل ما يهدي الرجل إلى أخيه ورقاً أو يطعمه خبزاً" فجعل الورق هدية بانفراده فما يعطى في الملأ مكروه إلا برضا جميعهم ولا يخلو عن شبهة، فإذا انفرد سلم من هذه الشبهة. أما الإظهار والتحدث به ففيه معان أربعة الأول الإخلاص والصدق والسلامة عن تلبيس الحال والمراءاة والثاني إسقاط الجاه والمنزلة وإظهار العبودية والمسكنة والتبري عن الكبرياء ودعوى الاستغناء وإسقاط النفس من أعين الخلق. قال بعض العارفين لتلميذه: أظهر الأخذ على كل حال إن كنت آخذ فإنك لا تخلو عن أحد رجلين: رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو المراد لأنه أعلم لدينك وأقل لآفات نفسك، أو رجل تزداد في قلبه بإظهارك الصدق فذلك الذي يريده أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيد ثوابه. الثالث هو أن العارف لا نظر له إلا إلى الله عز وجل والسر والعلانية في حقه واحد فاختلاف الحال شرك في التوحيد. قال بعضهم: كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السر ويرد في العلانية. والالتفات إلى الخلق حضروا أم غابوا نقصان في الحال، بل ينبغي أن يكون النظر مقصور على الواحد الفرد. حكي أن بعض الشيوخ كان كثير الميل إلى واحد من جملة المريدين فشق على الآخرين فأراد أن يظهر لهم فضيلة ذلك المريد، فأعطى كل واحد منهم دجاجة وقال: لينفرد كل واحد منكم بها وليذبحها حيث لا يراه أحد. فانفرد كل واحد وذبح إلا ذلك المريد فإنه رد الدجاجة، فسألهم فقالوا: فعلنا ما أمرنا به الشيخ، فقال الشيخ للمريد: مالك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال ذلك المريد. لم أقدر على مكان لا يراني فيه أحد فإن الله يراني في كل موضع، فقال الشيخ: لهذا أميل إليه لأنه لا يلتفت لغير الله عز وجل. الرابع أن الإظهار إقامة لسنة الشكر وقد قال تعالى "وأما بنعمة ربك فحدث" والكتمان كفران النعمة وقد ذم الله عز وجل من كتم ما آتاه الله عز وجل وقرنه بالبخل فقال تعالى "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" وقال صلى الله عليه وسلم "إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته عليه" وأعطى رجل بعض الصالحين شيئاً في السر فرفع به يده وقال: هذا من الدنيا والعلانية فيها أفضل والسر في أمور الآخرة أفضل. ولذلك قال بعضهم. إذا أعطيت في الملأ فخذ ثم اردد في السر والشكر فيه محثوث عليه. قال صلى الله عليه وسلم "من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل" والشكر قائم مقام المكافأة حتى قال صلى الله عليه وسلم "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيراً وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه" ولما قال المهاجرون في الشكر "يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عندهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال صلى الله عليه وسلم كل ما شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به فهو مكافأة".فالآن إذا عرفت هذه المعاني فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافاً في المسئلة بل هو اختلاف حال، فكشف الغطاء في هذا أنا لا نحكم حكماً بتاً بأن الإخفاء أفضل في كل حال أو الإظهار أفضل بل يختلف ذلك باختلاف النيات وتختلف النيات باختلاف الأحوال والأشخاص. فينبغي أن يكون المخلص مراقباً لنفسه حتى لا يتدلى بحبل الغرور ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان والمكر والخداع أغلب في معاني الإخفاء منه في الإظهار مع أن له دخلاً في كل واحد منهما. فأما مدخل الخداع في الإسرار فمن ميل الطبع إليه لما فيه من في خفض الجاه والمنزلة وسقوط القدر عن أعين الناس ونظر الخلق إليه بعين الازدراء وإلى المعطي بعين المنعم المحسن فهذا هو الداء الدفين ويستكن في النفس. والشيطان بواسطته يظهر معاني الخير حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها. ومعيار كل ذلك ومحكه أمر واحد وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه الصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض نظرائه وأمثاله، فإنه إن كان يبغي صيانة الناس عن الغيبة والحسد وسوء الظن أو يتقي انتهاك الستر أو إعانة المعطي على الإسرار أو صيانة العلم عن الابتذال فكل ذلك مما يحصل بانكشاف صدقة أخيه، فإن كان انكشاف أمره أثقل عليه من انكشاف أمر غيره فتقديره الحذر من هذه المعاني أغاليظ وأباطيل من مكر الشيطان وخدعه، فإن إذلال العلم محذور من حيث إنه علم لا من حيث إنه علم زيد أو علم عمرو. والغيبة محذورة من حيث إنها تعرض لعرض مصون لا من حيث إنها تعرض لعرض زيد على الخصوص ومن أحسن من ملاحظة مثل هذا ربما يعجز الشيطان عنه وإلا فلا يزال كثير العمل قليل الحظ. وأما جانب الإظهار فميل الطبع إليه من حيث إنه تطييب لقلب المعطي واستحثاث له على مثله وإظهاره عند غيره أنه من المبالغين في الشكر حتى يرغبوا في إكرامه وتفقده وهذا داء دفين في الباطن، والشيطان لا يقدر على المتدين إلا بأن يروج عليه هذا الخبث في معرض السنة ويقول له الشكر من السنة والإخفاء من الرياء ويورد عليه المعاني التي ذكرناها ليحمله على الإظهار وقصده الباطن ما ذكرناه ومعيار ذلك ومحكه أن ينظر إلى ميل نفسه إلى الشكر حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه؛ وبين يدي جماعة يكرهون إظهار العطية ويرغبون في إخفائها وعادتهم أنهم لا يعطون غلا من يخفي ولا يشكر. فإن استوت هذه الأحوال عنده فليعلم أن باعثه هو إقامة السنة في الشكر والتحدث بالنعمة وإلا فهو مغرور. ثم إذا علم أن باعثه السنة في الشكر فلا ينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي فينظر فإن كان هو ممن يحب الشكر والنشر فينبغي أن يخفى ولا يشكر، لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم. وإذا علم من حاله أنه لا يحب الشكر ولا يقصده فعند ذلك يشكره ويظهر صدقته. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي مدح بين يديه "ضربتم عنقه لو سمعها ما أفلح" مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يثني على قوم في وجوههم لثقته بيقينهم وعلمه بأن ذلك لا يضرهم بل يزيد في رغبتهم في الخير فقال لواحد "إنه سيد أهل الوبر" وقال صلى الله عليه وسلم في آخر "إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه" وسمع كلام رجل فأعجبه فقال صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحراً" وقال صلى الله عليه وسلم "إذا علم أحدكم من أخيه خيراً فليخبره فإنه يزداد رغبة في الخير" وقال صلى الله عليه وسلم "إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه" وقال الثوري: من عرف نفسه لم يضره مدح الناس. وقال أيضاً ليوسف بن أسباط: إذا أوليتك معروفاً كنت أنا أسر به منك ورأيت ذلك نعمة من الله عز وجل علي فاشكر وإلا فلا تشكر. ورقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يراعي قلبه فإن أعمال الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماته له لكثرة التعب وقلة النفع، ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه: إن تعلم مسألة واحدة منه أفضل من عبادة سنة إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمل وبالجهل به تموت عبادة العمل كله وتتعطل. وعلى الجملة فالأخذ في الملأ والرد في السر أحسن المسالك وأسلمها، فلا ينبغي أن يدفع بالتزويقات إلا أن تكمل المعرفة بحيث يستوي السر والعلانية وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يتحدث به ولا يرى. نسأل الله الكريم حسن العون والتوفيق. بيان الأفضل من أخذ الصدقة أو الزكاة كان إبراهيم الخواص والجنيد وجماعة يرون أن الأخذ من الصدقة أفضل فإن في أخذ الزكاة مزاحمة للمساكين وتضييقاً عليهم ولأنه ربما لا يكمل في أخذه صفة الاستحقاق كما وصف في الكتاب العزيز وأما الصدقة فالأمر فيها أوسع. وقال قائلون: بأخذ الزكاة دون الصدقة لأنها إعانة على الواجب. ولو ترك المساكين كلهم أخذ الزكاة لأثموا: ولأن الزكاة لا منة فيها وإنما هو حق واجب لله سبحانه رزقاً لعباده المحتاجين. ولأنه أخذ بالحاجة والإنسان يعلم حاجة نفسه قطعاً. وأخذ الصدقة أخذ بالدين فإن الغالب أن المتصدق يعطي من يعتقد فيه خيراً؛ ولأن مرافقة المساكين أدخل في الذل والمسكنة وأبعد من التكبر؛ إذ قد يأخذ الإنسان الصدقة في معرض الهدية فلا تتميز عنه؛ وهذا تنصيص على ذل الآخذ وحاجته. والقول الحق في هذا يختلف بأحوال الشخص وما يغلب عليه وما يحضره من النية فإن كان في شبهة من اتصافه بصفة الاستحقاق فلا ينبغي أن يأخذ الزكاة. فإذا علم أنه مستحق قطعاً إذا حصل عليه دين صرفه إلى خير وليس له وجه في قضائه فهو مستحق قطعاً. إذا خير هذا بين الزكاة وبين الصدقة فإذا كان صاحب الصدقة لا يتصدق بذلك المال لو لم يأخذه هو فليأخذ الصدقة؛ فإن الزكاة الواجبة يصرفها صاحبها إلى مستحقها ففي ذلك تكثير للخير وتوسيع على المساكين. وإن كان المال معرضاً للصدقة ولم يكن في أخذ الزكاة تضييق على المساكين فهو مخير والأمر فيهما يتفاوت. وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس وإذلالها في أغلب الأحوال والله أعلم.

كمل كتاب أسرار الزكاة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه؛ ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصوم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة والمقربين من أهل السموات والأرضين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.