كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق - بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق

وهو الكتاب الثاني من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره وعدله وتركيب الخلق فأحسن في تصويره، وزين صورة الإنسان بحسن تقويمه وتقديره، وحرسه من الزيادة والنقصان في شكله ومقاديره، وفوض تحسين الأخلاق إلى اجتهاد العبد وتشميره واستحثه على تهذيبها بتخويفه وتحذيره، وسهل على خواص عباده تهذيب الأخلاق بتوفيقه وتيسيره، وأمتن عليهم بتسهيل صعبه وعسيرة، والصلاة والسلام على محمد عبد الله ونبيه وحبيبه وصفيه وبشيره ونذيره، الذي كان يلوح أنوار النبوة من بين أساريره، ويستشرف حقيقة الحق من مخايله وتباشيره، وعلى آله وأصحابه الذين طهروا وجه الإسلام من ظلمة الكفر ودياجيره، وحسموا مادة الباطل فلم يتدنسوا بقليله ولا بكثيره.

أما بعد: فالخلق الحسن صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين. والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمهلكات الدامغة والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد؟ ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى "قد أفلح من زكاها" وإهمالها هو المراد بقوله "وقد خاب من دساها" ونحن نشير في هذا الكتاب إلى جمل من أمراض القلوب وكيفية القول في معالجتها على الجملة من غير تفصيل لعلاج خصوص الأمراض، فإن ذلك يأتي في بقية الكتب من هذا الربع وغرضنا الآن النظر الكلي في تهذيب الأخلاق وتمهيد منهاجها. ونحن نذكر ذلك ونجعل علاج البدن مثالاً له ليقرب من الأفهام دركه ويتضح ذلك ببيان فضيلة حسن الخلق، ثم بيان حقيقة حسن الخلق، ثم بيان قبول الأخلاق للتغير بالرياضة، ثم بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق، ثم بيان الطرق التي بها يعرف تفصيل الطرق إلى تهذيب الأخلاق ورياضة النفوس، ثم بيان العلامات التي بها بعرف مرض القلب ثم بيان الطرق التي يعرف بها الإنسان عيوب نفسه، ثم بيان شواهد النقل على أن طريق المعالجة للقلوب بترك الشهوات لا غير، ثم بيان علامات حسن الخلق، ثم بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول النشوء، ثم بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة فهي أحد عشر فصلاً يجمع مقاصدها هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق

قال الله تعالى لنبيه وحبيبه مثنياً عليه ومظهراً نعمته لديه "وإنك لعلى خلق عظيم" وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين" ثم قال صلى الله عليه وسلم "هو أن تصل قطعك وتعطي من حرمك وتعفو ظلمك وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال صلى الله عليه وسلم "أنقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ قال "حسن الخلق" فأتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ قال "حسن الخلق" ثم أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال "حسن الخلق" ثم أتاه من ورائه فقال يا رسول الله ما الدين؟ فالتفت إليه وقال "أما تفقه؟ هو أن لا تغضب" وقيل يا رسول الله ما الشؤم؟ قال "سوء الخلق وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أوصني فقال "اتق الله حيثما كنت" قال زدني قال "أتبع السيئة تمحها" قال زدني قال "خالق الناس بخلق حسن وسئل عليه السلام: أي الأعمال أفضل؟ قال "خلق حسن" وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما حسن الله خلق عبد وخلقه فيطعمه النار وقالالفضيل قيل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها قال "لا خير فيها هي من أهل النار" وقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق والسخاء ولما خلق الله الإيمان قال اللهم قوني فقواه بحسن الخلق والسخاء، ولما خلق الله الكفر قال اللهم قوني فقواه بالبخل وسوء الخلق وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بهما وقال عليه السلام "حسن الخلق خلق الله الأعظم وقيل: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال "أحسنهم خلقاً وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق وقال أيضاً صلى الله تعالى عليه وسلم "سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل" وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنك امرؤ قد حسن الله خلقك فحسن خلقك وعن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وعن أبي مسعود البدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه "اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي" وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء فيقول "اللهم إني أسألك الصحة والعافية وحسن الخلق" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال "كرم المؤمن دينه، وحسبه حسن خلقه، ومروءته عقله وعن أسامة بن شريك قال: شهدت الأعاريب يسألون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون ما خير ما أعطى العبد؟ قال "خلق حسن" وقال صلى الله عليه وسلم "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من لم تكن فيه أو واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله تقوى تحجزه عن معاصي الله أو حلم يكف به السفيه أو خلق يعيش به بين الناس وكان من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم في افتتاح الصلاة "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" وقال أنس: بينما نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوماً إذ قال "إن حسن الخلق ليذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد وقال عليه السلام "من سعادة المرء حسن الخلق وقال صلى الله عليه وسلم "اليمن حسن الخلق" وقال عليه السلام لأبي ذر "يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا حسب كحسن الخلق وعن أنس قال: قالت أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت المرأة يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلون الجنة لأيهما هي تكون؟ قال "لأحسنهما خلقاً كان عندها في الدنيا، يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم "إن  المسلم المسدد ليدرك درجة الصائم القائم بحسن خلقه وكرم مرتبته وفي رواية "درجة الظمآن في الهواجر" وقال عبد الرحمن بن سمرة: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاء حسن خلقه فأدخله على الله تعالى" وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف في العبادة وروى: أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من نساء قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر رضي الله عنه تبادرن الحجاب فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر رضي الله عنه: مم تضحك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال "عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب" فقال عمر: أنت كنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم أقبل عليهن عمر فقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم "إيهاً يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده وا لقيك الشيطان قط سالكاً فجا إلا سلك فجا غير فجك" وقال صلى الله عليه وسلم "سوء الخلق ذنب لا يغفر وسوء الظن خطيئة تفوح وقال عليه السلام "إن العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك جهنم. الآثار: قال ابن لقمان الحكيم لأبيه: يا أبت أي الخصال من الإنسان خير؟ قال: الدين، قال: فإذا كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال. قال: فإذا كانت ثلاثاً؟ قال: الدين والمال والحياء، قال: فإذا كانت أربعاً؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق، قال: فإذا كانت خمساً؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء، قال: فإذا كانت ستاً؟ قال: يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو نقي تقي ولله ولي ومن الشيطان بري، وقال الحسن من ساء خلقه عذب نفسه. وقال أنس بن مالك: إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد ويبلغ سوء خلقه أسفل درك في جهنم وهو عابد. وقال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وقال وهب ابن منبه: مثل السيئ الخلق كمثل الفخارة المكسورة لا ترقع ولا تعاد طيناً. وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. وصحب ابن المبارك رجلاً سيئ الخلق في سفر فكان يحتمل منه ويداريه فلما فارقه بكى فقيل له في ذلك فقال: بكيته رحمة له، فارقته وخلقه معه لم يفارقه، وقال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه، الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق وهو كمال الإيمان. وقال الكناني التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. وقال عمر رضي الله عنه: خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال. وقال يحيى بن معاذ: سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات. وسئل ابن عباس: ما الكرم؟ فقال: هو ما بين الله في كتابه العزيز "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" قيل فما الحسب؟ قال: أحسنكم خلقاً أفضلكم حسباً. وقال: لكل بنيان أساس وأساس الإسلام حسن الخلق. وقال عطاء ما ارتفع من ارتفع إلا بالخلق الحسن، ولم ينل أحد كماله إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأقرب الخلق إلى الله عز وجل السالكون آثاره بحسن الخلق.

بيان حقيقة حسن الخلق وسوء الخلق

اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو، وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته، بل ذكر كل واحد من ثمراته ما خطر له وما كان حاضراً في ذهنه ولم يصرفوا العناية إلى ذكر حده وحقيقته بجميع ثمراته على التفصيل والاستيعاب، وذلك كقول الحسن: حسن الخلق بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى. وقال الواسطي: هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال شاه الكرماني: هو كف الأذى واحتمال المؤن. وقال بعضهم: هو أن يكون من الناس قريباً وفيما بينهم غريباً. وقال الواسطي مرة: هو إرضاء الخلق في السراء والضراء. وقال أبو عثمان: هو الرضا عن الله تعالى. وسئل سهل التستري عن حسن الخلق فقال: أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه، وقال مرة: أن لا يتهم الحق في الرزق ويثق به ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه ولا يعصيه في جميع الأمور فيما بينه وبينه وفيما بينه وبين الناس. وقال علي رضي الله عنه. حسن الخلق في ثلاث خصال اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال. وقال الحسين بن منصور: هو أن لا يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق. وقال أبو سعيد الخراز: هو أن لا يكون لك هم غير الله تعالى. فهذا وأمثاله كثير، وهو تعرض لثمرات حسن الخلق لا لنفسه، ثم ليس هو محيطاً بجميع الثمرات أيضاً. وكشف الغطاء عن الحقيقة أولى من نقل الأقاويل المختلفة. فنقول: الخلق والخلق عبارتان مستعملتان معاً، يقال: فلان حسن الخلق والخلق - أي حسن الباطن والظاهر- فيراد بالخلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة. ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر. ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى "إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح إلى رب العالمين. والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد؛ فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً شيئاً. وإنما قلنا إنها هيئة راسخة، لأن من يصدر منه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم.

فههنا أربعة أمور؛ أحدها: فعل الجميل والقبيح. والثاني: القدرة عليهما. والثالث: المعرفة بهما. والرابع هيئة للنفس بها تميل إلى أحد الجانبين ويتيسر عليها أحد الأمرين؛ إما الحسن وإما القبيح.

وليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء وليس هو عبارة عن القوة؛ لأن نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك، وذلك لا يوجب خلق البخل ولا خلق السخاء وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد. بل هو عبارة عن المعنى الرابع، وهو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل. فالخلق إذن عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة. وكما أن حسن الصورة الظاهرة مطلقاً لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لا بد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر؛ فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق. فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو: قوة العلم، وقوة الغضب وقوة الشهوة، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاثة.

أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة والحكمة رأس الأخلاق الحسنة - وهي التي قال الله فيها "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً".

وأما قوة الغضب: فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة؛ وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة، أعني إشارة العقل والشرع.

وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.

فالعقل مثاله مثال الناصح المشير. وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل. والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة، ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس. والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضاً مؤدباً وتارة يكون جموحاً. فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض. وحسن القوة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة.

فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً، وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً. والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذ فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضد واحد ومقابل وهو الجور.

وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجربزة، ويسمى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.

فإذن أمهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. ونعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية. ونعني بالعدل حالة للنفس وقوة بها الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها. ونعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها. ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.

فمن اعتدل هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها.

إذ من اعتدال قوة العقل: يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس. ومن إفراطها: تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء. ومن تفريطها: يصدر البله والغمارة والحمق والجنون - وأعني بالغمارة قلة التربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء. والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً-.

وأما خلق الشجاعة: فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة. وأما إفراطها وهو التهور: فيصدر منه الصلف والبذخ والاستشاطة والتكبر والعجب. وأما تفريطها: فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب.

وأما خلق العفة: فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع. وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط: فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.

فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة: وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. والباقي فروعها.

ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه. فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال. ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد، فينبغي أن يبعد، كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدى به ويتقرب إليه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما قال.

وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين وهو ثمرة العقل. ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة. والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال. فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" إشارة إلى أن للشدة موضعاً وللرحمة موضعاً، فليس الكمال في الشدة بكل حال ولا في الرحمة بكل حال. فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه وبيان أركانه وثمراته وفروعه.

بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة

اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها فإن الطباع لا تتغير. واستدل فيه بأمرين؛ أحدهما: أن الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر. فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلاً ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيراً ولا القبيح يقدر على تحسين صورته، فكذلك القبح الباطن يجري هذا المجرى. والثاني: أنهم قالوا حسن الخلق يقمع الشهوة والغضب. وقد جربنا ذلك بطول المجاهدة وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع فإنه قط لا ينقطع عن الآدمي فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة. فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة وذلك محال وجوده.

فنقول: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق.

والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول: الموجودات منقسمة إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله، كالسماء والكواكب، بل أعضاء البدن داخلاً وخارجاً، وسائر أجزاء الحيوانات. وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله وإلى ما وجد وجوداً ناقصاً وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه. وشرطه قد يربط باختيار العبد فأن النواة ليس بتفاح ولا نخل وإلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها، ولا تصير تفاحاً أصلاً إلا بالتربية، فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلاً، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه. وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى. نعم الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول ولاختلافها سببان.

أحدهما: قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان، ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيير قوة الشهوة، فإنها أقدم وجوداً، إذ الصبي في مبدأ الفطر تخلق له الشهوة، ثم بعد سبع سنين ربما يخلق له الغضب، وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز.

