كتاب شرح عجائب القلب - بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل وما هو المراد بهذه الأسامي

وهو الكتاب الأول من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تتحيز دون إدراك جلاله القلوب والخواطر، وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر، المطلع على خفيات السرائر، العالم بمكنونات االضمائر، المستغني في تدبير مملكته عن المشاور والموازر، مقلب القلوب وغفار الذنوب، وستار العيوب، ومفترج الكروب.

والصلاة على سيد المرسلين، وجامع شمل الدين، وقاطع دابر الملحدين. وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم كثيراً. أما بعد: فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه؛ فالقلب هو العالم بالله. وهو المتقرب إلى الله؛ وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة؛ فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه؛ وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره؛ وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء ينضح بما فيه، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه. وحيلولته بأن بمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته وكيفية تقلبه بين إصبعين مع أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوى مرة إلى أسفل السافلين وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين. ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصد لما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيه "نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين وأساس طريق السالكين.

وإذ فرغنا من الشطر الأول من هذا الكتاب من النظر فيما يجري على الجوارح من العبادات والعادات - وهو العلم الظاهر، ووعدنا أن نشرح في الشطر الثاني ما يجري على القلب من الصفات المهلكات والمنجيات - وهو العلم الباطن؛ فلا بد أن نقدم عليه كتابين: كتاباً في شرح عجائب صفات القلب وأخلاقه، وكتاباً في كيفية رياضة القلب وتهذيب أخلاقه. ثم نندفع بعد ذلك في تفصيل المهلكات والمنجيات.

فلنذكر الآن من شرح عجائب القلب بطريق ضرب الأمثال ما يقرب من الأفهام، فإن التصريح بعجائبه وأسراره الداخلة في جملة عالم الملكوت مما يكل عن دركه أكثر الأفهام.

بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل

وما هو المراد بهذه الأسامي

اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الأبواب، ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة. ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا:  اللفظ الأول: لفظ القلب، وهو يطلق لمعنيين "أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته، إذ يتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية. وهذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت. ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك؛ فإنه قطعة لحم لا قدر له، وهو من عالم الملك والشهادة إذ تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين. "والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته؛ فإن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة. أو تعلق المتمكن بالمكان، وشرح ذلك مما نتوقاه لمعنيين: أحدهما أنه متعلق بعلوم المكاشفة، وليس غرضنا من هذا الكتاب إلا علوم المعاملة والثاني أن تحقيقه يستدعي إفشاء سر الروح وذلك مما لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس لغيره أن يتكلم فيه، والمقصود أنا إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللطيفة وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها لا ذكر حقيقتها في ذاتها وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها.

اللفظ الثاني: الروح، وهو أيضاً يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت؛ فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به، والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان، والروح مثالها السراج، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه، والأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى: وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب، وليس شرحه من غرضنا، إذ المتعلق به غرض الأطباء الذين يعالجون الأبدان؛ فأما غرض أطباء الدين المعالجين للقلب حتى ينساق إلى جوار رب العالمين، فليس يتعلق بشرح هذه الروح أصلاً. المعنى الثاني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، وهو الذي شرحناه في أحد معاني القلب، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله "قل الروح من أمر ربي وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته. اللفظ الثالث: النفس، وهو أيضاً بين معان، ويتعلق بغرضنا منه معنيان: "أحدهما" أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي شرحه، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التوصف؛ لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسرها، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" . "المعنى الثاني" هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها؛ فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة. قال الله تعالى في مثلها "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى؛ فإنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان. وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه. قال الله تعالى "ولا أقسم بالنفس اللوامة" وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء. قال الله تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" وقد يجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء: هي النفس بالمعنى الأول، فإذن النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم، وبالمعنى الثاني محمودة لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات.

اللفظ الرابع: العقل، وهو أيضاً مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم، والمتعلق بغرضنا من جملتها معنيان: "أحدهما" أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب. "والثاني" أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة. ونحن نعلم أن كل عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه، والعلم صفة حالة فيه، والصفة غير الموصوف، والعقل قد يطلق ويراد به صفة العالم، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك أعني المدرك، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:" أول ما خلق الله العقل": فإن العلم عرض لا يتصور أن يكون أول مخلوق، بل لا بد وأن يكون المحل مخلوقاً قبله أو معه، ولأنه لا يمكن الخطاب معه. وفي الخبر: أنه قال له تعالى أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر.. الحديث.

فإذن قد انكشف لك أن معاني هذه الأسماء موجودة: وهي القلب الجسماني، والروح الجسماني، والنفس الشهوانية، والعلوم. فهذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، ومعنى خامس: وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان. والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها، فالمعاني خمسة، والألفاظ أربعة، وكل لفظ أطلق لمعنيين، وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها؛ فتراهم يتكلمون في الخواطر ويقولون: هذا خاطر العقل، وهذا خاطر الروح، وهذا خاطر القلب، وهذا خاطر النفس، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء، ولأجل كشف الغطاء عن ذلك قدمنا شرح هذه الأسامي، وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر، لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة، فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب، فتعلقها الأول بالقلب وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها، ولذلك شبه سهل التستري القلب بالعرش، والصدر بالكرسي فقال: القلب هو العرش والصدر هو الكرسي، ولا يظن به أنه يرى أنه عرش الله وكرسيه فإنه ذلك محال، بل أراد به أنه مملكة الإنسان والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه، فهمابالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى، ولا يستقيم هذا التشبيه أيضاً إلا من بعض الوجوه، وشرح ذلك أيضاً لا يليق بغرضنا فلنجاوزه.

بيان جنود القلب

قال الله تعالى "وما يعلم جنود ربك إلا هو" فلله سبحانه في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنود مجندة لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو. ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب، فهو الذي يتعلق بغرضنا. وله جندان: جند يرى بالأبصار، وجند لا يرى إلا بالبصائر، وهو في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، فهذا معنى الجند: فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له، فهو المتصرف فيها والمردد لها، وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء. وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى، فإنهم مجبولون على الطاعة لا يستطيعون له خلافاً، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما يفترقان في شيء: وهو أن الملائكة عليهم السلام عالمة بطاعتها وامتثالها، والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والإنطباق على سبيل التسخير ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها للقلب، وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق، وهو السفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه، فلأجله خلقت القلوب. قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وإنما مركبه البدن وزاده العلم. وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح، وليس يمكن العبد أن يصل إلى الله سبحانه ما لم يسكن البدن ولم يجاوز الدنيا، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى، فالدنيا مزرعة الآخرة، وهي منزل من منازل الهدى، وإنما سميت دنيا: لأنها أدنى المنزلتين، فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم، فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم، فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه، وإنما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره، وأن يدفع عنه ما ينافيه من أسباب الهلاك، فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن: وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء، وظاهر، وهو اليد والرجل اللذين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها، ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق: وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها. وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة. وقد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشكر فليقتنع به. فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف: صنف باعث ومستحث: إما إلى جلب النافع الموافق كالشهوة، وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب، وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة. والثاني: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد، ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة: وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث: هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس: وهو قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك، ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع، وقوة البصر إنما هي بالعين، وكذا سائر القوى، ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء فإنها من عالم الملك والشهادة، وإنما نتكلم الآن فيما أيدت به من جنود لم تروها. وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس: أعني السمع والبصر والشم والذوق واللمس وإلى ما سكن منازل باطنة: وهي تجاويف الدماغ، وهي أيضاً خمسة، فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظة فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ، ولولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان الدماغ يخلوا عنه كما تخلو اليد والرجل عنه؛ فتلك القوى أيضاً جنود باطنة وأماكنها أيضاً باطنه، فهذه هي أقسام جنود القلب، وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول. ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء، ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم.

