اعلم أن على المريد في بطنه ومأكوله أربع وظائف: الأول أن يأكل إلا حلالاً فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار. وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام، وتبقى ثلاث وظائف خاصة بالأكل وهو تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة وتقدير وقته في الإبطاء والسرعة وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها.
أما الوظيفة الأولى: في تقليل الطعام، فسبيل الرياضة فيه التدريج. فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف وعظمت مشقته، فينبغي أن يتدرج إليه قليلاً قليلاً وذلك بأن ينقص قليلاً قليلاً من طعامه المعتاد. فإن كان يأكل رغيفين مثلاً وأراد أن يرد نفسه إلى رغيف واحد فينقص كل يوم ربع سبع رغيف، وهو أن ينقص جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً، أو جزءاً من ثلاثين جزءاً، فيرجع إلى رغيف في شهر، ولا يستضر به ولا يظهر ثره، فإن شاء فعل في ذلك بالوزن وإن شاء بالمشاهدة، فيترك كل يوم مقدار قلمة وينقصه عما أكله بالأمس. ثم هذا فيه أربع درجات. أقصاها: أن يرد نفسه إلى قدر القوام الذي لا يبقى دونه وهو عادة الصديقين. وهو اختيار سهل التستري رحمة الله عليه إذ قال: إن الله استعبد الخلق بثلاث، بالحياة، والعقل، والقوة. فإن خاف العبد على اثنين منها وهي الحياة والعقل، أكل وأفطر إن كان صائماً. وتكلف الطلب إن كان فقيراً. وإن لم يخف عليهما بل على القوة قال، فينبغي أن لا يبالي. ولو ضعف حتى صلى قاعداً وأرى أن صلاته قاعداً مع ضعف الجوع أفضل من صلاته قائماً مع كثرة الأكل. وسئل سهل عن بدايته وما كان يقتات به فقال. كان قوتي في كل سنة ثلاثة دراهم، كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم دقيق الأرز، وبدرهم سمناً. وأخلط الجميع وأسوي منه ثلثمائة وستين أكرة، آخذ في كل ليلة أكرة أفطر عليها، فقيل له: فالساعة كيف تأكل؟ قال: بغير حد ولا توقيت: ويحكى عن الوهابين أنهم قد يردون أنفسهم إلى مقدار دره من الطعام.
الدرجة الثانية: أن يرد نفسه بالرياضة في اليوم والليلة إلى نصف مد، وهو رغيف وشيء مما يكون الأربعة منه منا ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- وهو فوق اللقيمات لأن هذه الصيغة في الجمع للقلة فهو لما دون العشرة، وقد كان ذلك عادة عمر رضي الله عنه إذ كان يأكل سبع لقم أو تسع لقم.
الدرجة الثالثة: أن يردها إلى مقدار المد، وهو رغيفان ونصف، وهذا يزيد على ثلث البطن في حق الأكثرين، ويكاد ينتهي إلى ثلثي البطن، ويبقى ثلث للشراب ولا يبقى شيء للذكر. وفي بعض الألفاظ "ثلث للذكر" بدل قوله "للنفس".
الدرجة الرابعة: أن يزيد على المد إلى المن، ويشبه أن يكون ما وراء المن إسرافاً مخالفاً لقوله تعالى "ولا تسرفوا" أعني في حق الأكثرين، فإن مقدار الحاجة إلى الطعام يختلف بالسن، والشخص، والعمل الذي يشتغل به. وههنا طريق خامس لا تقدير فيه ولكنه موضع غلط، وهو أن يأكل إذا صدق جوعه ويقبض يده وهو على شهوة صادقة بعد، ولكن الأغلب أن من لم يقدر لنفسه رغيفاً أو رغيفين فلا يتبين له حد الجوع الصادق، ويشتبه عليه ذلك بالشهوة الكاذبة.
وقد ذكر للجوع الصادق علامات؛ إحداها: أن لا تطلب النفس الأدم بل تأكل الخبز وحده بشهوة -أي خبز كان- فمهما طلبت نفسه خبزاً بعينه أو طلبت أدماً فليس ذلك بالجوع الصادق. وقد قيل: من علامته أن يبصق فلا يقع الذباب عليه؛ أي لم يبق فيه دهنية ولا دسومة فيدل ذلك على خلو المعدة، ومعرفة ذلك غامض فالصواب للمريد أن يقدر مع نفسه القدر لذي لا يضعفه عن العبادة التي هو بصددها فإذا انتهى إليه وقف وإن بقيت شهوته.
وعلى الجملة: فتقدير الطعام لا يمكن لأنه يختلف بالأحوال والأشخاص. نعم قد كان قوت جماعة من الصحابة صاعاً من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا منه صاعاً ونصفاً، وصاع الحنطة أربع أمداد، فيكون كل كل يوم قريباً من نصف مد -وهو ما ذكرناه أنه قدر ثلث البطن- واحتيج في التمر إلى زيادة لسقوط النوى منه. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: طعامي في كل جمعة صاع من شعير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا أزيد عليه شيئاً حتى ألقاه فإني سمعته يقول "أقربكم مني مجلساً يوم القيامة وأحبكم إلي من مات على ما هو عليه اليوم وكان يقول -في إنكاره على بعض الصحابة: قد غيرتم، ينخل لكم الشعير ولم يكن ينخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين إدامين واختلف عليكم بألوان الطعام، وغدا أحدكم في ثوب وراح في آخر. ولم يكونوا هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت أهل الصفة مداً من تمر بين اثنين في كل يوم والمد رطل وثلث ويسقط منه النوى. وكان الحسن رحمة الله عليه يقول المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف والقبضة من السويق والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع الضاري بلعاً بلعاً وسرطاً سرطاً لا يطوي بطنه لجاره ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم. وقال سهل لو كانت الدنيا دماً عبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً لأن أكل المؤمن عند الضرورة بقدر القوام فقط.
الوظيفة الثانية: في وقت الأكل ومقدار تأخيره وفيه أيضاً أربع درجات: الدرجة العليا: أن يطوى ثلاثة أيام فما فوقها، وفي المريدين من رد الرياضة إلى الطي لا إلى المقدار، حتى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوماً وأربعين يوماً، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم منهم: محمد بن عمرو المقرني، وعبد الرحمن بن إبراهيم، ورحيم، وإبراهيم التيمي، وحجاج بن فرافصة، وحفص العابد المصيصي، والمسلم بن سعيد، وزهير، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد الله التستري، وإبراهيم بن أحمد الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستة أيام، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً. وروي أن الثوى وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثاً ثلاثاً، كل ذلك كانوا يستعينون بالجوع على طريق الآخرة.
قال بعض العلماء من طوى لله أربعين يوماً ظهرت له قدرة من الملكوت أي كوشف ببعض الأسرار الإلهية. وقد حكي أن بعض أهل هذه الطائفة مر براهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك كلامً كثيراً إلى أن قال له الراهب: إن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وإن ذلك معجزة لا تكون إلا لنبي أو صديق، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يوماً تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام وتعلم أنه حق وأنلك على باطل؟ قال؛ نعم، فجلس لا يبرح إلا حيث يراه حتى طوى خمسين يوماً، ثم قال؛ وأزيدك أيضاً فطوى إلى تمام الستين، فتعجب الراهب منه وقال؛ ما كنت أظن أن أحداً يجاوز المسيح؟ فكان ذلك سبب إسلامه. وهذه درجة عظيمة قل من يبلغها إلا مكاشف محمول بمشاهدة ما قطعه عن طبعه عن طبعه وعادته استوفى نفسه في لذته وأنساه جوعته وحاجته.
الدرجة الثانية: أن يطوى يومين إلى ثلاثة وليس ذلك خارجاً عن العادة بل هو قريب يمكن الوصول إليه بالجد والمجاهدة.
الدرجة الثالثة: وهي أدناها أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة وهذا هو الأقل وما جاوز ذلك إسراف ومداومة للشبع حتى لا يكون له حالة جوع، وذلك فعل المترفين وهو بعيد من السنة، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة "إياك والسرف، فإن أكلتين في يوم من السرف، وأكلة واحدة في كل يومين إقتار، وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك وهو المحمود في كتاب الله عز وجل.
ومن اقتصر في اليوم على أكلة واحدة فيستحب له أن يأكلها سحراً قبل طلوع الفجر فيكون أكله بعد التهجد وقبل الصبح، فيحصل له جوع النهار للصيام وجوع الليل للقيام، وخلو القلب لفراغ المعدة ورقة الفكر، واجتماع الهم وسكون النفس إلى المعلوم، فلا تنازعه قبل وقته. وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تورم قدماه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر فإن كان يلتفت قلب الصائم بعد المغرب إلى الطعام وكان ذلك يشغله عن حضور القلب في التهجد فالأولى أن يقسم طعامه نصفين، فإن كان رغيفين مثلاً أكل رغيفاً عند الفطر ورغيفاً عند السحر، لتسكن نفسه ويخف بدنه عند التهجد ولا يشتد بالنهار جوعه لأجل التسحر، فيستعين بالرغيف الأول على التهجد وبالثاني على الصوم. ومن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فلا بأس أن يأكل كل يوم فطره وقت الظهر، ويوم صومه وقت السحر، فهذه الطرق في مواقيت الأكل وتباعده وتقاربه. الوظيفة الثالثة: في نوع الطعام وترك الإدام، وأعلى الطعام مخ البر فإن نخل فهو غاية الترفه، وأوسطه شعير منخول، وأدناه شعير لم ينخل. وأعلى الأدم اللحم والحلاوة، وأدناه الملح والخل، وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم. وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام بل الامتناع عن الشهوات، فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان وأكله اقتضى ذلك بطراً في نفسه وقسوة في قلبه وأنساً له بلذات الدنيا حتى يألفها ويكره الموت ولقاء الله تعالى، وتصير الدنيا جنة في حقه ويكون الموت سجناً له. وإذا منع نفسه عن شهواتها وضيق عليها وحرمها لذاتها صارت الدنيا سجناً عليه ومضيقاً له فاشتهت نفسه الإفلات منها، فيكون الموت إطلاقها. وإليه الإشارة بقول يحيى ابن معاذ حيث قال: معاشر الصديقين جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس. فكل ما ذكرناه من آفات الشبع فإنه يجري في كل الشهوات وتناول اللذات فلا نطول بإعادته، فلذلك يعظم الثواب في ترك الشهوات من المباحات ويعظم الخطر في تناولها، حتى قال صلى الله عليه وسلم "شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة وهذا ليس بتحريم بل هو مباح على معنى أن من أكله مرة أو مرتين لم يعص، ومن دام عليه أيضاً فلا يعصي بتناوله، ولكن تتربى نفسه بالنعيم فتأنس بالدنيا وتألف اللذات وتسعى في طلبها فيجرها ذلك إلى المعاصي فهم شرار الأمة، لأن مخ الحنطة يقودهم إلى اقتحام أمور، تلك الأمور معاص. وقال صلى الله عليه وسلم "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم وإنما همتهم ألوان الطعام وأنواع اللباس ويتشدقون في الكلام. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اذكر أنك ساكن القبر فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات. وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة وتمرين النفس عليها ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة، حتى روى أن وهب بن منبه قال: التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر: من أين؟ قال: أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. فهذا تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير. ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل وقال: اعزلوا عني حسابها. فلا عبادة لله تعالى أعظم من مخالفة النفس في الشهوات وترك اللذات - كما أوردناه في كتاب رياضة النفس- وقد روى نافع أبن ابن عمر رضي عنهما كان مريضاً فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة فلم توجد، ثم وجدت بعد كذا وكذا، فاشتريت له بدرهم ونصف فشويت وحملت إليه على رغيف فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها له، فقال له الغلام: أصلحك الله قد اشتهيتها منذ كذا وكذا فلم نجدها فلما وجدتها اشتريتها بدرهم ونصف، فنحن نعطيه ثمنها، فقال: لفها وادفعها إليه، ثم قال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهماً وتتركها؟ قال: نعم فأعطاه درهماً وأخذها وأتى بها فوضعها بين يديه وقال: قد أعطيته درهماً وأخذتها منه، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له وقال صلى الله عليه وسلم "إذا سددت كلب الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا وأهلها الدمار أشار إلى أن المقصود رد ألم الجوع والعطش ودفع ضررهما دون التنعم بلذات الدنيا، وبلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان يأكل أنواع الطعام فقال عمر لمولى له: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فأعمله فدخل عليه فقرب عشاؤه فأتوه بثريد لحم فأكل معه عمر، ثم قرب الشواء وبسط يزيد يده وكف عمر يده وقال: يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم. وعن يسار بن عمير قال: ما نخلت لعمر دقيقاً قط إلا وأنا له عاص. وروي أن عتبة الغلام كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس، ثم يأكله ويقول كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء والطعام الطيب. وكان يأخذ الكوز فيغرف به من جب كان في الشمس نهاره فتقول مولاة له: يا عتبة لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء؟ فيقول لها: يا أم فلان قد شردت عني كلب الجوع. قال شقيق ابن إبراهيم: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل - عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم- يبكى وهو جالس بناحية من الطريق فعدلت إليه وقعدت عنده وقلت: إيش هذا البكاء يا أبا إسحق؟ فقال: خير، فعاودته مرة واثنتين وثلاثاً، فقال: يا شقيق استر علي فقلت يا أخي قل ما شئت، فقال لي: اشتهت نفسي منذ ثلاثين سنة سكباجاً فمنعتها جهدي، حتى إذا كان البارحة كنت جالساً وقد غلبني النعاس إذ أنا بفتى شاب بيده قدح أخضر يعلو منه بخار ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتي عنه فقربه وقال: يا إبراهيم كل، فقلت: ما آكل قد تركته لله عز وجل، فقال لي: قد أطعمك الله كل، فما كان لي جواب إلا أني بكيت، فقال لي: كل رحمك الله، فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا من حيث نعلم، فقال: كل عافاك الله فإنما أعطيته، فقيل لي يا خضر اذهب بهذا وأطعمه نفس إبراهيم بن أدهم فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من منعها. اعلم يا إبراهيم أني سمعت الملائكة يقولون: من أعطى فلم يأخذ طلب فلم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لأجل العقد مع الله تعالى، ثم التفت فإذا أنا بفتى آخر ناوله شيئاً وقال: يا خضر لقمه أنت، فلم يزل يلقمني حتى نعست فانتبهت وحلاوته في فمي، قال شقيق: فقلت أرني كفك، فأخذت بكفه فقبلتها وقلت: يا من يطعم الجياع الشهوات إذا صححوا المنع، يا من يقدح في الضمير اليقين، يا من يشفى قلوبهم من محبته، أترى لشقيق عندك حالاً؟ ثم رفعت يد إبراهيم إلى السماء وقلت: بقدر هذا الكف عندك وبقدر صاحبه وبالجود الذي وجد منك جد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك ورحمتك وإن لم يستحق ذلك، قال: فقام إبراهيم ومشى حتى أدركنا البيت. وروي عن مالك بن دينار أنه بقي أربعين سنة يشتهي لبناً فلم يأكله. وأهدى إليه يوماً رطب فقال لأصحابه: كلوا فما ذقته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري: اشتهى أبو سليمان الداراني رغيفاً حاراً بملح فجئت به إليه فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي وقال: عجلت إلى شهوتي بعد إطالة جهدي واشقوتي قد عزمت على التوبة فأقلني! قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى. وقال مالك بن ضيغم مررت بالبصرة في السوق فنظرت إلى البقل فقالت لي نفسي: لو أطعمتني الليلة من هذا فأقسمت أن لا أطعمها إياه أربعين ليلة ومكث مالك بن دينار بالبصرة خمسين سنة ما أكل رطبة لأهل البصرة ولا بسرة قط وقال: يا أهل البصرة عشت فيكم خمسين سنة ما أكلت لكم رطبة ولا بسرة فما زاد فيكم ما نقص مني ولا نقص مني ما زاد فيكم. وقال: طلقت الدنيا، منذ خمسين سنة، اشتهت نفسي لبناً منذ أربعين سنة فوالله لا أطعمها حتى ألحق بالله تعالى. وقال حماد بن أبي حنيفة: أتيت داود الطائي والباب مغلق عليه فسمعته يقول: نفسي اشتهيت جزراً فأطعمتك جزراً، ثم اشتهيت تمراً فآليت أن لا تأكليه أبداً، فسلمت ودخلت فإذا وحده. ومر أبو حازم يوماً في السوق فرأى الفاكهة فاشتراها، فقال لابنه. اشتر لنا من هذه الفاكهة المقطوعة الممنوعة لعلنا نذهب إلى الفاكهة التي لا مقطوعة ولا ممنوعة، فلما اشتراها وأتى بها إليه قال لنفسه: قد خدعتيني حتى نظرت واشتهيت وغلبتيني حتى اشتريت والله لأذيقنه فبعث بها إلى يتامى من الفقراء وعن موسى الأشج أنه قال: نفسي تتشتهي ملحاً جريشاً منذ عشرين سنة. وأحمد بن خليفة قال: نفسي تشتهي منذ عشرين سنة ما طلبت مني إلا الماء حتى تروى فما أرويتها. وروي أي عتبة الغلام اشتهى لحماً سبع سنين فلما كان بعد ذلك قال استحييت من نفسي أن أدافعها منذ سبع سنين - سنة بعد سنة - فاشتريت قطعة لحم على خبز وشويتها وتركتها على رغيف فلقيت صباً فقلت، ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك؟ قال: بلى. فناولته إياها قالوا: وأقبل يبكي ويقرأ "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا" ثم لم يذقه بعد ذلك. ومكث يشتهي تمراً سنين، فلما كان ذات يوم اشترى تمراً بقيراط ورفعه إلى الليل ليفطر عليه قال: فهبت ريح شديدة حتى أظلمت الدنيا ففزع الناس فأقبل عتبة على نفسه يقول: هذا لجراءتي عليك وشرائي التمر بقيراط، ثم قال لنفسه: ما أظن أخذ الناس إلا بذنبك؟ على أن لا تذوقيه. واشترى داود الطائي بنصف فلس بقلاً وبفلس خلاً، وأقبل ليلته كلها يقول لنفسه. ويلك يا داود ما أطول حسابك يوم القيامة، ثم لم يأكل بعده إلا قفاراً،وقال عتبة الغلام يوماً لعبد الواحد بن زيد. إن فلاناً يصف من نفسه منزلة ما أعرفها من نفسي فقال: لأنك تأكل مع خبزك تمراً وهو لا يزيد على الخبز شيئاً قال: فإن أنا تركت أكل التمر عرفت تلك المنزلة؟ قال: نعم؛ وغيرها فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه لا أبكى الله عينك أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد دعه؛ فإن نفسه قد عرفت صدق عزمه في الترك، وهو إذا ترك شيئاً لم يعاوده. وقال جعفر بن نصر: أمرني الجنيد أن أشتري له التين الوزيري، فلما اشتريته أخذ واحدة عند الفطور فوضعها في فمه ثم ألقاها وجعل يبكي، ثم قال: احمله فقلت له في ذلك فقال: هتف بي هاتف أما تستحي؟ تركته من أجلي ثم تعود إليه! وقال صالح المري: قلت لعطاء السلمي إني متكلف لك شيئاً فلا ترد على كرامتي، فقال: افعل ما تريد، قال: فبعثت إليه مع ابني شربة من سويق قد لتته بسمن وعسل، فقلت: لا تبرح حتى يشربها، فلما كان من الغد جعله له نحوها فردها ولم يشربها، فعاتبته ولمته على ذلك وقلت. سبحان الله رددت على كرامتي! فلما رأى وجدي لذلك قال: لا يسوءك هذا، إني قد شربتها أول مرة وقد راودت نفسي في المرة الثانية على شربها فلم أقدر على ذلك، كلما أردت ذلك ذكرت قوله تعالى "يتجرعه ولا يكاد يسيغه" الآية قال صالح: فبكيت وقلت في نفسي: أنا في واد وأنت في واد آخر. وقال السري السقطي: نفسي منذ ثلاثين سنة تطالبني أن أمس جزرة في دبس فما أطعمتها. وقال أبو بكر الجلاء. أعرف رجلاً تقول له نفسه أنا أصبر لك على طي عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تطوى عشرة أيام ولكن اتركي هذه الشهوة. وروي أن عابداً دعا بعض إخوانه فقرب إليه رغفاناً فجعل أخوه يقلب الأرغفة ليختار أجودها فقال له العابد. مه أي شيء تصنع! أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه كذا وكذا حكمة وعمل فيه كذا وكذا صانعاً، حتى استدار من السحاب الذي يحمل الماء والماء الذي يسقي الأرض والرياح والأرض والبهائم وبني آدم حتى صار إليك، ثم أنت بعد هذا تقلبه ولا ترضى به.
وفي الخبر "لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل في ثلثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل عليه السلام الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ودواب الأرض، وآخرهم الخباز "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقال بعضهم: أتيت قاسماً الجرعي فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال: أي شيء سمعت فيه؟ فعددت أقوالاً فسكت فقلت: وأي شيء تقول أنت؟ فقال: اعلم أن البطن دنيا العبد فبقدر ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبقدر ما يملكه بطنه تملكه الدنيا وكان بشر بن الحرث قد اعتل مرة، فأتى عبد الرحمن الطبيب يسأله عن شيء يوافقه من المأكولات، فقال: تسألني فإذا وصفت لك لم تقبل مني، صف لي حتى أسمع، قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك اسفيذباجا، فقال له بشر: هل تعلم شيئاً اقل من السكنجبين يقوم مقامه، قال: لا، قال: أنا أعرف، قال: ما هو؟ قال: الهندبا بالخل، ثم قال: أتعرف شيئاً اقل من السفرجل يقوم مقامه؟ قال: لا، قال أنا أعرف قال: ما هو؟ قال: الخرنوب الشامي، قال: فتعرف شيئاً أقل من الاسفيذباج يقوم مقامه؟ قال: لا، قال: أنا أعرف؛ ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: أنت أعلم مني بالطب؛ فلم تسألني؟ فقد عرفت بهذا أن هؤلاء امتنعوا من الشهوات ومن الشبع من الأقوات، وكان امتناعهم للفوائد التي ذكرناها، وفي بعض الأوقات لأنهم كانوا لا يصفو لهم الحلال فلم يرخصوا لأنفسهم إلا في قدر الضرورة، والشهوات ليست من الضرورات حتى قال أبو سليمان: الملح شهوة لأنه زيادة على الخبز وما وراء الخبز شهوة. هذا هو النهاية. فمن لم يقدر على ذلك فينبغي أن لا يغفل عن نفسه ولا ينهمك في الشهوات، فكفى بالمرء إسرافاً أن يأكل كل ما يشتهيه، ويفعل كل ما يهواه فينبغي أن لا يواظب على أكل اللحم. وقال علي كرم الله وجهه من ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ومن داوم عليه أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل أن للمداومة على اللحم ضراوة كضراوة الخمر. ومهما كان جائعاً وتاقت نفسه إلى الجماع فلا ينبغي أن يأكل ويجامع، فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه، وربما طلبت النفس الأكل لينشط في الجماع. ويستحب أن لا ينام على الشبع فيجمع بين غفلتين فيعاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصل أو ليجلس فيذكر الله تعالى فإنه أقرب إلى الشكر. وفي الحديث "أذيبوا طعامكم بالذكر والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم وأقل ذلك أن يصلي أربع ركعات أو يسبح مائة تسبيحة أو يقرأ جزءاً من القرآن عقيب أكله. فقد كان أبو سفيان الثوري إذا شبع ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يقول: أشبع الزنجي وكده ومرة يقول: أشبع الحمار وكده. ومهما اشتهى شيئاً من الطعام وطيبات الفواكه فينبغي أن يترك الخبز ويأكلها بدلاً منه لتكون قوتاً، ولا تكون تفكها لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة. نظر سهل إلى ابن سالم وفي يده خبز وتمر فقال له: ابدأ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلا أخذت من الخبز بعده بقدر حاجتك. ومهما وجد طعاماً لطيفاً وغليظاً فليقدم اللطيف فإنه لا يشتهي الغليظ بعده. ولو قدم الغليظ لأكل اللطيف أيضاً للطافته. وكان بعضهم يقول لأصحابه: لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها فإن طلبتموها فلا تحبوها، وطلب بعض أنواع الخبز شهوة. قال عبد الله ابن عمر رحمة الله عليهما: ما تأتينا من العراق فاكهة أحب إلينا من الخبز فرأى ذلك الخبز فاكهة. وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحات وأتباعها بكل حال فبقدر ما يستوفي العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخر بشهواته. قال بعض أهل البصرة: نازعتني نفسي خبز أرز وسمكاً فمنعتها، فقويت مطالبتها واشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، فلما مات قال بعضهم: رأيته في المنام فقلت ماذا فعل الله بك؟ قال: لا أحسن أن أصف ما تلقاني به ربي من النعم والكرامات، وكان أول شيء استقبلني به خبز أرز وسمكاً. وقال: كل اليوم شهوتك هنيئاً بغير حساب. وقد قال تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" وكانوا قد أسلفوا ترك الشهوات. ولذلك قال أبو سليمان: ترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها. وفقنا الله لما يرضيه.
اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق: الوسط، إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وما أوردناه في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب وهيهات، ولكن من أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع فيه، على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان. والعالم يدرك أن المقصود الوسط، لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل الاعتدال، فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية؛ فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضاً ما يدل على إساءته، كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله نهى عنه فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً، فإن مقصود الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة، وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم. وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال.
ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط مثال
نملة ألقيت في وسط حلقة محمية على النار مطروحة على الأرض، فإن النملة تهرب
من حرارة الحلقة وهي محيطة بها لا تقدر على الخروج منها. فلا تزال تهرب حتى
تستقر على المركز الذي هو الوسط، فلو ماتت ماتت على الوسط لأن الوسط هو
أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة: فكذلك الشهوات محيطة
بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة، والملائكة خارجون عن تلك الحلقة، ولا
مطمع للإنسان في الخروج وهو يريد أن يتشبه بالملائكة في الخلاص، فأشبه
أحواله بهم البعد، وأبعد الموضع عن الأطراف الوسط، فصار الوسط مطلوباً في
جميع هذه الأحوال المتقابلة. وعنه عبر بقوله صلى الله عليه وسلم "خير
الأمور أوساطها وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكلوا وشربوا ولا تسرفوا" ومهما
لم يحس الإنسان بجوع ولا شبع تيسرت له العبادة والفكر وخف في نفسه وقوي على
العمل مع خفته، ولكن هذا بعد اعتدال الطبع. أما في بداية الأمر إذا كانت
النفس جموحاً متشوقة إلى الشهوات مائلة إلى الإفراط فالاعتدال لا ينفعها بل
لا بد من المبالغة في إيلامها بالجوع، كما يبالغ في إيلام الدابة التي ليست
مروضة بالجوع والضرب وغيره إلى أن تعتدل، فإذا ارتاضت واستوت ورجعت إلى
الاعتدال ترك تعذيبها وإيلامها. ولأجل هذا السر يأمر الشيخ مريده بما لا
يتعاطاه هو في نفسه فيأمره بالجوع وهو لا يجوع، ويمنعه الفواكه والشهوات،
وقد لا يمتنع هو منها، لأنه قد فرغ من تأديب نفسه فاستغنى عن التعذيب. ولما
كان أغلب أحوال النفس الشره والشهوة والجماح والامتناع عن العبادة، كان
الأصلح لها الجوع الذي تحس بألمه في أكثر الأحوال لتنكسر نفسه. والمقصود أن
تنكسر حتى تعتدل فترد بعد ذلك الغذاء أيضاً إلى الاعتدال. وإنما يمتنع من
ملازمة الجوع من سالكي طريق الآخرة: إما صديق وإما مغرور أحمق.
أما الصديق المستقيم: فلاستقامة نفسه على الصراط المستقيم واستغنائه عن أن يساق بسياط الجوع إلى الحق. وأما المغرور: فلظنه بنفسه أنه الصديق المستغني عن تأديب نفسه الظان بها خيراً. وهذا غرور عظيم وهو الأغلب. فإن النفس قلما تتأدب تأدباً كاملاً، وكثيراً ما تغتر فتنظر إلى الصديق ومسامحته نفسه في ذلك فيسامح نفسه، كالمريض ينظر إلى من قد صح من مرضه فيتناول ما يتناوله ويظن بنفسه الصحة فيهلك. والذي يدل على أن تفسير الطعام بمقدار يسير- في وقت مخصوص ونوع مخصوص - ليس مقصوداً في نفسه - وإنما هو مجاهدة نفس متنائية عن الحق غير بالغة رتبة الكمال - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له تقدير وتوقيت لطعامه.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان يدخل على أهله فيقول "هل عندكم من شيء" فإن قالوا نعم أكل وإن قالوا له قال "إني إذن صائم وكان يقدم إليه الشيء فيقول "أما إني قد أردت الصوم" ثم يأكل وخرج صلى الله عليه وسلم يوماً وقال "إني صائم" فقالت له عائشة رضي الله عنها: قد أهدي إلينا حيس فقال "كنت أردت الصوم ولكن قربيه .
ولذلك حكي عن سهل أنه قيل له: كيف كنت في بدايتك؟ فأخبر بضروب من الرياضات، منها: أنه كان يقتات ورق النبق مدة. ومنها: أنه أكل دقاق التين مدة ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين فقيل له: فكيف أنت في وقتك هذا؟ فقال: آكل بلا حد ولا توقيت. وليس المراد بقوله بلا حد ولا توقيت: أني آكل كثيراً، بل أني لا أقدر بمقدار واحد ما آكله. وقد كان معروف الكرخي يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشراً لا يأكل مثل هذا؟ فقال: إن أخي بشراً قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي فإذا أطعمني أكلت وإذا جوعني صبرت، مالي والاعتراض والتمييز؟ ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه دراهم وقال: خذ لنا بهذه الدراهم زبداً وعسلاً وخبزاً حوار يا فقيل: يا أبا إسحاق بهذا كله؟ قال ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وأصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ودعا إليه نفراً يسيراً فيهم الأوزاعي والثوري فقال له الثوري: يا أبا إسحق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال: ليس في الطعام إسراف إنما الإسراف في اللباس والأثاث. فالذي أخذ العلم من السماع والنقل تقليداً يرى هذا من إبراهيم بن أدهم ويسمع عن مالك بن دينار أنه قال ما دخل بيتي الملح منذ عشرين سنة. وعن سري السقطي أنه منذ أربعين سنة يشتهي أن يغمس جزرة في دبس فما فعل فيراه متناقضاً فيتحير أو يقطع بأن أحدهما مخطئ. والبصير بأسرار القول يعلم أن كل ذلك حق ولكن بالإضافة إلى اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاج أو غبي مغرور. فيقول المحتاط: ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس أطوع من نفس سري السقطي ومالك بن دينار، وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات فيقتدى بهم. والمغرور يقول: ما نفسي بأعصى علي من نفس معروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي، فأنا أيضاً ضيف في دار مولاي فما لي وللاعتراض؟ ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة قامت القيامة عليه واشتغل بالاعتراض، وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى، بل رفع التقدير في الطعام والصيام وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكله إذا أكل على نية كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً لله في أكله وإفطاره، فينبغي أن يتعلم الحزم من عمر رضي الله عنه فإنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل ويأكله ثم لم يقس نفسه عليه، بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول: أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها. اعزلوا عني حسابها، وتركها.
وهذه الأسرار لا يجوز لشيخ أن يكاشف بها مريده بل يقتصر على مدح الجوع فقط، ولا يدعوه إلى الاعتدال فإنه يقصر لا محالة عما يدعوه إليه. فينبغي أن يدعوه إلى غاية الجوع حتى يتيسر له الاعتدال. ولا يذكر له أن العارف الكامل يستغني عن الرياضة،فإن الشيطان يجد متعلقاً من قلبه فيلقى إليه كل ساعة: إنك عارف كامل، وما الذي فاتك من المعرفة والكمال، بل كان من عادة إبراهيم الخواص أن يخوض مع المريد في كل رياضة كان يأمره بها، كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته. والقوي إذا اشتغل بالرياضة وإصلاح الغير لزمه النزول إلى حد الضعفاء تشبهاً بهم وتلطفاً في سياقتهم إلى السعادة. وهذا ابتلاء عظيم للأنبياء والأولياء وإذا كان الاعتدال خفياً في حق كل شخص فالحزم والاحتياط ينبغي أن لا يترك في كل حال. ولذلك أدب عمر رضي الله عنه ولده عبد الله إذ دخل عليه فوجده يأكل لحماً مأدوماً بسمن، فعلاه بالدرة وقال: لا أم لك كل يوماً خبزاً ولحماً، ويوماً خبزاً ولبناً، ويوماً خبزاً وسمناً، ويوماً خبزاً وزيتاً، ويوماً خبزاً وملحاً، ويوماً خبزاً قفاراً. وهذا هو الاعتدال، فأما المواظبة على اللحم والشهوات فإفراط وإسراف، ومهاجرة اللحم بالكلية إقتار. وهذا قوام بين ذلك والله تعالى أعلم.