الحمد لله الذي فتح بصائر أوليائه بالحكم والعبر، واستخلص همهم لمشاهدة عجائب صنعه في الحضر والسفر، فأصبحوا راضين بمجاري القدر منزهين قلوبهم عن التلفت إلى متنزهات البصر إلا على سبيل الاعتبار بما يسبح في مسارح النظر ومجاري الفكر، فاستوى عندهم البر والبحر والسهل والوعر والبدو والحضر. والصلاة على محمد سيد البشر وعلي وصحبه المقتفين لآثاره في الأخلاق والسير وسلم كثيرا.
أما بعد فإن السفر وسيلة إلى الخلاص عن مهروب عنه أو الوصول إلى مطلوب ومرغوب فيه. والسفر سفران: سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن إلى الصحارى والفلوات،وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السموات. وأشرف السفرين السفر الباطل. فإن الواقف على الحالة التي نشأ عليها عقيب الولادة، الجامد على ما تلقفه بالتقليد من الآباء والأجداد، لازم درجة القصور وقانع بمرتبة النقص ومستبدل بمتسع فضاء "جنة عرضها السموات والأرض" ظلمة السجن وضيق الحبس، ولقد صدق القائل:
ولم أر في عيوب الناس عيبا |
|
كنقص القادرين على التمام |
إلا أن هذا السفر لما كان مقتحمه في خطب خطير لم يستغن فيه عن دليل وغفير، فاقتضى غموض السبيل وفقد الخفير والدليل وقناعة السالكين عن الحظ الجزيل بالنصيب النازل القليل، اندرس مسالكه. فانقطع فيه الرفاق وخلا عن الطائفين متنزهات الأنفس والملكوت والآفاق. وإليه دعا الله سبحانه بقوله "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" وبقوله تعالى "وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون" وعلى القعود عن هذا السفر وقع الإنكار بقوله تعالى "وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون" وبقوله سبحانه "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" فمن يسر له هذا السفر لم يزل في سيره متنزها في جنة عرضها السموات والأرض وهو ساكن بالبدن مستقر في الوطن.وهو السفر الذي لا تضيق فيه المناهل والموارد ولا يضر فيه التزاحم والتوارد، بل تزيد بكثرة المسافرين غنائمه وتتضاعف ثمراته وفوائده؛ فغنائمه دائمة غير ممنوعة وثمراته متزايدة غير مقطوعة إلا إذا بدا للمسافر فترة في سفره ووقفة في حركته فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا زاغوا أزاغ الله قلوبهم وما الله بظلام للعبيد،ولكنهم يظلمون أنفسهم ومن لم يؤهل للجولان في هذا الميدان والتطواف في متنزهات هذا البستان ربما سافر بظاهر بدنه في مدة مديدة فراسخ معدودة مغتنما بها تجارة للدنيا أو ذخيرة للآخرة، فإن كان مطلبه العلم والدين أو الكفاية للاستعانة على الدين كان من سالكي سبيل الآخرة، وكان له في سفره شروط وآداب إن أهملها كان من عمال الدنيا وأتباع الشيطان، وإن واظب عليها لم يخل سفره عن فوائد تلحقه بعمال الآخرة،ونحن نذكر آدابه وشروطه في بابين إن شاء الله تعالى. (الباب الأول) في الآداب من أول النهوض إلى آخر الرجوع وفي نية السفر وفائدته وفيه فصلان. (الباب الثاني) فيما لابد للمسافر من تعلمه من رخص السفر وأدلة القبلة والأوقات.
وفيه فصلان:
اعلم أن السفر نوع حركة ومخالطة،وفيه فوائد وله آفات- كما ذكرناه في كتاب الصحبة والعزلة.
والفوائد الباعثة على السفر لا تخلو من هرب أو طلب.فإن المسافر إما أن يكون له مزعج عن مقامه ولولاه لما كان له مقصد يسافر إليه، وإما أن يكون له مقصد ومطلب.
والمهروب عنه إما أمر له نكاية في الأمور الدنيوية. كالطاعون والوباء إذا ظهر ببلد أو خوف سببه فتنة أو خصومة أو غلاء سعر. وهو إما عام كما ذكرناه أو خاص كمن يقصد بأذية في بلدة فيهرب منها وإما أمر له نكاية في الدين كمن ابتلى في بلده بجاه ومال واتسع أسباب تصده عن التجرد لله،فيؤثر الغربة والخمول ويجتنب السعة والجاه، أو كمن يدعى إلى بدعة قهرا أو إلى ولاية عمل لا تحل مباشرته فيطلب الفرار منه.