والسبب الثاني: أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسناً ومرضياً والناس فيه على أربع مراتب "الأولى" وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خالياً عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضاً باتباع اللذات، فهذا سريع القبول للعلاج جداً فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد، وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه في أقرب زمان. "والثانية" أن يكون قد عرف قبح القبيح، ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقياداً لشهواته وإعراضاً عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه، ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول، إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه؛ إذ عليه قلع ما رشه في نفسه أولاً من كثرة الاعتياد للفساد، والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم. "والثالثة" أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها، فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور، وذلك لتضاعف أسباب الضلال. "والرابعة" أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره، وهذا هو أصعب المراتب. وفي مثله قيل: ومن العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب. والأول : من هؤلاء جاهل فقط. والثاني: جاهل وضال. والثالث: جاهل وضال وفاسق. والرابع: جاهل وضال وفاسق وشرير. وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به: وهو قولهم إن الآدمي ما دام حياً فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائرهذه الأخلاق، فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات! فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك. ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك عن إمساك المال. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط. والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعاً. وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً ومع قوته منقاداً للعقل. ولذلك قال الله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وصفهم بالشدة وإنما تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل الجهاد. وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك، إذ قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر. وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ولكن لا يقول إلا حقاً فكان عليه السلام لا يخرجه غضب عن الحق وقال تعالى "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه، بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ممكن، وهو المراد بتغيير الخلق فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها فيقدم على الانبساط إلى الفواحش. وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال فدل أن ذلك ممكن، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها والذي يدل على أن المطلوب هو الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعاً، وهو وسط بين طرفي التبذير والتقتير. وقد أثنى الله تعالى عليه فقال "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" وقال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والجمود قال الله تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وقال في الغضب "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال صلى الله عليه وسلم "خير الأمور أوساطها وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم. قال الله تعالى "إلا من أتى الله بقلب سليم" والبخل من عوارض الدنيا، والتبذير أيضاً من عوارض الدنيا، وشرط القلب أن يكون سليماً منهما أي لا يكون ملتفتاً إلى المال ولا يكون حريصاً على إنفاقه ولا على إمساكه، فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك فكان كمال القلب أن يصفوا عن الوصفين جميعاً. وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه لعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط، فإن الفاتر لا حار ولا بارد بل هو وسط بينهما فكأنه خال عن الوصفين. فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير. والشجاعة بين الجبن والتهور. والعفة بين الشره والجمود. وكذلك سائر الأخلاق فكلا طرفي الأمور ذميم؛ هذا هو المطلوب وهو ممكن. نعم يجب على الشيخ المرشد للمريد أن يقبح عنده الغضب رأساً، ويذم إمساك المال رأساً، ولا يرخص له في شيء منه لأنه لو رخص له في أدنى شيء اتخذ ذلك عذراً في استبقاء بخله وغضبه وظن أنه القدر المرخص فيه. فإذا قصد الأصل وبالغ فيه ولم يتيسر له إلا كسر سورته بحيث يعود إلى الاعتدال فالصواب له أن يقصد قلع الأصل حتى يتيسر له القدر المقصود. فلا يكشف هذا السر للمريد فإنه موضع غرور الحمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه بحق وأن إمساكه بحق.

بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة

قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة. وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة، وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضاً. وهذا الاعتدال يحصل على وجهين:  أحدهما: بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفى سلطان الشهوة والغضب، بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع فيصير عالماً بغير تعليم ومؤدباً بغير تأديب كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام وكذا سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. ولا يبد أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب فرب صبي خلق صادق اللهجة سخياً جرياً، وربما يخلق بخلافه، فيحصل ذلك فيه بالاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق، وربما يحصل بالتعلم. والوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلاً أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعاً له ويتيسر عليه فيصير به جواداً، وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقاً له وطبعاً فيتيسر عليه. وجميع الأخلاق المحمودة شرعاً تحصل بهذا الطريق، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذاً فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة وما لم تترك جميع الأفعال السيئة. وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها، ويكره الأفعال القبيحة ويتألم بها، كما قال صلى الله عليه وسلم "وجعلت قرة عيني في الصلاة"ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ولا ينال كمال السعادة به. نعم المواظبة عليه بالمجاهدة خير ولكن بالإضافة إلى تركها لا بالإضافة إلى فعلها عن طوع ولذلك قال الله تعالى "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" وقال صلى الله عليه وسلم "اعبد الله في الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير" ثم لا يكن في نيل السعادة الموعودة على جسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر. وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة ارسخ وأكمل ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن السعادة فقال، طول العمر في طاعة الله تعالى ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت فإن الدنيا مزرعة الآخرة. وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر كان الثواب أجزل والنفس أزكى وأطهر والأخلاق أقوى وأرسخ، وإنما مقصود العبادات تأثيرها في القلب، وإنما يتأكد تأثيرها بكثرة المواظبة على العبادات. وغاية هذه الأخلاق أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويرسخ فيها حب الله تعالى فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله تعالى عز وجل، فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه الذي يوصله إليه وغضبه وشهوته من المسخرات له فلا يستعملهما إلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى، وذلك بأن يكون موزوناً بميزان الشرع والعقل، ثم يكون بعد ذلك فرحاً به مستلذاً له، ولا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين. ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك؛ فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة، ونرى المقامر قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار، مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بيته وتركه مفلساً ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به، وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة. وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائماً على رجليه وهو لا يحس بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء، بل نرى الفاجر العيار يفتخر بنفسه وبقوته في الصبر على ذلك، حتى يرى ذلك فخراً لنفسه، ويقطع الواحد منهم إرباً إربا على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحاً بما يعتقده كمالاً وشجاعة ورجولية، فقد صارت أحوالها مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره، بل لا حال أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكمال في تخنثه يتباهى به مع المخنثين، حتى يجري بين الحجامين والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجري بين الملوك والعلماء. فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف. فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة؛ فأما ميله إلى الحكمة وحب  الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فإنه مقتضى طبع القلب فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه، وإنما غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حب الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل على ذلك المرض.

فإذن قد عرفت بهذا قطعاً أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعاً انتهاء، وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح - أعني النفس والبدن- فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دور، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية -حتى يصير كاتباً بالطبع - فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن، فإن فعل الكاتب هوالخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً، فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع. وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس. وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له، فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طال بفقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم. وهو معنى قولنا أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها، ثم تتداعى قليلاً قليلاً حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه. وكذلك صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى يفوت أصل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة. وكما أن تكرار ليلة لا يحس تأثيره في فقه النفس بل يظهر فقه النفس شيئاً فشيئاً على التدريج - مثل نمو البدن وارتفاع القامة- فكذلك الطاعة الواحد لا يحس تأثيرهما في تزكية النفس وتطهيرها في الحال، ولكن لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعة فإن الجملة الكثيرة منها مؤثرة، وإنما اجتمعت الجملة من الآحاد، فلكل واحد منها تأثير، فما من طاعة إلا ولها أثر وإن خفي، فله ثواب لا محال. فإن الثواب بإزاء الأثر وكذلك المعصية. وكم من فقيه يستهين بتعطيل يوم وليلة وهكذا على التوالي يسوف نفسه يوماً فيوماً إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه. فكذا من يستهين صغائر المعاصي ويسوف نفسه بالتوبة على التوالي إلى أن يختطفه الموت بغتة أو تتراكم ظلمة الذنوب على قلبه وتتعذر عليه التوبة، إذ القليل يدعو إلى الكثير فيصير القلب مقيداً بسلاسل شهوات لا يمكن تخليصه من مخالبها. وهو المعنى بانسداد باب التوبة وهو المراد بقوله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً" الآية ولذلك قال رضي الله عنه" إن الإيمان ليبدو في القلب نكتة بيضاء، كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض فإذا استكمل العبد الإيمان أبيض القلب كله. وإن النفاق في القلب ليبدو نكتة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق أسود القلب كله.

فإذا عرفت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل، وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذر شراً يره وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".

بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق

قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها. كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له، والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالاً. فنقول: مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة عليها، مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال وإنما تعتري المعدة الضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسناه - أي بالاعتياد والتعليم تكسب الرذائل - وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء؛ فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن إن كان صحيحاً فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه؛ فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك عليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب وعلاجها بضدها. فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخى، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أن لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد. وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كانت على حد مخصوص -ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه بالكثرة والقلة، ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد - فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار لدواء مأخوذ من عيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية؟ فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها.

فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته. فإن كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشرع فيعلمه أولاً الطهارة والصلاة وظواهر العبادات، وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها، فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه: فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلته منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال، فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل ولا ذل أعظم من ذل السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه، فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة، وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلاً إلى ذلك فرحاً به ملتفتاً إليه استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة. فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار، فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنماً فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ومن راعى في ثوبه شيئاً سوى كونه حلالاً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه. ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه، كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم. كما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة. فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه، وكذلك سائر الصفات. وكذلك إذا رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه بالصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفه أن يهيئ الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه. وكذلك إذا رآه شاباً متشوقاً إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم، وربما تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء. ويمنعه اللحم والأدم رأساً حتى تذل نفسه وتنكسر شوكته. فلا علاج في مبدأ الإرادة أنفع من الجوع. وإن رأى الغضب غالباً عليه ألزمه الحلم والسكوت وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه.

كما حكى عن بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل. وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج. وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طوال الليل على نصبة واحدة. وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع. وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر؛ إذ خاب من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء بالبذل.

فهذه الأمثلة تعرفك طريق معالجة القلوب. وليس غرضنا ذكر دواء كل مرض - فإن ذلك سيأتي في بقى الكتب - وإنما غرضنا الآن التنبيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميلإليه وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" والأصل المهم في المجاهدة والوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختباراً. فينبغي أن يصبر ويستمر، فإنه إن عود نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت وإذا اتفق منه نقض عزم فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه - كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة - وإذا لم يخوف النفس بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية.