كتاب ذم البخل وذم حب المال - بيان ذم المال وكراهة حبه

وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضر بعد القنوط، الذي خلق الخلق، ووسع الرزق، وأفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، ورددهم فيها بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة والإفلاس، والعجز والاستطاعة، والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف على المفقود، والإيثار والإنفاق، والتوسع والإملاق، والتبذير والتقتير، والرضا بالقليل واستحقار الكثير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً، وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً، واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا، والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً، وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف واسعة الأرجاء والأكناف، ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، ثم إذا وجدت فلا سلامة منها، فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإن وجد حصل منه الغطيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلى خسرا. وبالجملة فهي لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المسترسمين المغترين. وشرح ذلك مهم على الانفراد، فإن ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظراً في المال خاصة بل في الدنيا عامة؛ إذ الدنيا تتناول كل حظ عاجل، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها، والكبر وطلب العلو بعضها. ولها أبعاض كثيرة. ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل. ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده، إذ فيه آفات وغوائل. وللإنسان من فقده صفة الفقر، ومن وجوده وصف الغنى. وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان.

ثم للفاقد حالتان: القناعة والحرص، وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق، والطمع شر الحالتين.

وللواجد حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق. وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد.

وهذه أمور متشابهة وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم. ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلاً إن شاء الله تعالى وهو: بيان ذم المال، ثم مدحه ثم تفصيل فوائد المال وآفاته ثم ذم الحرص والطمع ثم علاج الحرص والطمع. ثم فضيلة السخاء. ثم حكايات الأسخياء، ثم ذم البخل، ثم حكايات البخلاء. ثم الإيثار وفضله. ثم حد السخاء والبخل. ثم علاج البخل. ثم مجموع الوظائف في المال. ثم ذم الغنى ومدح الفقر؛ إن شاء الله تعالى.

بيان ذم المال وكراهة حبه

قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون" وقال تعالى "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" فمن اختار ماله وولده على ما عند الله فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها" الآية. وقال تعالى "إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى" فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال تعالى "ألهاكم التكاثر". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال صلى الله عليه وسلم "ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساداً فيها من حب الشرف والمال والجاه في دين الرجل المسلم وقال صلى الله عليه وسلم "هلك المكثرون إلا من قال به في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم وقيل: يا رسول الله أي أمتك شر؟ قال "الأغنياء وقال صلى الله عليه وسلم "سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ويركبون فره الخيل وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها ويلبسون أجمل الثياب وألوانها، لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفون على الدنيا يغدون ويروحون إليها، اتخذوها آلهة من دون إلههم ورباً دون ربهم، إلى أمرها ينتهون ولهواهم يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام وقال صلى الله عليه وسلم "دعوا الدنيا لأهلها، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر وقال صلى الله عليه وسلم "يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ وقال رجل: يا رسول الله مالي لا أحب الموت! فقال "هل معك من مال؟" قال: نعم يا رسول الله؛ قال "قدم مالك فإن قلب المؤمن مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه وقال صلى الله عليه وسلم "أخلاء بن آدم ثلاثة. واحد يتبعه إلى قبض روحه، والثاني إلى قبره، والثالث إلى محشرة. فالذي يتبعه إلى قبض روحه فهو ماله، والذي يتبعه إلى قبره فهو أهله، والذي يتبعه إلى محشره فهو عمله .

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك؟ فقال لهم؛ ما منزلة الدينار والدرهم عندكم؟ قالوا: حسنة، قال: لكنهما والمدر عندي سواء. وكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما: يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا مالاً تؤدي شكره، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في، ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور .

وكل ما أوردناه في كتاب الزهد والفقر في ذم الغنى ومدح الفقر يرجع جميعه إلى ذم المال، فلا نطول بتكريره، وكذا كل ما ذكرناه في ذم الدنيا فيتناول ذم المال بحكم العموم، لأن المال أعظم أركان الدنيا. وإنما نذكر الآن ما ورد في المال خاصة.

