كتاب آداب العزلة - الباب الثاني: في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها

الباب الثاني

في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها

اعلم أن اختلاف الناس في هذا يضاهي اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة. وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده، فكذلك القول فيما نحن فيه. فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم الى فوائد دينية ودنيوية. والدينية تنقسم إلى ما يمكن من تحصيل الطاعات في الخلوة والمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم، وإلى تخلص من إرتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة، كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء. وأما الدنيوية فتنقسم إلى ما يمكن من التحصيل بالخلوة؛كتمكن المحترف في خلوته إلى ما يخلص من محذورات يتعرض لها بالمخالطة، كالنظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة والتأذي بسوء خلق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته. وإلى هذا ترجع مجامع فوائد العزلة فالنحصرها في ست فوائد.

الفائدة الأولى

التفرّغ للعبادة والفكر والإستئناس بمناجاة اللّه تعالى عن مناجاة الخلق، والإشتغال باستكشاف أسرار اللّه تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض

فإن ذلك يستدعي فراغاً ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة اليه. ولهذا قال بعض الحكماء: لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله تعالى. والمتمسكون بكتاب اللّه تعالى هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر اللّه الذاكرون اللّه باللّه عاشوا بذكر اللّه وماتوا بذكر اللّه ولقوا اللّه بذكر اللّه.ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة عن الذكر والفكر فالعزلة أولى بهم.ولذلك كان صلى اللّه عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة فكان الخلق لايحجبونه عن اللّه فكان ببدنه مع الخلق وبقلبه مقبلاً على اللّه تعالى حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر خليله.فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم عن استغراق همه باللّه فقال "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه" ولن يسع الجمع بين مخالطة الناس ظاهراً والإقبال على اللّه سراً إلا قوة النبوة فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك، ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء إليه. فقد نقل عن الجنيد أنه قال:أنا أكلم اللّه منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم. وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب اللّه استغراقاً لا يبقي لغيره فيه متسع وذلك غير منكر، ففي المشتهرين بحب الخلق من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول ولا ما يقال له لفرط عشقه لمحبوبته. بل الذي دهاه ملم يشوّش عليه أمراً من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم لشدة استغراقه. وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء فلا تستحيل ذلك فيه ولكن الأولى بالأكثرين الإستعانة بالعزلة. ولذك قيل لبعض الحكماء؟ ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة؟ فقال: يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبت العلوم في قلوبهم ليحيوا حتاة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة.وقيل لبعض الرهبان: ما أصبرك على الوحدة! فقال: ما أنا وحدي أنا جليس اللّه تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت. وقيل لبعض الحكماء: إلى أي شئ أفضى بكم الزهد والخلوة؟ فقال:إلى الأنس باللّه. وقال سفيان بن عيينة:لقيت ابراهيم بن أدهم رحمه الله في بلاد الشام فقلت له: يا إبراهيم تركت خراسان؟ فقال: ما تهنأت بالعيش إلا ههنا أفرّ بديني من شاهق الى شاهق، فمن يراني يقول موسوسأ وحمال أو ملاح. وقيل لغزوان الرقاشي: هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك؟ قال: إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي. وقيل للحسن يا أبا سعيد: ههنا رجل لم تره قط جالساً إلا وحده خللف سارية. فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني به؛ فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن: هذا الرجل الذي أخبرناك به؟ وأشاروا إليه؛ فمضى إليه الحسن وقال له:يا عبد اللّه أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس؟ فقال:فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه؟ فقال أمر شغلني عن الناس. وعن الحسن: فقال له الحسنوما ذاك الشغل يرحمك الله؟ فقال: إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر اللّه تعالى على النعمة والإستغفار من الذنب فقال له الحسن: أنت ياعبد اللّه أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه. وقيل: بينما أويس القرني جالس إذ أتاه هرم بن حيان فقال له أويس: ما جاء بك؟ قال: جئت لآنس بك،فقال أويس:ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره؛وقال الفضيل:إذا رأيت الليل مقبلاً فرحت به وقلت أخلو بربي، وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لفاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي. وقال عبد اللّه بن زيد: طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يناجي اللّه في الدنيا ويجاوره في الآخرة. وقال ذو النون المصري: سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه. وقال مالك بن دينار: من لم يأنس بمحادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمي قلبه وضيع عمره. وقال ابن مبارك:ما أحب حال من انقطع الى اللّه تعالى!ويروى عن بعض الصالحين أنه قال:بينما أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى الى أصل شجرة وتستر بها فقلت:سبحان اللّه تبخل علي بالنظر إليك؟ فقال:هذا إني أقمت في هذا الجبل دهراً طزيلاً أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري فسألت اللّه تعالى أن لا يجعل من أيامي في مجاهدة قلبي، فسكنه اللّهعن الإضطراب وألفه الوحدة والإنفراد، فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول لإغليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب القانتين، ثم صاح: واغماه من طول المكث في الدنيا، ثم حوّل وجهه عني، ثم نفض يديه وقال: إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري، ثم قال: سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الإنقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان، وجمع همهم في ذكره قلا شئ ألذعندهم من مناجاته. ثم مضى وهو يقول: قدوس قدوس. فإذاً في الخلوة أنس بذكر اللّه واستكثار من معرفة اللّه وفي مثل ذلك قيل :  

وإني لأستغشى وما بي غشوة

 

لعل خيالاً منك يلقى خيالـيا

وأخرج من بين الجلوس لعلني

 

أحدث عنك النفس بالسر خاليا

ولذلك قال بعض الحكماء: إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلق ذاته عن الفضيلة فيكثر حينئذ ملافاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الواحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم والحكمة. وقد قيل الإستئناس من علامات الإفلاس فإذاً هذه فائدة جزيلة ولكن في حق بعض الخواص ومن يتيسر له بدوام الذكر الأنس باللّه أو بدوام الفكر التحقق في معرفة اللّه فالتجرد له أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة. فإن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً للّه عارفاً باللّه ولا محبة لإلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر ولا معرفة إلا بدوام الفكر.وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما ولا فراغ مع المخالطة.

الفائدة الثانية

التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة

وهي أربعة: الغيبة والنميمة، والرياء والسكوت عن الإمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا.

أما الغيبة فإذا عرفت من كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات وجوهها عرفت أن التحرز عنها مع المخالطة عظيم لا ينجو منها إلا الصدّيقون. فإن عادة الناس كافة التمضمض بأعراض الناس والتفكه بها والتنفل بحلاوتها وهي طعمتهم ولذتهم وإليها يستروحون من وحشتهم في الخلوة. فإن خالطهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط اللّه تعالى، وإن سكت كنت شريكا،والمستمع أحد المغتابين،وإن أنكرت أبغضوك وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى غيبة، وربما زادوا على الغيبة وانتهوا إلى الإستخفاف والشتم.