وأما المطلوب فهو إما دنيوي كالمال والجاه أو ديني، والديني إما علم وإما عمل.
والعلم إما علم من العلوم الدينية وإما علم بأخلاق نفسه وصفاته على سبيل التجربة؛ وأما علم بآيات الأرض وعجائبها كسفر ذي القرنين وطوافه في نواحي الأرض.
والعمل إما عبادة وإما زيارة. والعبادة هو الحج والعمرة والجهاد. والزيارة أيضا من القربات وقد يقصد بها مكان كمكة والمدينة وبيت المقدس. والثغور فإن الرباط بها قربة.وقد يقصد بها الأولياء والعلماء وهم إما موتى فتزار قبورهم وإما أحياء فيتبرك بمشاهدتهم ويستفاد من النظر إلى أحوالهم قوة الرغبة في الإقتداء بهم.
فهذه هي أقسام الأسفار ويخرج من هذه القسمة أقسام: القسم الأول: السفر في طلب العلم،وهو إما واجب وإما نفل وذلك بحسب كون العلم واجبا أو نفلا. وذلك العلم إما علم بأمور دينه أو بأخلاقه في نفسه أو بآيات الله في أرضه.وقد قال عليه السلام "من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع "وفي خبر آخر" من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" وكان سعيد ابن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد. وقال الشعبى: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمه تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا. ورحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى مصر مع عشرة من الصحابة فساروا شهرا في حديث بلغهم عن عبد الله أنيس الأنصاري يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعوه وكل مذكور في العلم محصل له- من زمان الصحابة إلى زماننا هذا- لم يحصل العلم إلا بالسفر وسافر لأجله، وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك أيضا منهم فإن طريق الآخرة لا يمكن سلوكها إلا بتحسين الخلق وتهذيبه: ومن لا يطلع على أسرار باطنه وخبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها.وإنما السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال وبه يخرج الله الخبء في السموات والأرض وإنما سمى السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق: ولذلك قال عمر رضى الله عنه للذي زكى عنده بعض الشهود: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم أخلاقه: لا، فقال: ما أراك تعرفه وكان بشر يقول: يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا ساح طاب،وإذا طال مقامه في موضع تغير. وبالجملة فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاسئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة، فإذا حملت وعناء السفر وصرفت عن مألوفاتها المعادة وامتحنت بمشاق الغربة انكشفت غوائلها ووقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعلاجها. وقد ذكرنا في كتاب العزلة فوائد المخالطة والسفر مخالطة مع زيادة اشتغال واحتمال مشاق. وأما آيات الله في أرضه ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر، ففيها قطع متجاورات وفيها الجبال والبراري والبحار وأنواع الحيوان والنبات، وما من شئ منها إلا وهو شاهد لله بالوحدانية ومسبح له بلسان ذلق لا يدركه إلا من ألقى السمع وهو شهيد. وأما الجاحدون والغافلون والمغترون بلامع السراب من زهرة الدنيا فإنهم لا يبصرون ولا يسمعون لأنهم عن السمع معزولون وعن آيات ربهم محجوبون "يعملون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" وما أريد بالسمع السمع الظاهر- فإن الذين أريدوا به ما كانوا معزولين عنه- وإنما أريد به السمع الباطن ولا يدرك بالسمع الظاهر إلا الأصوات. ويشارك الإنسان فيه سائر الحيوانات. فأما السمع الباطن فيدرك به لسان الحال الذي هو نطق وراء نطق الممال يشبه قول القائل- حكاية لكلام الوتد والحائط- قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ فقال: سل من يدقنى،ولم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي. وما من ذرة في السموات والأرض إلا ولها أنواع شاهدات لله تعالى بالوحدانية هي توحيدها،وأنواع شاهدات لصانعها بالتقدس هي تسبيحها،ولكن لا يفقهون تسبيحها- لأنهم لم يسافروا من مضيق سمع الظاهر إلى فضاء سمع الباطن ومن ركاكة لسان المقال إلى فصاحة لسان الحال- ولو قدر كل عاجز على مثل هذا السير لما كان سليمان عليه السلام مختصا بفهم منطق الطير ولما كان موسى عليه السلام مختصا بسماع كلام الله تعالى الذي يجب تقديسه عن مشابهة الحروف والأصوات. ومن يسافر ليستقرئ هذه الشهادات من الأسطر المكتوبة بالخطوط الإلهية على صفحات الجمادات لم يطل سفره بالبدن بل يستقر في موضع ويفرغ قلبه للتمتع بسماع نغمات التسبيحات من آحاد الذرات،فماله وللتردد في الفلوات وله غنية في ملكوت السموات؟ فالشمس والقمر والنجوم بأمره مسخرات. وهي إلى أبصار ذوى البصائر مسافرات في الشهر والسنة مرات، بل هي دائبة في الحركة على توالى الأوقات. فمن الغرائب أن يدأب في الطواف بآحاد المساجد من أمرت الكعبة أن تطوف به، ومن الغرائب أن يطوف في أكناف الأرض من يطوف به أقطار السماء.ثم مادام المسافر مفتقرا إلى أن يبصر عالم الملك والشهادة بالبصر الظاهر فهو بعد في المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله والمسافرين إلى حضرته، وكأنه معتكف على باب الوطن لم يفض به المسير إلى متسع الفضاء،ولا سبب لطول المقام في هذا المنزل إلا الجبن والقصور. ولذلك قال بعض أرباب القلوب:إن الناس ليقولون افتحوا أعينكم حتى تبصروا، وأنا أقول:غمضوا أعينكم حتى تبصروا، وكل واحد من القولين حق إلا أن الأول خبر عن المنزل الأول القريب من الوطن، والثاني خبر عما بعده من المنازل البعيدة عن الوطن التي لا يطؤها إلا مخاطر بنفسه؛والمجاوز إليها ربما يتيه فيها سنين وربما يأخذه التوفيق بيده فيرشده الى سواء السبيل، والهالكون في التيه هم الأكثرون من ركاب هذه الطريق ولكن السائحون بنور التوفيق فازوا بالنعيم والملك المقيم وهم الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، واعتبر هذا الملك بملك الدنيا فإنه يقل بالإضافة الى كثرة الخلق طلابه، ومهما عظم المطلوب قل المساعد.ثم الذي يهلك أكثر من الذي يملك.ولا يتصدى لطلب الملك العاجز الجبان لعظيم الخطر وطول التعب:
وإذا كانت النفوس كبـاراً |
|
تعبت في مرادها الأجسام |
وما أودع اللّه العز والملك في الدين والدنيا إلا في حين الخطر.وقد يسمى الجبان الجبن والقصور باسم الحزم و الحذر كما قيل:
ترى الجبناء أن الجبن حزم |
|
وتلك خديعة الطبع اللـئيم |
فهذا حكم السفر الظاهر إذا أريد به السفر الباطن بمطالعة آيات اللّه في الأرض . فلنرجع الى الغرض الذي كنا نقصده ولنبين القسم الثاني: وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد وقد ذكرنا فضل ذلك وآدابه وأعماله الظاهرة والباطنة في كتاب أسرار الحج ، ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته. ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ولا يمنع من هذا قوله عليه السلام "لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" لأن ذلك في المساجد،فغنها متماثلة بعد هذه المساجد، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه .
وبالجملة زيارة الأحياء أولى من زيارة الأموات. والفائدة من زيارة الأحياء طلب بركة الدعاء وبركة النظر إليهمفإن النظر الى وجوه العلماء والصلحاء عبادة. وفيه أيضاً حركة للرغبة في الإقتداء بهم والتخلق بأخلاقهم وآدابهم؛ هذا سوى اما ينتظر من الفوائد العلمية المسفادة من أنفاسهم وأفعالهم كيف ومجرد زيارة الأخوان في اللّه فيه فضل؟ كما ذكرناه في كتاب الصحبة. وفي التوراة:سر أربعة أميال زر أخاً في اللّه. وأما البقاع فلا معنى لزيارتها سوى المساجد الثلاثة وسوى الثغور للرباط بها، فالحديث ظاهر في أنه لا تشد الرحال لطلب بركة إلا الى المساجد الثلاثة. وقد ذكرنا فضائل الحرمين في كتاب الحج.
وهي أحد عشر آدبا الأول: أن يبدأ برد المظالم وقضاء الديون واعداد النفقة لمن تلزمه نفقته، وبرد الودائع إن كانت عنده ولا يأخذ لزاده إلا الحلال الطيب، وليأخذ قدرا يوسع به على رفقائه. قال ابن عمر رضي اللّه عنهما من كرم الرجل طيب زاده في سفره. ولا بد في السفر من طيب الكلام وإطعام الطعام وإظهار مكارم الأخلاق في السفر، فإنه يخرج خبايا الباطن.ومن صلح لصحبة السفر صلح لصحبة الحضر:وقد يصلح في الحضر من لا يصلح في السفر. ولذلك قيل: إذا أثني على الرجل معاملوه في الحضر ورفقاؤه فلا تشكوا في صلاحه. والسفر من أسباب الضجر، ومن أحسن خلقه في الضجر فهو لحسن الخلق، وإلا فعند مساعدة الأمور على وفق الغرض قلما يظهر سوء الخلق.
وقد قيل ثلاثة لا يلامون على الضجر: الصائم والمريض والمسافر،وتمام حسن خلق المسافر الإحسان الى المكاري ومعاونة الرفقة بكل ممكن والرفق بكل ممنقطع بأن لا يجاوزه إلا بالإعانة بمركوب أو زاد أو توقف لأجله. وتمام ذلك مع الرفقاء بمزاح ومطايبة في بعض الأوقات من غير فحش ولا معصية ليكون ذلك شفاء لضجر السفر ومشاقه.
الثاني: أن يختار رفيقاً فلا يخرج وحده،فالرفيق ثم الطريق. وليكن رفيقه ممن يعينه على الدين فيذكره إذا نسي ويساعده إذا ذكر، فإن الرمء على دين خليله ولا يعرف الرجل إلا برفيقه. وقد نهى صلى اللّه عليه وسلم عن أن يسافر الرجل وحده وقال "الثلاثة نفر" وقال أيضاً "إذا كنتم ثلاثة في السفر فأمروا أحدكم" وكانوا يفعلون ذلك ويقولون: هذا أميرنا أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وليؤمروا أحسنهم أخلاقاً وأرفقهم بالأصحاب وأسرعهم الى الإيثار وطلب الموافقة. وإنما يحتاج الى أمير لأن الآراء تختلف في تعيين المنازل والطرق ومصالح السفر، ولا نظام إلا في الوحدة ولا فساد إلا في الكثرة. وإنما انتظم أمر العالم لأن مدبر الكل واحد" لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا"ومهما كان المدبر واحد انتظم أمر التدبير. وإذاكثر المدبرون فسدت الأمور في الحضر والسفر، إلا أن مواطن الإقامة لا تخلو عن أمير عام كأمير البلد. وأمير خاص كرب الدارز وأما السفر فلا يتعين له أمير إلا بالتأمير. فلهذا وجب التأمير ليجتمع شتات الآراء. ثم على الأمير أن لا ينظر إلا لمصلحة القوم وأن يجعل نفسه وقاية لهم،كما نقل عن عبد اللّه المروزي أنه صحبه أبو على الرباطي فقال: على أن تكون أنت الأمير أو أنا، فقال: بل أنت،فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي على ظهره فأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد اللّه طول الليل على رأس رفيقه وفي يده كسا.يمنع عنه المطر فكلما قال له عبد اللّه: لا تفعل، يقول، ألم تقل إن الإمارة مسلمة لي؟ فلا تتحكم علي ولا ترجع عن قولك: حتى قال أبو علي:وددت أني مت ولم أقل له أنت الأمير، فهكذا ينبغي أن يكون الأمير.وقد قال صلى اللّه عليه وسلم "خير الأصحاب أربعة" وتخصيص الأربعة من بين سائر الأعداد لا بد أن يكون له فائدة، والذي ينقدح فيه أن المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج الى حفظه وعن حاجة يحتاج الى التردد فيها" ولو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحد فيبقى في السفر بلا رفيق، فلا يخلو عن خطر وعن ضيق قلب لفقد أنس الرفيق، ولو تردد في الحاجة اثنان لكان الحافظ للرحل واحدا، فلا يخلو أيضاً عن الخطر وعن ضيق الصدر. فإذن ما دون الأربعة لا يفي بالمقصود، وما فوق الأربعة يزيد فلا تجمعهم رابطة واحدة فلا ينعقد بينهم الترافق، لأن الخامس زيادة بعد الحاجة، ومن يستغني عنه لا تنصرف الهمة اليه فلا تتم المرافقة معه. نعم في كثرة الرفقاء فائدة للأمن من المخاوف ولكن الأربعة خير للرفاقة الخاصة لا للرفاقة العامة. وكم من رفيق في الطريق عند كثرة الرفاق لا يكلم ولا يخالط الى آخر الطريق للاستغناء عنه. الثالث: أن يودع رفقاء الحضر والأهل والأصدقاء: وليدع عند الوداع بدعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال بعضهم:صحبت عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما من مكة الى المدينة حرسها اللّه، فلما أردت أن أرافقه شيعني وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول "قال لقمان أن اللّه تعالى إذا استودع شيئاً حفظه وإني أستودع اللّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك" وروى زيد بن أرقم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال "إذا أراد أحدكم سفراً فليودع أخوانه فإن اللّه تعالى جاعل له في دعائهم البركة" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا ودع رجلاً قال "زودك اللّه التقوى وغفر ذنبك ووجهك الى الخير حيث توجهت" فهذا دعاء المقيم للمودع. وقال موسى بن وردان: أتيت أبا هريرة رضي اللّه عنه أودعه لسفر أردته، فقال ألا أعلمك يا ابن أخي شيئاً علمنيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند الوداع، فقلت بلى قال قل"أستودعك اللّه الذي لا تضعيه ودائعه" وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه" أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال:إني أريد سفراً فأوصني فقال له" في حفظ اللّه وفي كنفه زودك اللّه التقوى وغفر ذنبك ووجهك للخير حيث كنت أو أينما كنت"شك في الراوي.
وينبغي إذا استودع اللّه تعالى ما يخلفه أن يستودع الجمع ولا يخصص. فقد روي أن عمر رضي اللّه عنه كان يعطي الناس عطاياهم إذا جاءه رجل معه ابن له فقال له عمر:ما رأيت أشبه بأحد من هذا بك؟ فقال له الرجل: أحدثك عنه يا أمير المؤمنين بأمر، إني أردت أن أخرج الى سفر وأمه حامل به فقالت: تخرج وتدعني على هذه الحالة؟ فقلت:أستودع اللّه ما في بطنك، فخرجت ثم قدمت فإذا هي قد ماتت"فجلسنا نتحدّث فإذا نار على قبرها فقلت للقوم ما هذه النار؟ فقالوا: هذه النار من قبر فلانة نراها كل ليلة، فقلت: واللّه إنها لكانت صوّامة قوّامة، فأخذت المعول حتى انتهينا الى القبر فحفرنا فإذا سراج وإذا هذا الغلام يدب، فقيل لي أن هذه وديعتك ولو كنت استودعت أمه لوجدتها، فقال عمر رضي اللّه عنه: لهو أشبه بك من الغراب بالغراب.
الرابع: أن يصلي قبل سفره صلاة الإستخارة كما وصفناها في كتاب الصلاة. ووقت الخروج يصلي لأجل السفر، فقد روى أنس بن مالك رضي اللّه عنه، أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: إني نذرت سفراً وقد كتبت وصيتي فالى أي الثلاثة أدفعها؟ الى ابني أم أخي أم أبي: فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم "ما استخلف عبد في أهله من خليفة أحب الى اللّه من أربع ركعات يصليهن في بيته إذا شدّ عليه ثياب سفره، يقرأ فيهن بفاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد ثم يقول: اللهم إني أتقرب بهن إليك فاخلفني بهن في أهلي ومالي فهي خليفته في أهله وماله وحرز حول داره حتى يرجع الى أهله".
الخامس: إذا حصل على باب الدار فليقل: بسم اللّه توكلت على اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه رب أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي، فإذا مشى قال: اللهم بك انتشرت وعليك توكلت وبك اعتصمت وإليك توجهت اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي فاكفني ما أهمني وما لم أهتم به وما أنت أعلم به مني عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أينما توجهت. وليدع بهذا الدعاء في كل منزل يرحل عنه. فإذا ركب الدابة فليقل:بسم االلّه وباللّه واللّه أكبر توكلت على اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا لربنا لمنقلبون. فإذا استوت الدابة تحته فليقل "الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه " اللهم أنت الحامل على الظهر وأنت المستعان على الأمور. السادس: أن يرحل عن المنزل بكرة. روى جابر: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رحل يوم الخميس وهو يريد تبوك وقال "اللهم بارك لأمتي في بكورها" ويستحب أن يبتدئ بالخروج يوم الخميس، فقد روى عبد اللّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قلما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرج الى سفر إلا يوم الخميس. وروى أنس:أنه صلى اللّه عليه وسلم قال "اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم السبت" وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث سرية بعثها أوّل النهار. وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم قال "اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم خميسها" وقال عبد اللّه بن عباس: إذا كان لك الى رجل حاجة فاطلبها منه نهارا ولا تطلبها ليلاً واطلبها بكرة، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول "اللهم بارك لأمتي في بكورها".
ولا ينبغي أن يسافر بعد طلوع الفجر من يوم الجمعة فيكون عاصياً بترك الجمعة، واليوم منسوب اليها - فكان أوله من أسباب وجوبها.والتشييع للوداع مستحب وهو سنة قال صلى اللّه عليه وسلم"لأن أشيع مجاهداً في سبيل اللّه فأكتنفه على رحله غدو أو روحه أحب الى الدنيا وما فيها".
السابع:أن لا ينزل حتى يحمى النهار فهي السنة ويكون أكثر سيره بالليل. قال اللّه عليه وسلم "غليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ما لاتطوي بالنهار" ومهما أشرف على المنزل فليقل: اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وماذرين ورب البحار وما جرين أسألك خير هذا المنزل وخير أهله وأعوذ بك من شر هذا المنزل وشر ما فيه أصرف عني شر شرارهم.فإذا نزل المنزل فليصل فيه ركعتين ثم ليقل:اللهم إني أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق. فإذا جن الليل فليقل: يا أرض ربي وربك اللّه أعوذ باللّه من شرك ومن شر ما فيك وشر ما دب عليك أعوذ باللّه من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد" وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم" ومهما علا شرفاً من الأرض في وقت السير فينبغي أن يقول: اللهم لك الشرف على كل شرف ولك الحمد على كل حال، ومهما هبط سبح ومهمنا خاف الوحشة في سفره قال:سبحان الملك القدّوس رب الملائكة والروح جللت السموات بالعزة والجبروت.
الثامن:أن يحتاط بالنهار فلا يمشي منفرداً خارج القافلة - لأنه ربما يغتال أو ينقطع - ويكون بالليل متحفظاً عند النوم.كان صلى اللّه عليه وسلم إذا نام في ابتداء الليل في السفر افترش ذراعيه وإن نام في آخر الليل نصب ذراعيه نصباً وجعل رأسه في كفه.والغرض من ذلك أن لا يستثقل في النوم فتطلع الشمس وهو نائم لا يدري فيكون ما يفوته من الصلاة أفضل مما يطلبه بسفره .
والمستحب بالليل أن يتناوب الرفقاء في الحراسة فإذا نام واحد حرس آخرفهذه السنة. ومهما قصده عدوّ أو سبع في ليل أو نهار فليقرأ آية الكرسي وشهد اللّه وسور الإخلاص والمعوّذتين. وليقل:بسم اللّه ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه حسبي اللّه توكلت على اللّه ما شاء اللّه لا يأتي بالخيرات إلا اللّه ما شاء اللّه لا يصرف السوء إلا اللّه حسبي اللّه وكفى سمع اللّه لمن دعا ليس وراء اللّه منتهى ولا دون اللّه ملجأ" كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز" تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي القيوم الذي لا يموت اللّهم احرسنا بعينك التي لا تنام واكنفنا بركتك الذي لا يرام اللهم ارحمنا بقدرتك علينا فلا تهلك وانت ثقتنا ورجاؤنا اللهم أعطف علنا قلوب عبادك وإمائك برأفة ورحمة إنك أنت أرحم الراحمين.
التاسع: أن يرفق بالدابة إن كان راكباً فلا يحملها مالا تطيق. ولا يضر بها في وجهها فإنه منهي عنه، ولا ينام عليها فإنه يثقل بالنوم وتتأذى به الدابة كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلا غفوة: وقال صلى اللّه عليه وسلم لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي ويستحب أن ينزل عن الدابة غدوة وغشية يروّحها بذلك فهو سنة وقيه آثار عن السلف. وكان بعض السلف يكتري بشرط أن لا ينزل ويوفي الأجرة. ثم كان ينزل ليكون بذلك محسناً الى الدابة فيوضع في ميزان حسناته لا في ميزان حسنات المكارى. ومن آذى بهيمة بضرب أو حمل مالا تطيق طولب به يوم القيامة إذ في كل كبد حراء أجر.قال أبو الدرداء رضي اللّه عنه لبعير له عند الموت: أيها البعير لا تخاصمني الى ربك فإني لم أك أحملك فوق طاقتك. وفي النزول ساعة صدقتان، إحداهما: ترويح الدابة: والثانية: إدخال السرور على قلب المكاري.وفيه فائدة أخرى وهي رياضة البدن وتحريك الرجلين. والحذر من خدر الأعضاء بطول الركوب. وينبغي أن يقرّر مع المكاري ما يحمله عليها شيئاً شيئاً ويعرضه عليه، ويستأجر الدابة بعقد صحيح لئلا يثور بينهما نزاع يؤذي القلب ويحمل على الزيادة في الكلام، فما يلفظ العبد من قول إلا لديه رقيب عتيد. فليحترز عن كثرة الكلام واللجاج مع المكارى، فلا ينبغي أن يحمل فوق المشروط شيئاً وإن خف. فإن القليل يجر الكثير ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. قال رجل لابن المبارك وهو على دابة: احمل لى هذه الرقعة الى فلان. فقال: حتى استأذن المكارى فإني لم أشارطه على هذه الرقعة. فانظر كيف لم يلتفت الى قول الفقهاء إن هذا مما يتسامح فيه ولكن سلك طريق الورع؟ العاشر: ينبغي أن يستصحب ستة أشياء. قالت عائشة رضي اللّه عنها: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سافر حمل معه خمسة أشياء. المرآة والمكحلة والمقراض والسواك والمشط" وفي رواية أخرى عنها، ستة اشياء المرآة والقراورة والمقراض والسواك والمكحلة والمشط. وقالت أم سعد الأنصارية: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يفارقه في السفر المآة والمكحلة وقال صهيب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليكم بالإثمد عند مضجعكم فإنه مما يزيد في البصر وينبت الشعر" وروي أنه كان يكتحل ثلاثاً ثلاثا، وفي رواية: أنه اكتحل لليمنى ثلاثاً ولليسرى اثنتين وقد زاد الصوفية الركوة والحبل. وقال بعض الصوفية: إذا لم يكن مع الفقير ركوة وحبل دل على نقصان دينه. وإنما زادوا هذا لما رأوه من الإحتياط في طهارة الماء وغسل الثياب، فالركوة لحفظ الماء الطاهر،والحبل لتجفيف الثوب المغسول ولنزع الماء من الآبار. وكان الأوّلون يكتفون بالتيمم ويغنون أنفسهم عن نقل الماء. ولا يبالون بالوضوء من الغدران ومن المياه كلها مالم يتيقنوا نجاستها حتى توضأ عمر رضي اللّه عنه من ماء في جرة نصرانية. وكانوا يكتفون بالأرض والجبال عن الحبل فيفرشون الثياب المغسولة عليها. فهذه بدعة حسنة،وإنما البدعة المذمومة ما تضاد السنن الثابتة، وأما ما يعين إلى الإحتياط في الدين فمستحسن.
وقد ذكرنا أحكام المبالغة في الطهارات في كتاب الطهارة. وأن المتجرد لأمر الدين لا ينبغي أن يؤثر طريق الرخصة بل يحتاط في الطهارة ما لم يمنعه ذلك عن عمل أفضل منه .
وقيل كان الخواص من المتوكلين وكان لا يفارقه أربعة أشياء في السفر والحضر: الركوة والحبل والإبرة بخيوطها والمقراض، وكان يقول كهذه ليست من الدنيا .
