كتاب ذم الدنيا - بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد

بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد

اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي؟ وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب؟ فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي؟ فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت، فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام. القسم الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان: العلم والعمل فقط؛ وأعني بالعلم: العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا. ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلاً بل قلنا إنه من الآخرة، وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه، حتى قال بعضهم: ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل، وكان آخر يقول: اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر. فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو، ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا. وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا، والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة، فنقول هذه ليست من الدنيا.

القسم الثاني: وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات، والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات، كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة، فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولاً أو في محل الحاجة نظر طويل، إذ روي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفاً أنفق عليه درهمين، فكتب إليه عمر: من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر، قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها، فإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك. فلم يزل بها حتى مات. فهذا رآه فضولاً من الدنيا فتأمل فيه.

القسم الثالث: وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن "وكل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل. وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول، لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه. فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولاً للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا، وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا. ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلث صفات: صفاء القلب؛ أعني طهارته عن الأدناس، وأنسه بذكر الله تعالى، وحبه لله عز وجل. وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة. ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت. أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بين العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار "إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه الحديث.

وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة، وهذه السعادة تعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد؟ وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله، فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق؟ وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجع إليه؟ ولذلك قيل:

ما حال من كان له واحد

 

غيب عنه ذلك الواحـد

وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى. فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها، وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، وصحة البدن لا تناول إلا بقوت وملبس ومسكن، ويحتاج كل واحد إلى أسباب. فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مرزعة للآخرة، وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها، إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً، وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً. والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حلالها حساب وحرامها عذاب وقد قال أيضاً "حلالها عذاب" إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام، بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يدر على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب، وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها؟ منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها؟ فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه "هذا من النعيم الذي تسئل عنه أشار به إلى الماء البارد. والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخر ومشقة وانتظار، وكل ذلك من نقصان الحظ، ولذلك قال عمر رضي الله: اعزلوا عني حسابها، حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله، فإن ذلك القدر ليس من الدنيا، وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد، حتى إن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه، إذ تمثل له إبليس وقال: رغبت في الدنيا! وحتى إن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة، فإن الصبر عن لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياماً وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل، كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه، ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه. وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا. فإن قلت: فما الذي هو لله؟ فأقول: الأشياء ثلاثة أقسام: منها ما لا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة، فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة: الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا، وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد، فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى. ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله، وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده، فإن كان القصد حفظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم "من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهة كالقمر ليلة البدر فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذاً الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" ومجامع الهوى خمسة أمور: وهي ما جمعه الله تعالى في قوله "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسةسبعة: يجمعها قوله تعالى "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا" فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا، وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هو لله إن قصد به وجه الله، والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله. وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة. ولها طرفان وواسطة: طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن، وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منه، وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. والحزم في الحذر والتقوى والتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام؛ إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرنى كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه، فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتان والثلاث لا يرون له وجهاً، وكان يخرج أول الآذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة، وكان طعامه أن يلتقط النوى، وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته، وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها، فكان ذلك لباسه وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون، فيقول لهم يا أخوتاه إن كنتم ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي، فيحضر وقت الصلاة ولا أصيب الماء، فهكذا كانت سيرته. ولقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فقال "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم، قال: فقاموا. فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة، فجلسوا، فقال: اجلسوا إلا من كان من مراد، فجلسوا فقال: اجلسوا إلا من كان من قرن، فجلسوا كلهم إلا رجلاً واحداً فقال له عمر: أقرني أنت؟ فقال: نعم فقال: أتعرف أويس بن عامر القرني؟ فوصفه له، فقال: ونعم وما ذاك تسأله عنه يا أمير المؤمنين! والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولا أدنى منه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال: ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر فقال هرم بن حيان: لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم غلا أن أطلب أويساً القرني وأسأل عنه، حتى سقطت عليه جالساً على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه، قال: فعرفته بالنعت الذي نعت لي، فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية متغير جداً كريه الوجه متهيب المنظر قال: فسلمت عليه فرد علي والسلام ونظر إلي، فقلت: حياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك كيف أنت رحمك الله؟ ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى، فقال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك علي؟ قلت الله فقال: لا إله إلا الله سبحان الله "إن كان وعد ربنا لمفعولا" قال: فعجبت حين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني! فقلت: من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم؟ "قال نبأني العليم الخبير" وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا، يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل، قال: قلت حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك قال إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي ورسول الله، ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً أو مفتياً أو قاضياً في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان! فقلت: يا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنك فإني أحبك في الله حباً شديداً، قال: فقام وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم بكى. ثم قال: قال ربي والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه، ثم قرأ "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهم إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون" حتى انتهى إلى قوله "إنه هو العزيز الرحيم" فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال: يا ابن حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجى الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم وهو رسول رب العالمين، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي، ثم قال: يا عمراه يا عمراه، قال: فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت، قال: فقد نعاه إلي ربي ونعى إلى نفسي! ثم قال: أنت وأنت في الموتى كأنه قد كان، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدعوات خفيات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلى نفسي ونفسك، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً، وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة، ادع لي ولنفسك، ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيراً واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عني خير الجزاء ثم قال: أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حياً فلا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا. فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، ثم سألت عنه ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له.

فهكذا كانت سيرة أبناء الأخوة المعرضين عن الدنيا.

وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا. ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذ حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له، ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولم يكن مشغولاً بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا. نعم إذا قصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفاً عن الآخرة ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي: كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاوياً فسمعت في الليلة الثامنة منادياً وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه. فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك. فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى.

بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم

اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجود وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل. فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك، أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر، وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح.

ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام: المعادن والنبات والحيوان. أما النبات: فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادين: فيطلبها للآلات والأواني، كالنحاس والرصاص، وللنقد كالذهب والفضة، ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم، أما البهائم: فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة. وأما الإنسان: فقد يطلب الأدمى: أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان؛ أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان؛ ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه؛ إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين. فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين" وهذا من الإنس "والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة" وهذا من الجواهر والمعادن؛ وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها "والخيل المسومة والأنعام" وهي البهائم والحيوانات "والحرث" وهو النبات والزرع.

فهذه هي أعيان الدنيا، إلا أن لها مع العبد علاقتين: علاقة مع القلب وهو حبه وحظه منها وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا. ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة.

وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها.

العلاقة الثانية مع البدن؛ وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها، والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بالحب، وعلاقة البدن بالشغل. ولو عرف نفسهوعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى، وأعنى بالدابة البدن، فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال.

ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده: مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب، ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبر لها الماء بالثلج، حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته. والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي، فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج. وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة. فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن، ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها. وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن، فإن الفوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضهم ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة، فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها. ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا، وكيفية حدوث الحاجة إليها، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تضح لك أشغال الدنيا، كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم؟ فنقول: الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها. وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث: القوت، والمسكن، والملبس. فالقوت: للغذاء والبقاء. والملبس: لدفع الحر والبرد. والمسكن: لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال. ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه.

نعم خلق ذلك للبهائم، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ. والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء، ولباسها شعورها وجلودها، فتستغني عن اللباس.

والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات، وأوائل الأشغال الدنيوية، وهي الفلاحة، والرعاية، والاقتناص، والحياكة، والبناء. أما البناء فللمسكن. والحياكة وما يكتنفاه من أمر الغزل والخياطة فللملبس. والفلاحة للمطعم. والرعاية للمواشي والخيل أيضاً للمطعم والمركب. والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب، فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها. والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي، ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة، ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص، والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب، أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما، أو من جلود الحيوانات. فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات: النجارة والحدادة والخز. وهؤلاء هم عمال الآلات، ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان. وبالحداد؛ كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبرى وغيرهما. وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة. وأما الخراز؛ فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها. فهذه أمهات الصناعات.
ثم عن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين؛ أحدهما: حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان، ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما. والثاني: التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد، فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة، والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت. ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة. فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها، وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار، ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز؟ وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة؟ فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع. ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها، لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل، فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل، فحدثت البلاد لهذه الضرورة.

ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات، إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة، وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به. ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم، إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت. فأما المرأة فتخاصم الزوج، والولد يخاصم الأبوين. هذا في المنزل. وأما أهل البلد أيضاً فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها، ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا، وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة. ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعاً لهلك، ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له. فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى. فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل. ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم. ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة، ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق، ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها. فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية، وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش، ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلاً تعطلت الصناعات، ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس، فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت، أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار، فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة، فتحدث الحاجة إلى الخراج. ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر؛ إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال. وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون، وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان، وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر. وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصاً، ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه، واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك، فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح، وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال. ثم هؤلاء أيضاً يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج. وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاثة طوائف؛ الفلاحون والرعاة والمحترفون، والثانية: الجندية الحماة بالسيوف. والثالثة: المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم. فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى. وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسبب أبواب أخر. وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها، من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى، وهكذا على التوالي. فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات. والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به، وأعلاها الأغذية، ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها وهي الدور، ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع، ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته، ثم آلات الآلات، وقد يكون في الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد، والبقر آلة الحراثة، والفرس آلة الركوب في الحرب. ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة، والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة. فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح، فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده لآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة، إلا أن النجار مثلاً إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه، والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض، فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات؛ وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات، فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجاً باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعاًفي ربح، وكذلك في جميع الأمتعة والأموال. ثم يحدث لا محالة بين البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات، وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم؛ إذ كل بلد ربما لا توجد في كل آلة، وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام، فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل، فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة، فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم، ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم؛ إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم، ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد. بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة. ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضاً.

ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها، وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة، ويصير الكراء نوعاً من الاكتساب أيضاً، ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاماً بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو؟ والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب، فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال، ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم. وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس، ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة. وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه. فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم. وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء.

وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى عاجزاً عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره، فيحدث منه حرفتان خسيستان: اللصوصية والكداية؛ إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير.

أما اللصوص: فمنهم من يطلب أعواناً ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد. وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة، وإما بأن يكون طراراً أو سلالاً، إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها. وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة فلا يعطى شيئاً، فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة، فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون، وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض، وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق، ليكون ذلك سبب الرحمة، وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها، فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب، ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم. وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة، وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت. والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس ولا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت، أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق، وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات، والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال، وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين. ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رؤوس المنابر إذ لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية، وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين. وكل ذلك استنبط بدفيق الفكرة لأجل المعيشة. فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها، وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا، وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة، فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه: فطائفة علبهم الجهل والغفلة فلم تتفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة امورهم فقالوا: المقصود أن نعيش أياماً في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا، وهذا مهذب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت.

وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج، فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر.

وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طوال الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون، ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات؛ فيكون الجامع تعبه ووباله وللآكل لذته. ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أملا ذلك ولا يعتبرون.

وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس.

وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا همهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم. ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة، كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها. وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها، وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه، وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك، وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له، وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية، فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها. فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا. وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم، وأضلهم في الإعراض أيضاً حتى انقسموا إلى طوائف: فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا، وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق، ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا.

وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولاً من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية، وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب، ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم، حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن. وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة. وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد. وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عباده لا ينقصه عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.

وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف، وإنما التكليف على عوام الخلق.

ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة، وإنما الناجي منها فرقة واحدة؛ وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية. أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل. ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد، ومن الكسوة كذلك، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر، وبقي ملازماً لسياسة الشهوات ومراقباً لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال "الناجي منها واحدة" قالوا: يا رسول الله ومن هم؟ قال "أهل السنة والجماعة" فقيل: ومن أهل السنة والجماعة؟ قال "ما أنا عليه وأصحابي وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفيين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى -كما سبق ذكره في مواضع- والله أعلم.

تم كتاب ذم الدنيا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.