الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأدب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه؛ وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم كثيراً. أما بعد: فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة الأخلاق والآداب رشح المعارف، وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها، وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساويها. ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه. ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهر جمال الآداب النبوية، ولقد كنت عزمت على أن أختم ربع العادات من هذا الكتاب بكتاب جامع لآداب المعيشة لئلا يشق على طالبها استخراجها من جميع هذه الكتب، ثم رأيت كل كتاب من ربع العادات قد أتى على جملة من الآداب فاستثقلت تكريرها وإعادتها، فإن طلب الإعادة ثقيل والنفوس مجبولة على معاداة المعادات، فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد فأسردها مجموعة فصلاً فصلاً محذوفة الأسانيد ليجتمع فيه مع جميع الآداب تجديد الإيمان وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق الله تعالى وأعلاهم رتبة وأجلهم قدراً فكيف مجموعها؟ ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكر خلقته ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار ليكون ذلك معرباً عن مكارم الأخلاق والشيم، ومنتزعاً عن آذان الجاحدين لنبوته صمام الصمم. والله تعالى ولي التوفيق للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق والأحوال وسائر معالم الدين فإنه دليل المتحيرين ومجيب دعوة المضطرين. ولنذكر فيه أولاً بيان تأديب الله تعالى إياه بالقرآن، ثم بيان جوامع من محاسن أخلاقه، ثم بيان جملة من آدابه وأخلاقه، ثم بيان كلامه وضحكه، ثم بيان أخلاقه وآدابه في الطعام، ثم بيان أخلاقه وآدابه في اللباس، ثم بيان عفوه مع القدرة ثم بيان إغضائه عما كان يكره، ثم بيان سخاوته وجوده، ثم بيان شجاعته وبأسه، ثم بيان تواضعه، ثم بيان صورته وخلقته، ثم بيان جوامع معجزاته وآياته صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه "اللهم حسن خلقي وخلقي" ويقول: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق" فاستجاب الله تعالى دعاءه وفاء بقوله عز وجل: "ادعوني أستجب لكم" فأنزل عيه القرآن وأدبه به فكان خلقه القرآن.
قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
وإنما أدبه القرآن بمثل قوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وقوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وقوله: "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" وقوله: "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" وقوله: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم" وقوله: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" وقوله: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" وقوله: "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً" ولماكسرت رباعيته وشج يوم أحد فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم" فأنزل اله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء" تأديباً له على ذلك. وأمثال هذه التأديبات في القرآن لا تحصر وهو عليه السلام المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يشرق النور على كافة الخلق فإنه أدب بالقرآن وأدب الخلق به ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق بما أوردناه في كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فلا نعيده، ثم لما أكمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" فسبحانه ما أعظم شأنه وأتم امتنانه ثم انظر إلى عميم لطفه وعظيم فضله كيف أعطى ثم أثني؟ فهو الذي زينه بالخلق الكريم ثم أضاف إليه ذلك فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم" ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق أن الله يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفافها قال علي رضي الله عنه يا عجباً لرجل مسلم يجتبيه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاة. فقال له رجل: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال نعم وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيئ وقفت جارية في السبي فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي. فقال صلى الله عليه وسلم "يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق" فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله؛ الله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: "والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق" وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال" ومن ذلك حسن المعاشرة وكرم الصنيعة ولين الجانب وبذل المعروف وإطعام الطعام وإنشاء السلام وعيادة المريض المسلم براً كان أو فاجراً وتشييع جنازة المسلم وحسن الجوار لمن جاورت - مسلماً كان أو كافراً - وتوقير ذي الشيبة المسلم وإجابة الطعام والدعاء عليه والعفو والإصلاح بين الناس والجود والكرم والسماحة والابتداء بالسلام وكظم الغيظ والعفو عن الناس واجتناب ما حرم الإسلام من اللهو والباطل والغناء والمعازف كلها وكل ذي وتر وكل ذي دخل والغلبة والكذب والبخل والشح والجفاء والمكر والخديعة والنميمة وسوء ذات البين وقطيعة الأرحام وسوء الخلق والتكبر والفخر والاختيال والاستطالة والبذخ والفحش والتفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان والظلم. قال أنس رضي الله عنه: فلم يدع نصيحة جميلة غلا وقد دعانا إليها وأمرنا بها ولم يدع غشاً - أو قال عيباً، أو قال شيناً - إلا حذرناه ونهانا عنه ويكفي من ذلك كله هذه الآية "إن الله يأمر العدل والإحسان" الآية وقال معاذ: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معاذ أوصيك باتقاء الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح، وأنهاك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً أو تطيع آثماً أو تعصي إماماً عادلاً أو تفسد أرضاً وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية" فهكذا أدب عباد الله ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.