الحادي عشر: في آداب الرجوع من السفر: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة أو غيره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ويقول "لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق اللّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" وإذا أشرف على مدينته فليقل:اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقاً حسناً. ثم ليرسل الى أهله من يبشرهم بقدومه كيلا يقدم عليهم بغتة فيرى ما يكرهه، ولا ينبغي أن يطرقهم ليلاً فقد ورد النهي عنه. وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا قدم دخل المسجد أولاً وصلى ركعتين ثم دخل البيت وإذا دخل قالطتوبا توبا لربنا أوبا أوبا لا يغادر علينا حوبا".
وينبغي أن يحمل لأهل بيته وأقاربه تحفة من مطعوم أو غيره على قدر إمكانه فهو سنة. فقد روي: أنه إن لم يجد شيئاً فليضع في مخلاته حجراًوكأن هذا مبالغة في الإستحثاث على هذه المكرمة لأن الأعين تمتدّ الى القادم من السفر والقلوب تفرح به، فيتأكد الإستحباب في تأكيد فرحهم وإظهار التفات القلب في السفر الى ذكرهم بما يستصحبه في الطريق لهم فهذه جملة من الآداب الظاهرة. وأما الآداب الباطنة: ففي الفصل الأول بيان جملة منها. وجملته أن لا يسافر إلا إذا كان زيادة دينه في السفر.ومهما وجد قلبه متغيراً الى نقصان فيقف ولينصرف ولا ينبغي أن يجاوز همه منزله بل ينزل حيث ينزل قلبه وينوي في دخول كل بلدة أن يرى شيوخها ويجتهد أن يستفيد من كل واحد منهم أدباً أو كلمة لينتفع بها، لا ليحكي ذلك ويظهر أنه لقى المشايخ. ولا يقيم ببلدة أكثر من أسبوع أو عشرة أيام إلا أن يأمره الشيخ المقصود بذلك.ولا يجالس في مدّة الإقامة إلا الفقراء الصادقين. وإن كان قصده زيلرة أخ فلا يزيد على ثلاثة أيام فهو حد الضيافة إلا إذا شق على أخيه مفارقته.وإذا قصد زيارة شيخ فلا يقيم عنده أكثرة من يوم وليلة. ولا يشغل نفسه بالعشرة فإن ذلك يقطع بركة سفره. وكلما دخل بلداً لا يشتغل بشئ سوى زيارة الشيحخ بزيارة منزله،فإن كان في بيته فلا يدق عليه باب هو لا يستأذن عليه إلا أن يخرج، فإذا خرج تقدم إليه بأدب فسلم عليه، ولا يتكلم بين يديه إلا أن يسأله،فإن سأله أجاب بقدر السؤال، ولا يسأله عن مسألة مالم يستأذن أولاً. وإذا كان في السفر فلا يكثر ذكر أطعمة البلدان وأسخيائها ولا ذكر أصدقائه فيها، وليذكر مشايخها وفقراءها. ولا يهمل في سفره زيارة قبور الصالحين بل يتفقدها في كل قرية وبلدة. ولا يظهر حاجته إلا بقدر الضرورة ومع من يقدر على إزالتها. ويلازم في الطريق الذكر وقراءة القرآن بحيث لا يسمع غيره. وإذا كلمه إنسان فليترك الذكر ولجبه مادام يحدثه ثم ليرجع الى ما كان عليه. فإن تبرمت نفسه بالسفر أو بالإقامة فاليخالفها فالبركة في مخالفة النفس. وإذا تيسرت له خدمة قوم صالحين فلا ينبغي له أن يسافر تبرماً بالخدمة فذلك كفران نعمة. ومهما وجد نفسه في نقصان عما كان عليه في الحضر فليعلم أن سفره معلول وليرجع إذ لو كان لحق لظهر أثره. قال رجل لأبي عثمان المغربي:خرج فلان مسافراً، فقال: السفر غربة والغربة ذلة وليس للمؤمن أنن يذل نفسه، وأشار به الى أنّ من ليس له في السفر زيادة دين فقد أذل نفسه وإلا فعز الدين لا ينال إلا بذلة الغربة. فليكن سفر المريد من وطن هواه ومراده وطبعه حتى يعز في هذه الغربة ولا يذل فإن من اتبع هواه في سفره ذل لا محالة إما عاجلاً وإما آجلاً.