كتاب كسر الشهوتين - بيان فضيلة الجوع وذم الشبع

وهو الكتاب الثالث من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المنفرد بالجلال في كبريائه وتعاليه، المستحق للتحميد والتقديس والتسبيح والتنزيه، القائم بالعدل فيما يبرمه ويقضيه، المتطول بالفضل فيما ينعم به ويسديه، المتكفل بحفظ عبده في جميع موارده ومجاريه، المنعم عليه بما يزيد على مهمات مقاصده بل بما يفي بأمانيه، فهو الذي يرشده ويهديه، وهو الذي يميته ويحييه، وإذا مرض فهو يشفيه، وإذا ضعف فهو يقويه، وهو الذي يوفقه للطاعة ويرتضيه، وهو الذي يطعمه ويسقيه، ويحفظه من الهلاك ويحميه، ويحرسه بالطعام والشراب عما يهلكه ويرديه، ويمكنه من القناعة بقليل القوت ويقربه حتى تضيق به مجاري الشيطان الذي يناويه، ويكسر به شهوة النفس التي تعاديه، فيدفع شرها ثم يعبد ربه ويتقيه، هذا بعد أن يوسع عليه ما يلتذ به ويشتهيه، ويكثر عليه ما يهيج بواعثه ويؤكد دواعيه، كل ذلك يمتحنه به ويبتليه، فينظر كيف يؤثره على ما يهواه وينتحيه، وكيف يحفظ أوامره وينتهي عن نواهيه، ويواظب على طاعته وينزجر عن معاصيه. والصلاة على محمد عبده النبيه، ورسوله الوجيه، صلاة تزلفه وتحظيه، وترفع منزلته وتعليه، وعلى الأبرار من عترته وأقربيه، والأخيار من صحابته وتابعيه.

أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما. والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج وشدة الشبق إلى المنكوحات؛ ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات؛ ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات؛ ثم يتولد بينهما آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله عز وجل ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجز به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وإيثار العاجلة على العقبى ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا، وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد وجب شرح غوائلها وآفاتها تحذيراً منها، ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ترغيباً فيها، وكذلك شرح شهوة الفرج فإنها تابعة لها. ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله؛ ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين.

بيان فضيلة الجوع وذم الشبع

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه وقيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال "من قل مطعمه وضحكه ورضي مما يستر به عورته وقال النبي صلى الله عليه وسلم "سيد الأعمال الجوع وذل النفس لباس الصوف وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البسوا وكلوا واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة وقال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم "الفكر نصف العبادة وقلة الطعام هي العبادة وقال الحسن أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكراً في الله سبحانه، وأبغضكم عند الله عز وجل يوم القيامة كل نثوم أكول شروب وفي الخبر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجوع من غير عوز أي مختاراً لذلك وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يباهي الملائكة بمن قل مطعمه ومشربه في الدنيا يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي ابتليته بالطعام والشراب في الدنيا فصبر وتركهما اشهدوا يا ملائكتي ما من أكلة يدعها إلا أبدلته بها درجات في الجنة وقال صلى الله عليه وسلم "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء وقال صلى الله عليه وسلم "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرباه وثلث لنفسه وفي حديث أسامة بن زيد وحديث أبي هريرة الطويل ذكر فضيلة الجوع إذ قال فيه "إن أقرب الناس من الله عز وجل يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحف بهم ملائكة السماء نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عز وجل، افترش الناس الفرش الوثيرة وافترشوا الجباه والركب، ضيع الناس فعل النبيين وأخلاقهم وحفظوها هم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الجبار على كل بلدة ليس فيها منهم أحد لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف أكلوا العلق ولبسوا الخرق شعثاً غبراً يراهم الناس فيظنون أن بهم داء وما بهم داء، ويقال قد خولطوا فذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أمر الله الذي أذهب عنهم الدنيا، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول عقلوا حين ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لأهل تلك البلدة ولا يعذب الله قوماً هم فيهم. الأرض بهم فرحة والجبار عنهم راض. اتخذهم لنفسك إخواناً عسى أن تنجو بهم. وإن استطعت إن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل. فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحل مع النبيين. وتفرح بقدوم روحك الملائكة ويصلي عليك الجبارروى الحسن بن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل وروي ذلك أيضاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم رواه طاوس. وقيل مكتوب في التوراة: إن الله ليبغضن الحبر السمين لأن السمين يدل على الغفلة وكثرة الأكل وذلك قبيح خصوصاً بالحبر. ولأجل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى يبغض القارئ السمين وفي خبر مرسل "إن الشيطان لجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش وفي الخبر "إن الأكل على الشيع يورث البرص وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء أي يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته وذكر المعي كناية عن الشهوة لأن الشهوة هي التي تقبل الطعام وتأخذه كما يأخذ المعي. وليس المعنى زيادة عدد معي المنافق على معي المؤمن. وروى الحسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول "أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم" فقلت: كيف نديم قرع باب الجنة؟ قال "بالجوع والظمأ وروى "أنا أبا جحيفة تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له "أقصر من جشائك فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تمتلئ قط شبعاً وربما بكيت رحمة مما أرى به من الجوع فأمسى بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنعك من الجوع؟ فيقول "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا مضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غداً دونهم فالصبر أياماً يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بأصحابي وإخواني" قالت عائشة: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله إليه وعن أنس قال: جاءت فاطمة رضوان الله عليها بكسرة خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما هذه الكسرة" قالت: قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام وقال أبو هريرة: ما أشبه النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة وإن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملأى وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة . وأما الآثار: فقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة فإنها ثقل في الحياة نتن في الممات. وقال شقيق البلخي العبادة حرفة حانوتها الخلوة وآلتها المجاعة. وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه: أي شيء تخافين؟ أتخافين أن تجوعي؟ لا تخافي ذلك: أنت أهون على الله من ذلك إنما يجوع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكان كهمس يقول إلهي أجعتني وأعريتني وفي ظلم الليالي بلا مصباح أجلستني فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني؟ وكان فتح الموصلي إذا اشتد مرضه وجوعه يقول: إلهي ابتليتني بالمرض والجوع وكذلك تفعل بأوليائك فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي؟ وقال مالك بن دينار: قلت لمحمد بن واسع يا أبا عبد الله طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس فقال لي يا أبا يحيى طوبى لمن أمسى وأصبح جائعاً وهو عن الله راض. وكان الفضيل بن عياض يقول: إلهي أجعتني وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح وإنما تفعل ذلك بأوليائك فبأي منزلة نلت هذا منك؟ وقال يحيى بن معاذ: جوع الراغبين منبهة وجوع التائبين تجربة وجوع المجتهدين كرامة وجوع الصابرين سياسة وجوع الزاهدين حكمة. وفي التوراة اتق الله وإذا شبعت فاذكر الجياع: وقال أبو سليمان: لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليلة إلى الصبح، وقال أيضاً: الجوع عند الله في خزائنه لا يعطيه إلا من أحبه. وكان سهل بن عبد الله التستري يطوي نيفاً وعشرين يوماً لا يأكل، وكان يكفيه لطعامه في السنة درهم، وكان يعظم الجوع ويبالغ فيه حتى قال: لا يوافى القيامة عمل بر أفضل من ترك فضول الطعام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكله. وقال: لم ير الأكياس شيئاً أنفع من الجوع للدين والدنيا. وقال: لا أعلم شيئاً أضر على طلاب الآخرة من الأكل. وقال: وضعت الحكمة والعلم في الجوع ووضعت المعصية والجهل في الشبع. وقال ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال. وقد جاء في الحديث "ثلث للطعام فمن زاد عليه فإنما يأكل من حسناته وسئل عن الزيادة فقل: لا يجد الزيادة حتى يكون الترك أحب إليه من الأكل، ويكون إذا جاع ليلة سأل الله أن يجعلها ليلتين، فإذا كان ذلك وجد الزيادة. وقال صار الأبدال أبدالاً إلا بإخماص البطون والسهر والصمت والخلوة. وقال: رأس كل بر نزل من السماء إلى الأرض الجوع، ورأس كل فجور بينهما الشبع. وقال: من جوع نفسه انقطعت عنه الوساوس. وقال: إقبال الله عز وجل على العبد بالجوع والسقم والبلاء إلا من شاء الله. وقال: اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه وقتلها بالجوع والسهر والجهد. وقال: ما مر على وجه الأرض أحد شرب من هذا الماء حتى روي فسلم من المعصية -وإن شكر الله تعالى- فكيف الشبع من الطعام؟ وسئل حكيم بأي قيد أقيد نفسي؟ قال: قيدها بالجوع والعطش، وذللها بإخمال الذكر وترك العز، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة، واكسرها بترك زي القراء عن ظاهرها، وانج من آفاتها بدوام سوء الظن بها، واصحبها بخلاف هواها. وكان عبد الواحد بن زيد يقسم بالله تعالى إن الله تعالى ما صافي أحداً إلا بالجوع ولا مشوا على الماء إلا به، ولا طويت لهم الأرض إلا بالجوع، ولا تولاهم الله تعالى إلا بالجوع، وقال أبو طالب المكي: مثل البطن مثل المزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار -غنما حسن صوته لخفته ورقته لأنه أجوف غير ممتلئ، وكذلك الجوف إذا خلا كان أعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ثلاثة يحبهم الله تعالى؛ رجل قليل النوم قليل الأكل قليل الراحة. وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحاً لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة فإذا رغيف موضوع بين يديه، فجلس يبكي على فقد المناجاة وإذا شيخ قد أظله فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله ادع الله تعالى فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني، فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي، بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر. وروي أن موسى عليه السلام لما قربه الله عز وجل نجياً كان قد ترك الأكل أربعين يوماً -ثلاثين ثم عشراً- على ما ورد به القرآن؛ لأنه أمسك  بغير تبييت يوماً فزيد عشرة لأجل ذلك.

بيان فوائد الجوع وآفات الشبع

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك" ولعلك تقول: هذا الفضل العظيم للجوع أين هو؟ وما سببه؟ وليس فيه إلا إيلام المعدة ومقاساة الأذى! فإن كان كذلك فينبغي أن يعظم الأجر في كل ما يتأذى به الإنسان من ضربه لنفسه وقطعه للحمه وتناوله الأشياء المكروهة وما يجري مجراه؟ فاعلم أن هذا يضاهي قول من شرب دواء فانتفع به وظن أن منفعته لكراهة الدواء ومرارته، فأخذ يتناول كل ما يكرهه من المذاق وهو غلظ، بل نفعه في خاصية في الدواء وليس كونه مراً، وإنما يقف على تلك الخاصية الأطباء، فكذلك لا يقف على علة نفع الجوع إلا سماسرة العلماء ومن جوع نفسه مصدقاً لما جاء في الشرع من مدح الجوع انتفع به وإن لم يعرف علة المنفعة، كما أن من شرب الدواء انتفع به وإن لم يعله وجه كونه نافعاً.

ولكنا نشرح لك إن أردت أن ترتقي من درجة الإيمان إلى درجة العلم قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فنقول: في الجوع عشر فوائد.

الفائدة الأولى: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسبب عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك، بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك. وقال أبو سليمان الداراني: عليك بالجوع فإنه مذلة للنفس ورقة للقلب وهو يورث العلم السماوي. وقال صلى الله عليه وسلم "أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق ويقال: مثل الجوع مثل الرعد، ومثل القناعة مثل السحاب، والحكمة كالمطر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من شبع ونام قسا قلبه" ثم قال "لكل شيء زكاة وزكاة البدن الجوع وقال الشبلي: ما جعت لله يوماً إلا رأيت في قلبي باباً مفتوحاً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط. وليس يخفى أن غاية المقصود من العبادات الفكر الموصل إلى المعرفة والاستبصار بحقائق الحق، والشبع يمنع منع والجوع يفتح بابه، والمعرفة باب من أبواب الجنة فبالحرى أن تكون ملازمة الجوع قرعاً لباب الجنة. ولهذا قال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال أبو يزيد البسطامي: الجوع سحاب فإذا جاع العبد أمطر القلب الحكمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله عز وجل الشبع، والقربة إلى الله عز وجل حب المساكين والدنو منهم. لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم ومن بات في خفة من الطعام بات الحور حوله حتى يصبح .

الفائدة الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر، فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلب لا يلتذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب، وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر وتلذذه بالمناجاة، وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه، وقال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إلى العبادة إذا التصق ظهري ببطني. وقال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة. وقال أبو سليمان: إذا جاع القلب وعطش صبا ورق، وإذا شبع عمى وغلط، فإذا تأثر القلب بلذة المناجاة أمر وراء تيسير الفكر واقتناص المعرفة على فائدة ثانية. الفائدة الثالثة: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا برى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر، فليكن دائماً جائعاً مضطراً إلى مولاه مشاهداً للاضطرار بالذوق، ولأجل ذلك لما عرضت الدنيا وخزائنها على النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا بل أجوع يوماً وأشبع يوماً فإذا جعت صبر وتضرعت وإذا شبعت شكرت أو كما قال "فالبطن والفرج باب من أبواب النار وأصله الشبع. والذي والانكسار باب من أبواب الجنة وأصله الجوع. ومن أغلق باباً من أبواب النار فقد فتح باباً من أبواب الجنة بالضرورة لأنهما متقابلاً كالمشرق والمغرب، فاقرب من أحدهما بعد من الآخر.

الفائدة الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه؛ ولا ينسى أهل البلاء فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة، فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة، ومن جوعه جوع أهل النار، حتى إنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل، فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها، فإنه هو الذي يهيج الخوف، فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء، وأولى ما يقاسيه من البلاء والجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكر عذاب الآخرة. وهذا أحد الأسباب الذي اقتضى اختصاص البلاء بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل. ولذلك قيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وفي يديك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. فذكر الجائعين والمحتاجين إحدى فوائد الجوع فإن ذلك يدعو إلى الرحمة والإطعام والشفقة على خلق الله عز وجل. والشبعان في غفلة عن ألم الجائع.

الفائدة الخامسة -وهي من أكبر الفوائد-: كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى. ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة. وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، وكما أنك لا تملك الدابة الجموع إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت، فكذلك النفس. كما قيل لبعضهم: ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد انهد؟ فقال: لأنه سريع المرح فاحش الأشر فأخاف أن يجمع بي فيورطني، فلأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش. وقال ذو النون: ما شبعت قط غلا عصيب أو هممت بمعصية: وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشبع.

إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد. ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى وأقل ما يندفع بالجوع: شهوة الفرج وشهوة الكلام، فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها، فيمنعه الجوع من كل ذلك وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.

وأما شهوة الفرج: فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها. وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه، فالعين تزني كما أن الفرج يزني، فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره، فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته، وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.

وإنما ذكرنا آفة اللسان والفرج مثالاً، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة بالشبع. قال حكيم: كل مريد صبر على السياسة فيصبر على الخبز البحت سنة لا يخلط به شيئاً من الشهوات ويأكل في نصف بطنه رفع الله عنه مؤنة النساء.

الفائدة السادسة: دفع النوم ودوام السهر، فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه. ولأجل ذلك كان بعض الشيوخ يقول عند حضور الطعام: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً. وأجمع رأي سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة الشرب. وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره ينقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفى وفي النوم فواتها. ومهما غلب النوم فإن تهجد حلاوة العبادة، ثم المتعزب إذا نام على الشبع احتلم ويمنعه ذلك أيضاً من التهجد، ويحوجه إلى الغسل إما بالماء البارد فيتأذى به أو يحتاج إلى الحمام وربما لا يقدر عليه بالليل، فيفوته الوتر إن كان قد آخره إلى التهجد، ثم يحتاج إلى مؤنة الحمام وربما تقع عينه على عورة في دخول الحمام، فإن فيه أخطاراً ذكرناها في كتاب الطهارة وكل ذلك أثر الشبع. وقد قال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة. وإنما قال ذلك لأن يمنع من عبادات كثيرة لتعذر الغسل في كل حال. فالنوم منبع الآفات، والشبع مجلبة له؛ والجوع مقطعة له.

الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه. والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه. قال السري رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: إني حبست ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. فانظر كيف أفق على وقته ولم يضيعه في المضغ. وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها فينبغي أن يستوفى منه خزانة باقية في الآخرة لا آخر لها وذلك بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.

ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد، فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته. ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع، فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة، وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".

وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل.

الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر وينغص العيش ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات، وفي الجوع ما يمنع ذلك كله. حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي. وقال ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود. وقال العراقي: هو حب الرشاد الأبيض وقال الرومي هو عندي الماء الحار. وقال السوادي -وكان أعلمهم- الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء، والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء. قالوا: فما عندك؟ فقال الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه؛ وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه. فقالوا: صدقت وذكر لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي صلى الله عليه وسلم "ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس فتعجب منه وقال ما سمعت كلاماً في قلة الطعام أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم. وقال صلى الله عليه وسلم "البطنة أصل لداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل جسم ما اعتاد وأظن تعجب الطبيب جرى من هذا الخبر لا من ذاك. وقال ابن سالم: من أكل خبز الحنطة بحتا بأدب لم يعتل إلا علة الموت. قيل: وما الأدب؟ قال: تأكل بعد الجوع وترفع قبل الشبع. وقال بعض أفاضل الأطباء في ذم الاستكثار: إن أنفع ما أدخل الرجل بطنه الرمان وأضر ما أدخل معدته المالح؛ ولأن يقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان. وفي الحديث صوموا تصحوا ففي الصوم والجوع وتقليل الطعام صحة الأجسام وصحة القلوب من سقم الطغيان والبطر وغيرهما.

الفائدة التاسعة: خفة المؤونة فإن من تعود قلة الأكل كفاه من الماء قدر يسير، والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له آخذاً بمخفته في كل يوم، فيقول ماذا تأكل اليوم فيحتاج إلى أن يدخل المداخل، فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل. وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذل والقماءة والمؤمن خفيف المؤنة. وقال بعض الحكماء: إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي. وقال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي. وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقول إنها غالية فيقول: أرخصوها بالترك. وقال سهل رحمه الله: الأكول مذموم في ثلاثة أحوال، إن كان من أهل العبادة فيكسل، وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.

وبالجملة سبب هلاك الناس حرصهم على الدنيا، وسبب حرصهم على الدنيا البطن والفرج، وسبب شهوة الفرج، شهوة البطن. وفي تقليل الأكل ما يحسم هذه الأحوال كلها وهي أبواب النار وفي حسمها فتح أبواب الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم "أديموا قرع باب الجنة بالجوع" فمن قنع برغيف في كل يوم قنع في سائر الشهوات أيضاً وصار حراً واستغنى عن الناس واستراح من التعب، وتخلى لعبادة الله عز وجل وتجارة الآخرة، فيكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإنما لا تلهيهم لاستغنائهم عنها بالقناعة، وأما المحتاج فتلهيه لا محالة. الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته كما ورد به الخبر: فما يأكله كان خزانته الكنيف وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو اكل فأفني أو لبس فأبلى، فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع. وكان الحسن رحمة الله عليه إذا تلا قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا" قال عرضها على السموات السبع الطباق والطرائق التي زينها بالنجوم وحملة العرش العظيم فقال لها سبحانه وتعالى: هل تحملين الأمانة بما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فقالت: لا، ثم عرضها على الإنسان فحملها إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه. فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم فأصابوا آلافاً فماذا صنعوا فيها؟ وسعوا بها دورهم وضيقوا بها قبورهم، وأسمنوا براذينهم وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان يتعرضوا للبلاء وهم من الله في عافية، يقول أحدهم تبيعني أرض كذا وكذا وأزيدك كذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله، حديثه سخرة وماله حرام حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يالكع أطعامك تهضم؟ إنما تهضم دينك، أين الفقير أين الأرملة أين المسكين أين اليتيم الذي أمرك الله تعالى بهم؟ فهذه إشارة إلى هذه الفائدة وهو صرف فاضل الطعام إلى الفقير ليدخر به الأجر فذلك خير له من أن يأكله حتى يتضاعف الوزر عليه. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل سمين البطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال: والله لقد أدركت أقواماً كان الرجل منهم يمسي وعنده من الطعام ما يكفيه ولو شاء لأكله فيقول: والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعض لله.

فهذه عشرة فوائد للجوع يتشعب من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها، فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة. ولأجل هذا قال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة. بل ذلك صريح في الأخبار التي رويناها بالوقوف على تفصيل هذه الفوائد تدرك معاني تلك الأخبار إدراك علم وبصيرة. فإذا لم تعرف هذا وصدقت بفضل الجوع كانت لك رتبه المقلدين في الإيمان والله أعلم بالصواب.