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصول الدين وهو واجب - كما سيأتي بيانه في آخر هذا الربع - ومن خالط الناس فلا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى اللّه به. وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر إذ ربما يجره طلب الخلاص عنها إلى معاص أكبر مما نهى عنه ابتداء.وفي العزلة خلاص من هذا فإن الأمر في إهماله شديد والقيام به شاق.وقدم قام أبو بكر رضي اللّه عنه عند خطيبا وقال "أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية" أيها الذين آمنواعليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم"وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول "إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم اللّه بعقاب" وقد قال صلى اللّه عليه وسلم" إن اللّه ليسأل العبد حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن اللّه لعبد حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس"وهذا إذا خاف من ضرب أو أمر لايطاق.ومعرفة حدود ذلك مشكلة وفيه خطر.وفي العزلة خلاص وفي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إثارة للخصومات وتحريك لغوائل الصدور كما قيل:  

وكم سقت في آثاركم من نصيحة

 

وقد يستفيد البغضة المتنـصـح

ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالباً فإنه كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه فيوشك أن يسقط عليه؛ فإذا سقط عليه يقول ياليتني تركته مائلاً نعم لو وجد أعواناً أمسكوا الحائط حتى يحكمه بدعامة لاستقام وأنت اليوم لا تجد الأعوان فدعهم وانج بنفسك. وأما الرياء فهو الداء العضال الذي يعسر على الأبدال والأوتاد والإحتراز عنه. وكل من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم ومن راءاهموقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا. وأقل ما يلزم فيه النفاق فإنك إن خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضاً إليهما جميعاً، وإن جاملتهما كنت من شرار الناس. وقال صلى اللّه عليه وسلم "تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه" وأقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق والمبالغة فيه ولا يخلوا ذلك عن كذب إما في الأصل وإما في الزيادة، وإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوا بقولك: كيف أنت؟ زكيف أهلك؟ وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه" وهذا نفاق محض.قال سرى: لو دخل أخ لي فسويت لحيتي بيدي لدخوله لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين. وكان الفضيل جالساً لوحده في المسجد الحرام فجاء إليه أخ له فقال له: ما جاء بك؟ قال: المؤانسة يا أب علي فقال: هي واللّه بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك وتكذب لي وأكذب لك؟ إما أن تقوم عني أو أقوم عنك. وقال بعض العلماء: ما أحب اللّه عبداً إلا أحب أن لايشعر به.ودخل طاوس على الخليفة هشام فقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب عليه وقال:لم لم تخاطبني بأمير المؤمنين؟ فقال:لأن جميع المسلمين ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذباً. فمن أمكنه أن يحترز هذا الإحتراز فليخالط الناس وإلا فليرضى بإثبات اسمه في جريدة المنافقين. فقد كان السلف يتلاقون ويحترزون في قولهم كيف أصبحت وكيف أمسيت؟ وكيف أنت؟ وكيف حالك؟ وفي الجواب عنه. فكان سؤالهم عن أحوال الدين لا عن أحوال الدنيا.قال حاتم الأصم لحامد اللفاف: كيف أنت في نفسك؟ قال:سالم معافى: فكره حاتم جوابه وقال:يا حامد السلامة من وراء الصراط والعافية في الجنة. وكان إذا قيل لعيسى صلى اللّه عليه وسلم كيف أصبحت؟ قال أصبحت لا أملك تقديم ما أرجو ولا أستطيع دفع ما أحاذر وأصبحت مرتهناً بعملي و الخير كله في يد غيري ولا فقير أفقر مني وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال:أصبحت من ضعفاء مذنبين نستوفي أرزاقنا وننتظر آجالنا. وكان أبا الدرداء إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بخير إن نجوت من النار. وكان سفيان الثوري إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: أصبحت أشكر ذا الى ذا وأذم ذا الى ذا وأفر من ذا الى ذا،وقيل لأويس القرني: كيف أصبحت؟ قال:كيف يصبح رجل إذا أمسى لا يدري أنه يصبح وإذا أصبح لا يدري أنه يمسي؟ وقيل لمالك بن دينار كيف أصبحت؟ قال:أصبحت في عمر ينقص وذنوب تزيد. وقيل لبعض الحكماء: كيف أصبحت؟ قال:أصبحت لا أرضى حياتي لمماتي ولا نفسي لربي.وقيل لحكيم:كيف أصبحت؟قال:أصبحت آكل رزق ربي وأطيع عدوه إبليس.وقيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة.وقيل لحامد اللفاف: كيف أصبحت؟ قال: قال أصبحت أشتهي عافية يوم الى الليل، فقيل له: ألست في عافية في كل الأيام ؟ فقال: العافية يوم لا أعصى اللّه تعالى فيه. وقيل لرجل وهو يجود بنفسه: ما حالك؟ فقال: وما حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة. وقيل لحسان ابن أبي سنان: ما حالك؟ قال: ما حال من يومت ثم يبعث ثم يحاسب. وقال ابن سيرين لرجل: كيف حالك؟ فقال: وما حال من عليه خمسمائة درهم ديناً وهو معيل؟ فدخل ابن سيرين منزله فأخرج له ألف درهم فدفعها إليه وقال: خمسمائة اقض بها دينك وخمسمائة عد بها على نفسك وعيالك ولم يكن عنده غيرها - ثم قال: واللّه لا أسأل أحداً عن حاله أبداً. وإنما فعل ذلك لأنه خشي أن يكون سؤاله من غير اهتمام بأمره فيكون بذلك مرائياً منافقاً. فقد كان سؤالهم عن أمور الدين. أحوال القلب في معاملة اللّه وإن سألوا عن أمور الدنيا فعن اهتمام وعزم على القيام بما يظهر لهم من الحاجة. وقال بعضهم: إني لأعرف أقواماً كانوا لا يتلاقون ولو حكم أحهم على صاحبه بجميع ما يملكه لم يمنعه، وأرى الآن أقواماً يتلاقون ويتسائلون حتى عن الدجاجة في البيت. ولو انبسط أحدهم لحبة من مال صاحبه لمنعه فهل هذا إلا مجرد الرياء والنفاق؟ وآية ذلك أنك ترى هذا يقول كيف أنت؟ ويقول الآخر كيف أنت؟ فالسائل لا ينتظر الجواب والمسؤول يشتغل بالسؤال ولا يجيب،وذلك لمعرفتهم بأن ذلك عن رياء وتكلف. ولعل القلوب لا تخلو عن ضغائن وأحقاد والألسنة تنطق بالسؤال. قال الحسن: إنماكانوا يقولون السلام عليكم، إذا سلمت واللّه القلوب، وأما الآن: فكيف أصبحت عافاك اللّه؟ كيف أنت أصلحك اللّه؟ فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة لا كرامة فإن شاؤا غضبوا علينا، وإن شاؤوا لا. وإنما قال ذلك لأن البداية بقولك: كيف أصبحت بدعة. وقال رجل لأبي بكر عياش: كيف أصبحت؟ فما أجابه. وقال دعونا من هذه البدعة.وقال:إنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع، كان الرجل يلقاه أخوه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون؟ ويلقاه عشية فيقول: كيف أمسيت؟ والمقصود أن الإلقاء في غالب العادات ليس يخلو عن أنواع التصنع والرياء والنفاق، وكل ذلك مذموم، بعضه محظور وبعضه مكروه. وفي العزلة الخلاص من ذلك،فإن من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم مقتوه واستثقلوه واغتابوه وتشمروا لإيذائه فيذهب دينهم فيه ويذهب دينه ودنياه في الإنتقام منهم.  وأما مسارقة الطبع مما يشاهده من أخلاق الناس وأعمالهم فهو داء دفين قلما يتنبه له العقلاء فضلا عن االغافلين، فلا يجالس الإنسان فاسقا مدة مع كونه منكرا عليه في باطنه إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لأدرك بينهما تفرقة في النفرة عن الفساد واستثقاله إذ يصير للفساد بكثرة المشاهدة هينا على الطبع فيسقط وقعه واستعظامه له، وإنما الوازع عنه شدّة وقعه في القلب فإذا صار مستصغرا بطول المشاهدة أوشك أن ننحل القوّة الوازعة ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه. ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه: ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة اللّه عليه فتؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده وتؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم. وكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة هذا تأثيره في الطبع من يقصر نظره على ملاحظة أحوال الصحابة والتابعين في العبادة والتنزه عن الدنيا فلا يزال ينظر الى نفسه بعين الإستصغار وإلى عبادته بعين الإستحقار: وما دام يرى نفسه مقصراً فلا يخلو عن داعية الاجتهاد رغبة في الاستكمال واستتماماً للاقتداء. ومن نظر الى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن اللّه وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك. ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلاً عن مشاهدته. وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى اللّه عليه وسلم"عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة" وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء اللّه وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الإقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير. ومبدأ الرحمة فعل الخير الرغبة،ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين، فهذا معنى نزول الرحمة.والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كامفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهوّن على الطبع أمر المعاصي،واللعنة هي البعد. ومبدأ البعد من اللّه هو المعاصي، والإعراض عن اللّه بالإقبال على الحظوط العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع. ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب. ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع. إذا كان حال ذكر الصالحين والفاسقين فما ظنك بمشاهدتهم؟ بل قد صرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال "مثل جليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه" فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به. وقال "مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك تجد ريحه" ولهذا أقول من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين، إحداهما: أنها غيبة، والثانية وهي أعظمها. أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلّة، ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سبباً لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار وقال كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون الى مثله حتىالعلماء والعباد؟ ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام، فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص على جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهوّن على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة رضي اللّه عنهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة؟ وربما يستشهد عليه بقتال علي ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة، فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي. والطبع الللئيم يميل الى ابتاع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل الى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان، ولذلك وصف اللّه المراغمين للشيطان فيها بقوله "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"وضرب صلى اللّه عليه وسلم لذلك مثلاً وقال مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم" وكل من ينقل هفوات الأئمة فهذا مثاله أيضاً.ومما يدل على سقوط وقع الشئ عن القلب بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً أفطر في نهار رمضان استبعدوا ذلك منه استبعاداً يكاد يفضي الى اعتقادهم كفره،وقد يشاهدون من يخرج الصلوات عن أوقاتها ولا تنفر عن طباعهم كنفرتهم عن تأخير الصوم، مع أن صلاة واحدة يقتضى تركها الكفر عند قوم وحز الرقبة عند قوم، وترك صوم رمضان كله لا يقتضيه ولا سبب له إلا أن الصلاة تتكرر والتساهل فيها مما يكثر فيسقط وقعها بالمشاهدة عن القلب. ولذلك لو لبس الفقيه ثوباً من حرير أو خاتماً من ذهب أو شرب من إناء فضة استبعدته النفوس واشتد إنكارها، وقد يشاهد في مجلس طويل لا يتكلم إلا بما هو اغتياب للناس ولا يستبعد منه ذلك. والغيبة أشد من الزنا فكيف لا تكون أشد من لبس الحرير؟ ولكن كثرة سماع الغيبة ومشاهدة المغتابين أسقط وقعها عن القلوب وهون على النفس أمرها، فتفطن لهذه الدقائق وفرّ من الناس فرارك من الأسد لأنك لا تشاهد منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وغفلتك عن الآخرة ويهون عليك المعصية ويضعف رغبتك في الطاعة. فإن وجدت جليساً يذكرك اللّه رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه واغتنمه ولا تستحقره فإنها غنيمة العاقل وضالة المؤمن. وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة وأن الوحدة خير من الجليس السوء. ومهما فهمت هذه المعاني ولا حظت طبعك والتفت إلى حال من أردت مخالطته لم يخف عليك أن الأولى التباعد بالعزلة أو التقرب إليه بالخلطة.وإياك أن تحكم مطلقاً على العزلة أو الخلطة بأن إحداهما أولى إذ كل مفصل فإطلاق القول فيه بلا أو نعم خلف من القول محض ولا حق في المفصل إلا الفصيل .

الفائدة الثالثة

الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات

فالمعتزل عنهم في سلامة منها.قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص: لما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفتن ووصفها وقال "إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتاهم وكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - قلت: فما تأمرني؟ فقال "الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة" وروى أبو سعيد الخدري أنه صلى اللّه عليه وسلم قال "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن من شاهق الى شاهق "وروى عبد اللّه بن مسعود أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: "سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من قرية الى قرية ومن شاهق الى شاهق ومن جحر الى جحر كالثعلب الذي يروغ"قيل له:ومتى ذلك يا رسول اللّه؟قال"إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي اللّه تعالى فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة"قالوا:وكيف يا رسول اللّه وقد أمرتنا بالتزويج؟ قال "إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده فإن لم يكن فعلى يدي قرابته "قالوا: وكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال "يعيرونه بضيق اليد فيتكلف نالا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة" وهذا الحديث وإن كان في العزوبة فالعزلة مفهومة منه إذ لايستغني المتأهل عن المعيشة و المخالطة ثم لا ينال المعيشة إلا بمعصية اللّه تعالى،ولست أقول: هذا أوان ذلك الزمان فلقد كان هذا بإعصار قبل هذا العصر، ولأجله قال سفيان: واللّه لقد حلت العزلة. وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه:ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام الفتنة وأيام الهرج قلت:وما الهرج؟ قال "حين لا يأمن الرجل جليسه" قلت: فيم تأمرني إن أدركت ذلك الزمان؟ قال "كف نفسك ويدك وادخل دارك "قال: قلت يا رسول اللّه أرأيت إن دخل على داري؟ قال "فادخل بيتك" قلت فإن دخل على بيتي؟ قال "فادخل مسجدك واصنع هكذا" وقبض على الكوع " وقل ربي اللّه حتى تموت"وقال سعد - لما دعي الى الخروج أيام معاوية - لا ... إلا أن تعطوني سيفاً له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فأقتله وبالمؤمن فأكف عنه،وقال:مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فبينما هم كذلك يسيرون إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق فالتبس عليهم؛ فقال بعضهم الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال بعضهم ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وأناخ آخرون وتوقفوا حتى ذهبت الريح وتبينت الطريق فسافروا. فاعتزل سعد وجماعة معه فارقوا الفتن ولم يخالطوا إلا بعد زوال الفتن.وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما: أنه لما بلغه أن الحسين رضي اللّه عنه توجه الى العراق تبعه فلحقه على مسيرة ثلاثة أيام فقال له: أين تريد؟ فقال:العراق. فإذا معه طوامير وكتب؛ فقال: هذه كتبهم وبيعتهم فقال:لا تنظر الى كتبهم ولا تأتهم؛ فأبى، فقال: إني أحدثك حديثاً؛ جبريل أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا وإنك بضعة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لا يليها أحد منكم أبداً وما صرفها عنكم إلا للذي هو خي لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: استودعك اللّه من قتيل أو أسير.وكان في الصحابة عشرة آلاف فما خف أيام الفتنة أكثر من أربعين رجلاً.وجلس طاوس في بيته فقيل له في ذلك فقال: فساد الزمان وجيف الأئمة.ولما بنى عروة قصره بالعقيق ولزمه قيل له:لزمت القصر وتركت مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وفيما هناك عما أنتم فيه عافية. فإذن الحذر من الخصومات،ومثارات الفتن إحدى فوائد العزلة .

الفائدة الرابعة

الخلاص من شر الناس

فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة ومرة بسوء الظن والتهمة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها، وتارة بالنميمة أو الكذب فربما يرون منك من الأعمال أو الأقوال ما لا تبلغ عقولهم كنهه فيتخذون ذلك ذخيرة عندهم يدخرونها لوقت تظهر فرصة للشر، فإذا اعتزلتهم استغنيت من التحفظ عن جميع ذلك. ولذلك قال بعض الحكماء لغيره: أعلمك بيتين خير من عشرة آلاف درهم؟ ماهما؟ قال:  

اخفض الصوت إن نطقت بليل

 

والتفت بالنهار قبل المـقـال

ليس للقول رجعة حين يبـدو

 

بقبيح يكـون أو بـجـمـال

ولاشك أن من اختلط بالناس وشاركهم في أعمالهم لاينفك من حاسد وعدوّ يسئ الظن به ويتوهم أنه يستعد لمعاداته ونصب المكيدة عليه وتدسيس غائلة وراءه فالناس مهما اشتد حرصهم على أمر "يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم" وقد اشتد حرصهم على الدنيا فلا يظنون بغيرهم إلا الحرص عليها. قال المتنبي :  

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

 

وصدق ما يعتاده من تـوهـم

وعادى محبيه بقـول عـداتـه

 

فأصبح في ليل من الشك مظلم

وقد قيل:معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار.وأنواع الشر الذي يلقاه الإنسان من معارفه وممن يختلط به كثيرة: ولسنا نطول بتفصيلها ففيما ذكرناه إشارة إلى مجامعها، وفي العزلة خلاص من جميعها. والى هذا إشارة الأكثر ممن اختار العزلة. فقال أبو الدرداء: أخبر تقله، يروى مرفوعا. وقال الشاعر:  

من حمد الناس ولم يبلهم

 

ثم بلاهم ذم من يحمـد

وصار بالوحدة مستأنساً

 

يوحشه الأقرب والأبعد

وقال عمر رضي اللّه عنه: في العزلة راحة من القرين السوء. وقيل لعبد اللّه بن الزبير: ألا تأتي المدينة؟ فقال: ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة.وقال ابن السماك: كتب صاحب لنا، أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء له ففرّ منهم فرارك من الأسد. وكان بعض الأعراب يلازم شجرا ويقول: هو نديم فيه ثلاث خصال، إن سمع مني لم ينم علي. وإن تفلت في وجهه احتمل مني، وإن عربدت عليه لم يغضب. فسمع الرشيد ذلك فقال: زهدنى في الندماء،وكان بعضهم قد لزم الدفاتر والمقابر فقيل له ذلك فقال: لم أر أسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر، ولا جليس أمتع من دفتر، وقال الحسن رضي اللّه عنه:أردت الحج فسمع ثابت البناني بذلك - وكان أيضا من أولياء اللّه - فقال: بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن أصحبك، فقال له الحسن: ويحك دعنا نتعاشر بستر اللّه علينا إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وهذه إشارة إلى فائدة أخرى في العزلة وهو بقاء الستر على الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات. وقد مدح اللّه سبحانه المتسترين فقال "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف" وقال الشاعر:  

ولا عار إن زالت عن الحر نعمة

 

ولكن عارا أن يزول التجـمـل

ولا يخلوا الإنسان في دينه ودنياه وأخلاقه وأفعاله عن عورات الأولى في الدين والدنيا سترها ولا تبقى السلامة مع انكشافها. وقال أبو الدرداء:كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شولا لا ورق فيه. إذا كان هذا حكم زمانه وهو في أواخر القرن الأول فلا ينبغي أن يشك في أن الأخير شر. وقال سفيان بن عينية: قال لي سفيان الثوري - في اليقظة في حياته وفي المنام بعد وفاته - أقلل من معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد ولا حسب أني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت. وقال بعضهم:جئت الى مالك بن دينار وهو قاعد وحده، وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته. فذهب أطرده فقال: دعه يا هذا لا يضر ولا يؤذي وهو خير من جليس السوء. وقيل لبعضهم: ما حملك على أن تعتزل الناس؟ قال: خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر. وهذه إشارة إلى مسارقة الطبع من أخلاق القرين السوق. وقال أبو الدرداء: اتقوا اللّه و احذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه، ولا ظهر جواد إلا عقروه، ولا قلب مؤمن إلا خربوه. وقال بعضهم: أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك، وأخف لسقوط الحقوق عنك، لأنه كلما كثرت المعارف كبرت الحقوق وعسر القيام بالجميع. وقال بعضهم: أنكر من تعرف ولا تتعرف الى من لا تعرف.

الفائدة الخامسة

أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عن الناس

فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد، فإن رضا الناس غاية لا تدرك فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات، وفيها تضيع الأوقات وتعرض للآفات، ثم قد تعوق عن بعضها العوائق وتستقبل فيها المعاذير، ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقولون له قمت بحق فلان وقصرت في حقنا،ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل: من لم يعد مريضاً في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله إذا صح على تقصيره.ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم،ولو خصص استوحشوا.وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل و النهار فكيف من له مهم يشغله في دين أو دنيا؟ قال عمرو بن العاص: كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء.وقال ابن الرومي:  

عدوك من صديقك مستفـاد

 

فلاتستكثرون من الصحاب

فإن الداء أكثـر مـا تـراه

 

يكون من الطعام أو الشراب

وقال الشافعي رحمه اللّه: أصل كل عداوة اصطناع المعروف الى اللئام. وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضاً فائدة جزيلة، فإن من نظر الى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه وانبعث بقوّة الحرص طمعه ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال فيتأذى بذلك.ومهما اعتزل لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال اللّه تعالى "ولا تمدنّ عينيك الى ما متعنا به أزاوجاً منهم" وقال صلى اللّه عليه وسلم" انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم" وقال عون بن عبد اللّه:كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموماً، كنت أرى ثوباً أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت.وكي أن المزني رحمه اللّه خرج من باب جامع الفسطاط وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من حسن حاله وحسن هيئته فتلا قوله تعالى "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" قال بلى أصبر وأرضى، وكان فقيراً مقلاً. فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن. فإن من شاهد زينة الدنيا فأما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر الى أن يتجرع مرارة الصبر - وهو أمر من الصبر - أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك هلاكاً مؤبداً، أما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له، وأما الآخرة فإيثاره متاع الدنيا على ذكر اللّه تعالى والتقرب إليه. ولذلك قال ابن الإعرابي:   

إذا كان باب الذل من جانب الغنـى

 

سموت الى العلياء من جانب الفقر

أشار الى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً.

الفائدة السادسة

الخلاص من مشاهد الثقلاء والحمقى ومقاساة حمقهم وأخلاقهم

فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر.قيل للأعمش: مم عمشت عيناك؟ قال: من النظر الى الثقلاء. ويحكى أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال: في الخبر "إن من سلب اللّه كريمتيه عوضه اللّه عنهما ما هو خير منهما" فما الذي عوضك؟ فقال - في معرض المطايبة - عوضني اللّه منهما أنه كفاني رؤية الثقلاء وأنت منهم.وقال ابن سيرين: سمعت رجلاً يقول نظرت الى ثقيل مرة فغشى علي. وقال جالينوس: لكل شئ حمى وحمى الروح النظر الى الثقلاء.

وقال الشافعي رحمه اللّه: ما جالست ثقيلاً إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل من الجانب الآخر.

وهذه الفوائد ما سوى الأوليين متعلقة بالمقاصد الدنيوية الحاضرة ولكنها أيضاً تتعلق بالدين. فإن الإنسان مهما تأذى برؤية ثقيل لم يأمن أن يغتابه وأن يستنكر ما هو صنع اللّه، فإذا تأذى من غيره بغيبة أو سوء ظن أو محاسدة أو نميمة أوغير ذلك لم يصبر على مكافأته. وكل ذلك يجر الى فساد الدين وفي العزلة سلامة عن جميع ذلك فليفهم.

آفات العزلة اعلم من المقاصد الدينية و الدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة. فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة، وفواته من آفات العزلة. فانظر الى فوائد المخالطة والدواعي اليها ما هي، وهي التعليم والتعلم، والنفع والإنتفاع، والتأديب والتأدب، والإستئناس والإيناس، ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق، واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها.فلفصل ذلك فإنها من فوائد المخالطة وهي سبع :

الفائدة الأولى

التعليم والتعلم

وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم وهما أعظم العبادات في الدنيا. ولا يتصوّر ذلك إلا بالمخالطة إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة، وبعضها ضروري في الدنيا. فالمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة. وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الإشتغال بالعبادة فليعتزل. وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران. ولهذا قال النخعي وغيره: تفقه ثم اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس،وغايته أن يستغرق الأوقات بأوراد يستوعبها، ولا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أمواع من الغرور يخيب سعيه ويبطل عمله بحيث لا يدري، ولا ينفك اعتقاده في اللّه وصفاته عن أوهام يتوهمها ويأنس بها وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها فيكون في أكثر أحواله ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد.فالعلم هو أصل الدين فلا خير في عزلة العوام والجهال، أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزم فيها.فمثال النفس مثال مريض يحتاج الى طبيب متلطف يعالجه، فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه. فلا تليق العزلة إلا بالعالم وأما التعليم ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم والمتعلم. ومهما كان القصد إقامة الجاه والاستكثار بالأصحاب والأتباع فهو هلاك الدين. وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم.

وحكم في العالم في هذا الزمان أن يعتزل إن أراد سلامة دينه.فإنه لا يرى مستفيداً يطلب فائدة لدينه، بل لاطالب إلا لكلام مزخرف - يستميل به العوام في معرض الوعض أو الجدل - معقد يتوصل به الى إفحام الأقران ويتقرب به الى السلطان ويستعمل في معرض المنافسة والباهاة، وأقرب علم مرغوب فيه: المذهب، ولا يطلب غالباً إلا للتوصل الى التقدم على الأمثال وتولي الولايات واجتلاب الأموال.فهؤلاء كلهم يقتضي الدين والحزم الإعتزال عنهم، فإن صودف طالباً للّه ومتقرب بالعلم الى اللّه فأكبر الكبائر الإعتزال عنه وكتمان العلم منه، وهذا لا يصادف في بلدة كبيرة أكثر من واحد أو اثنين إن صودف.

ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان:تعلمنا العلم لغير اللّه فأبى العلم أن يكون إلا للّه،فإن الفقهاء يتعلمون لغير اللّه ثم يرجعون الى اللّه.وانظر الى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا، وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها أو راغبون عنها وزاهدون فيها،وليس الخبر كالمعاينة. واعلم أن العلم الذي أشار اليه سفيان هو علم الحديث وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء والصحابة، فإن فيها التخويف و التحذير وهو سبب لإثارة الخوف من اللّه فإن لم يؤثر في الحال أثر في المآل. وأما الكلام والفقه المجرّد - الذي يتعلق بفتاوى المعاملات وفصل الخصومات - المذهب منه و الخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا الى اللّه، بل لا يزال متمادياً في حرصه الى آخر عمره. ولعل ما أودعناه هذا الكتاب إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا فيجوز أن يرخص فيه، إذ يرجى أن ينزجر به في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف باللّه والترغيب في الآخرة ولتحذير من الدنيا، وذلك مما يصادف في الأحاديث وتفسير القرآن ولايصادف في كلام ولا في خلاف ولا في مذهب. فلا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه فإن المقصر العالم بتقصيره أسعد حالاً من الجاهل المغرور أو المتجاهل المغبون وكل عالم اشتد حرصه على التعليم يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه، وحظه تلذذ النفس في الحال باستشعار الإدلال على الجهال والتكبر عليهم، فآفة العلم الخيلاء كما قال صلى اللّه عليه وسلم.ولذلك حكي عن ابن بشر أنه دفن سبعة عشرة قمطراّ من كتب الأحاديث التي سمعها،وكان لايحدث،ويقول: إني أشتهي أن أحدث فلذلك لا أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت، ولذلك قال "حدثنا" باب من أبواب الدنيا، وإذا قال الرجل  "حدثنا" فإنما يقول أوسعوا لي. وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري: نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا، قال: وفيماذا رغبت؟ قالت:في الحديث. ولذلك قال أبو سفيان الداراني: من تزوج أو طلب الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن الى الدنيا.فهذه آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم، والحزم الاحتراز بالعزلة وترك الاستكثار من الأصحاب ما أمكن،بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه فالصواب له. إن كان غافلاً في مثل هذا الزمان أن يتركه.فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال: دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال، إخوان العلانية أعداء السر، إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك، من أتاك منهم كان عليك رقيباً وإذا خرج كان عليك خطيباً، أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة، فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل الجاه و المال وأن يتخذوك سلماً الى أوطارهم وأغراضهم وحماراً في حاجاتهم، وإن قصرت في غرض من أغراضهم كانوا على أشد أعدائك، ثم يعدون ترددهم إليك دالة عليك ويرونه حقاً واجباً لديك،ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم، وتنتهض لهم سفيهاً وقد كنت فقيهاً، وتكون لهم تابعاً خسيساً بعد أن كنت متبوعاً رئيساً. ولذلك قيل: اعتزال العامة مروءة تامة.فهذا معنى كلامه وإن خالف بعض ألفاظه، وهو حق وصدق.فإنك ترى المدرسين في رق دائم وتحت حق لازم ومنة ثقيلة ممن يتردد اليهم فكأنه يهدي تحفة اليهم ويرى حقه واجباً عليهم. وربما لا يختلف اليه ما لم يتكفل برزق له على الإدرار.ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله، فلا يزال متردداً الى أبواب السلاطين ويقاسي الذل والشدائد مقاساة الذليل المهين حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام،ثم لايزال العامل يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله الى أن يسلم إليه ما يقدره نعمة مستأنفة من عنده عليه،ثم يبقى في مقاساة القسمة على أصحابه إن سوّى بينهم مقته المميزون ونسبوه الى الحمق وقلة التمييز والقصور عن درك مصارفات الفضل والقيام بمقادير الحقوق بالعدل، وإن فاوت بينهم سلقه السفهاء بألسنة حداد وثاروا عليه ثوران الأساود والآساد، فلا يزال في في مقاساتهم في الدنيا وفي مطالبة ما يأخذه ويفرقه عليهم في العقبى. والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل ويدليها بحبل الغرور ويقول لها، لا تفتري عن صنيعك فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه اللّه تعالى ومذيعة شرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وناشرة علم دين اللّه وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد اللّه، وأموال لسلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم؟فيهم يظهر الدين ويتقوى أهله. ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام، فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم.ولذلك قيل: ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء.فنعوذ باللّه من الغرور والعمى فإنه الداء الذي ليس له دواء.

الفائدة الثانية

النفع والإنتفاع

أما الإنتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة.وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة والمحتاج إليه مضطر الى ترك العزلة فيقع في جهاد من المخالطة أن طلب موافقة الشرع فيه - كما ذكرناه في كتاب الكسب - فإن كان معه مال لو اكتفى به قانعاً لأقنعه فالعزلة أفضل له إذا انسدت طرق المكاسب في الأكثر الى المعاصي، إلا أن يكون غرضه الكسب للصدقة. فإذا اكتسب من وجهه وتصدق به فهو أفضل من العزلة للاشتغال بالنافلة،وليس بأفضل من العزلة للاشتغال بالتحقق في معرفة اللّه ومعرفة علوم الشرع، ولا من الإقبال بكنه الهمة على اللّه تعالى والتجرد بها لذكر اللّه؛ أعني من حصل له أنس بمناجاة اللّه عن كشف وبصيرة لا عن أوهام وخيالات فاسدة.


وأما النفع فهو أن ينفع الناس إما بماله أو ببدنه فيقوم بحاجاتهم على سبيل الحسبة. ففي النهوض بقضاء حوائج المسلمين ثواب وذلك لا ينال إلا بالمخالطة. ومن يقدر عليها مع القيام بحدود الشرع فهي أفضل له من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية،وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر فذلك لا يعدل به غيره ألبتة.

الفائدة الثالثة

التأديب والتأدب

ونعني به الإرتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسراً للنفس وقهراً للشهوات. وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة،وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه ولم تذعن لحدود الشرع شهواته،ولهذا انتدب خدام الصوفية في الرباطات فخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كسراً لرعونة النفس واستمداد من بركة دعاء الصوفية المنصرفين بهممهم الى اللّه سبحانه.وكان هذا هو المبدأ في الأعصار الخالية والآن قد خالطته الأغراض الفاسسدة ومال ذلك عن القانون كما مالت سائر شعائر الدين، فصار يطلب من التواضع بالخدمة التكثير بالاستباع والتذرّع الى جمع المال والاستظهار بكثرة الأتباع، فإن كانت النية هذه فالعزلة خير من ذلك ولو الى القبر، وإن كانت النية رياضة النفس فهي خير من العزلة في حق المحتاج الى الرياضة: وذلك مما يحتاج إليه في بداية الإرادة: فبعد حصول الارتياض ينبغي أن يفهم أن الدابة لا يطلب من رياضتها عين رياضتها بل المراد منها أن تتخذ مركباً يقطع به المراحل ويطوى على ظهره الطريق والبدن مطية للقلب يركبها ليسلك بها طريق الآخرة وفيها شهوات إن لم يكسرها جمحت به في الطريق، فمن اشتغل طول العمر بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمر الدابة برياضتها ولم يركبها، فلا يستفيد منها إلا الخلاص في الحال في عضها ورفسها ورمحها، وهي لعمري فائدة مقصودة ولكن مثلها حاصل في البهيمة الميتة، وإنما ترد الدابة لفائدة تحصل من حياتها، فكذلك الخلاص من ألم الشهوات في الحال يحصل النوم بالموت ولا ينبغي أن يقبع به كالراهب الذي قيل له: يا راهب، فقال: ما أنا راهب إنما أنا كلب عقور حبست نفسي حتى لا أعقر الناس: وهذا حسن بالإضافة الى من يعقر الناس ولكن لا ينبغي أن يقتصر عليه،فإن من قتل نفسه أيضاً لم يعقر الناس، بل ينبغي أن يتشوّف الى الغاية المقصود بها. ومن فهم ذلك واهتدى الى الطريق وقدر على السلوك استبان له أن العزلة أعون له من المخالطة.فأفضل لمثل هذا الشخص المخالطة أولاً و العزلة آخراً.

وأما التأديب فإنما نعني به أن يروض غيره وهو حال شيخ الصوفية معهم، فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخاطتهم، وحاله حال المعلم وحكمه،ويتطرق اليه من دقائق الآفات و الرياء ما يتطرّق الى نشر العلم إلا أن مخايل طلب الدنيا من المريدين الطالبين للارتياض أبعد منها من طلبه العلم، ولذلك يرى فيهم قلة وفي طلبة العلم كثرة. فينبغي أن يقيس ما تيسر له من الخلوة بما تيسر له من المخالطة وتهذيب القوم وليقابل أحدهما بالآخر وليؤثر الأفضل، وذلك يدرك بدقيق الاجتهاد ويختلف بالأحوال و الأشخاص فلا يمكن الحكم عليه مطلقاً بنفي ولا إثبات .

الفائدة الرابعة

الاستئناس والإيناس

وهو غرض من يحضر الولائم والدعوات ومواضع المعاشرة والأنس،وهذا يرجع الى حظ النفس في الحال. وقد يكون ذلك على وجه حرام بمؤانسة من لا تجوز مؤانسته، أو على وجه مباح.وقد يستحب ذلك الأمر الدين وذلك فيمن تستأنس بمشاهدة أحواله وأقواله في الدين كالأنس بالمشايخ الملازمين لسمت التقوى.وقد يتعلق بحظ النفس ويستحب إذا كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج دواعي النشاط في العبادة، فإن القلوب إذا أكرهتعميت ومهما كان في الوحدة وحشة وفي المجالسة أنس يروّح القلب قهي أولى، إذ الوفق في العبادة من حزم العبادة ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم "إن اللّه لا يمل حتى تملوا" وهذا أمر لا يستغنى عنه فإن النفس لا تألف الحق على الدوام ما لم تروّح؛ وفي تكليفها الملازمة داعية للفترة وهذا عنى بقوله عليه السلام" إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" والإيغال فيه برفق دأب المستبصرين ولذلك قال ابن عباس: لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس، وقال مرة: لدخلت بلاد لا أنيس بها،وهل يفسد الناس إلا الناس؟ فلا يستغني المعتزل إذا عن رفيق يستأنس بمشاهدته ومحادثته في اليوم والليلة ساعة فليجتهد في طلب من لا يفسد عليه في ساعته تلك سائر ساعاته فقد قال صلى اللّه عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق والاهتداء الى الرشد،ففي ذلك متنفس ومتروّح للنفس، فيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعماراً طويلة، و الراضي عن نفسه مغرور قطعا. فهذا النوع من الاستئنناس في بعض أوقات النهار ربما يكون أفضل من العزلة في حق بعض الأشخاص فليتفقد فيه أحوال القلب وأحوال الجليس أوّلاً ثم ليجالس .

الفائدة الخامسة

في نيل الثواب وإنالته

أما النيل فبحضور الجنائز وعيادة المريض وحضور العيدين، وأما حضور الجمعة فلا بد منه. وحضور الجماعة في سائر الصلوات أيضاً لا رخصة في تركه إلا الخوف ضر ظاهر يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة ويزيد عليه، وذلك لا يتفق إلا نادراً.وكذلك في حضور الإملاكات و الدعوات ثواب من حيث أنه إدخال سرور على قلب مسلم .

وأما أنالته فهو الباب لتعوده الناس أو لعزوه في المصائب أو يهنوه على النعم فإنهم ينالون بذلك ثواباً، وكذلك إذا كان من العلماء وإذن لهم في الزيارة نالوا ثواب الزيارة،وكان هو بالتمكين سبباً فيه فينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها التي ذكرناها،وعند ذلك قد ترجح العزلة وقد ترجح المخالطة. فقد حكي عن جماعة من السلف مثل مالك وغيره ترك إجابة الدعوات وعيادة المرضى وحضور الجنائز بل كانوا أحلاس بيوتهم لا يخرجون إلا الى الجمعة أو زيارة اللقبور، وبعضهم فارق الأمصار وانحاز الى قلل الجبال تفرغاً للعبادة وفراراً من الشواغل.

الفائدة السادسة

من المخالطة التواضع، فإنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة، وقد يكون الكبر سبباً في اختيار العزلة. فقد روي في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند اللّه منزلة، فأوحى اللّه الى نبيه:قل لفلان إنك قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً، قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال:الآن قد بلغت رضا ربي، فأوحى اللًه الى نبيه قل له: إنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم، فخرج فدخل الأسواق وخالط الناس وجالسهم وواكلهم وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم، فأوحى اللّه تعالى الى نبيه: الآن قد بلغ رضاي. فكم من معتزل بيته وباعثه الكبر ومانعه عن المحافل أن لايوقر أو لايقدم، أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأتقى لطراوة ذكره بين الناس، وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خالط فلا يعتقد فيه الزهد والإشتغال بالعبادة فيتخذ البيت ستراً على مقابحه إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده من غير استغراق وقت الخلوة بذكر أو فكر،وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يحبون أن يزوروا. ويفرحون بتقرب العوام و السلاطين إليهم واجتماعهم على بابهم وطرقهم وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك،ولو كان الإشتغال بنفسه هو الذي يبغض اليه المخالطة وزيارة الناس لبغض إليهزيارتهم له، كما حكيناه عن الفضيل حيث قال: وهل جئتني إلا لأتزين لك وتتزين لي.وعن حاتم الأصم أنه قال للأمير الذي زاره: حاجتي أن لا أراك ولا تراني.فمن ليس مشغولاً مع نفسه بذكر اللّه فاعتزاله عن الناس سببه شدة اشتغاله بالناس، لأن قلبه متجرّد للإلتفات الى نظرهم إليه بعين الوقار والإحترام. والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه،أحدها:أن التواضع و المخالطة لا تنقص من منصب من هو متكبر بعلمه أو دينه إذ كان علي رضي اللّه عنه يحمل التمر و المللح في ثوبه ويده ويقول :  

لاينقص الكامل من كماله

 

ما جرّ من نفع عيالـه

وكان أبو هريرة وحذيفة وأبي وابن مسعود رضي اللّه عنهم يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم وكان أبو هريرة رضي اللّه عنه يقول - وهو والي المدينة و الحطب على رأسه - طرقوا لأميركم. وكان سيد المرسلين صلى اللّه عليه وسلم يشتري الشئ فيحمله الى بيته بنفسه؛ فيقول له صاحبه: أعطني أحمله فيقول "صاحب الشئ أحق بحمله" وكان الحسن بن علي رضي اللّه عنهما يمر بالسؤال وبين أيديهم كسر فيقولون: هلم الى الغداء يا ابن رسول اللّه فكان ينزل ويجلس على الطريق ويأكل معهم ويركب ويقول "إن اللّه لا يحب المستكبرين". الوجه الثاني:أن الذي شغل نفسه بطلب رضا الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه مغرور لأنه لو عرف اللّه حق المعرفة علم أن الخلق لا يغنون عنه من اللّه شيئاً؛ وأن ضرره ونفعه بيد اللّه ولا نافع ولا ضار سواه وأن من طلب رضا الناس ومحبتهم بسخط اللّه سخط اللّه عليه وأسخط عليه الناس،بل رضا الناس غاية لا تنال، فرضى اللّه أولى بالطلب ولذلك قال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: واللّه ما أقول لك إلا نصحاً إنه ليس الى السلامة من الناس من سبيل،فانظر ماذا يصلحك فافعله؟ ولذلك قيل:  

من راقب الناس مات غماً

 

وفاز باللذة الـجـسـور

ونظر سهل الى رجل من أصحابه فقال له:اعمل كذا وكذا - لشئ أمره به - فقال:يا أستاذ لا أقدر عليه لأجل الناس،فالتفت إلى أصحابه وقال: لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين؛ عبد تسقط الناس من عينه فلا يرى في الدنيا إلا خالقه، وأن أحداً لا يقدر على أن يضره ولا ينفعه. وعبد سقطت نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه.وقال الشافعي رحمه اللّه: ليس نم أحد وإلا له محب ومبغض فإذا كان هكذا فكن مع أهل طاعة اللّه وقيل للحسن: يا أبا سعيد إن قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم إلا أن تتبع سقطات كلامك وتعنيتك بالسؤال؛ فتبسم وقال للقائل:هوّن على نفسك فإني حدثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت وما حدثت نفسي بالسلامة من الناس لأني قد علمت أن خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم. وقال موسى صلى اللّه عليه وسلم يا رب احبس عني ألسنة الناس فقال: يا موسى هذا شئ لم اصطفه نفسي فكيف أفعله بك؟ وأوحى للّه سبحانه و تعالى الى عزير: إن لم تطب نفساً بأني اجعلك علكاً في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين.فإذن من حبس نفسه في البيت ليحسن اعتقادات الناس وأقوالهم فيه فهو في عناء حاضر في الدنيا"ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون"  فإذن لا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات بربه ذكراً وفكراً وعبادة وعلماً بحيث لو خالطه الناس لضاعفت أوقاته وكثرت آفاته ولتشوشت عليه عباداته.فهذه غوائل خفية في اختيار العزلة ينبغي أن تتقي فإنها مهلكات في صور منجيات .

الفائدة السابعة

التجارب

فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجاري أحوالهم.و العقل الغريزي ليس كافياً في تفهم مصالح الدين والدنيا. وإنما تفيدها التجربة والممارسة،ولاخير في عزلة من لم تحنكه التجارب؛ فالصبي إذا اعتزل بقي غمراً جاهلاً بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم، ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ويكفيه ذلك، ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال ولا يحتاج الى المخالطة. ومن أهم التجارب أن يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة، فإن كل مجرب في الخلاء يسر، وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم يترشح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها. فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثال دمل ممتلئ بالصديد والمدة وقد لا يحس صاحبه بألمه مالم يتحرك أو يمسه غيره، فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه وأعتقد فقده. ولكن لو حركة محرك أو إصابة مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشئ المختنق إذا حبس عن الإسترسال،فكذلك القلب المشحون بالحقد والبخل والحسد والغضب وسائر الأخلاق الذميمة إنما تتفجر منه خبائثه إذا حرك. وعن هذا كان السالكون لطرق الآخرة الطالبون لتزكية القلوب يجربون أنفسهم. فمن كان يستشعر في نفسه كبراً سعى في إماطته حتى كان بعضهم يحمل قربة ماء على ظهره بين الناس أو حزمة حطب على رأسه يتردد في الأسواق ليجرب نفسه بذلك؛ فإن غوائل النفس ومكائد الشيطان خفية قل من يتفطن لها ولذلك حكي عن بعضهم أنه قال: أعدت الصلاة ثلاثين سنة مع كنت أصليها في الصف الأول، ولكن تخلفت يوماً بعذر فما وجدت موضعاً في الصف الأول فوقفت في الصف الثاني فوجدت نفسي تستشعر خجلة من نظر الناس إلي وقد سبقت الى الصف الأول،فعلمت أن جميع صلواتي التي كنت أصليها كانت مشوبة بالرياء ممزوجة بلذة نظر الناس إلي ورؤيتهم إياي في زمرة السابقين الى الخير. فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإظهارها. ولذلك قيل:السفر يسفر عن الأخلاق فإنه نوع من المخالطة الدائمة. وستأتي غوائل هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات، فإن بالجهل بها يحيط العلم الكثير وبالعلم بها يزكو العمل القليل، ولولا ذلك ما فضل العلم على العمل، إذ يستحيل أن يكون العلم بالصلاة ولا يراد للصلاة إلا أفضل من الصلاة، فإنا نعلم أن ما يراد لغيره فإن ذلك الغير أشرف منه،وقد قضى الشرع بتفضيل العالم العابد حتى قال صلى اللّه عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي"فمعنى تفضيل العلم يرجع الى ثلاثة أوجه" أحدها" ما ذكرناه "والثاني" عموم النفع لتعدى فائدته والعمل لا تتعدى فائدته "والثالث" أن يراد به العلم باللّه وصفاته وأفعاله فذلك أفضل من كل عمل، بل مقصود الأعمال صرف القلوب عن الخلق الى الخالق لتنبعث بعد الإنصراف اليه لمعرفته ومحبته، فالعمل وعلم العمل مرادان لهذا العلم، وهذا العلم غاية المريدين والعمل كالشرط له، وإليه الإشارة بقوله تعالى "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" فالكلم الطيب هو هذا العلم، والعمل كالحمال الرافع له الى مقصده فيكون المرفوع أفضل من الرافع. وهذا كلام معترض لا يليق بهذا الكلام. فلنرجع الى المقصود فنقول: إذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ، بل ينبغي أن ينظر الى الشخص وحاله والى الخليط وحاله والى الباعث على مخالطته والى الفائت بسبب مخالطته من هذه الفوائد المذكورة، ويقاس الفائت بالحاصل فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل، كلام الشافعي رحمه اللّه هو فصل الخطاب إذ قال يا يونس، الإنقباض عن الناس مكسبة للعداوة والإنبساط اليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط. فلذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة، ويختلف ذلك بالأحوال. وبملاحظة الفوائد والآفات يتبين الأفضل. هذا هو الحق الصراح وكل ما ذكر سوى هذا فهو قاصر. وإنما هو إخبار كل واحد عن حالة خاصة هو فيها، ولا يجوز أن يحكم بها على غيره والمخالف له في الحال.والفرق بين العالم والصوفي في ظاهر العلم يرجع الى هذا وهو أن الصوفي لا يتكلم إلا عن حاله فلا جرم تختلف أجوبته في المسائل، والعالم هو الذي يدرك الحق على ما هو عليه ولاينظر الى حال نفسه فيكشف الحق فيه، وذلك مما لا يختلف فيه فإن الحق واحد أبداً، والقاصر عن الحق كثير لايحصى.ولذلك سئل الصوفية عن الفقر فما من واحد إلا وأجاب بجواب غير جواب الآخر، وكل ذلك حق بالإضافة إلى حاله وليس بحق في نفسه إذ الحق لا يكون إلا واحد.ولذلك قال أبو عبد الله الجلاء- وقد سئل عن الفقر- فقال: اضرب بكميك الحائط وقل ربى الله فهو الفقر. وقال الجنيد:الفقير هو الذي لا يسأل أحد ولا يعارض وإن عورض سكت. وقال سهل بن عبد الله: الفقير الذي لا يسأل ولا يدخر. وقال آخر: هو أن لا يكون لك فإن كان لك فلا يكون لك من حيث لم يكن لك. وقال إبراهيم الخواص: هو ترك الشكوى وإظهار أثر البلوى. والمقصود أنه لو سئل منهم مائة لسمع منهم مائة جواب مختلفة قلما يتفق منها اثنان، وذلك كله حق من وجه فإنه خبر كل واحد عن حاله وما غلب عن قلبه. ولذلك لا نرى اثنين منهم يثبت أحدهما لصاحبه قدما في التصوف أو يثنى عليه،بل كل واحد منهم يدعى أنه الواصل إلى الحق والواقف عليه؛ لأن أكثر ترددهم على مقتضى الأحوال التي تعرض لقلوبهم فلا يشتغلون إلا بأنفسهم ولا يلتفتون إلى غيرهم. ونور العالم إذا أشرق أحاط بالكل وكشف الغطاء ورفع الاختلاف. ومثال نظر هؤلاء ما رأيت من نظر قوم في أدلة الزوال- بالنظر في الظل- فقال بعضهم هو في الصيف قدمان،وحكى عن آخر أنه نصف قدم، وآخر يرد عليه وأنه في الشتاء سبعة أقدام،وحكى عن آخر أنه خمسة أقدام،وآخر يرد عليه؛ فهذا يشبه أجوبة الصوفية واختلافهم، فإن كل واحد من هؤلاء أخبر عن الظل الذي رآه ببلد نفسه، فصدق في قوله وأخطأ في تخطئته صاحبه إذ ظن أن العالم كله بلده أو هو مثل بلده، كما أن الصوفي لا يحكم على العالم إلا بما هو حال نفسه: والعالم بالزوال هو الذي يعرف علة طول الظل وقصره وعلة اختلافه بالبلاد فيخبر بأحكام مختلفة في بلاد مختلفة ويقول في بعضها لا يبقى ظل، وفي بعضها يطول، وفي بعضها يقصر فهذا ما أردنا أن نذكره من فضيلة العزلة والمخالطة. فإن قلت:فمن آثر العزلة ورآها أفضل له وأسلم فما آدابه في العزلة؟ فنقول:إنما يطول النظر في آداب المخالطة وقد ذكرناها في كتاب آداب الصحبة. وأما آداب العزلة فلا تطول فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شر نفسه عن الناس أولا، ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا،ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا،ثم التجرد بكنه الهمة لعبادة الله رابعا؛ فهذه آداب نيته.ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل والذكر والفكر ليجتني ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته فيشوش أكثر وقته.وليكف عن السؤال عن أخبارهم وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به، فإن كل ذلك ينغرس في قلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة أو الفكر من حيث لا يحتسب،فوقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض فلا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه ويتداعى بعضها إلى بعض. وأحد مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله. والأخبار ينابيع الوساوس وأصولها. وليقنع باليسير من المعيشة وإلا اضطره التوسع إلى الناس واحتاج إلى مخالطتهم.وليكن صبورا عل ما يلقاه من أذى الجيران وليسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقال فيه من ثناء عليه بالعزلة أو قدح فيه بترك الخلطة، فإن كل ذلك يؤثر في القلب ولو مدة يسيرة، وحال اشتغال القلب به لابد أن يكون واقفا عن سيره إلى الطريق الآخرة، فإن السير إما بالمواظبة على ورد وذكر مع حضور قلب، وإما بالفكر في جلال الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأرضه،وإما بالتأمل في دقائق الأعمال ومفسدات القلوب وطلب طرق التحصن منها. وكل ذلك يستدعي الفراغ والإصغاء إلى جميع ذلك مما يشوش القلب في الحال.وقد يتجدد ذكره في دوام الذكر من حيث لا ينتظر. وليكن له أهل صالحة أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه في اليوم ساعة من كد المواظبة ففيه عون على بقية الساعات. ولا يتم له الصبر في العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا وما الناس منهمكون فيه، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل بأن لا يقدر لنفسه عمرا طويلا،بل يصبح على أنه لا يمسي ويمسي على أنه لا يصبح، فيسهل عليه الصبر يوم ولا يسهل عليه العزم على الصبر عشرين سنة لو قدر تراخى الأجل. وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة. وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به فلا يطيق وحشه الوحدة بعد الموت. وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فلا يزيل الموت أنسه إذ لا يهدم الموت محل الأنس والمعرفة بل يبقى حيا بمعرفته وأنسه فرحا بفضل الله عليه ورحمته، كما قال الله تعالى في الشهداء "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله" وكل متجرد الله في جهاد نفسه فهو شهيد مهما أدركه الموت مقبلا غير مدبر "فالمجاهد من جاهد نفسه وهواه" وكما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والجهاد الأكبر جهاد النفس كما قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر،يعنون جهاد النفس.

تم كتاب العزلة، ويتلوه: كتاب آداب السفر، والحمد لله وحده.