قال صلى الله عليه وسلم "إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف وقال صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا . الآثار: روي أن رجلاً نال من أبي الدرداء وأراه سوءاً فقال: اللهم من فعل بي سوءاً فأصح جسمه وأطل عمره وأكثر ماله. فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم وطول العمر؟ لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهماً على كفه ثم قال: أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني. وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينت بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا؟ قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب، قال: غفر الله له، ثم سلت ستراً كان لها فقطعته وجعلته صرراً وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها، ثم رفعت يديها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقاً به. وقال الحسن: والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله. وقيل: إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعها إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما وقال. من أحبكما فهو عبدي حقاً. وقال سميط بن عجلان: إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه، قيل: وما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال العلاء بن زياد: تمثلت لي الدنيا وعليها من كل زينة فقلت: أعوذ بالله من شرك فقالت: إن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدرهم والدينار. وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها، فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا وفي ذلك قيل:  

إني وجدت فلا تظنوا غيره

 

أن التورع عند هذا الدرهم

فإذا قدرت عليه ثم تركتـه

 

فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم

وفي ذلك قيل أيضاً:

لا يغرنك من الـمـر

 

قيمـص رقـعــه

أو إزار فوق عظم الس

 

اق مـنـه رفـعـه

أو جـبـين لاح فـيه

 

أثـر قـد خـلـعـه

أره الدرهم تـعـرف

 

حبـه أو ورعـــه

ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته فقال يا أمير المؤمنين صنعت صنيعاً لم يصنعه أحد قبلك، تركت ولدك ليس له درهم ولا دينار -وكان له ثلاثة عشر من الولد- فقال عمر: أقعدوني! فأقعدوه فقال: أما قولك لم أدع لهم ديناراً ولا درهماً فإني لم أمنعهم حقاً لهم ولم أعطهم حقاً لغيرهم! وإنما ولدي أحد رجلين: إما مطيع لله فالله كافيه والله يتولى الصالحين، وإما عاص لله فلا أبالي على ما وقع. وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالاً كثيراً فقيل له: لو ادخرته لولدك من بعدك؟ قال: لا ولكني أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي. ويروى أن رجلاً قال لأبي عبد ربه: يا أخي لا تذهب بشر وتترك أولادك بخير! فأخرج أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم. وقال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسئل عنه كله.

بيان مدح المال والجمع بينه وبين الذم

اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيراً في مواضع من كتابه العزيز فقل جل وعز "إن ترك خيراً" الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم المال الصالح للرجل الصالح وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به. وقال تعالى "ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك" وقال تعالى ممتناً على عباده "ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً" وقال صلى الله عليه وسلم "كاد الفقر أن يكون كفراً وهو ثناء على المال. ولا تقف على وجه الجمع بعد الذم والمدح إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وآفاته وغوائله؛ حتى ينكشف لك أنه خير من وجه وشر من وجه، وأنه محمود من حيث هو خير ومذموم من حيث هو شر، فإنه ليس بخير محض ولا شر محض، بل هو سبب للأمرين جميعاً وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة ويذم أخرى، ولكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم، وبيانه بالاستمداد مما ذكرناه في كتاب الشكر من بيان الخيرات وتفصيل درجات النعم، والقدر المقنع فيه هو أن مقصد الأكياس وأرباب البصائر سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم والملك والمقيم. والقصد إلى هذا دأب الكرام والأكياس، إذ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس وأكيسهم؟ فقال "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا وهي الفضائل النفسية، كالعلم وحسن الخلق، والفضائل البدنية: كالصحة والسلامة، والفضائل الخارجة عن البدن: كالمال وسائر الأسباب. وأعلاها النفسية، ثم البدنية، ثم الخارجة.

فالخارجة أخسها والمال من جملة الخارجات،وأدناها الدراهم والدنانير، فإنهما خادمان ولا خادم لهما، ومرادان لغيرهما. ولا يرادان لذاتهما؛ إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها، وأنها تخدم العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق لتحصلها صفة في ذاتها، والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس والأعضاء، والمطاعم والملابس تخدم البدن. وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن. ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والأخلاق. ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال ووجه شرفه، وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ملتفتاً إليها غير ناس لها فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له الغرض محموداً في حقه، فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل. فهو إذا محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم. فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد به الخبر.

ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله وكان المال مسهلاً لها وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبينا عليه الصالة والسلام "الله اجعل قوت آل محمد كفافاً فلم يطلب من الدنيا غلا ما يتمحض خيره وقال "الله أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين واستعاذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وعنى بها هذين الحجرين الذهب والفضة، إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة، إذ قد كفى قبل النبوة مع الصغر، وإنما معنى عبادتهما حبهما والاغترار بهما والركون إليهما قال نبينا صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتفش فبين أن محبهما عابد لهما ومن عبد حجراً فهو عابد صنم. بل كل من كان عبداً لغير الله فهو عابد صنم، أي قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم، وهو شرك إلا أن الشرك شركان: شرك خفي لا يوجب الخلود في النار وقلما ينفك عنه المؤمنون فإنه أخفى من دبيب النمل، وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع.

بيان تفصيل آفات المال وفوائده

اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده ترياقه، وغوائله سمومه. فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره. أما الفوائد: فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها. وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع.

النوع الأول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة. أما في العبادة: فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما. وأما فيما يقويه على العبادة: فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين، ومالا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية. ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة عن الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.

النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروءة، ووقاية العرض، وأجرة الاستخدام.

أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفئ غضب الرب تعالى، وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم.

وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ما يجري مجراها، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء. فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة، وهذا أيضاً مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها.

وأما وقاية العرض فنعني بها بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم، وهو أيضاً مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافأة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة.

وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاه بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما ر يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران.


النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق، وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات، وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية، وناهيك بها خيراً. فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء، والوقار والكرامة في القلوب، فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية.

وأما الآفات فدينية ودنيوية أما الدينية فثلاث.

الأول أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يجد. ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليها انبعث داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة؛ إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. الثانية أن يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أول الدرجات، فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كا يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه، فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض، فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة، لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه، فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم، فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً. ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة، وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح. وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه.

الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى، وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: في المال ثلاث آفات، أن يأخذه من غير حله، فقيل: إن أخذه من حله؟ فقال: يضعه في غير حقه، فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: يشغله إصلاحه عن الله تعالى. وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله، وذلك يستدعي قلباً فارغاً وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم. وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال. وكذلك صاحب المواشي. وهكذا سائر أصناف الأموال. وأبعدها عن كثرة الشغل: النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه. وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها، والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك. فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه، فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات. نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه إنه على ذلك قدير.

بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس

اعلم أن الفقر محمود -كما أوردناه في كتاب الفقر- ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إلى ما في أيديهم ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس والمسكن، ويقتصر على أقله قدراً وأخسه نوعاً، ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره، ولا يشغل قلبه بما بعد شهر. فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص، وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كان لبن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وعن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحىإليه أتيناه بعلمنا مما أوحى إليه، فجئته ذات يوم فقال "إن الله عز وجل يقول: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقال أبو موسى الأشعري: نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . وقال صلى الله عليه وسلم "منهومان لا يشعبان منهوم العلم ومنهوم المال وقال صلى الله عليه وسلم "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الأمل وحب المال" أو كما يقال .

ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة وغريزة مهلكه أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة فقال صلى الله عليه وسلم "طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به وقال صلى الله عليه وسلم "ما من أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أن كان أوتى قوتاً في الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال "أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة وروى أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال: أي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم مما أعطيته، قال: فأيهم أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه. وقال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف وكوز من ماء وعلى الدنيا الدمار" وقال أبو هريرة رضي الله عنه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن ورعاً، تكن أعبد الناس وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع فيما رواه أبو أبو أيوب الأنصاري: أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال" يا رسول الله عظني وأوجز فقال "إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس وقال عوف بن مالك الأشجعي: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -تسعة أو ثمانية أو سبعة- فقال "ألا تبايعون رسول الله" قلنا: أوليس قد بايعناك يا رسول الله؟ ثم قال "ألا تبايعون رسول الله" فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل منا: قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الخمس، وأن تسمعوا وتطيعوا" وأسر كلمة خفية "ولا تسألوا الناس شيئاً قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه.

الآثار: قال عمر رضي الله عنه: إن الطمع فقر وإن اليأس غنى وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك، وفي ذلك قيل:  

العيش ساعـات تـمـر

 

وخطـب أيام تـكـر

أقنع بعيشـك تـرضـه

 

واترك هواك تعيش حر

فلرب حتـف سـاقـه

 

ذهـب وياقـوت ودر

وكان محمد بن واسع يبل الخبز بالماء ويأكل ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد. وقال سفيان: خير دنياكم ما لم تبتلوا به وخير ما ابتليتم به ما خرج من أيديكم وقال ابن مسعود: ما من يوم إلا ومسلك ينادى؛ يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك. وقال سميط بن عجلان: إنما بطنك يا بن آدم شبر فلم يدخلك النار؟ وقيل لحكيم: ما مالك؟ قال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس. ويروى أن الله عز وجل قال: يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، وإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن. وقال ابن مسعود: إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيراً ولا يأتي الرجل فيقول: إنك وإنك فيقطع ظهره، فإنما يأتيه ما قسم له من الرزق أو ما رزق. وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم -يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه- فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى موالاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت. وقيل لبعض الحكماء: أي شيء أسر للعاقل وإيما شيء أعون على دفع الحزن؟ فقال: أسرها إليه ما قدم من صالح العمل، وأعونها له على دفع الحزن الرضا بمحتوم القضاء وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص إذ طمع، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط. وفي ذلك قيل:

آرفه ببال فتى أمسى على ثقة

 

أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه

 

والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتهـا

 

لم يلق في دهره شيئاً يؤرقه

وقد قيل أيضاً:

حتى متى أنـا فـي حـل وتـرحـال

 

وطـول سـعـي وإدبـار إقـبــال

ونازح الدار لا أنـفـك مـغـتـربـاً

 

عن الأحـبة لا يدرون مـا حـالــي

بمشرق الأرض طوراً ثم مغـربـهـا

 

لا يخطر الموت من حرصي على بالي

ولو قنعت أتانـي الـرزق فـي دعـه

 

إن القنوع الغنى لا كـثـرة الـمـال

وقال عمر رضي الله عنه: ألا أخبركم بما أستحل من مال الله تعالى: حلتان لشتائي وقيظي، وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي، وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم، فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا؟ كأنه شك في أن هذا القدر هل هو زيادة على الكفاية التي تجب القناعة بها؟ وعاتب أعرابي أخاه على الحرس فقال يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته وتطلب أنت ما قد كفيته، وكأن ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً. وفي ذلك قيل:  

أراك يزيدك الإثراء حرصاً

 

على الدنيا كأنك لا تمـوت

فهل لك غاية إن صرت يوماً

 

إليها قلت حسبي قد رضيت

وقال الشعبي: حكي أن رجلاً صاد قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك، قالت: والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما واحدة: فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية: فإذا صرت على الشجرة، وأما الثالثة: فإذا صرت على الجبل، قال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فخلاها فلما صارت على الشجرة قال: هات الثانية: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، ثم طارت فصارت على الجبل فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالاً، قال: فعض على شفته وتلهف وقال: هات الثالثة: قالت: أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك الثالثة؟ ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون، أنا لحمي ودمي وريش لا يكون عشرين مثقالاً فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالاً؟ ثم طارت فذهبت. وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون. وقال ابن السماك: إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك. وقال أبو محمد اليزيدي: دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب، فلما رآني ابتسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين؟ قال: نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما وقد أضفت إليهما ثالثاً. وأنشدني: 

إذا سد باب عنك من دون حاجة

 

فدعه لأخرى ينفتح لك بابـهـا

فإن قراب البطن يكفيك ملـؤه

 

ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

ولا تك مبذالاً لعرضك واجتنب

 

ركوب المعاصي يجتنبك عقابها

وقال عبد الله بن سلام لكعب: ما يذهب العلوم من قلوب العلماء إذ وعوها وعقلوها؟ قال: الطمع وشره النفس وطلب الحوائج. وقال رجل للفضيل: فسر لي قول كعب، قال: يطمع الرجل في الشيء يطلبه فيذهب عليه دينه، وأما الشره فشره النفس في هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء، ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له. فمن حبك للدنيا سلمت عليه إذا مررت به وعدته إذا مرض؛ لم تسلم عليه لله عز وجل ولم تعده لله، فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيراً لك. ثم قال: هذا خير لك من مائة حديث عن فلان عن فلان. قال بعض الحكماء: من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال. وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: من أين تأكل؟ قال: من بيدر اللطيف الخبير، الذي خلق الرحا يأتيها بالطحين -وأومأ بيده إلى رحل أضراسه- فسبحان القدير الخبير.

بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة

اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر والعلم والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: وهو العمل؛ الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق، فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه ويرد نفسه إلا ما لا بد له منه، فمن كثر خرجه واتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة، بل إن كان وحده فينبغي أن يقنع بثوب واحد خشن، ويقنع بأي طعام كان؛ ويقلل من الإدم ما أمكنه، ويوطن نفسه عليه وإن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر؛ فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد. ويمكن معه الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وهو الأصل في القناعة؛ ونعني به الرفق في الإنفاق وترك الخرق فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الرفق الأمر كله" وقال صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث منجيات؛ خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب وروي أن رجلاً أبصر أبا الدرداء يلتقط حباً من الأرض وهو يقول: إن من فقهك رفقك في معيشتك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم "الاقتصاد وحسن السمت والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة .

وفي الخبر "التدبير نصف المعيشة وقال صلى الله عليه وسلم "من اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن ذكر الله عز وجل أحبه الله وقال صلى الله عليه وسلم "إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً والتؤدة في الإنفاق من أهم الأمور.

الثاني: أنه إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، والتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق، بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى إذ قال عز وجل "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول: إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال، فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفاً من الفقر، ويضحك عليه في احتماله التعب نقداً مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل:  

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

 

مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر

 وقد دخلا ابنا خالد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما، "لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن مسعود وهو حزين فقال له "لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة ولا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن ثقته بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد، وأن ذلك يحصل لا محالة مع الإجمال في الطلب، بل ينبغي أن يعلم أن رزق الله للعبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" فإذا انسد عليه الباب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله، وقال صلى الله عليه وسلم "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب وقال سفيان: اتق الله فما رأيت تقياً محتاجاً. أي لا يترك التقى فاقداً لضرورته، بل يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه. وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي من أين معاشك؟ قال نذر الحاج، قلت: فإذا صدروا، فبكى وقال: لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش. وقال أبو حازم رضي الله عنه: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً منهما هو لي، فيما أعجله قبل وقته ولو طلبته بقوة السماوات والأرض. وشيئاً منهما هو لغيري فلذلك لم أنله فيما مضى فلا أرجوه فيما بقى، يمنع الذي لغيري مني كما يمنع الذي لي من غيري، ففي أي هذين أفني عمري؟ فهذا دواء من جهة المعرفة لا بد منه لدفع تخويف الشيطان. وإنذاره بالفقر.

الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل، فإذا تحقق عنده ذلك انبعث رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل. وليس في القناعة إلا ألم الصبر عن الشهوات والفضول. وهذا ألم لا يطلع عليه أحد إلا الله وفيه ثواب الآخرة. وذلك مما يضاف إليه نظر الناس وفيه الوبال والمأثم. ثم يفوته عز النفس والقدرة على متابعة الحق فإن من كثر طمعه وحرصه كثرت حاجته إلى الناس فلا يمكنه دعوتهم إلى الحق ويلزمه المداهنة، وذلك يهلك دينه ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم "عز المؤمن استغناؤه عن الناس ففي القناعة الحرية والعز. ولذلك قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره.

الرابع: أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى من الأكراد والأعراب الأجلاف ومن لا دين لهم ولا عقل. ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء وإلى سمت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم. ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الناس أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله، حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير، فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلاً منه وإن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه، وإن تزين في الملبس والحلي ففي اليهود من هو أعلى رتبة منه، وإن قنع بالقليل ورضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأنبياء والأولياء. الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر -كما ذكرنا في آفات المال- وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع؛ وما في خلو اليد من الأمن والفراغ، ويتأمل ما ذكرناه في آفات المال مع ما يفوته من المدافعة عن باب الجنة إلى خمسمائة عام، فإنه إذا لم يقنع مما يكفيه ألحق بزمرة الأغنياء وأخرج من جريدة الفقراء. ويتم ذلك بأن ينظر أبداً إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه، فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه فيقول: لم تفتر عن الطلب وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس؟ ويصرف نظره في الدين إلى من دونه فيقول: ولم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك وهو لا يخاف الله؟ والناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تتميز عنهم؟ قال أبو ذر: أوصاني خليلي صلوات الله عليه أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي أي في الدنيا. وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة. وعماد الأمر الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل للتمتع دهراً طويلاً، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء.