كتاب آداب العزلة - الباب الأول: في نقل المذاهب والأقاويل

وهو الكتاب السادس من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أعظم النعمة على خيرة خلقه وصفوته بأن صرف هممهم إلى مؤانسته، وأجزل حظهم من التلذذ بمشاهدة آلائه وعظمته، ورّوح أسرارهم بمناجاته وملاطفته، وحقر في قلوبهم النظر الى متاع الدنيا وزهرتها حتى اغتبط بعزلته كل من طويت الحجب عن مجاري فكرته فاستأنس بمطالعة سبحات وجهه تعالى في خلوته، واستوحش بذلك عن الأنس بالأنس وإن كان من أخص خاصته والصلاة على سيدنا محمد سيد أنبيائه وخيرته وعلى آله وصحابته سادة الحق وأئمته.

أما بعد:فإن للناس اختلافاً كثيراً في العزلة والمخالطة وتفضيل إحداهما على الأخرى،ومع أن كل واحدة منهما لا تنفك عن غوائل تنفر عنها وفوائد تدعو الى إليها، وميل أكثر العباد والزهاد الى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة وما ذكرناه في كتاب الصحبة من فضيلة المخالطة والمؤاخاة والمؤالفة يكاد يناقض ما مال إليه الأكثرون من اختيار الإستيحاش والخلوة، فكشف الغطاء عن الحق في ذلك مهم. ويحصل ذلك برسم بابين "الباب الأول" في نقل المذاهب والحجج فيها "الباب الثاني" في كشف الغطاء عن الحق بحصر الفوائد والغوائل .

الباب الأول

في نقل المذاهب والأقاويل

وذكر حجج الفريقين في ذلك

أما المذاهب فقد اختلف فيها وظهر هذا الاختلاف بين التابعين.فذهب الى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة: سفيان الثوري، وابراهيم بن أدهم، وداود الطائي، وفضيل بن عياض، وسليمان الخوّاص، ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي، وبشر الحافي .

وقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان والتألف والتحبب إلى المؤمنين والإستعانة بهم في الدين تعاونا على البر و التقوى ومال الى هذا:سعيد بن المسيب،والشعبي،وابن أبي ليلى،وهشام بن عروة، وابن شبرمة، وشريح،وشريك بن عبد الله،و ابن عيينة، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وجماعة. والمأثور عن العلماء من الكلمات ينقسم الى كلمات مطلقة تدل إلى أحد الرأيين،والى كلمات مقرونة بما يشير الى علة الميل.فلنقل الآن مطلقات تلك الكلمات لنبين المذاهب فيها،وما هو مقرون بذكر العلة نورده عند التعرض للغوائل والفوائد،فنقول؛ قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: خذو بحظكم من العزلة. وقال ابن سيرين: العزلة عبادة. وقال الفضيل: كفى بالله محباً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظاً. وقيل: اتخذ الله صاحباً ودع الناس جانباً.وقال أبو ربيع الزاهد لداود الطائي:عظني؛قال:صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفرّ من الناس فرارك من الأسد. وقال الحسن رحمه الله: كلمات أحفظهن من التوراة؛قنع ابن آدم فاستغنى، اعتزل الناس فسلم،ترك الشهوات فصار حراً، وترك الحسد فظهرت مروءته، صبر قليلاً فتمتع طويلاً. وقال وهيب ابن الورد. بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء،تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس. وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار: ما أصبرك على الوحدة؟ - وقد كان لزم البيت - فقال: كنت وأنا شاب أصبر على أكثر من هذا؛ كنت أجالس الناس ولا أكلمهم.وقال سفيان الثوري: هذا وقت السكوت وملازمة البيوت.وقال بعضهم: كنت في سفينة ومعنا شاب من العلوية فمكث معنا سبعاً لا نسمع له كلاماً؛فقلنا له:يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا، فأنشأ يقول :  

قليل الهـم لا ولـد يمـوت

 

ولا أمـر يحـاذره يفـوت

قضى وطر الصبا وأفاد علماً

 

فغايته التفرّد و السـكـوت

وقال إبراهيم النخعي لرجل تفقه ثم اعتزل،وكذا قال الربيع بن خثيم. وقيل كان مالك بن أنس يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم فترك ذلك واحداً واحداً حتى تركها كلها،وكان يقول:لا يتهيأ للمرء أن يخبر كل عذر له.وقيل لعمر بن عبد العزيز: لو تفرغت لنا؟ فقال:ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى وقال الفضيل: إني لأجد للرجل عندي يداً: إذا لقيني أن لايسلم علي،وإذا مرضت أن لايعودني. وقال أبو سليمان الداراني،بينما الربيع ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك جهته فشجه، فجعل يمسح الدم ويقول: لقد وعظت يا ربيع، فقام ودخل داره فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى أخرجت جنازته.وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيا المدينة لجمعة ولا لغيرها حتى ماتا بالعقيق.وقال يوسف بن إسباط: سمعت سفيان الثوري يقول،والله الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة وقال بشر بن عبد الله:أقل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما يكون يوم القيامة،فإن تكن فضيحة كان من يعرفك قليلاً.ودخل بعض الأمراء على حاتم الأصم فقال له: ألك حاجة؟ قال نعم،قال:وما هي؟ قال أن لا تراني ولا أراك ولا تعرفني. وقال رجل لسهل: أريد أن اصحبك، فقال:إذا مات أحدنا فمن يصحب الآخر؟قال:الله قال:فليصحبه الآن.وقيل للفضيل:إن علياً ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس ولايروني؛ فبكى الفضيل وقال:ياويح على أفلاً أتمها فقال لا أراهم ولا يروني؟ وقال الفضيل أيضاً:من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل المجالس مجلس في قعر بيتك لا ترى ولا ترى.فهذه أقاويل المائلين الى العزلة .

ذكر حجج المائلين إلى المخالطة ووجه ضعفها

احتج هؤلاء بقوله تعالى "ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" الآية وبقوله تعالى "فألف بين قلوبكم" أمتن على الناس بالسبب المؤلف وهذا ضعيف؛ لأن المراد به تفرّق الآراء واختلاف المذاهب في معاني كتاب الله وأصول الشريعة. والمراد بالألفة نزع الغوائل من الصدور وهي الأسباب المثيرة للفتن المحركة للخصومات، والعزلة لا تنافى ذلك .

واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وسلم "المؤمن ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" وهذا ضعيف لأنه إشارة إلى مذمة سوء الخلق تمتنع بسببه المؤالفة،ولا يدخل تحته الحسن الخلق الذي إن خالط ألف وألف ولكنه ترك المخالطة اشتغالا بنفسه وطلبا للسلامة من غيره .

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "من فارق الجماعة شبرا خلع ربقة الإسلام من عنقه" وقال  "من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية" وبقوله صلى الله عليه وسلم "من شق عصا المسلمين والمسلمون في إسلام دامج فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" وهذا ضعيف لأن المراد به الجماعة التي اتفقت آراؤهم على إمام بعقد البيعة فالخروج عليهم بغى، وذلك مخالفة بالرأي وخروج عليهم وذلك محظور لاضطرار الخلق إلى إمام مطاع يجمع رأيهم ولا يكون ذلك إلا بالبيعة من الأكثر، فالمخالفة تشويش مثير للفتنة فليس في هذا تعرض للعزلة.

واحتجوا بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الهجر فوق ثلاث إذ قال "من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار" وقال عليه السلام "لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث والسابق بالصلح يدخل الجنة" وقال "من هجر أخاه سنة فهو كسافك دمه" قالوا والعزلة هجره بالكلية. وهذا ضعيف لان المراد به الغضب على الناس واللجاج فيه بقطع الكلام والسلام والمخالطة المعتادة،فلا يدخل فيه ترك المخالطة أصلا من غير غضب. مع أن الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين؛ أحدهما:أن يرى فيه إصلاحا للهجور في الزيادة. الثاني أن يرى لنفسه سلامة فيه. والنهي وان كان عاما فهو محمول على ما وراء الموضعين المخصوصين بدليل ما روى عن عائشة رضى اللّه عنها. أن النبي صلى الله عليه وسلم هجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر.وروى عن عمر :أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا وصعد إلى غرفة له وهى خزانته فلبث تسعا وعشرين يوما؛ فلما نزل قيل له: إنك كنت فيها تسعا وعشرين، فقال "الشهر قد يكون تسعا وعشرين" وروت عائشة رضى الله عنها:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه" فهذا صريح في التخصيص وعلى هذا ينزل قول الحسن رحمه اللّه حيث قال: هجران الأحمق قربة إلى اللّه فإن ذلك يدوم إلى الموت إذ الحماقة لا ينتظر علاجها.وذكر عند محمد بن عمر الواقدي رجل هجر رجلا حتى مات؛ فقال: هذا شئ قدم تقدّم فيه قوم؛ سعد بن أبي وقاص كان مهاجرا لعمار بن ياسر حتى مات،وعثمان بن عفان كان مهاجرا لعبد الرحمن بن عوف وعائشة كانت مهاجرة لحفصة. وكان طاوس مهاجرا لوهب بن منبه حتى ماتا. وكل ذلك يحمل على رؤيتهم سلامتهم في المهاجرة.واحتجوا بما روى: أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجئ به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لا تفعل أنت ولا أحد منكم لصبر أحدكم في بعض موطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عاما" والظاهر أنّ هذا إنما كان لما فيه من ترك الجهاد مع شدة وجوبة في ابتداء الإسلام بدليل ما روى عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه قال: غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء؛ فقال واحد من القوم:لو اعتزلت الناس في هذا الشعب ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال صلى اللّه عليه وسلم"لا تفعل فان مقام أحدكم في سبيل اللّه خير من صلاته في أهله ستين عاما ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم وتدخلون الجنة اغزوا في سبيل اللّه فانه من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة أدخله اللّه الجنة.

واحتجوا بما روى معاذ بن جبل أنه صلى اللّه عليه وسلم قال "ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والناحية والشاردة وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد"وهذا إنما أراد به من اعتزل قبل تمام العلم،وسيأتي بيان ذلك وأن ذلك ينهى عنه إلا لضرورة.

ذكر حجج المائلين إلى تفضيل العزلة

احتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي" الآية ثم قال تعالى" فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً" إشارة إلى أن ذلك ببركة العزلة. وهذا ضعيف لأن مخالطة الكفار لا فائدة فيها إلا دعوتهم الى الدين. وعند اليأس من إجاباتهم فلا وجه إلا هجرهم وإنما الكلام في مخالطة المسلمين وما فيها من بركة لما روي أنه قيل: يا رسول الله اللّه الوضوء من جر مخمن أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يتطهر منها الناس؟ فقال: "بل هذه المطاهر التماساً لبركة أيدي المسلمين" وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت عدل الى زمزم ليشرب منها؛ فإذا التمر المنقع في حياض الأدمة قد مغثه الناس بأيديهم وهم يتناولون منه ويشربون،فاستسقى منه وقال: "أسقوني" فقال العباس: "إن هذا النبيذ شراب قد مغث وخيض بالأيدي أفلا آتيك بشراب أنظف من هذا من جر مخمر في البيت؟ فقال: "أسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس ألتمس بركة أيدي المسلمين" فشرب منه فإذن كيف يستدل باعتزال الكفار والأصنام على اعتزال المسلمين مع كثرة البركة فيهم؟ واحتجوا أيضاً بقول موسى عليه السلام: "وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون" وأنه فزع إلى العزلة عند اليأس منهم وقال تعالى في أصحاب الكهف" وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته"أمرهم بالعزلة.وقد اعتزل بينا صلى اللّه عليه وسلم قريشاً لما آذوه وجفوه ودخل الشعب وامر أصحابه باعتزالهم والهجرة الى أرض الحبشة،ثم تلاحقوا به الى المدينة بعد أن أعلى اللّه كلمته.وهذا أيضاً اعتزال عن الكفار.وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضاً وهم مؤمنون وإنما اعتزلوا الكفار، وإنما النظر في العزلة من المسلمين.

واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لعبد اللّه بن عامر الجهني لما قال: يارسول اللّه ما المناجاة؟ قال "ليسعك بيتك وأمسك عليك لسانك وآبك على خطيئتك" وروي أنه قيل له صلى اللّه عليه وسلم: أي الناس أفضل؟قال"مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه تعالى" قيل: ثم من؟ قال "رجل معتزل في شعبمن الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شرّه" وقال صلى اللّه عليه وسلم "إن اللّه يحب العبد التقي النقي الخفي".

وفي الإحتجاج بهذه الأحاديث نظر،فأما قوله لعبد اللّه بن عامر فلا يمكن تنزيله إلا على ما عرفه صلى اللّه عليه وسلم بنور النبوة من حاله،وإن لزوم البيت كان أليق به وأسلم له من المخالطة، فإنه لم يأمر جميع الصحابة بذلك، ورب شخص تكون سلامته في العزلة لا في المخالطة كما قد تكون سلامته في القعود في البيت وأن لا يخرج الى الجهاد،وذلك لا يدل على أن ترك الجهاد أفضل.وفي مخالطة الماس مجاهدة ومقاساة ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم" الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"وعلى هذا ينزل قوله عليه السلام"رجل معتزل يعبد ربه ويدع الناس من شره"فهذا إشارة الى شرير بطبعه تتأذى الناس بمخالطته. وقوله "إن اللّه يحب التقي الخفي"إشارة الى إيثار الخمول وتوقي الشهرة.وذلك لا يتعلق بالعزلة فكم من راهب معتزل تعرفه كافة الناس؟ وكم من مخالطة خامل لا ذكر له ولا شهرة؟ فهذا تعرض لأمر لا يتعلق بالعزلة.

واحتجوا بما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه "ألا أنبئكم بخير الناس" قالوا:بلا يا رسول اللّه، فأشار بيده نحو المغرب وقال "رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه ينتظر أن يغير أو يغار عليه ألا أنبئكم بخير الناس بعده؟" وأشار بيده نحو الحجاز وقال"رجل في غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعلم حق اللّه في ماله اعتزل شرور الناس" فإذا ظهر أن هذه الأدلة لا شفاء فيها من الجانبين فلا بد من كشف الغطاء بالتصريح بفوائد العزلة وغوائلها ومقايسة بعضها بالبعض ليتبين الحق فيها .