كتاب أسرار الصوم - الفصل الأول: في الواجبات والسنن الظاهرة واللوازم بإفساده

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه؛ إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وإن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، والصلاة على محمد قائد الخلق وممهد السنة وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة والعقول المرجحنة وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم "الصوم نصف الصبر" وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم "الصبر نصف الإيمان" ثم هو متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم "كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" وقد قال الله تعالى "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" والصوم نصف الصبر فقفد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب وناهيك في معرفة فضله قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يقول الله عز وجل إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجلي فالصوم لي وأنا أجزي به" وقال صلى الله عليه وسلم "للجنة باب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون وهو موعود بلقاء الله تعالى في جزء صومه" وقال صلى الله عليه وسلم "للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه" وقال صلى الله عليه وسلم "لكل شيء باب وباب العبادة الصوم" وقال صلى الله عليه وسلم "نوم الصائم عبادة" وروي أبو هريرة رضي الله عنه "أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ونادى مناد يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر" وقال وكيع في قوله تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" هي أيام الصيام إذ تركوا فيها الأكل والشرب وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رتبة المباهاة بين الزهد في الدنيا وبين الصوم فقال "إن الله تعالى يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: أيها الشاب التارك شهوته لأجلي المبذل شبابه لي أنت عندي كبعض ملائكتي" وقال صلى الله عليه وسلم في الصائم "يقول الله عز وجل: انظروا يا ملائكتي إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي" وقيل في قوله تعالى "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" قيل كان عملهم الصيام لأنه قال "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغاً ويجازف جزافاً فلا يدخل تحت وهم وتقدير، وجدير بأن يكون كذلك لأن الصوم إنما كان له ومشرفاً بالنسبة إليه وإن كانت العبادات كلها له كما شرف البيت بالنسبة إلى نفسه والأرض كلها له لمعنيين؛ أحدهما: أن الصوم كف وترك وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد. وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى والصوم لا يراه إلا الله عز وجل فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد.

والثاني: أنه قهر لعدو الله عز وجل فإن وسيلة الشيطان لعنة الله الشهوات؛ وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع" ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها "داومي قرع باب الجنة؛ قالت: بماذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: بالجوع" - وسيأتي فضل الجوع في كتاب: شره الطعام - وعلاجه من ربع المهلكات - فلما كان الصوم على الخصوص قمعاً للشيطان وسداً لمسالكه وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل ففي قمع عدو الله نصرة لله سبحانه وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له قال الله تعالى "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" فالبداية بالجهد من العبد والجزاء بالهداية من الله عز وجل ولذلك قال تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وإنما التغير تكثير الشهوات فهي مرتع الشياطين ومرعاهم فما دامت مخصبة لم ينقطع ترددهم وما داموا يترددون لم ينكشف للعبد جلال الله سبحانه وكان محجوباً عن لقائه. وقال صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فمن هذا الوجه صار الصوم باب العبادة وصار جنة  وإذا عظمت فضيلته إلى هذا الحد فلابد من بيان شروطه الظاهرة والباطنة بذكر أركانه وسننه وشروطه الباطنة، ونبين ذلك بثلاثة فصول.

الفصل الأول

في الواجبات والسنن الظاهرة واللوازم بإفساده

أما الواجبات الظاهرة فستة:

الأول مراقبة أول شهر رمضان وذلك برؤية الهلال فإن غم فاستكمال ثلاثين يوماً من شعبان. ونعني بالرؤية العلم ويحصل ذلك بقول عدل واحد. ولا يثبت هلال شوال إلا بقول عدلين احتياطاً للعبادة. ومن سمع عدلاً ووثق بقوله وغلب على ظنه صدقه لزمه الصوم وإن لم يقض القاضي به فليتبع كل عبد في عبادته موجب ظنه، وإذا رؤي الهلال ببلدة ولم ير بأخرى وكان بينهما أقل من مرحلتين وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب الثاني النية: ولابد لكل ليلة من نية مبينة معينة جازمة فلو نوى أن يصوم شهر رمضان دفعة واحدة لم يكفه، وهو الذي عنينا بقولنا بيتة ولو نوى الصوم مطلقاً أو الفرض مطلقاً لم يجزه حتى ينوي فريضة الله عز وجل صوم رمضان ولو نوى ليلة الشك أن يصوم غداً إن كان من رمضان لم يجزه فإنها ليست جازمة إلا أن تستند نيته إلى قول شاهد عدل، واحتمال غلط العدل أو كذبه لا يبطل الجزم أو يستند إلى استصحاب حال كالشك في الليلة الأخيرة من رمضان، فذلك لا يمنع جزم النية أو يستند إلى اجتهاد كالمحبوس في المطمورة إذا غلب على ظنه دخول رمضان باجتهاده فشكه لا يمنعه من النية. ومهما كان شاكاً ليلة الشك لم ينفعه جزمه النية باللسان فإن النية محلها القلب. ولا يتصور فيه جزم القصد مع الشك كما لو قال في وسط رمضان: أصوم غداً إن كان من رمضان فإن ذلك لا يضره لأنه ترديد لفظه ومحل النية لا يتصور فيه تردد بل هو قاطع بأنه من رمضان: ومن نوى ليلاً ثم أكل لم تفسد نيته ولو نوت امرأة في الحيض ثم طهرت قبل الفجر صح صومها الثالث الإمساك عن إيصال شيء إلى الجوف عمداً مع ذكر الصوم فيفسد صومه بالأكل والشرب والسعوط والحقنة. ولا يفسد بالفصد والحجامة والاكتحال وإدخال الميل في الأذن والإحليل إلا أن يقطر فيه ما يبلغ المثانة وما يصل بغير قصد من غبار الطريق أو ذبابة تسبق إلى جوفه أو ما يسبق إلى جوفه في المضمضة، فلا يفطر إلا إذا بالغ في المضمضة فيفطر لأنه مقصر وهو الذي أردنا بقولنا عمادً فأما ذكر الصوم فأردنا به الاحتراز عن الناسي فإنه لا يفطر. أما من أكل عامداً في طرفي النهار ثم ظهر له أنه أكل نهاراً بالتحقيق فعليه القضاء. وإن بقي على حكم ظنه واجتهاده فلا قضاء عليه ولا ينبغي أن يأكل في طرفي النهار إلا بنظر واجتهاد. الرابع الإمساك عن الجماع: وحده مغيب الحشفة وإن جامع ناسياً لم يفطر وإن جامع ليلاً أو احتلم فأصبح جنباً لم يفطر وإن طلع الفجر وهو مخالط أهله فنزع في الحال صح صومه فإن صبر فسد ولزمته الكفارة. الخامس الإمساك عن الاستمناء: وهو إخراج المني قصداً بجماع أو بغير جماع فإن ذلك يفطر ولا يفطر بقبلة زوجته ولا بمضاجعتها ما لم ينزل لكن يكره ذلك إلا أن يكون شيخاً أو مالكاً لإربه، فلا بأس بالتقبيل وتركه أولى. وإذا كان يخاف من التقبيل أن ينزل فقبل وسبق المني أفطر لتقصيره. السادس الإمساك عن إخراج القيء فالاستقاء يفسد الصوم وإن ذرعه القيء لم يفسد صومه، وإذا ابتلع نخامة حلقه أو صدره لم يفسد صومه رخصة لعموم البلوى به إلا أن يبتلعه بعد وصوله إلى فيه فإنه يفطر عند ذلك.

وأما لوازم الإفطار فأربعة

القضاء والكفارة والفدية وإمساك بقية النهار تشبيهاً بالصائمين. أما القضاء: فوجوبه عام على كل مسلم مكلف ترك الصوم بعذر أو بغير عذر، فالحائض تقضي الصوم وكذا المرتد. وأما الكافر والصبي والمجنون فلا قضاء عليهم ولا يشترط التتابع في قضاء رمضان ولكن يقضي كيف شاء متفرقاً ومجموعاً.

وأما الكفارة: فلا تجب إلا بالجماع. وأما الاستمناء والأكل والشرب وما عدا الجماع لا يجب به كفارة فالكفارة عتق رقبة فإن أعسر فصوم شهرين متتابعين وإن عجز فإطعام ستين مسكيناً مداً مداً. وأما إمساك بقية النهار: فيجب على من عصى بالفطر أو قصر فيه. ولا يجب على الحائض إذا طهرت إمساك بقية نهارها ولا على المسافر إذا قدم مفطراً من سفر بلغ مرحلتين. ويجب الإمساك إذا شهد بالهلال عدل واحد يوم الشك. والصوم في السفر أفضل من الفطر إلا إذا لم يطق ولا يفطر يوم يخرج وكان مقيماً في أوله ولا يوم يقدم إذا قدم صائماً.
وأما الفدية: فتجب على الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما، لكل يوم مد حنطة لمسكين واحد مع القضاء والشيخ الهرم إذا لم يصم تصدق عن كل يوم مداً.

وأما السنن فست: تأخير السحور؛ وتعجيل الفطر بالتمر أو الماء قبل الصلاة، وترك السواك بعد الزوال، والجود في شهر رمضان لما سبق من فضائله في الزكاة، ومدارسة القرآن، والاعتكاف في المسجد، لاسيما في العشر الأخير فهو عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا دخل العشر الأواخر طوى الفراش وشد المئزر ودأب وأدأب أهله" أي أداموا النصب في العبادة إذ فيها ليلة القدر والأغلب أنها في أوتارها وأشبه الأوتار ليلة إحدى وثلاث وخمس وسبع. والتتابع في هذا الاعتكاف أولى فإن نذر اعتكافاً متتابعاً أو نواه انقطع تتابعه بالخروج من غير ضرورة؛ كما لو خرج لعيادة أو شهادة أو جنازة أو زيارة أو تجديد طهارة، وإن خرج لقضاء الحاجة لم ينقطع. وله أن يتوضأ في البيت. ولا ينبغي أن يعرج على شغل آخر "كان صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا يسأل عن المريض إلا ماراً" ويقطع التتابع بالجماع ولا ينقطع بالتقبيل. ولابأس في المسجد بالطيب وعقد النكاح وبالأكل والنوم وغسل اليد في الطست فكل ذلك قد يحتاج إليه في التتابع. ولا ينقطع التتابع بخروج بعض بدنه "كان صلى الله عليه وسلم يدني رأسه فترجله عائشة رضي الله عنها وهي في الحجرة" ومهما خرج المعتكف لقضاء حاجته فإذا عاد ينبغي أن يستأنف النية إلا إذا كان قد نوى أولاً عشرة أيام مثلاً. والأفضل مع ذلك التجديد.