كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق - بيان علامات أمراض القلوب وعلامات عودها إلى الصحة

بيان علامات أمراض القلوب

وعلامات عودها إلى الصحة

اعلم أن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له حتى لا يصدر منه أصلاً أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله؛ وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ففي كل عضو فائدة وفائدة القلب الحكمة والمعرفة. وخاصية النفس التي للآدمي، ما يتميز بها عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها: بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة المحبة فمن عرف الله تعالى أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا، ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم" إلى قوله "أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله إلا أن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها، ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه. وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو نزع الروح. فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً والمرض مزمناً واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراءات. فهذه علامات أصول الأمراض.

وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه، ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير به مبذراً فيكون التبذير أيضاً داء، فكان كما يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو أيضاً داء، بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة. وكذلك المطلوب الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عن الطرفين، فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليماً عن هذا المقام خاصة. ويجب أن يكون سليماً عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها، فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية داخلة في زمرة عباد الله المقربين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم أن من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم - أعني الوسط - حتى لا يميل إلى أحد الجانبين فيكون قلبه معلقاً بالجانب الذي مال إليه. ولذلك لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار وإن كان مثل البرق قال الله تعالى "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجي الذين اتقوا" أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه. ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله "اهدنا الصراط المستقيم" إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة.

فقد روي أن بعضهم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: قد قلت يا رسول الله شيبتني هود، فلم قلت ذلك؟ فقال عليه السلام لقوله تعالى "فاستقم كما أمرت" فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها. فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب. فنسأل الله الكريم أن يجعلنا من المتقين.

بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه

اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق: الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته. وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في الزمان وجوده.

الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحوالها وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة الظاهرة ينبهه عليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.

كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأ أدهى إلى عيوبي. وكان يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى فألح عليه فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، فقال: أما هذان فقد كفيتهما. وكان يسأل حذيفة ويقول له أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين فهل ترى علي شيئاً من آثار النفاق؟ فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه!.

فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً كان أقل إعجاباً وأعظم إتهاماً لنفسه، إلا أن هذا أيضاً قد عز فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على قدر الواجب. فلا تخلو في أصدقائك عن حسود أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن مداهن يخفي عنك بعض عيوبك. ولهذا كان داود الطائي قد اعتزل الناس فقيل له: لم لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي؟ فكانت شهوة ذوي الدين أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم، وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا. ويكاد هذا أن يكون مفصحاً عن ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقرباً لتقلدنا منه منة وفرحنا به واشتغلنا بإزالة العقرب وإبعادها وقتلها، وإنما نكايتها على البدن ويدوم ألمها يوماً فما دونه، ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبداً وآلافاً من السنين. ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له: وأنت أيضاً تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه، ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب. وأصل كل ذلك ضعف الإيمان. فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنه وفضله.

الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساويا. ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم.

الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب.

قيل لعيسى عليه السلام: من أدبك؟ قال ما أدبني أحد، رأيت جهل الجاهل شيناً فاجتنبيه. وهذا كله حيل من فقد شيخاً عارفاً ذكياً بصيراً بعيوب النفس مشفقاً ناصحاً في الدين فارغاً من تهذيب نفسه مشتغلاً بتهذيب عباد الله تعالى ناصحاً لهم، فمن وجد ذلك فقد وجد الطبيب فليلازمه فهو الذي يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده.

بيان شواهد النقل من أرباب البصائر

وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلب ترك الشهوات وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات

اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشف لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين، فإن عجزت عن ذلك فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد، فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة، والعلم يحصل بعد الإيمان وهو وراءه قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فمن صدق بأن مخالفة الشهوات هي الطريق إلى الله عز وجل ولم يطلع على سببه وسره فهو من الذين آمنوا، وإذا اطلع على ما ذكرناه من أعوان الشهوات فهو من الذين أوتوا العلم وكلا وعد الله الحسنى.

والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصر. قال الله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" وقال تعالى "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" قيل نزع منها محبة الشهوات. وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده ومنافق يبغضه وكافر يقاتله وشيطان يضله ونفس تنازعه فبين أن النفس عدو منازع يجب عليه مجاهدته. ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة. وقال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره وقال نبينا صلى الله عليه وسلم لقوم قدموا من الجهاد "مرحباً بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قيل يا رسول الله ومال الجهاد الأكبر؟ قال "جهاد النفس وقال صلى الله عليه وسلم "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم "كف أذاك عن نفسك ولا تتابع هواها في معصية الله تعالى إذن تخاصمك يوم فليعن بعضك بعضاً إلا أن يغفر الله تعالى ويستر وقل سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد علي من نفسي مرة لي ومرة علي وكان أبو العباس الموصلي يقول لنفسه: يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخر مع العباد تجتهدين كأني بك بين الجنة والنار تحبسين يا نفس ألا تستحين! وقال الحسن: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك.

وقال يحيى بن معاذ الرازي: جاهد نفسك بأسياف الرياضة. والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام وحمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى، البلوغ إلى الغايات وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء والصبر على الأذى وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتامن من بواثقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها، فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان. وقال أيضاً: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات.

قال بعض الحكماء: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها؛ محصوراً في سجن هواها، مقهوراً مغلولاً زمامه في يدها تجره حيث ساءت فتمنع قلبه من الفوائد. وقال جعفر بن حميد: أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم. وقال أبو يحيى الوراق: من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات. وقال وهيب بن الورد: ما زاد على الخبز فهو شهوة. وقال أيضاً: من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل.

ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام - بعد أن أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفاً من عظماء مملكته - سبحان من جعل الملوك عبيداً بالمعصية وجعل العبيد ملوكاً بطاعتهم له. إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيداً وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكاً. فقال يوسف - كما أخبر الله تعالى عنه "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين".

وقال الجنيد: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس، فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي قال: يا أبا القاسم إلى الساعة، فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ قال: بلى سألت الله عز وجل أن يحرك إلى قلبك، فقلت: قد فعل فما حاجتك؟ قال: فمتى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها، فأقبل على نفسه فقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه، ثم انصرف وما عرفته وقال يزيد الرقائي: إليكم عني الماء البارد في الدنيا لعلي لا أحرمه في الآخرة. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام. وقال علي رضي الله عنه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا. وكان مالك بن دينار يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي. فإذن قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات فالإيمان بهذا واجب. وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات وما لا يترك فلا يدرك إلا بما قدمناه. وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة، فيكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة، فإنه لم تمتع بشيء منه أنس به وألفه، فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلا بأن يكون القلب مشغولاً بمعرفة الله وحبه والتفكير فيه والانقطاع إليه، ولا قوة على ذلك إلا بالله، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط. فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه والناس فيه أربعة: رجل مستغرق قلبه بذكر الله فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة فهو من الصديقين. ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة والصبر عن الشهوات مدة مديدة.

الثاني: رجل استغرقت الدنيا قلبه ولم يبق الله تعالى ذكر في قلبه إلا من حيث حديث النفس، حيث يذكره باللسان لا بالقلب فهذا من الهالكين.

والثالث: رجل اشتغل بالدنيا والدين ولكن الغالب على قلبه هو الدين فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعاً بقدر غلبة ذكر الله تعالى على قلبه.

والرابع: رجل اشتغل بهما جميعاً لكن الدنيا أغلب على قلبه فهذا يطول مقامه في النار لكن يخرج منها لا محال لقوة ذكر الله تعالى في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه. اللهم إنا نعوذ بك من خزيك فإنك أنت المعاذ.

وربما يقول القائل إن التنعم بالمباح مباح فكيف يكون التنعم سبب البعد من الله عز وجل؟ وهذا خيال ضعيف بل حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب إحباط كل حسنة. والمباح الخارج عن قدر الحاجة أيضاً من الدنيا وهو سبب البعد - وسيأتي ذلك في كتاب ذم الدنيا - وقد قال إبراهيم الخواص كنت مرة في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها، فرأيت رجلاً مطروحاً وقد اجتمعت عليه الزنابير فقلت: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، فقلت: كيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله عز وجل لم يخف عليه شيء، فقلت: أرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير؟ فقال: وأرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا، فتركته ومضيت. وقال السري: أنا منذ أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزة في دبس فما أطعمتها.

فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت؛ إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين، حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة. ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلى ما لا يحل، وكذلك سائر الشهوات، لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام، فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعودها الاقتصاد على قدر الضرورة من الشهوات غلبته. فهذه إحدى المباحات ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه، وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليها وتطمئن إليها أشراً وبطراً حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره. وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيامة، وهذا هو موت القلب. قال الله تعالى "ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوابها" وقال تعالى "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" وقال تعالى "اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة. فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر، وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر. فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر، ففطموها عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها - حلالها وحرامهاوعلموا أن حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب. فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله عز وجل والاشتغال بطاعته. وفعلوا بها ما يفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب؛ فإنه يحبس أولاً في بيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء، وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال، ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفاً إذا دعاه أجابه، ومهما سمع صوته رجع إليه. فكذلك النفس لا تألف ربها ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولاً ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثم عودت الثناء والذكر والدعاء ثانياً في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضاً عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات وذلك يثقل على المريد في البداية ثم ينعم به في النهاية، كالصبي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام، ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلاً عن اللبن، ولكنه إذا منع اللبن رأساً يوماً فيوماً وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفاً، ثم يصير له طبعاً. فلو رد بعد ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه، فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام. وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب فتحمل على ذلك قهراً، وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولاً، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد. فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب، وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايلها بالموت، إذ قيل له أحبب ما أحببت فإنك مفارقه. فإذا علم أنه من أحب شيئاً يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى، فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه. وكل ذلك يتم بالصبر أولاً أياماً قلائل فإن العمر قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة. وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال سفر وتعلم صناعة وغيرها شهراً ليتنعم به سنة أو دهراً. وكل العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا. فلا بد من الصبر والمجاهدة فعند الصباح يحمد القوم السرى وتذهب عنهم عمايات الكرى كما قاله علي رضي الله عنه.

وطريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله. والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة فينبغي أن يترك أولاً ما به فرحه، فإنه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له ثوابك في الآخرة لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن بها، وذلك مهلك في حقه. ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر الله تعالى والفكر فيه. وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس حتى يقمع مادته مهما ظهر، فإن لكل وسوسة سبباً ولا تزول إلا بقطع ذلك السبب والعلاقة. وليلازم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا بالموت.

بيان علامات حسن الخلق

اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق. فإن حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق. وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق. فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون" إلى قوله "أولئك هم الوارثون" وقال عز وجل "التائبون العابدون الحامدون" إلى قوله "وبشر المؤمنين" وقال عز وجل "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" إلى قوله "أولئك هم المؤمنون حقاً" وقال تعالى "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" إلى آخر السورة. من أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال "المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال عليه السلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" وقال صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن باالله واليوم الآخر فليكرم جاره وقال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وقال صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنه يلقن الحكمة وقال "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن وقال "لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه وقال عليه السلام "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً وقال صلى الله عليه وسلم "إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله عز وجل فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه.

وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، براً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً رضياً حكيماً رفيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله فهذا هو حسن الخلق.

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامة المؤمن والمنافق فقال "إن المؤمن همته في الصلاة والصيام والعبادة، والمنافق همته في الطعام والشراب كالبهيمة وقال حاتم الأصم: المؤمن مشغول بالفكر والعبر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل، والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله، والمنافق راج كل أحد إلا الله، والمؤمن آمن كل أحد إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله، والمؤمن يقدم ماله دون دينه، والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن ويبكي، والمنافق يسيء ويضحك، والمؤمن يحب الخلوة والوحدة، والمنافق يحب الخلطة والملأ، والمؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد. وأولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء، ومن شكا من سوء خلق غيره دل ذلك على سوء خلقه، فإن حسن الخلق احتمال الأذى فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابي فجذبه جذباً شديداً وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية، قال أنس رضي الله عنه: حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه، فقال: يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك، ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه وضربه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" قيل إن هذا يوم أحد فلذلك أنزل الله تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" ويحكى أن إبراهيم بن أدهم خرج يوماً إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال: أنت عبد؟ قال: نعم، فقال له: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فقال الجندي: إنما أردت العمران؟ فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا مال الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا، هذا إبراهيم بن أدهم! فنزل الجندي عن فرسه وقبل يديه ورجليه وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلت له أنا عبد؟ فقال: إنه لم يسألني: عبد من أنت بل قال: أنت عبد؟ فقلت: نعم، لأني عبد الله، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة قيل كيف وقد ظلمك؟ فقال: علمت أنني أؤجر على ما نالني منه فلم أرد أن يكون نصيبي منه الخير ونصيبه مني الشر. ودعى أبو عثمان الحيري إلى دعوة - وكان الداعي قد أراد تجربته - فلما بلغ منزله قال له: ليس لي وجه، فرجع أبو عثمان فلما ذهب غير بعيد دعاه ثانياً فقال له: يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان فقال له مثل مقالته الأولى فرجع، ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت فرجع، فلما بلغ الباب فإن له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان، ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات وأبو عثمان لا يتغير من ذلك، فأكب على رجليه وقال له: يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك فما أحسن خلقك! فقال: إن الذي رأيت مني هو خلق الكلب، إن الكلب إذا دعي أجاب وإذا زجر انزجر. وروي عنه أيضاً أنه اجتاز يوماً في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً فقيل ألا زبرتهم فقال إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب وروي أن علي بن موسى الرضا رحمة الله عليه كان لونه يميل إلى السواد - إذ كانت أمه سوداء - وكان نيسابور حمام على باب داره، وكان إذا أراد دخول الحمام فرغه له الحمامي، فدخل ذات يوم فأغلق الحمامي الباب ومضى في بعض حوائجه، فتقدم رجل رستاقي إلى باب الحمام ففتحه ودخل فنزع ثيابه ودخل فرأى علي بن موسى الرضا فظن أنه بعض خدام الحمام، فقال له: قم واحمل إلي الماء فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره به، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى الرضا فخاف وهرب وخلاهما، فلما خرج علي بن موسى سأل عن الحمامي فقيل له: إنه خاف مما جرى فهرب قال: لا ينبغي له أن يهرب إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء. وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه، وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة فكان إذا خاط له شيئاً حمل إليه دراهم زائفة، فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه، فاتفق يوماً أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته، فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهماً زائفاً، فلما نظر إليه التلميذ عرف أنه زائف فرده عليه، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال: بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغر بها مسلماً. وقال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال؛ قلة الحلاف، وحسن الإنصاف، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبير، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه. وسئل سهل عن حسن الخلق فقال: أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه. وقيل للأحنف بنقيس ممن تعلمت الحلم! فقال: من قيس بن عاصم، قيل ما وبلغ من حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية فقال لها: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى. وقيل أن أويساً القرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فكان يقول لهم: يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني عن الصلاة. وشتم رجل الأحنف بن قيس وهو لا يجيبه وكان يتبعه فلما قرب من الحي وقف وقال: إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي لا يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك وروي أن علياً كرم الله وجهه دعا غلاماً فلم يجبه فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه. فقام إليه فرآه مضطجعاً فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: بلى، قال: فما حملك على ترك إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، فقال: امض فأنت حر لوجه الله تعالى. وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له: لم تمسكه؟ فقال: لأتعلم الحلم عليه.

فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة فاعتدلت أخلاقها، ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى وهو منتهى حسن الخلق. فإن من يكره فعل الله تعالى ولا يرضى به فهو غاية سوء خلقه، فهؤلاء ظهرت العلامات على ظواهرهم كما ذكرناه. فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه فيظن بها حسن الخلق، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون.

بيان الطريق في رياضة الصبيان

في أول نشؤهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم

اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب؛ وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له. وقد قال الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى؛ وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من القرناء السوء ولا يعوده التنعم، ولا يحبب عليه الزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشو الصبي انعجنت طينته من الخبيث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحاً ومخالفاً للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه أو تمييزه، وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول عليه بسم الله عند أخذه، وأن يأكل مما يليه وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره، ولايحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي لين اللقم، ولا يلطخ يده ولا ثوبه، وأن يعود الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتماً، ويقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم، وبأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بالطعام الخشن أي طعام كان، وأن يحبب إليه من الثياب البيض دون الملون والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه ويكرر ذلك عليه، ومهما رأى على صبي ثوباً من إبريسم أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذمه، ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة، وعن مخالطة كل من يسمعه ما يرغبه فيه فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشؤه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً حسوداً نماماً لحوحاً ذا فصول وضحك وكياد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب، ثم يشتغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد. ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أن يتصور أن يتجاسروا أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سراً ويعظم الأمر فيه ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح، وينبغي أن يمنع عن النوم نهاراً فإنه يورث الكسل ولا يمنع منه ليلاً ولكن يمنع الفرش الوطيئة حتى تتصلب أعضاؤه ولا يسمن بدنه فلا يصبر عن التنعم؛ بل يعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم، وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح، فإذا ترك تعود فعل القبيح، ويعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل، ويعود أن لا يكشف أطرافه ولا يسرع المشي، ولا يرخي يديه بل يضمها إلى صدره، ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه أو بشي من مطاعمه وملابسه أو لوحه ودواته، بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره والتلطف في الكلام معهم، ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئاً بدا له حشمة إن كان من أولاد المحتشمين، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ وأن الأخذ لؤم وخسة ودناءة: وإن كان من أولاد الفقراء فليعلم أن الطمع والأخذ مهانة وذلة وأن ذلك من دأب الكلب فإنه يبصبص في انتظار لقمة والطمع فيها.

وبالجملة يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب، فإنه آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة السموم على الصبيان بل على الأكابر أيضاً، وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يمتخط ولا يتثاءب بحضرة غيره ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلاً على رجل ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل. ويعلم كيفية الجلوس ويمنع كثرة الكلام ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه فعل أبناء اللئام، ويمنع اليمين رأساً -صادقاً أو كاذباً- حتى لا يعتاد ذلك في الصغر، ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود أن لا يتكلم إلا جواباً وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سناً، وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من القرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء، وينبغي إذا ضربه المعلم أن لا يكثر الصراخ والشغب، ولا يستشفع بأحد بل يصبر ويذكر له أن ذلك دأب الشجعان والرجال، وأن كثرة الصراخ دأب المماليك والنسوان. وينبغي أن يؤذن له بعد الإنصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً. وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه ومن هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبي، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم، وأن يترك اللعب بين أيديهم. ومهما بلغ سن التمييز، فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان، ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع. ويخوف من السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش، وكل ما يغلب على الصبيان، فإذا وقع نشوه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور، فيذكر له أن الأطعمة أدوية وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل، وأن الدنيا كلها لا أصل لها إذ لا بقاء لها، وإن الموت يقطع نعيمها، وأنها دار ممر لا دار مقر، وأن الآخرة دار مقر لا دار ممر، وأن الموت منتظر في كل ساعة، وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة حتى تعظم درجته عند الله تعالى ويتسع نعيمه في الجنان، فإذا كان النشو صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراُ ناجعاً يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر. وإن وقع النشو بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزين والتفاخر نبا قبله عن قبول الحق نبوة الحائط على التراب اليابس. فأوائل الأمور هي التي ينبغي أن تراعى، فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين. قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سواء فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي الله ناظر إلي الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه؟ إياك والمعصية، فكنت أخلو بنفسي فبعثوا بي إلى المكتب فقلت: إني لأخشى أن يتفرق على همي ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم ثم أرجع، فمضيت إلى الكتاب فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فسألت أهلي أن يبعثوني إلى أهل البصرة لأسأل عنها، فأتيت البصرة فسألت علماءها فلم يشف أحد عني شيئاً. فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن أبي عبد الله العباداني فسألته عنها فأجابني، فأقمت عنده مدة أنتفع بكلامه وأتأدب بآدابه، ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصاداً على أن يشترى لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي، فأفطر عند السحر على أوقية كل ليلة بحنا من غير ملح ولا أدم، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال ثم أفطر ليلة. ثم خمساً، ثم سبعاً، ثم خمساً وعشرين ليلة، فكنت على ذلك عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله ما شاء الله تعالى قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى.

بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة

وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة

واعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريداً حرث الآخرة مشتاقاً إليها سالكاً سبلها مستهيناً بنعيم الدنيا ولذاتها، فإن من كانت عنده خرزة فرأى نفيسة لم يبق له رغبة في الخرزة وقويت إرادته في بيعها بالجوهرة، ومن ليس مريداً حرث الآخرة ولا طالباً للقاء الله تعالى فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر - وليست أعني بالإيمان حديث النفس وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص. فإن ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خيرة من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهرة إلا لفظها وأما حقيقتها فلا ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة، فإذن المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان، وسبب عدم الإيمان عدم الهداة والمذكرين والعلماء بالله تعالى الهادين إلى طريقه والمنبهين على حقارة الدنيا وانقراضها وعظم أمر الآخرة ودوامها - فالخلق غافلون قد انهمكوا في شهواتهم وغاصوا في رقدتهم وليس في علماء الدين من ينبههم، فإن تنبه منهم متنبه عجز عن سلوك الطريق لجهله، فإن طلب الطريق من العلماء وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق، فصار ضعف الإرادة ولجهل بالطريق ونطق العلماء بالهوى سبباً لخلق طريق الله تعالى عن السالكين فيه. ومهما كان المطلوب محجوباً والدليل مفقوداً والهوى غالباً والطالب غافلاً امتنع الوصول وتعطلت الطرق لا محالة. فإن تنبه متنبه من نفسه أو من تنبيه غيره وانبعث له إرادة في حرث الآخرة وتجارتها فينبغي أن يعلم له شروطاً لا بد من تقديمها في بداية الإرادة وله معتصم لا بد من التمسك به. وله حصن لا بد من التحصن به ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه، وعليه وظائف لا بد من ملازمتها في وقت سلوك الطريق.

أما الشروط التي لا بد من تقديمها في الإرادة فهي رفع السد والحجاب الذي بينه وبين الحق. فإن حرمان الخلق عن الحق سببه تراكم الحجب ووقوع السد على الطريق قال الله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون".

والسد بين المريد وبين الحق أربعة: المال، والجاه، والتقليد، والمعصية. وإنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة، فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل. وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع وإيثار الخمول والهرب من أسباب الذكر وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه. وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب وأن يصدق بمعنى قوله "لا إله إلا الله محمد رسول الله" تصديق إيمان ويحرص في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى - وأعظم معبود له الهوى - حتى إذا فهل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليداً فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة، فإن غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيداً له وحجاباً إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلاً. وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود وتحقيق الندم على ما مضى ورد المظالم وإرضاء الخصوم، فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب. فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولاً ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه، فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولاً وآخراً ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها. فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحاً للصلاة فيحتاج إلى إمام يقتدى به، فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدى به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر. فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره ولا يبقى في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور: الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر. وهذا تحصن من القواطع فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه.

أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره، ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته، ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب. ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم! وقال سهل بن عبد الله التستري: ما صار الأبدال أبدالاً إلا بأربع خصال، بإخماص البطون، والسهر، والصمت، والاعتزال عن الناس. ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين.

وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره، فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق، ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة. والسهر أيضاً نتيجة الجوع فإن السهر مع الشيع غير ممكن، والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب. فقد قيل في صفة الأبدال: إن أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة. وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: أجمع رأى سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء.

وأما الصمت فإنه تسهله العزلة، ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره، فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم، فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه. فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى.

وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر فإنهما دهليز القلب. والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة غليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص؟ فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية. أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل له "يا أيها المزمل-يا أيها المدثر . فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق. فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق. وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريقالله تعالى غلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض. والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل وهي تلك الصفات؛ أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة، وآثارها؛ أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي، فلا بد أن يخلي الباطن عن آثارها كما أخلي الظاهر عن أسبابها الظاهرة، وفيه تطول المجاهدة، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال؛ فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة، وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد -كما سبق ذكره- فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة؛ شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة، بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده ورداً واحداً. وهو لباب الأوراد وثمرتها؛ أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو من ذكر غيره، ولا يشغله به ما دام قلبه ملتفتاً إلى علائقه. قال الشبلي للحصري: إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني، وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد. فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال، وعند ذلك يلقنه ذكراً من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلاً: . أو: سبحان الله سبحان الله. أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته، وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه، لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره -أي شيء كان- فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره، وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قد مضى من أحواله وأحوال غيره، فإنه مهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة، وأنها: ما هي؟ وما معنى قولنا: الله؟ ولأي معنى كان إلهاً وكان معبوداً؟ ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة. ومهما كان كارهاً لذلك ومتشمراً لإماطته عن القلب لم يضره ذلك. وهي منقسمة إلى ما يعلم قطعاً أن الله تعالى منزه عنه ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره، فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" وقال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وإلى ما يشك فيه فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه، بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه، وأن يستره عن غيره فلا يطلع عليه أحداً، ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته، فلو علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق فينبغي أن يحيله على الفكر ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته، وإن علم أن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذلك ودليل قريب من فهمه، وينبني أن يتأنق الشيخ ويتلطف به فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها. فكم من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة؟ وذلك هو الهلاك العظيم. ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه قد ركب سفينة الخطر، فإن سلم كان من ملوك الدين وإن أخطأ كان من الهالكين. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "عليكم بدين العجائز وهو تلقي أصل الإيمان وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير، فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير. ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكياً فطناً متمكناً من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر، بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة، أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم، وإن كان لا يبلغ درجتهم، ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات. ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتوراً في طريقه ووقوفاً، بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك، ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة.

قال بعض السياحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق كيف الطريق إلى التحقيق؟ فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق. وقال مرة: قلت له دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم، قال فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه لعلة، قال: يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام؟ هذا ما لا يكون أبداً. فإذاً منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك غلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلوا عن غيره إلا بطول المجاهدة، فإذا حصل قلبه مع الله انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف القواطع عليه أن يتكلم به وعظاً ونصحاً ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة، فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع، فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى، وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة، ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاماً منه وأجزل لفظاً وأقدر على استجلاب قلوب العوام، فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول وإن كان محركه هو الحق حرصاً على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم فيعظم به فرحه ويقول: الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده. كالذي وجب عليه مثلاً أن يحمل ميتاً ليدفنه إذ وجده ضائعاً وتعين عليه ذلك شرعاً فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه، والغافلون موتى القلوب، والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك، وهذا عزيز على الوجود جداً فينبغي أن يكون المريد على حذر منه فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى "بل تؤثرون الحياة الدنيا" ثم بين أن الشر قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال "إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى" فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى. فأما تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه -أعني به الشهوات المتعلقة بها- ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات، ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا، ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة، وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأساً وتمسك من الدين بما فيه الرياسة وغلب عليه الغرور.

فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى: كتاب في كسر شهوة البطن والفرج، وكتاب في آفات اللسان، وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد، وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها، وكتاب في كسر حب المال وذم البخل، وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه، وكتاب في ذم الكبر والعجب، وكتاب في مواقع الغرور. وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات، وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب. أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى. تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.