كتاب ذم الغضب والحقد والحسد - القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته

القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه

ومعالجته وغاية الواجب في إزالته

بيان ذم الحسد

 اعلم أن الحسد أيضاً من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى. وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وقال أنس: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة" قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له. إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال "نعم، فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق . وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تحقق؛ وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ وفي رواية "ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن" فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة. وقال صلى الله عليه وسلم "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثب ذلك لكم أفشوا السلام بينكم وقال صلى الله عليه وسلم "كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر وقال صلى الله عليه وسلم "إنه سيصيب أمتي داء الأمم" قالوا. وما داء الأمم؟ قال "الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج وقال صلى الله عليه وسلم "لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك وروي أن موسى عليه السلام لما تعجل إلى ربه تعالى رأى في ظل العرش رجلاً فغبطه بمكانه فقال: إن هذا لكريم على ربه، فسأل ربه تعالى أن يخبره باسمه فلم يخبره وقال أحدثك من عمله بثلاث: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وقال زكريا عليه السلام: قال الله تعالى: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي. وقال صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون وقال صلى الله عليه وسلم "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال صلى الله عليه وسلم "إن لنعم الله أعداء" فقيل ومن هم؟ فقال "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال صلى الله عليه وسلم "ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة" قيل يا رسول الله من هم؟ قال "الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد .

الآثار: قال بعض السلف: أول خطيئة هي الحسد حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية. وحكي أن عون بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء فقال: وما هو؟ قال: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله به، ثم قرأ "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" الآية، وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أمكنه الله سبحانه من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه عنها فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها، ثم قرأ "اهبطوا منها" إلى آخر الآية وإياك والحسد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، الآيات وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، وإذا ذكر القدر فاسكت، وإذا ذكرت النجوم فاسكت. وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادت فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: أدن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلا إلا قد صدق؟ قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب قال خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي! فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل: فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي ف في أمري حتى تراجع الملك؛ فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله؛ فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك؟ قال: فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته. وقال ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حفيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ وقال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ نعم، ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً. وقال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده! وقال معاوية: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ولذلك قيل:

كل العداوات قد ترجى إماتتها

 

إلا عداوة من عاداك من حسد

وقال بعض الحكماء: الحسد جرح لا يبرأ أو حسب الحسود ما يلقى. وقال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه. وقال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟ وقال بعضهم: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.

بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه

اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان: إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسداً. فالحسد حده كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.

الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة.

وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني: وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد .

فأما الأول فهو حرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الحق، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها، فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد، ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟ وإلى هذا أشار القرآن بقوله "إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها" وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان. وقال تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم" فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وقال تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد. وقال تعالى في معرض الإنكار "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" وقال تعالى "كان الناس أمة واحدة" إلى قوله "إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" قيل في التفسير: حسداً. وقال تعالى "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم" فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته، وأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول فرد بعضهم على بعض. قال ابن عباس: كانت اليهود قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا . فكانوا ينصرون. فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى "وكانوا من يقبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" إلى قوله "أن يكفروا بما أنزل الله بغياً" أي حسداً. وقالت صفية بنت حي للنبي صلى الله عليه وسلم: جاء أبي وعمي من عندك يوماً، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه؟ قال: أقول أنه النبي الذي بشر به موسى. قال: فما ترى؟ قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم.

وأما المنافسة: فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة. وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد، قال قثم بن العباس: لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة -قالا لعلي حين قال لهما: لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمر كما عليها- فقالا له: ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة.

والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" وقال تعالى "سابقوا إلى مغفرة من ربكم" وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما؛ إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها، فكيف وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأتماري فقال "مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء -وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال- ورجل آتاه الله مالاً ولا لم يؤته علماً فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقته في مثل ما أنفقه فيه من العاصي فهما في الوزر سواء فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له. فإذاً لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له. نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضياً بالمعصية وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها، وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة، وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة، وكان تحت هذه النعمة أمران، أحدهما: راحة المنعم عليه، والآخر: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له.

ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات، نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان. وههنا دقيقة غامضة: وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب وزال النقصان، وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود، فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر، حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره، وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداًمذموماً. وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك، فيعفى عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه، ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهن مخرج: "إذا حسدت فلا تبغ" أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به. وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة؛ إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها. فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر، وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم، ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى. ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه، حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة، وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد الدنيا، ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له. فهذه هي حقيقة الحسد وأحكامه.

وأما مراتبه فأربع "الأولى" أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث. "الثانية" أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة، مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له، ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه، ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها "الثالثة" أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلاً يظهر التفاوت بينهما. "الرابعة" أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه.

وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة فيها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف من الثالثة، والأولى مذموم محض. وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مذموم لقوله تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم، وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم.

بيان أسباب الحسد والمنافسة

أما المنافسة فسببها حب ما فيه النافسة، فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى وحب طاعته، وإن كان دنيوياً فسببه حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ومداخله كثيرة جداً، ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب: العداوة، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها. فإنه مما يكره النعمة على غيره إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير، وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضاً له بسبب إساءته إليه، أو إلى من يحبه. وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه، وهو المراد بالتعزز. وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه لنعمته وهو المراد بالتكبر. وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب عظيم فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب. وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه. وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها. وإما لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى. ولا بد من شرح هذه الأسباب.


السبب الأول: العداوة والبغضاء، وهذا أشد أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوة بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه. وبالجملة فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً ثم يستوي عند مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن، وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به أعني الحسد بالعداوة إذ قال الله تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم" الآية. وكذلك قال "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه.

السبب الثاني: التعزز؛ وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره. فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علماً أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته مثلاً، ولكن لا يرضى بالترفع عليه. السبب الثالث: الكبر؛ وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته، أو ربما يتشوف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه. ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ رؤوسنا؟ فقالوا "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أعظم" أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً وقال تعالى يصف قول قريش "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" كالاستحقار لهم والأنفة منهم.

السبب الرابع: التعجب، كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا "ما أنتم إلا بشر مثلنا" "وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا" "ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون" فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم، وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب، وقالوا متعجبين "أبعث الله بشراً رسولاً" وقالوا "لولا أنزل علينا الملائكة" وقال تعالى "أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم" الآية.

السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال، وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ، وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم، وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهه محصورين، إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له.

السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده، وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكثر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد. وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصل إلى مقاصد سوى الرياسة. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم واستتباعهم مهما نسخ علمهم.

السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة، هذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة، ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة إزالته. فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد بذلك، ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة. وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب، وقلما يتجرد سبب واحد منها.

بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه

 اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب. وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه، فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة، وكذلك في محلتين، نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما، فيثور من التناقض التنافر والتباغض، ومنه تثور بقية أسباب الحسد، ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته. لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون، وإنما ينازعه فيه بزاز آخر؛ إذ حريف البزاز لا يطلبه الإسكاف بلل البزاز. ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق، فلا جرم يكون حسده للجار أكثر. وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة، ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع. ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب، لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص. فأصل هذه المحاسدات العداوة، وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهما. نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين: أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحث معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين. بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به، ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة. فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً، فيما عند الله تعالى لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم. نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة: فيكون ذلك سبباً للمحاسدة، وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها وأن يفرح بذلك. والفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه، والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع في الأرض لم يبق بعده مال يمتلكه غيره، والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم، ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق لأن غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته، فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار  الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة، فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته، يأمن زوالها وهو أبداً يجني ثمارها؛ فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة بل قطوفها دانية، فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبداً ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة، فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواننا على سرر متقابلين" فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا، فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء، أمشاهدة المحبوب في العقبى؟ فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة، لأن الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً، فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين، ولذلك وسم به الشيطان اللعين، وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء، ولما دعى إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى. فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء، ولكن السماء لسعة الأقطار وافيه بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً. فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها؟ ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض. ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً. فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور؛ إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجل "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين".

بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة. أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين. وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم. وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل النهار.

وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به، ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تتراها وتتألم بكل بلية تنصرف عليهم، فتبقى مغموماً محروماً متشعب القلب ضيق الصدر قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة؟ فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة؟ وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه. فلا حيلة في دفعه، بل كل شيء عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب. ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه: فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغيير فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها. ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا يكون عليه إثم في الآخرة، ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي. وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك، فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضاً، لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان. قال الله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" إذ ما يريد الحسود لا يكون. نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر. فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم. وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة، فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك، فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها.
وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح. أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكره مساويه، فهذه هدايا تهديها إليه؛ أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة، فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل. نعم كان عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.

وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين، ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، ولذلك لا يشتهي عدوك موتك بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسداً. ولذلك قيل:

لا مات أعداؤك بل خلـدوا

 

حتى يروا فيك الذي يكمد

لا زلت محسوداً على نعمة

 

فإنما الكامل من يحـسـد

ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته، ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبليه عنده، فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك، فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة. وصرت مذموماً عند الخالق والخلائق شقياً في الحال والمآل، ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية، ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك، لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة، لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير، ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك، فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك.

وقد قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب وقام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال "ما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم "أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ. إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله. قال أنس: فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم. وقال أبو موسى: قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم، حتى عد أشياء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو مع من أحب وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً، فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً، فإن لم تسطع أن تكون متعلماً فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم، فقال: سبحان الله لقد جعل الله لنا مخرجاً. فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب، ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت، وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطئ في دين الله تعالى وينكشف خطؤه ليفتضح؟ وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك؟ فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة وقد جاء في الحديث "أهل الجنة ثلاثة: المحسن والمحب له والكاف عنه أي من يكف عنه الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها البتة، فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهماً فيرجع إلى عينه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمني فيقلعها، فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه فيعود على رأسحه فيشجه، وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى، وأعداؤه حوله يفرحون به ويضحكون عليه. وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه، بل حالك في الحسد أقبح من هذا لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة. والحسد يعود بالإثم والإثم لا يفوت بالموت، ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار، فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار. فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد؛ إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقاً لقوله تعالى "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" وربما يبتلي بعين ما يشتهيه لعدوه، وقلما يشمت شامت بمساءة غلا ويبتلى بمثلها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما تمنيت لعثمان شيئاً إلى نزل بي، حتى لو تمنيت له القتل لقتلت. فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه لحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء؟ وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة.

فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك نفسه ومفرح عدوه ومسخط ربه ومنغص عيشه.

وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه، وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد، لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصبر ما تكلفه أولاً: طبعاً آخر ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة، وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة -تكلفاً كانت أو طبعاً- تكسر سورة العداوة من الجانبي وتقل مرغوبها وتعود القلب التآلف والتحاب، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض.

 فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جداً إلا أنها مرة على القلوب جداً ولكن النفع في الدواء المر. فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينقل حلاوة الشفاء؛ وإنما تهون مرارة هذا الدواء، أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم، بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه. وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما لا يكون، إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة، ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون، والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه. وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل، وتحصيله بالرياضة ممكن، فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي.

فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني -وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى- فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة، فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة، ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده، فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه، ويغمه ذلك لا محالة، وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده، فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق.

بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب

اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع، ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً، فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له، ولكن عن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرهك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك، وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص، لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل، قال الله تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وقال "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد، بل محل الحسد القلب دون الجوارح. نعم هذا الحسد ليس مظلمة بحب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح، فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقالة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا، إلا أن يصير مستغرقاً بحيث الله تعالى مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة، ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعال الله، ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم، ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته -أعني الشطيان- فإنه ينازع بالوسوسة.فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه. وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده. وروي عنه موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن وله مهن مخرج" فمخرجه من الحسد أن لا يبغي، والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة الدعو، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم، ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال. فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد. فإذن كونه آثماً بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد، والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى، إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة.

وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال، أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك، وتكره حبك لذلك ميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك، وهذا معفو عنه قطعاً لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه.

الثاني: أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك، فهذا هو الحسد المحظور قطعاً.

الثالث: وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك، ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه، وهذا في محل الخلاف. والظاهر أنه لا يخلوا عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه. والله أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.