بيان أمثلة القلب مع جنوده الباطنة

اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقياداً تاماً، فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقتهما في السفر الذي هو بصدده، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد، وللقلب جند آخر: وهو العلم والحكمة والتفكر، كما سيأتي شرحه، وحقه أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله تعالى على الجندين الآخرين، فإنهما قد يلتحقان بحزب الشيطان. فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب والشهوة هلك يقيناً وخسر خسراناً مبيناً، وذلك حالة أكثر الخلق، فإن عقولهم صارت مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة، وكان ينبغي أن تكون الشهوة مسخرة لعقولهم فيما يفتقر العقل إليه، ونحن نقرب إلى فهمك بثلاثة أمثلة: المثال الأول: أن نقول: مثل نفس الإنسان في بدنه أعني بالنفس اللطيفة المذكورة كمثل ملك في مدينته ومملكته فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل. والشهوة له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد الجالب للميرة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة، كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره مستشيراً له ومعرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، مستدلاً بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه، أدبه صاحب شرطته وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبراً لا أميراً مدبراً، استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه؛ فكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة كان كمن قال الله تعالى فيه "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم" وقال تعالى "واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" وقال عز وجل فيمن نهى النفس عن الهوى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوي" وسيأتي كيفية مجاهدة هذه الجنود وتسليط بعضها على بعض في كتاب رياضة النفس إن شاء الله تعالى.

المثال الثاني: اعلم أن البدن كالمدينة والعقل - أعني المدرك - من الإنسان كملك مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعيته، والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، فصار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن هو جاهد عدوه وهزمه وقهره على ما يحب حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال الله تعالى "والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" وإن ضيع ثغره وأعمل رعيته وذم أثره فانتقم منه عند الله تعالى فيقال له يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير اليوم أنتقم منك كما ورد في الخبر. وإلى هذه المجاهدة الإشارة بقوله له صلى الله عليه وسلم "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقاً وفرسه مروضاً وكلبه مؤدباً معلماً كان جديراً بالنجاح، ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحاً والكلب عقوراً فلا فرسه ينبعث تحته منقاداً ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعاً فهو خليق بأن يعطب فضلاً عن أن ينال ما طلب، وإنما خرق الفارس مثل جهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته، وجماح الفرس مثل غلبة الشهوة خصوصاً شهوة البطن والفرج، وعقر الكلب مثل غلبة الغضب واستيلائه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه.

بيان خاصية قلب الإنسان

اعلم أن جملة ما ذكرناه قد أنعم الله به على سائر الحيوانات سوى الآدمي؛ إذ للحيوان الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة أيضاً، حتى إن الشاة ترى الذئب بعينها نتعلم عداوته بقلبها فتهرب منه فلذلك هو الإدراك الباطن.

فلنذكر ما يختص به قلب الإنسان، ولأجله عظم شرفه واستأهل القرب من الله تعالى. وهو راجع إلى علم وإرادة:  أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والأخروية والحقائق العقلية فإن هذه أمور وراء المحسوسات ولا يشاركه فيها الحيوانات، بل العلوم الكلية الضرورية من خواص العقل إذ يحكم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منه على كل شخص. ومعلوم أنهذ لم يدرك بالحس إلا بعض الأشخاص فحكمه على جميع الأشخاص زائد على ما أدركه الحس. وإذا فهمت هذا في العلم الظاهر الضروري فهو في سائر النظريات أظهر.

وأما الإرادة فإنه إذا أدرك بالعقل عاقبة الأمر وطريق الصلاح فيه انبعث من ذاته شوق إلى جهة المصلحة وإلى تعاطي أسبابها والإرادة لها، وذلك غير إرادة الشهوة وإرادة الحيوانات بل يكون على ضد الشهوة. فإن الشهوة تنفر عن الفصد والحجامة، والعقل يريدها ويطلبها ويبذل المال فيها. والشهوة تميل إلى لذائذ الأطعمة في حين المرض والعاقل يجد في نفسه زاجراً عنها، وليس ذلك زاجر الشهوة. ولو خلق الله العقل المعرف بعواقب الأمور ولم يخلق هذا الباعث المحرك للأعضاء على مقتضى حكم العقل لكان حكم العقل ضائعاً على التحقيق.

فإذن قلب الإنسان اختص بعلم وإرادة ينفك عنها سائر الحيوان بل ينفك عنها الصبي في أول الفطرة وإنما يحدث ذلك فيه بعد البلوغ. وأما الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة فإنها موجودة في حق الصبي.

ثم الصبي في حصول هذه العلوم فيه له درجتان؛ إحداهما: أن يشتمل قلبه على سائر العلوم الضرورية الأولية؛ كالعلم باستحالة المستحيلات وجواز الجائزات الظاهرة فتكون العلوم النظرية فيها غير حاصلة إلا أنها صارت ممكنة قريبة الإمكان والحصول، ويكون حاله بالإضافة إلى العلوم كحال الكاتب الذي لا يعرف من الكتابة إلا الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة فإنه قد قارب الكتابة ولم يبلغها بعد.

الثانية: أن تتحصل له العلوم المكتسبة بالتجارب والفكر فتكون كالمخزونة عنده، فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشراً للكتابة بقدرته عليها. وهذه هي غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها؛ إذ تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة، ولبعضهم بتعلم واكتساب، وقد يكون سريع الحصول وقد يكون بطيء الحصول. وفي هذا المقام تتباين منازل العلماء والحكماء والأنبياء والأولياء، فدرجات الترقي فيه غير محصورة إذ معلومات الله سبحانه لا نهاية لها. وأقصى الرتب رتبة النبي الذي تنكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بكشف إلهي في أسرع وقت، وبهذه السعادة يقرب العبد العبد من الله تعالى قرباً بالمعنى والحقيقة والصفة لا بالمكان والمسافة ومراقى هذه الدرجة هي منازل السائرين إلى الله تعالى ولا حصر لتلك المنازل، وإنما يعرف كل سالك منزله الذي بلغه في سلوكه فيعرفه ويعرف ما خلفه من المنزل. فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته علماً ولكن قد يصدق به إيماناً بالغيب، كما أنا نؤمن بالنبوة والنبي ونصدق بوجوده ولكن لا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي، وكما لا يعرف الجنين حال الطفل، ولا الطفل حال المميز وما يفتح له من العلوم الضرورية، ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية فكذلك لا يعرف العاقل ما افتتح الله على أوليائه وأنبيائه من مزايا لطفه ورحمته "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" وهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود والكرم من الله سبحانه وتعالى غير مضنون بها على أحد ولكن إنما تظهر في القلوب المتعرضة لنفحات رحمة الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم "إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها والتعرض لها بتطهير القلب وتزكيته من الخبث والكدورة الحاصلة من الأخلاق المذمومة - كما سيأتي بيانه - وإلى هذا الجود الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له"؟ وبقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل "لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً وبقوله تعالى "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" كل ذلك إشارة إلى أن أنوار العلوم لم تحتجب عن القلوب لبخل ومنع من جهة المنعم - تعالى عن البخل والمنع علواً كبيراً - ولكن حجبت لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب فإن القلوب كالأواني فما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء فالقلوب المشغولة لغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله تعالى. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ومن هذه الجملة يتبين أن خاصية الإنسان العلم والحكمة.

وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فيه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال. فالبدن مركب للنفس، والنفس محل للعلم، والعلم هو مقصود الإنسان وخاصيته التي لأجله خلق. وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقاً لأجل تلك الخاصية، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار. وكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ويفارقها في أمور هي خاصيته وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من رب العالمين. والإنسان على رتبة بين البهائم والملائكة، فإن الإنسان من حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط، وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء.

من استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة؛ فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكاً وربانياً كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم".

ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم فيصير إما غمراً كثور، وإما شرهاً كخنزير. وإما ضرياً ككلب أو سنور، أو حقوداً كجمل. أو متكبراً كنمر، أو ذاروغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد. وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى - كما سيأتي بيان طرف منه في كتاب الشكر- فمن استعمله فيه فقد فاز، ومن عدل عنه فقد خسر وخاب. وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده، والدار الآخرة مستقره، والدنيا منزله، والبدن مركبه، والأعضاء خدمه. فيستقر هو - أعني المدرك من الإنسان - في القلب الذي هو وسط مملكته كالملك، ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنده، ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه، ويجري اللسان مجرى ترجمانه، ويجري الأعضاء المتحركة مجرى كتابه، ويجري الحواس الخمس مجرى جواسيسه فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع؛ فيوكل العين بعالم الألوان، والسمع بعالم الأصوات، والشم بعالم الروائح. وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة، ويعرضها الخازن على الملك فيقتبس الملك منها ما يحتاج إليه في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده، وقمع عدوه الذي هو مبتلي به، ودفع قواطع الطريق عليه فإذا فعل ذلك كان موفقاً سعيداً شاكراً نعمة الله وإذا عطل هذه الجملة أو استعملها لكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة، أو في عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره، ووطنه ومستقره الآخرة؛ كان مخذولاً شقياً كافراً بنعمة الله تعالى مضيعاً لجنود الله تعالى ناصراً لأعداء الله مخذلاً لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد. نعوذ بالله من ذلك.

وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار حيث قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت؛ الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريد والقلب منه ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده، فقلت: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. وقال علي رضي الله عنه في تمثيل القلوب: إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها: ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان، وهو إشارة إلى قوله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقوله تعالى "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" قال أبي بن كعب رضي الله عنه: معناه مثل نور المؤمن وقلبه وقوله تعالى "أو كظلمات في بحر لجى" مثل قلب المنافق. وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى "في لوح محفوظ" وهو قلب المؤمن. وقال سهل: مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي فهذه أمثلة القلب.

بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته

اعلم أن الإنسان قد اصطحب في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: الصفات السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية. فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم. ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشره والحرص والشبق وغيره. ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى "قل الروح من أمر ربي" فإنه يدعى لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء، والاستعلاء، والتخصص، والاستبداد بالأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها؛ بل يدعي لنفسه العلم، والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، ويحزن إذا نسب إلى الجهل، والإحاطة بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك. ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.

وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة - أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية - وكل ذلك مجموع في القلب. فكأن المجموع في إهاب الإنسان: خنزير وكلب وشيطان وحكيم.

فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وصورته بل لجشعهوكلبه وحرصه. والكلب هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلباً وسبعاً باعتبار الصورة اللون والشكل، بل روح معنى السبعية الضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه وحرص الخنزير وشبقه، فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر والسبع بالغضب إلى الظلم والإيذاء.

والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه.

والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق الواضح، وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه ويجعل الكلب مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويرضى الكلب فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير.

وهذا حال أكثر الناس مهما كان أكثر همتهم البطن والفرج ومنافسة الأعداء، والعجب منه أن ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة، ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله ومثل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين إما في النوم أو اليقظة لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير ساجداً له مرة وراكعاً أخرى ومنتظراً لإشارته وأمره. فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته، أو رأى نفسه مثلاً بين يدي كلب عقور عابداً له مطيعاً سامعاً لما يقتضيه ويلتمسه مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما فليراقب كل عبد حركاته وسكناته وسكوته ونطقه وقيامه وقعوده، ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلا ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء، وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً والرب مربوباً والسيد عبداً والقاهر مقهوراً، إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعاً وريناً مهلكاً للقلب ومميتاً له، أما طاعة خنزير الشهوة فتصدر منها صفة الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها. وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفة التهور والبذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها. وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها. ولو عكس الأمر وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية: لاستقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه، والاستيلاء على الكل بقوة العلم والبصيرة، واستحقاق التقدم على الخلق لكمال العلم وجلاله، ولاستغنى عن عبادة الشهوة والغضب، ولانتشر إليه من ضبط خنزير الشهوة ورده إلى حد الاعتدال صفات شريفة مثل العفة والقناعة والهدو والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرف والمساعدة وأمثالها، ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفة الشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها.

فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه، وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب. أما الآثار المحمودة التي ذكرناها فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقاً ونوراً وضياءً حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين، وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه وبقوله صلى الله عليه وسلم "من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوباً عن الله تعالى، وهو الطبع وهو الرين قال تعالى "كلا بل وإن على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وقال عز وجل "أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى "واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله".

ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق صلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها. فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك "يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور" وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة.

قال ميمون بن مهران: إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكته سوداء فإذا هو نزع وتاب صقل، وإن عاد زيد فيها حتى يعلوا قلبه فهو الران وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر وقلب الكافر أسود منكوس فطاعة الله سبحانه بمخالفة الشهوات مصقلة للقلب، ومعاصيه مسودات له فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه، ومن اتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ولكن ينقص نوره كالمرآة التي يتنفس فيها ثم تمسح ويتنفس ثم تمسح، فإنها لا تخلو عن كدورة. وقد قال صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها؟ وفي رواية: ذهبت به. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى.

بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة

اعلم أن محل العلم هو القلب؛ أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات؛ فكما أن للمتلون صورة ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها، كذلك لكل معلوم حقيقة ولتلك الحقيقة صورة ينطبع في مرآة القلب وتتضح فيها، وكما أن المرآة غير وصور الأشخاص غير وحصول مثالها في المرآة غير فهي ثلاثة أمور. فكذلك ههنا ثلاثة أمور القلب، وحقائق الأشياء، وحصول نفس الحقائق في القلب وحضورها فيه.

فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء. والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة.

وكما أن القبض مثلاً يستدعي قابضاً كاليد ومقبوضاً كالسيف، ووصولاً بين السيف واليد -بحصول السيف في اليد- ويسمى قبضاً فكذلك وصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علماً، وقد كانت الحقيقة موجودة والقلب موجوداً ولم يكن العالم حاصلاً، لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب، كما أن السيف موجود واليد موجودة ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلاً لعدم وقوع السيف في اليد، نعم القبض عبارة عن حصول السيف بعينه في اليد والمعلوم بعينه لا يحصل في القلب، فمن علم النار لم تحصل عين النار في قلبه، ولكن الحاصل حدها وحقيقتها المطابقة لصورتها، فتمثيله بالمرآة أولى لأن عين الإنسان لا تحصل في المرآة وإنما يحصل مثال مطابق له. وكذلك حصول مثال مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علماً. وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل. والثاني لخنثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل. والثالث لكونه معدولاً به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة. والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.

فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلى فيها حقيقة الحق في الأمور كلها، وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذاته كقلب الصبي فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه. والثاني لكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا" أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها إذ غايته أن يتبعه بحسنة يمحوه بها، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراق القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها نوراً. فهذا خسران مبين ونقصان لا حيلة له فليست المرآة التي تتدنس ثم تمسح بالمصقلة كالتي تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق؟ فالإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ولذلك قال الله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".

الثالث أن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب. بل يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف جليه الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي؟.

الرابع: الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد. وهذا أيضاً حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجاباً بينهم وبين درك الحقيقة. الخامس: الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى. ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص. فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب، فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم. ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها، بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلاً بالمرآة فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا، وإن رفعها وراء القفا حاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا، وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعى مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا، ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين، ثم تدرك العين صورة القفا، فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب مما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات. فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور. وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف. وإليه الإشارة بقوله عز وجل "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال بها صار مطيقاً لحمل أمانة الله تعالى. وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلوب وبين الملكوت. وإليه الإشارة بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله، يا رسول الله أين الله في الأرض أو في السماء؟ قال في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر "قال الله تعالى: لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع" وفي الخبر "أنه قيل يا رسول الله من خير الناس فقال "كل مؤمن مخموم القلب" فقيل: وما مخموم القلب؟ فقال "هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غدر ولا غل ولا حسد ولذلك قال عمر رضي الله عنه: رأى قلبي ربي. إذ كان قد رفع الحجاب بالتقوى، ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرض بعضها السموات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السموات والأرض لأن السموات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة، وأما عالم الملكوت وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصائر فلا نهاية له، نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه ولكنه في نفسه بالإضافة إلى علم الله لا نهاية له. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله، ومملكته وعبيده من أفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هي الجنة بعينها عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق، ويكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله. وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه "قد أفلح من زكاها" ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه أعني إشراق نور المعرفة وهو المراد بقوله تعالى "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه".

نعم هذا التجلي وهذا الإيمان له ثلاث مراتب المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض. والثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام والثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين.

ونبين لك هذه المراتب بمثال: وهو أن تصديقك بكون زيد مثلاً في الدار له ثلاث درجات.

الأولى: أن يخبرك من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتهمته في القول، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع، وهذا الإيمان بمجرد التقليد، وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسل وصدقهم وما جاءوا به، وكما سمعوا به قبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه، ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه لهم لحسن ظنهم بآبائهم وأمهاتهم ومعلميهم، وهذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين وليسوا من المقربين لأنه ليس فيه كشف وبصيرة وانشراح صدر بنور اليقين، إذ الخطأ ممكن فيما سمع من الآحاد بل من الأعداد فيما يتعلق بالاعتقادات، فقلوب اليهود والنصارى أيضاً مطمئنة بما يسمعونه من آبائهم وأمهاتهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوا خطأ لأنهم ألقي إليهم الخطأ، والمسلمون اعتقدوا الحق لا لاطلاعهم عليه ولكن ألقي إليهم كلمة الحق.

الرتبة الثانية: أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ولكن من وراء جدار فتستدل به على كونه في الدار فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع، فإنك إذا قيل لك إنه في الدار ثم سمعت صوته ازددت به يقيناً لأن الأصوات تدل على الشكل والصورة عند من يسمع الصوت في حال مشاهدة الصورة، فيحكم قلبه بأن هذا صوت ذلك الشخص؛ وهذا إيمان ممزوج بدليل والخطأ أيضاً ممكن أن يتطرق إليه، إذ الصوت قد يشبه الصوت وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع لأنه ليس يجعل للتهمة موضعاً ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضاً.

الرتبة الثالثة: أن تدخل فتنظر إليه بعينك وتشاهده؛ وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين، ويتميزون بمزية بينة يستحيل معها إمكان الخطأ. نعم وهم أيضاً يتفاوتون بمقادير العلوم وبدرجات الكشف. أما درجات الكشف فمثاله أن يبصر زيداً في الدار عن قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية فيتمثل له في صورته ما يستيقن معه أنه هو؛ ولكن لا يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته. ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية.

وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيداً وعمراً وبكراً غير ذلك وآخر لا يرى إلا زيداً فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة. فهذا حال القلب بالإضافة إلى العلوم والله تعالى أعلم بالصواب.

بيان حال القلب بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية

اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية. والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة. والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية.

أما العقلية: فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع؛ وهي تنقسم إلى ضرورية: لا يدري من أين حصلت وكيف حصلت؟ كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً موجوداً معدوماً معاً؛ فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطوراً عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له؟ أعني أنه لا يدري له سبباً قريباً، وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه.

 إلى علوم مكتسبة: وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال. وكلا القسمين قد يسمى عقلاً.

قال علي رضي الله عنه:  

رأيت العقل عقلـين

 

فمطبوع ومسمـوع

ولا ينفع مسـمـوع

 

إذا لم يك مطبـوع

كما لا تنفع الشمـس

 

وضوء العين ممنوع

والأول هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" والثاني هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه "إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك" إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة. ولكن مثل على رضي الله عنه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين، فالقلب جار مجرى العين وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين، وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل، والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء. وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات. والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس. وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم. والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سبباً لحصول نفس العلوم في قلوب البشر قال الله تعالى "الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه، فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض؛ فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف؛ فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة، وهي كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر. ولموازنة البصيرة الباطنة للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال "ما كذب الفؤاد ما رأى" سمى إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله تعالى "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض" وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان، ولذلك سمي ضد إدراكه عمى فقال تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب في الصدر" وقال تعالى "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً" فهذا بيان العلم العقلي. أما العلوم الدينية: فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما بعد السماع، وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض، فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب وإن كان محتاجاً إليها، كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء، إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل، فلا غنى بالعقل عن السماع ولا غنى بالسماع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء من فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب لا يمكر علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب، فمن لا يداوى قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء. وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما. فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين. وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات. وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم: ما بال هذه الأواني تركت على الطريق لم لا ترد إلى مواضعها؟ فقالوا له: تلك الأواني في مواضعها! وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك؟ فهذه نسبة العلوم الدينية إلى العلوم العقلية.

والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية. فالدنيوية: كعلم الطلب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات. والأخروية: كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله -كما فصلناه في كتاب العلم- وهما علمان متنافيان -أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر- ولذلك ضرب علي رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلة فقال: هما ككفتي الميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا رضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة جهالاً في أمور الآخرة. والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالاً في أكثر علوم الدنيا، لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعاً في الغالب فيكون أحدهما مانعاً من الكمال في الثاني. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن أكثر أهل الجنة البله أي البله في أمور الدنيا.

وقال الحسن في بعض مواعظه: لقد أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين. فمهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم، فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ولذلك قال تعالى "إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" الآية وقال تعالى "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون" وقال عز وجل "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم" فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلا لمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس المستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها. فأما قلوب سائر الخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخر وقصرت عن الاستكمال فيها.