كتاب آفات اللسان - بيان الحذر من الكذب بالمعاريض

بيان الحذر من الكذب بالمعاريض

قد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال عمر رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي الرجال عن الكذب؟ وروى ذلك عن ابن عباس وغيره. وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعويض ولا التصريح جميعاً، ولكن التعويض أهون. ومثال التعويض ما روى أن مطرفاً دخل على زياد فاستيطأه فتعلل بمرض وقال: ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله. وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيكون قوله "ما" حرف نفي عند المستمع، وعنده الإبهام. وكان معاذ بن جبل عاملاً لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم؟ وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط، قالت: كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه. فبعث عمر معك ضاغطاً؟ وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر، فلما بلغه ذلك دعا معاذاً وقال: بعثت معك ضاغطاً؟ قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً فقال. أرضها به -ومعنى قوله ضاغطاً يعني رقيباً وأراد به الله تعالى- وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكراً بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكراً؟ فإنه ربما لا يتفق له ذلك. وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذباً. وكان الشعبي إذا طلب في المنزل هو يكرهه خط دائرة وقال للجارية: ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما في غير موضع الحاجة فلا، لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذباً فهو مكروه على الجملة كما روى عبد الله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فخرجت وعلى ثوب، فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين؟ فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي يا بني اتق الكذب وما أشبهه، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريراً لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة فيه.

نعم المعاريض تباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقوله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة عجوز وقوله للأخرى "الذي في عين زوجك بياض" وللأخرى "نحملك على ولد البعير" وما أشبهه. وأما الكذب الصريح كما فعله النعمان الأنصاري مع عثمان في قصة الضرير إذ قال له إنه نعيمان، وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك، فإن كان فيه ضرر يؤدي إلى إيذاء قلب فهو حرام، وإن لم يكن إلا لمطايبته فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه. قال صلى الله عليه وسلم "لا يكمل للمرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وحتى يجتنب الكذب في مزاحه وأما قوله عليه السلام "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها الناس يهوى بها في النار أبعد من الثريا أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله طلبت كذا وكذا مرة وقلت لك كذا مائة مرة، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذباً، وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب. ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال: كل الطعام، فيقول: لا أشتهيه؛ وذلك منهي عنه وهو حرام، وإن لم يكن فيه غرض صحيح قال مجاهد: قالت أسماء بنت عميس، كنت صاحبة عائشة في الليلة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن. فشرب ثم ناوله عائشة، قالت: فاستحيت الجارية فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خذي منه، قالت: فأخذت منه على حياء فشربت منه ثم قال "ناولي صواحبك" فقلت: لا نشتهيه، فقال "لا تجمعن جوعاً وكذباً" قالت: فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذباً؟ قال "إن الكذب ليكتب كذباً، حتى تكتب الكذيبة كذيبة وقد كان أهل الورع يحترزون عن لتسامح بمثل هذا الكذب. قال الليث بن سعد: كانت عينا سعد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، فيقال له: لو مسحت عينيك؟ فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل؟ وهذه مراقبة أهل الورع. ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر. وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع وقال: أرضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت، يا ابن أخي فصدقت؟ ومن العادة أن يقول: يعلم الله، فيما لا يعمله. قال عيسى عليه السلام: إن من عظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم، لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام، والإثم فيه عظيم إذ قال عليه السلام "إن من أعظم الفرية أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم ير أو يقول على ما لم أقل وقال عليه السلام "من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبداً .

الآفة الخامسة عشرة

الغيبة

والنظر فيها طويل فلنذكر أولاً مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع، وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال تعالى "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه" وقال عليه السلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والغيبة تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم، وقال أبو برزة: قال عليه السلام "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً وعن جابر وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله سبحانه عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة سرى بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم وقال سليم بن جابر: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت علمني خيراً أنتفع به، فقال "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقى، وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإن أدبر فلا تغتابه وقال البراء: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته وقيل أوحي الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار. وقال أنس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بصوم يوم فقال "لا يفطرن أحد حتى آذن له" فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فائذن لي لأفطر فيأذن له، والرجل والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما يستحيان أن يأتياك فائذن لهما أن يفطرا! فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فقال "إنهما لم يصوما وكيف يوم من ظل نهاره يأكل لحم الناس؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستيئا" فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا، فقاءت كل واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: والذي نفسي بيده لو بقيتا في بوطنهما لأكلتهما النار وفي رواية: أنه لما أعرض عنه جاء بعد ذلك وقال يا رسول الله والله إنهما قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، فقال صلى الله عليه وسلم "ائتوني بهما" فجاءتا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فقال لإحداهما "قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح، وقال للأخرى "قيئي" فقاءت كذلك، فقال "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس وقال أنس: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الربا وعظم شأنه فقال "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثة زنية يزنيها الرجل وأربى الربا عرض المسلم وقال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله" فدعا بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر وقال "أما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين -أو ما لم ييبسا- . ولما رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً في الزنا قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب، فمر صلى الله عليه وسلم وهما معه بجيفة فقال "انهشا منها" فقالا: لا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال "ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه وكان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر ولا يغتابون عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال ويرون خلافه عادة المنافقين. وقال أبو هريرة: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة وقيل له كل ميتاً كما أكلته حياً، فيأكله فينضج ويكلح وروي مرفوعاً كذلك. وروي أن رجلين كانا قاعدين عند باب من أبواب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثاً فترك ذلك. فقالا: لقد بقي فيه منه شيء وأقيمت الصلاة فدخلا فصليا مع الناس، فحاك  في أنفسهما ما قالا فأتيا عطاء فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وأمرهما أن يقضيا الصيام إن كانا صائمين. وعن مجاهد أنه قال في "ويل لكل همزة لمزة" الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. وقال قيادة: ذكر لنا عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول. وقال الحسن: والله للغيبة أسره في دين الرجل المؤمن من الأكله في الجسد. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. وقال ابن عباس: إذا أردت ان تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وكان الحسن يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تغيب في الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك الغيب فتصلحه من، فإذا فعلت ذلك كان شعلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وقال مالك بن دينار: مر عيسى عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أشد بياض أسنانه! كأنه رضي الله عنهما رجلاً يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء. نسأل الله حسن التوفيق وطاعته.

بيان معنى الغيبة وحدودها

اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في حلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته.

أما البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان. وأما النسب: فبأن تقول أبوه نبطي أو هندي أو فاسق أو خسيس أو إسكاف أو زبال، أو شيء مما يكرهه كيفما كان. وأما الخلق: فبأن تقول هو سيئ الخلق بخيل متكبر مراء شديد الغضب جبال عاجز ضعيف القلب متهور وما يجري مجراه. وأما أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصلاة أو الزكاة أو لا يحسن الركوع أو السجود أو لا يحترز من النجاسات أو ليس باراً بوالديه أو لا يضع الزكاة موضعها أو لا يحسن قسمها أو لا يحرص صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقاً أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو أنه كثير الكلام كثير الأكل نئوم ينام في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه. وأما في ثوبه فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب. وقال قوم: لا غيبة في الدين لأنه ما ذمه الله تعالى فذكره بالمعاصي وذمه بها يجوز، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال "هي في النار وذكرت عنده امرأة أخرى بأنها بخيلة فقال "فما خيرهم إذن فهذا فاسد لأنهم كانوا يذكرون ذلك لحاجتهم إلى تعرف الأحكام بالسؤال، ولم يكن غرضهم التنقيص ولا يحتاج إليه في غير مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. والدليل عليه إجماع الأمة على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب لأنه دخل فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد الغيبة.

وكل هذا وإن كان صادقاً فيه فهو به مغتاب عاص لربه وآكل لحم أخيه، بدليل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال "ذكرك أخاك بما يكرهه" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقوله؟ قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وقال معاذ بن جبل: ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما أعجزه! فقال صلى الله عليه وسلم "اغتبتم أخاكم" قالوا يا رسول الله قلنا ما فيه، قال "إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه وعن حذيفة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنها قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم "اغتبتيها وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة الغيبة والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل؛ فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك وذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود، ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته. وذكر ابن سيرين غبراهيم النخعي فوضع يده على عينه ولم يقل الأعور. وقالت عائشة لا يغتابن أحدكم أحداً فإن قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه لطويلة الذيل فقال لي "الفظى الفظى" فلفظت مضغة لحم .

بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان

اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة فما ولت أومأت بيدي أنها قصير فقال عليه السلام "اغتبتيها ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حاكت امرأة قال "ما يسرني أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا . وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين. وذكر المصنف شخصاً معيناً وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره -كما سيأتي بيانه- وأما قوله: قال قوم كذا: فليس ذلك غيبة، وإنما الغيبة التعرض لشخص معين إما حي وإما ميت. ومن الغيبة أن تقول: بعض من مر بنا اليوم، أو بعض من رأيناه؛ إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيناً؛ لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم فأما إذا لم يفهم عينه جاز. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئاً قال "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فكان لا يعين. وقولك: بعض من قدم من السفر، أو بعض من يدعي العلم، إن كان معه قرينة تفهم عين الشخص فهي غيبة. وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود، ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الغيبة والرياء، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء نسأل الله أن يعصمنا منها، وإنما قصده أن يفهم عيب الغي رفيذكره بصيغة الدعاء، وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان: ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلي به كلنا وهو قلة الصبر. فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه، فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة. ولذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم فإنه يتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم. ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا! حتى يصغي إليه ويعلم ما يقول، فيذكر الله تعالى ويستعمل الاسم آلة في تحقيق خبثه، وهو يمثن على الله عز وجل بذكره جهلاً منه وغروراً "وكذلك يقول: ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به نسأل الله أن يروح نفسه، فيكون كاذباً في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته عقيب صلاته، ولو كان يغتم به لاغتم أيضاً بإظهار ما يكرهه. وكذلك يقول: ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه، فهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما تعرض له الجهال إذا جاهروا.

ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما تظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك! ما عرفته إلى الآن إلى بالخير: وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله من بلائه، فإن كل ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة بل الساكت شريك المغتاب. قال صلى الله عليه وسلم "المستمع أحد المغتابين وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: إن فلاناً لنئوم ثم إنهما طلبا أدماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكلا به الخبز فقال صلى الله عليه وسلم "قد ائتدمتما!" فقالا: ما نعلمه؟ قال "بلى إنكما أكلتما من لحم أخيكما فانظر كيف جمعهما وكان القائل أحدهما والآخر مستمعاً. وقال للرجلين اللذين قال أحدهما. أقعص الرجل كما يقعص الكلب "انهشا من هذا الجيفة فجمع بينهما فالمستع لا يخرج من إثم الغيبة غلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه، وإن قال بلسانه اسكت، وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق، ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه، ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد أي اسكت، أو يشير بحاجبه وجبينه، فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يعظم ذلك فيذب عنه صريحاً وقال صلى الله عليه وسلم من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة وقال أيضاً "من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار وقد ورد في نصرة المسلم في الغيبة وفي فضل ذلك أخبار كثيرة أوردناها في كتاب آداب الصحبة وحقوق المسلمين فلا نطول بإعادتها.

بيان الأسباب الباعثة على الغيبة

اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ولكن يجمعها أحد عشر سبباً: ثمانية منها تطرد في حق العامة، وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة.

أما الثمانية؛ فالأول أن يشفى الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفى بذكر مساوية فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع، وقد يمتنع الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة. الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معه في ذكر العيوب والمساوي.

الثالث: أن يستشعر من إنسان أن سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف: وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له، وهذا هو عين الحسد وهو غير الغضب والحقد، فإن ذلك يستدعي جناية من المغضوب عليه، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق.

السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب.

الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به.

وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها، لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير ولكن شباب الشيطان بها الشر.

الأول: أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول ما أعجب ما رأيت من فلا! فإنه قد يكون به صادقاً ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشطيان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلا كيف يحب جاريته وهي قبيحة؟ وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل؟.

الثاني: الرحمة وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقاً في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصيره به مغتاباً فيكون غمه ورحمته خيراً، وكذا تعجبه ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه. الثالث: الغضب لله تعالى فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يظهره على غيره، أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلاً عن العوام، فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذراً في ذكر الاسم وهو خطأ، بل المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم -كما سيأتي ذكره- روي عن عامر بن وائلة: أن رجلاً مر على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت والله لننبئنه، ثم قالوا: يا فلان لرجل منهم -قم فأدركه وأخبره بما قال فأدركه رسولهم فأخبره فأتى الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى له ما قال وسأله أن يدعو له، فدعاه وسأله فقال: قد قلت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "لم تبغضه؟" فقال: أنا جاره وأنا به خابرن والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها؟ فسأله فقال لا، فقال: واللهما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً؟ فسأله عنه فقال: لا، فقال: والله ما رأيته يعطي سائلاً ولا مسكيناً قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل "قم فلعله خير منك .

بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة

اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فلنفحص عن سببها. وعلاج كف اللسان عن الغيبة على وجهين: أحدهما على الجملة، والآخر على التفصيل: أما على الجملة: فهو أن يعلم تعرض لسخط الله تعالى بغيبته بهذه الأخبار التي رويناها وأن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة، فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرض، فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه، وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل ومشبه عنده بآكل الميتة، بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان ويدخل بها النار "وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب. قال صلى الله عليه وسلم "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد وروي أن رجلاً قال للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي. فهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك، وينفعه أيضاً أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه، وهذا إن كان عيباً يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمراً خلقياً فالذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها. قال رجل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه. وإذا لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب، بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب، وينفعه أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبه غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه. فهذه معالجات جملية.

أما التفصيل فهو أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد قدمنا الأسباب. أما الغضب فيعالجه بما سيأتي في كتاب آفات الغضب وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن لجهنم باباً لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله وقال صلى الله عليه وسلم "من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه وقال صلى الله عليه وسلم "من كظم غظياً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء وفي بعض الكتب المنزلة على بعض النبيين: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق.

وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلب سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقر عيرك وتحقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلا أن يكون غضبك لله تعالى؟ وذلك لا يوجب أن نذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً على رفقائك إذا ذكروه بالسوء، فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهي الغيبة.

وأما تنزيه النف بنسبة الغير إلى الخيانة حيث يستغنى عن ذكر الغير، فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله يقيناً ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا! فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم وتهلك بالآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة ويحصل لك ذم الله تعالى نقداً وتنتظر دفع ذم الخلق نسيئة وهذا غاية الجهل والخذلان.

وأما عذرك كقولك إن أكلت الحرام ففلان يأكله وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته لسفه عقلك. ففيما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردى نفسها من قلة الجبل فهي أيضاً تردى نفسها، ولو كان لها لسان ناطق بالعذر وصرخت بالعذر وقالت: العنز أكيس مني وقد أهلكت نفسها فكذلك أنا أفعل، لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها ثم لا تعجب ولا تضحك من نفسك.

وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته به أبطلت فضلك عند الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوقين وهما، ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.

وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا وكنت في الدنيا معذباً بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة، فكنت خاسراً نفسك في الدنيا فصرت أيضاً خاسراً في الآخرة لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك وأهديت إليه حسناتك. فإذا أنت صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك، وتنفعه إذ تنقل إليه حسناتك أو تنقل إليك سيئاته ولا تنفعك وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة. وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك كما قيل:  

وإذا أراد الله نشر فضيلـه

 

طويت أتاح لها لسان حسود

وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام، فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلتك وخزيك يوم القيامة يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك! ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منك، فإنك سخرت به عند نفر قليل وعرضت نفسك لأن يأخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار، مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله تعالى إياه عليك وتسلطه على الانتقام منك.

وأما الرحمة له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس فأضلك، واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك، فيكون جبر الإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحومماً، وتنقلب أنت مستحقاً لأن تكون مرحوماً، إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك، وكذلك الغضب لله تعالى لا يوجد الغيبة، وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لمقت الله عز وجل بالغيبة. وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة فتعجب من نفسك أنت؟ كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك أو بدنياه وأنت مع ذلك لا تأمن من عقوبة الدنيا! وهو أن يهتك الله سترك كما هتكت بالتعجب ستر أخيك. فإذن علاج جميع ذلك المعرفة فقط والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف لسانه عن الغيبة لا محالة.

بيان تحريم الغيبة بالقلب

اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك تسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكه على غيره بالسوء. فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضاً معفو عنه، ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب. فقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" فلا يجوز تصديق إبليس، وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد واحتمل خلافه لم يجز أن تصدق به، لأن الفاسق يتصور أن بصدق في خيره ولكن لا يجوز لك أن تصدق به، حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر لا يجوز أن يحد، إذ يقال يمكن أن يكون قد تمضمض بالخمر ومجها وما شربها، أو حمل عليه قهراً، فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة فلا يجوز تصديقها بالقلب وإساءة الظن بالمسلم بها، وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة، فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر.

فإن قلت: فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث؟ فتقول: أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفوراً ما، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتنام بسببه؛ فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه.

وقد قال صلى الله عليه وسلم "ثلاث في المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل ولا في القلب ولا في الجوارح. أما في القلب: فبتغيره إلى النفرة والكراهة. وأما في الجوارح: فبالعمل بموجبه. والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته.

وأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذرواً، لأنك لو كذبته لكنت جانياً على هذا العدل إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضاً من سوء الظن، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيء بالآخر. نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت فتتطرق التهمة بسببه؟ فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد للتهمة ورد شهادة العدو فلك عند ذلك أن تتوقف، وإن كان عدلاً فلا تصدقه ولا تكذبه، ولكن تقول في نفسك: المذكور حاله كان عندي في ستر الله تعالى، وكان أمره محجوباً عني وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره، وقد يكون الرجل ظاهره العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور، ولكن قد يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم، فهذا قد يظن أنه عدل وليس بعدل، فإن المغتاب فاسق، وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق. ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة. ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستحقار وتترفع عليه، بإيذاء الواعظ. وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين، كما تحزن على نفسك إذا دخل عليلا نقصان في دينك: وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة. فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.
ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضاً منهي عنه، قال الله تعالى "ولا تجسسوا" فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة. ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلا الإطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستوراً عنه كان أسلم لقلبه ودينه. وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته.

بيان الأعذار المرخصة في الغيبة

اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور: الأول: التظلم فإن من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً إن لم يكن مظلوماً. أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال صلى الله عليه وسلم "إن لصاحب الحق مقالاً وقال عليه السلام "مطل الغنى ظلم وقال عليه السلام "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه .

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح، كما روي أن عمر رضي الله عنه مر على عثمان -وقيل على طلحة- رضي الله عنه فسلم عليه فلم يرد السلام. فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك، فجاء أبو بكر إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم. وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا جندل قا عاقر الخمر بالشام كتب إليه "بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" الآية فتاب، ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره، وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.

الثالث: الاستفتاء كما يقول المفتي؛ ظلمتي أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريق في الخلاص؟ والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته؟ ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها صلى الله عليه وسلم إذ كان قصدها الاستفتاء.

الرابع: تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره، وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق، وكذلك من اشترى مملوكاً وقد عرفت المملوك بالسرقة أو بالفسق أو بعيب آخر فلك أن تذكر ذلك، فإن سكوتك ضرر المشترى وفي ذكرك ضرر العبد، والمشترى أولى بمراعاة جانبه. وكذلك المزكي إذا سئل عن الشاهد فله الطعن فيه إن علم مطعناً، وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة: فإن علم أن يترك التزويج بمجرد قوله: لا تصلح لك، فهو الواجب وفيه الكفاية وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس وكانوا يقولون ثلاثة لا غيبة لهم: الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه. الخامس: أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول روى أبو الزناد عن الأعرج، وسلمان عن الأعمش، وما يجري مجراه فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به. نعم إن وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى، ولذلك يقال للأعمى: البصير، عدولاً عن اسم النقص.

السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف. من أن يذكر له ولا يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له وقال عمر رضي الله عنه ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر لا بد من مراعاة حرمته. وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق المعلن بفجوره ذكرى له بما فيه غيبة له؟ قال: لا ولا كرامة. وقال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم؛ صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر فهؤلاء الثلاثة بجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره؟ نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به إثم. وقال عوف: دخلت على ابن سيرين فتناولت عنده الحجاج فقال: إن الله حكم عدل، ينتقم للحجاج ممن اغتابه من الحجاج لمن ظلمه، وإنك إذا لقيت الله تعالى غداً كان أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج.

بيان كفارة الغيبة

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته! وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله؟ إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارف معصية أخرى وقال الحسن. يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. وربما استدل في ذلك بما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال مجاهد كفارة أكلك لحم أخيك: أن تثني عليه وتدعو له بخير. وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له؛ كذبت فيما قلت وظلمتك وأسأت فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح، وقول القائل: العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به. بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: قد اغتبتيها فاستحليها. فإذن لا بد من الاستحلال إن قدر عليه، فإن كان غائباً أو ميتاً فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات.

فإن قلت: فالتحليل هل يجب؟ فأقول: لا، لأنه تبرع والتبرع فضل، وليس بواجب ولكنه مستحسن وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة.

وكان بعض السلف لا يحلل. قال سعيد بن المسيب: لا أحلل من ظلمني. وقال ابن سيرين: إني لم أحرمها عليه فأحللها له عن الله حرم الغيبة عليه وما كنت لأحلل ما حرم الله أبداً.

فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يستحلها وتحليل ما حرمه الله تعالى غير ممكن؟

فنقول: المراد به العفو عن المظلمة لا أن ينقلب الحرام حلالاً، وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة. فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "أيعجز أحدكم أن يكون كابي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس فكيف يتصدق بالعرض ومن تصدق به فهل يباح تناوله فإن كان لا تنفيذ صدقته فما معنى الحث عليه؟ فنقول: معناه أني لا أطلب مظلمة في القيامة منه ولا أخاصمه، وإلا فلا تصير الغيبة حلالاً به ولا تسقط المظلمة عنه، لأنه عفو قبل الوجوب إلا أنه وعد، وله العزم على الوفاء بأن لا يخاصم، فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق أن له ذلك. بل صرح الفقهاء أن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف، ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا، وعلى الجملة فالعفو أفضل.

قال الحسن إذا جثت الأمم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة نودوا ليقم من كان له أجر على الله فلا يقوم إلا العافون عن الناس في الدنيا. وقد قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا جبريل ما هذا العفو؟، قال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك . وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتباك فبعث إليه رطباً على طبق وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام.

الآفة السادسة عشرة

النميمة

قال الله تعالى "هماز مشاء بنميم" ثم قال "عتل بعد ذلك زنيم" قال عبد الله بن المبارك: الزنيم ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث، وأشار به إلى أن كل من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة دل على أنه ولد زنا استنباطاً من قوله عز وجل "عتل بعد ذلك زنيم" والزنيم هو الدعى وقال تعالى "ويل لكل همزة لمزة" قيل الهمزة: النمام، وقال تعالى "حمالة الحطب" قيل إنها كانت نمامة حمالة للحديث وقال تعالى "فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً" قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان وامرأة نوح تخبر أنه مجنون وقد قال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة نمام وفي حديث آخر "لا يدخل الجنة قتات" والقتات هو النمام وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبرءاء العثرات وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بشراركم" قالوا: بلى، قال "المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرءاء العيب وقال أبو ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار ويقال: إن ثلث عذاب القبر من النميمة. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لما خلق الجنة قال لها تكلمي فقالت سعد من دخلني فقال الجبار جل جلاله وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس، لا يسكنك مدمن خمر ولا مصر على الزنا ولا قتات وهو النمام ولا ديوث ولا شرطي ولا مخنث ولا قاطع رحم ولا الذي يقول على عهد الله إن لم أفعل كذا وكذا لم يف به وروى كعب الأحبار أن بني إسرائيل أصابهم قحط فاستسقى موسى عليه السلام مرات فما سقوا فأوحى الله تعالى إليه: إني لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: يا رب من هو؟ دلني عليه حتى أخرجه من بيننا. قال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً، فتابوا جميعاً فسقوا. ويقال اتبع رجل حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات فلما قدم عليه قال: إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم أخبرني عن السماء وما أثقل منها؟ وعن الأرض وما أوسع منها؟ وعن الصخر وما أقسى منه؟ وعن النار وما أحر منها؟ وعن الزمهرير وما أبرد منه؟ وعن البحر وما أغنى منه؟ وعن اليتيم وما أذل منه؟ فقال له الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السموات، والحق أوسع من الأرض، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحر من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمام إذا بان أمره أذل من اليتيم.