كتاب آفات اللسان - بيان حد النميمة وما يجب في ردها

بيان حد النميمة وما يجب في ردها

اعلم أن اسم النميمية إنما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وليست النميمة مختصة به. بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث. وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، فأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره هو نميمة وإفشاء للسر، فإن كان ما ينم به نقصاً وعيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة. فالباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له، أو التفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل.

وكل من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل في حقك كذا أو هو يدبر في إفساد أمرك أو في ممالأة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور، الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الشهادة قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله قال الله تعالى "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر" الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. والرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتحقق، اتباعاً لقول الله تعالى "ولا تجسسوا" السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماماً ومغتاباً وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية "هماز مشاء بنميم" وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً. وذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له الحكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيت بثلاث جنايات، بغضت أخي إلي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة. وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت؟ فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.

وقال الحسن من نم إليك نم عليك. وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض؟ وقال تعالى "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" والنمام منهم. وقال صلى الله عليه وسلم "إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره والنمام منهم. وقال "لا يدخل الجنة قاطع" قيل وما القاطع؟ قال "قاطع بين الناس وهو النمام وقيل قاطع الرحم.

وروي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له: يا هذا نحن نسأل عما قلت فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين. وقيل لمحمد بن كعب القرظي أي خصال المؤمن أوضع له؟ فقال: كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد. وقال رجل لعبد الله ابن عامر -وكان أميراً- بلغني أن فلاناً أعلم الأمير أني ذكرته بسوء، قال: قد كان ذلك، قال: فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك؟ قال: ما أحب أن أشتم نفسي بلساني وحسبي أني لم أصدقه فيما قال ولا أقطع عنك الوصال. وذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من كل طائفة من الناس إلا منهم؟ وقال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فلو كان صادقاً في قوله لكان لئيماً في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة. والسعاية هي النميمة إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية وقد قال صلى الله عليه وسلم "الساعي بالناس إلى الناس لغيرة رشدة يعني ليس بولد حلال. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذنه في الكلام وقال: إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ولا تصح إليهم فيما استحفظك الله إياه فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً وفي الأمانة تضييعاً والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة وأنت مسؤول عما أجرموا وليسوا المسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره. وسعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك فجمع بينهما للموافقة فأقبل زيادة على الرجل وقال:  

فأنت امرؤ إما ائتمنتك خالـياً

 

فخنت وإما قلت قولاً بلا علم

فأنت من الأمر الذي كان بيننا

 

بمنزلة بين الخـيانة والإثـم

وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعمله أن الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يجمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها افضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق يا ملعون العيب فإن الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله. وقال لقمان لابنه: يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيداً ابسط خلقك للقريب والبعيد. وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك. وقال بعضهم: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل. وقال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك لكان المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك.

وعلى الجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى. قال حماد بن سلمة: باع رجل عبداً وقال للمشتري؛ ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً ثم قال زوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي المؤسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك، فتناوم لهام حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأى بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها. فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين. فنسأل الله حسن التوفيق.

الآفة السابعة عشرة

كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه، وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين وذلك عين النفاق.

قال عمار بن ياسر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث وفي لفظ آخر "الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" وقال أبو هريرة: لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً عند الله. وقال مالك بن دينار: قرأت في التوارة بطلب الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين يهلك الله تعالى يوم القيامة كل شفتين مختلفتين. وقال صلى الله عليه وسلم "أبغض خليقة الله إلى الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم فإذا لقوهم تملقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بكاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً وقال ابن مسعود: لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال الذي يجري مع كل ريح. واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق، وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها.

وقد روي أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر: يموت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تصل عليه؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنهم منهم، فقال: نشدتك الله أنا منهم أم لا؟ قال: اللهم لا ولا أؤمن منها أحداً بعدك.

فإن قلت: بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك؟ فأقول: إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقاً فيه لم يكن منافقاً ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء -كما ذكرنا في كتاب آداب الصحبة والأخوة- نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة، إذ يصير نماماً بأن ينقل من أحد الجانبين فقط فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام، وإن لم ينقل كلاماً ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، وكذلك إذا أثنى على واحد منهما في معاداته. وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين. بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين. ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه.

قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره فقال: كنا نعد هذا نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نفاق مهما كان مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه، فلو استغنى عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه فدخل لضرورة الجاه والغنى وأثنى فهو منافق. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القبل كما ينبت الماء البقل لأنه يحوج إلى الأمراء وإلى مراعاتهم ومراءاتهم. فأما إذا ابتلى به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور، فإن اتقاء الشر جائز. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو" ثم لما دخل ألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول، فقال "يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم: فأما الثناء فهو كذب صراح ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب بمثله -كما ذكرنا في آفة الكذب- بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه.

الآفة الثامنة عشرة

المدح

وهو منهي عنه في بعض المواضع. أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها. والمدح يدخله ست آفات: أربع في المادح، واثنتان في الممدوح.

فأما المادح، فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب. قال خالد بن معدان: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه. والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.

الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه، وروي أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام "ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" ثم قال "إن كان أحدكم لا بد مادحاً أخاه فليقل أحسب فلاناً ولا أزكى على الله أحداً حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقولة إنه متق وورع وزاهد وخير وما يجري مجراه، فأما إذا قال رأيته يصلي بالليل ويتصدق ويحج فهذه أمور مستيقنة. ومن ذلك قوله إنه عدل رضا فإن ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة. سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا، قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة؟ قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه؟ قال: لا. فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه.

الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.

وأما الممدوح فيضره من وجهين؛ أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان. قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لي ولك أما سمعتها؟ قال: سمعتها فمه، قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك.

الثاني: هو أنه إذا أنثى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصراً. فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام "قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" وقال صلى الله عليه وسلم "إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضاً وقال أيضاً لمن مدح رجلاً "عقرت الرجل عقرك الله وقال مطرف: ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشطيان، ولكن المؤمن يراجع، فقال ابن المبارك: لقد صدق كلاهما أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام، وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص. وقال صلى الله عليه وسلم "لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيراً له من أن يثني عليه في وجهه وقال عمر رضي الله عنه: المدح هو الذبح. وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهما مهلكان كالذبح؛ لذلك شبهه به. فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً غليه. ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقال "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح وقال في عمر "لو لم أبعث لبعثت يا عمر وأي ثناء يزيد على هذا؟ ولكنه صلى الله عليه وسلم قال عن صدق وبصيرة. وكانوا رضي الله عنهم أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً وفتوراً. بل مدح الرجل نفسه قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إذ قال صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لست أقول هذا تفاخراً كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم. وذلك لأن افتخاره صلى الله عليه وسلم كان بالله وبالقرب من الله لا بولد آدم وتقدمه عليه؛ كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يفتخر بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقدمهعلى بعض رعاياه. وبتفصيل هذه الآفات تقدر على جمع بين ذم المدح وبين الحث عليه قال صلى الله عليه وسلم "وجبت لما أثنوا على بعض الموتى. وقال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم المستور عورتك أربع على نفسك واحم الله الذي ستر عورتك. فهذه آفات المدح.

بيان ما على الممدوح

اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور، ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال، فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح. قال صلى الله عليه وسلم "احثوا التراب في وجوه المادحين وقال سفيان بن عيينة: لا يضر المدح من عرف نفسه. وأثنى على رجل من الصالحين فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني. وقال آخر لما أثنى عليه: اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته. وقال علي رضي الله عنه لما أثنى عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون. وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال: أتهلكني وتهلك نفسك؟ وأثنى رجل على علي كرم الله وجهه في وجهه -وكان قد بلغه أنه يقع فيه- فقال: أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك.

الآفة التاسعة عشر

الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته

ويرتبط بأمور الدين فلا يقدر على تقويم اللفظ في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء، فمن قصر في علم أو فصاحة لم يخل كلامه عن الزلل لكن الله تعالى يعفو عنه لجهله. مثاله: ما قال حذيفة: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكاً وتسوية وهو على خلاف الاحترام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت، فقال صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله عديلاً بل ما شاء الله وحده . وخطب رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال "قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ومن يعصهما، لأنه تسوية وجمع. وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك. وأن يقول: لولا الله ثم فلان؟ ولا يقول: لولا الله وفلان؟ وكره بعضهم أن يقال: اللهم أعتقنا من النار، وكان يقول: العتق يكون بعد الورود. وكانوا يستجيرون من النار ويتعوذون من النار. وقال رجل: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال حذيفة: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين. وقال إبراهيم: إذا قال الرجل للرجل يا حمار يا خنزير! قيل له يوم القيامة، حماراً رأيتني خلقته خنزيراً رأيتني خلقته؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه، فيقول: لولاه لسرقنا الليلة. وقال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها: وقال صلى الله عليه وسلم "لا تسموا العنب كرماً إنما الكرم الرجل المسلم4" وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، ولا يقول المملوك ربي ولا ربتي وليق سيدي وسيدتي فكلكم عبيد الله الرب الله سبحانه وتعالى" وقال صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا للفاسق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم وقال صلى الله عليه وسلم "من قال أنا بريء من الإسلام فإن كان صادقاً فهو كما قال وإن كان كاذباً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً فهذا وأمثاله مما يدخل في الكلام ولا يمكن حصره.

ومن تأمل جميع ما أوردنا من آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم "من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين.

الآفة العشرون

سؤال العوام عن صفات الله تعالى وعن كلامه وعن الحروف وأنها قديمة أو محدثة؟

ومن حقهم الاشتغال بالعمل بما في القرآن إلا أن ذلك ثقيل على النفوس والفضول خفيف على القلب. والعامي يفرح بالخوض في العلم، إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء وأهل الفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر وهو لا يدري. وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته. وإنما شأن العوام الاشتغال بالعبادات والإيمان بما ورد به القرآن، والتسليم لما جاء به الرسل من غير بحث، وسؤالهم عن غير ما يتعلق بالعبادات سوء أدب منهم يستحقون به المقت من الله عز وجل ويتعرضون لخطر الكفر، وهو كسؤال ساسة الدواب عن أسرار الملوك وهو موجب للعقوبة. وكل من سأل عن علم غامض ولم يبلغ فهمه تلك الدرجة فهو مذموم، فإنه بالإضافة إليه عامي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقال أنس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأكثروا عليه وأغضبوه فصعد المنبر وقال "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال "أبوك حذافة" فقال إليه شابان أخوان فقالا: يا رسول الله من أبوناً؟ فقال: أبوكما الذي تدعيان إليه، ثم قام إليه رجل آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال "لا بل في النار" فلما رأى الناس غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوا فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فقال "اجلس يا عمر رحمك الله إنك ما علمت لموفق .

وفي الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وقال صلى الله عليه وسلم "يوشك الناس يتساءلون بينهم حتى يقولوا قد خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا "قل هو الله أحد الله الصمد" حتى تختموا السورة ثم ليتفل أحدكم عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم .

وقال جابر: ما نزلت آية المتلاعنين إلا لكثرة السؤال . وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام تنبيه على المنع من السؤال قبل أوان استحقاقه إذ قال "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" فلما سأل عن السفينة أنكر عليه حتى اعتذر وقال "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً" فلم يصبر حتى سأل ثلاثاً قال "هذا فراق بيني وبينك" وفارقه.

فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات وهو من المثيرات للفتن، فيجب قمعهم ومنعهم من ذلك. وخوضهم في حروف القرآن يضاهي حال من كتب الملك إليه كتاباً ورسم له فيه أموراً فلم يشتغل بشي منها، وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أو حديث؟ فاستحق بذلك العقوبة لا محالة. فكذلك تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه أهي قديمة أم حديثة؟ وكذلك سائر صفات الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.