كتاب ذم البخل وذم حب المال - بيان فضيلة السخاء

بيان فضيلة السخاء

اعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجوداً فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام وهو أصل من أصول النجاة. وعنه عبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال "السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة وقال جابر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال جبريل عليه السلام. قال الله تعالى إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما استطعتما وفي رواية "فأكرموه بهما ما صحبتموه" وعن عائشة الصديقية رضي الله عنها قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على حسن الخلق والسخاء وعن جابر قال. قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال "الصبر والسماحة وقال عبد الله بن عمرو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل، فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس وروى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال "إن موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه ذلك الغصن حتى يدخله الجنة وقال أبو سعيد الخدري. قال النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي وعن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر وقال ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم "الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير وإن الله تعالى لباهى بمطعم الطعام الملائكة عليهم السلام وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويكرف سفسافها وقال أنس. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، وأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، فرجع قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة وقال ابن عمر: قال صلى الله عليهوآله وسلم "إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن يخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره وعن الهلالي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم "نزل علي جبريل فقال "اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله تعالى شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء وقال صلى الله عليه وسلم "من عظمن نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤنة عرض تلك النعمة للزوال. وقال عيسى عليه السلام: استكثروا من شيء لا تأكله النار، وقيل: وما هو؟ قال: المعروف. وقالت عائشة رضي الله عنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجنة دار الأسخياء وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار، وإن البخيل بعيد من الله من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل، وأدوأ الداء البخل وقال صلى الله عليه وسلم "اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله، فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للمسلمين وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز  وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى البلدة الجدية فيحييها ويحيي به أهلها وقال صلى الله عليه وسلم "كل معروق صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها وقال صلى الله عليه وسلم "كل معروف فعلته إلى غني أو فقير صدقة وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري فإنه سخي وقال جابر: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب فحدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم "إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت . الآثار: قال علي كرم الله وجهه: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد: 

لا تبخلن بدنيا وهي مـقـبـلة

 

فليس ينقصها التبذير والسرف

وإن تولت فأحرى أن تجود بها

 

فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة والنجدة والكرم فقال: أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحذره نفسه وحسن قيامه بضيفه وحسن المنازعة والأقدام في الكراهية. وأما النجد فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم فالتبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل. ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال حاجتك مقضية فقيل له يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته. وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وسئل بعض الأعراب من سيدكم فقال من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخياً وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاماً. وقيل للحسن البصري ما السخاء؟ فقال أن تجود بمالك في الله عز وجل. قيل فما الحزم؟ قال أن تمنع مالك فيه قيل فما الإسراف؟ قال الإنفاق لحب الرياسة. وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول: إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة. وقال حذيفة رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته. وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلاً في يده درهم فقال لمن هذا الدرهم فقال لي فقال أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك وفي معناه قيل:  

أنت للمال إذا أمسكته

 

فإذا أنفقته فالمال لك

وسمي واصل بن عطاء: الغزال، لأنه كان يجلس إلى الغزلين؛ فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئاً. وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه خير المال ما وقي به العرض. وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء؟ قال السخاء البر بالإخوان والجود بالمال. قال وورث أبي خمسين ألف درهم فبعث بها صرراً إلى إخوانه. وقال قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي أفأبخل عليهم بالمال؟ وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود. وقيل لبعض الحكماء من أحب الناس إليك؟ قال: من كثرت أياديه عندي، قيل: فإن لم يكن، قال من كثرت أيادي عنده. وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروف عنده فيده عندي مثل يدي عنده. وقال المهدي لشبيب بن شبة كيف رأيت الناس في داري؟ فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل منهم ليدخل راجياً ويخرج راضياً وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال:  

إن الصنيعة لا تكون صـنـيعة

 

حتى يصاب بها طريق المصنع

فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها

 

لله أو لـذوي الـقـرابة أو دع

فقال عبد الله بن جعفر إن هذين البيتين ليبخلان الناس، ولكن أمطر المعروف مطراً، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً.

حكايات الأسخياء

عن محمد بن المنكدر عن أم درة -وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها- قالت إن معاوية بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت يا جارية هلم فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة. ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت.

وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملئوا عليه الدار، فقال ما هذا؟ فأخبر الخبر، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة، وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا، وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم؟ قالوا: نعم، قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم.

وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه، فلما خرج معاوية، قال الحسن إن علينا ديناً فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه، فمروا عليه ببخي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه، فقال معاوية ما هذا؟

فذكر له، فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد.

وعن واقد بن محمد الواقدي قال حدثن يأبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه، فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان، السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك، وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك. وأنت حدثتني وكنت على قضاء الرشيد؛ عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام "يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له وأنت أعلم قال الواقدي: فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلى من الجائزة وهي مائة ألف درهم. وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة فقال له: يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما بحب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاه لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت، فقال: يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية، وأعذر علي المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال أحضرها، فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحملين، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم! فقال: أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.

واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة فقالوا: لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقاً فأخرت من ست بدر فقال: احملوا، فحملوا فقال: ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه، وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا.

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال: والله لأعلمن الشيطان أني عدوه؛ فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم، فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته.

وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل. بحق عليبن أبي طالب لما وهب لي نخلتك بموضع كذا وكذا، فقال: قد فعلت، وحقه لأعطينك ما يليها، وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل.

وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر: والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني، فإن أهلي لا يتركوني محبوساً، ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس.

وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل الأمير البستان أعلمه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس المال فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها:

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي

 

فما لي إلى معن سواك شفيع

فقال: من صاحب هذه؟ فدعي بالرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقال له، فأمر له بعشر بدر، فأخذها ووضع الأمير الخشية تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم، فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج، فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار. وقال أبو الحسن المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك ثم قالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا، إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون، فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال: ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين نفر من قريش؟ قال: ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمه، فمرت العجوز ببعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها: يا أمة الله أتعرفيني؟ قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا، فقالت العجوز: بأبي أنت وأمي أنت هو؟ قال: نعم. ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي؟ قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين؟ قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها: لو بدأت بي لأتعبتهما، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار.

وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ قال: صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه، فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك.

وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة، فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد؛ فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له: هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي؟ وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به، ولهذا الرجل بعير سمين، فقال له في النوم: نعم، فباعه في النوم بعيره بنجيبه، فملا وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم، فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره، فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب، فقال رجل منهم: من فلان بن فلان منكم؟ -باسم ذلك الرجل- فقال: أنا، فقال له هل بعث من فلان بن فلان شيئاً؟ وذكر الميت صاحب القبر، قال: نعم بعث بعيري بنجيبه في النوم، فقال: خذ هذا نجيبه، ثم قال: هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول: إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه.

وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض، فقال: يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم، فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف، فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك؟ قال: لا، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.

واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا يبكون لدارهم، فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً. وقيل بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار، فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي؟ فقال يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار؛ فاستحييت أن أعطى مثل أقل من دخل يوم. وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار. وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل، فأمر لها بزق من عسل، فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا؟ فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا. وكان الليث ابن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكيناً.

وقال الأعمش: اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها؟ وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها؟ وكان تحت لبد أجلس عليه فإذا خرج قال: خذ ما تحت اللبد، حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.

وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة: بلغني عنك خصال فحدثني لها، فقال: هي من غيري أحسن منها مني، فقال: عزمت عليك إلا حدثتني بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاماً قد فدعوت عليه قوماً إلا كانوا أمن علي مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئاً فاستكثرت شيئاً أعطيته إياه.

ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلاً جواداً فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن سأله صكاً على نفسه حتى يخرج عطاؤه، فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت فقال:  

إني سمعت مع الصباح منـاديا

 

يا من يعين على الفتى المعوان

ثم قال: ما حاجتك؟ قال: ديني، قال: وكم هو؟ قال: ثلاثون ألف درهم، قال: لك دينك ومثله.

وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل لهم: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزي الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده.

وعن أبي إسحاق قال: صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي، فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان، فقلت: لست أهل هذا المسجد، فقالوا: إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين.

وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله: سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول، سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً، فولد لبعضهم مولود قال: فجئت إليه وقلت له: ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء، فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال: رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء، قال: ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه، وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء، قال: فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال: فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال: سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب، ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون يخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له: اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه، فقال: هذا مالكم وليس لرؤياي حكم، فقالوا: هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء؟ فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى رجل صاحب المولود وذكر له القصة، قال: فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء، فقال أبو سعيد: فلا أدري أي هؤلاء أسخى؟ وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال: مروا فلاناً يغسلني، فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال: ائتوني بتذكرته، فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين، فكتبها على نفسه وقضاها عنه، وقال هذا غسلي إياه؛ أي أراد به هذا. وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم مستدلاً بقوله تعالى "وكان أبوهما صالحاً" وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره، فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره فقال الله والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها، وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه:  

يا لهف قلب على مال أجـود بـه

 

على المقلين من أهل المـروءات

إن اعتذاري إلى من جاء يسألـنـي

 

ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

وعن الربيع بن سليمان قال أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله فقال يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني وقال الربيع سمعت الحميدي يقول قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عنده شيء. وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته، فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك، قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال، فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها بمعرفتي بأصلها وقد وقفف أكثرها، ولكني بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إلى حجوا أن ينزلوا فيه. وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول:  

أرى نفسي تتوق إلى أمور

 

يقصر دون مبلغهن مالي

فنفسي لا تطاوعني ببخـل

 

ومالي لا يبلغني فعالـي

وقال محمد بن عباد المهبلي: دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال: يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فوصله بمائة ألف أخرى.

وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى، فقال له سعيد: ما يبكيك! قال: أبكي على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى.

ودخل أبو تمام على إبراهيم بن شكلة بأبيات امتدحه بها فوجده عليلاً فقبل منه المدحة وأمر حاجبه بنيله ما يصلحه، وقال: عسى أن أقوم من رضي فأكافئه، فأقام شهرين فوحشه طول المقام فكتب إليه يقول:  

إن حـرامـاً قـبـول مدحتــنـا

 

وترك ما نـرتجـي من الـصـفـد

كما الدراهم والدنانير في البيع حرام إلا يدا بيد

 

 

فلما وصل البيتان إلى إبراهيم قال لحاجبه. كم أقام بالباب؟ قال: شهرين، قال: أعطه ثلاثين ألفاً وجئني بدواة، فكتب إليه:

أعجبتنا فأتاك عاجل برنـا

 

قلا ولو أمهلتنا لم نقـلـل

فخذ القلي وكن كأنك لم تقل

 

ونقول ونحن كأننا لم نفعل

وروي أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة. قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك؟ فقال اجتمع عندي مال وقد غمني، فقلت وما يغمك ادع قومك؟ فقال يا غلام علي بقومي، فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان؟ قال: أربعمائة ألف. وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها، وإن شئت فعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال: الثمن، فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن.

وقيل بكى علي كرم الله وجهه يوماً فقيل: ما يبكيك؟ فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، أخاف أن يكون الله قد أهانيي. وأتى رجل صديقاً له فدفق عليه الباب فقال، ما جاء بك؟ قال علي أربعمائة درهم دين، فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي، فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك؟ فقال إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتيحي. فرحم الله من هذه صفاتهم وغر لهم أجمعين.

بيان ذم البخل

قال الله تعالى "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وقال تعالى "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" وقال تعالى "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وقال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن لا سيئ الملكة وفي رواية "ولا جبار" وفي رواية "ولا منان" وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث مهلكات؛ شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يبغض ثلاثة: الشيخ الزاني، والبخيل المنان، والمعيل المختال وقال صلى الله عليه وسلم "مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا قلصت ولزمت كل حلقه مكانه حتى أخذت بتراقيه فهو يوسعها ولا تتسع وقال صلى الله عليه وسلم "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى ارذل العمر وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحشين، وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وقال صلى الله عليه وسلم "شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وقتل شهيد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكته باكية فقالت: واشهيداه! فقال صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه وقال جبير بن مطعم: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلة من خيبر إذا علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف صلى الله عليه وسلم فقال "أعطوني ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد هذه العصاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً وقال عمر رضي الله عنه: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقلت غير هؤلاء كان أحق به منهم؟ فقال "إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل وقال أبو سعيد الخدري: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه ثمن بعير فأعطاهما دينارين؛ فخرجا من عنده فلقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأثنيا وقالا معروفاً وشكراً ما صنع بهما، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالا. فقال صلى الله عليه وسلم "لكن فلان أعطيته ما بين عشرة إلى مائة ولم يقل ذلك إن أحدكم ليسألني فينطلق في مسألته متأبطها وهي نار؛ فقال عمر فلم تعطهم ما هو نار؛ فقال "يأبون إلا أن يسألون ويأبى الله لي البخل وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله لكم ألا إن الله عز وجل خلق الجود فجعله في صورة رجل وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة طوبى، وشد أغصانها بأغصان سدرة المنتهى، ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا، فمن تعلق بغضن منه أدخله الجنة، ألا إن السخاء من الإيمان، والإيمان في الجنة. وخلق البخل من مقته وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله النار، ألا إن البخل من الكفر والكفر في النار وقال صلى الله عليه وسلم "السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي، والبخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد بني لحيان "من سيدكم يا بني لحيان؟" قالوا: سيدنا جد بن قيس إلا أنه رجل فيه بخل، فقال صلى الله عليه وسلم "وأي داء أدوأ من البخل ولكن سيدكم عمرو بن الجموح وفي رواية أنهم قالوا: سيدنا جد بن قيس، فقال "بما تسودونه؟" قالوا: إنه أكثر مالاً وأنا على ذلك لنرى منه البخل، فقال عليه  السلام "وأي داء أدوأ من البخل ليس ذلك سيدكم" قالوا" فمن سيدنا يا رسول الله؟ قال "سيدكم بشر بن البراء" وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يبغض البخيل في حياته السخي عند موته وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل وقال أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم "الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد وقال أيضاً "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً وقال صلى الله عليه وسلم "يقول قائلكم الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح، حلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي فقال صلى الله عليه وسلم "وما ذنبك صفه لي؟" فقال: هو أعظم من أن أصفه لك! فقال "ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟" فقال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال: "فذنبك أعظم أم الجبال؟" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم البحار؟" قال" بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم السموات؟" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم العرش؟" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم الله؟" قال: بل الله أعظم وأعلى، قال "ويحك فصف لي ذنبك" قال: يا رسول الله إني رجل ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من نار، فقال صلى الله عليه وسلم "إليك عني لا تحرقني بنارك فو الذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم صلت ألفي ألف عام ثم بكيت حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقى بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار، ويحك! أما علمت أن البخل كفر وأن الكفر في النار، ويحك! أما علم أن الله تعالى يقول "ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه... ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" . الآثار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت، ثم قال لها: أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التنسيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنها العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمى فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلاً. وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أف للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته. وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاً لكننا نتبصر. وقال محمد بن المنكدر: كان يقال إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم. وقال علي كرم الله وجهه في خطبته: إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما فيده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى "ولا تنسوا الفضل بينكم" وقال عبد الله بن عمرو: الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويحش بما في يده فيحبسه، والبخيل هو الذي يبخل بما في يده. وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غوراً في نار جهنم البخل أو الكذب؟ وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفى سخياً وعند الغضب وقوراً وفي القول متأنياً وفي الرفعة متواضعاً وعلى كل ذي رحم مشفقاً. وقام الرومي فقال: من كان بخيلاً ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه. وقال الضحاك في قوله تعالى "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" قال: البخل، أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى. وقال كعب: ما من صباح إلى وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفاً وعجل لمنفق خلفاً. وقال الأصمعي سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه. وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلاً لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة. وقال علي كرم الله وجهه والله ما استقصى كريم قط حقه. قال الله تعالى "عرف بعضه وأعرض عن بعض" وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلث ذم البخلاء، وأكل القديد، وحك الجرب. وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنك إذاً لبخيل" ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا صوامة قوامة إلا أنها فيها بخلاً قال "فما خيرها إذاً وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين. وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً، وللبخلاء إلا بعض ولو كانوا أبراراً. وقال ابن المغتر: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه، ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام. إبليس في صورته فقال له: يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي، قال له: لم؟ قال: لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك.

حكايات البخلاء

قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة بببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال: لا بأس عليك، تقيأ ما أكلت، فقال: هاه! أتقيأ طباهجة ببيض!؟ الموت ولا ذلك. وقيل: أقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس الأعرابي فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، فقرأ "...والزيتور وطور سينين" فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك. ودعا بعضهم أخاً له ولم يطعمه شيئاً، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود وقال له: بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك؟ قال: صوت المقلى. ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل: صف لي مائدته فقال: هي فتر في فتر، وصحافه منقورة من حب الخشخاش، قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون! قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب، فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق، قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخطيه بها، ولو ملك محمد بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم غليه فإذا قرم غليه أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقيل له. نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك؟ قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، إن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك، وآكل منه ألواناً، عينه لوناً، وأذنه لوناً، ولسانه لوناً، وغلصمته لوناً، ودماغه لوناً، وأكفي مؤونة طبخه؛ فقد اجتمعت لي فيه مرافق. وخرج يوماً يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهماً! فأعطي ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانق. واشترى مرة لحماً بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق! وقال: أكره الإسراف. وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت فأكلت كسرة وملحاً! فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال: سر بنا، فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحاً، فجاء سائل فقال له رب المنزل: بورك فيك، فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك، فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا! قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك! فلا والله ما رأيت أحداً أصدق مواعيد منه! هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما!.

بيان الإيثار وفضله

اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات. فأرفع درجة السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة. وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشد. وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن؛ ولو وجدها مجاناً لأكلها. فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة؛ وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه. فانظر ما بين الرجلين؟ فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء. وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا ونزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل، حتى أكل الضيف، فلما اصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد عجب الله من صنيعكم الله إلى ضيفكم" ونزلت "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى؛ والإيثار أعلى درجات السخاء. وكان ذلك من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سماه الله تعالى عظيماً فقال تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" وقلا سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام، يا رب أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وسلم وأمته! فقال يا موسى إنك لن تطيق ذلك، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى، فقال: يا رب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار، يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء: وقيل خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال ما رأيت! قال فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أشبع وهو جائع! قال فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه. وقال عمر رضي الله عنه: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول. وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما الحياة وأحباها؛ فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهطبا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهى بك الملائكة! فأنزل الله تعالى "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد" وعن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً -وكانوا في قرية بقرب الري- ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم "فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه. وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء؛ فنزع خشبة  من سقف بيته فأعطاه ثم اعتذر غليه: وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول: آه.. فأشار ابن عمي إلى أن أنطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه... فأشار هشام انطق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين. وقال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلى بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوباً فمات فيه. وعن بعض الصوفية قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا. فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً، فجاء إلى تكل الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد، فقام ذلك الكلب وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف.

وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل.

بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما

لعلك تقول: قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات، ولكن ما حد البخل وبماذا يصير الإنسان بخيلاً؟ وما من إنسان وهو يرى نفسه سخياً وربما يراه غيره بخيلاً، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس فيقول قوم: هذا بخل ويقول آخرون ليس هذا من البخل. وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حباً للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلاً فإذا لا ينفك أحد عن البخل. وإذا كان الإمساك مطلقاً لا يوجب البخل، ولا معنى للبخل إلا الإمساك فما البخل الذي يوجب الهلاك؟ وما حد السخاء الذي يستحق به البعد صفة السخاوة وثوابها؟ فنقول: قد قال قائلون حد البخل منه الواجب، فكل من أدى مايجب عليه فليس ببخيل، وهذا غير كاف؛ فإن من يرد اللحم مثلاً إلى القصاب والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلاً بالاتفاق. وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلاً. ومن كان بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلاً. وقال قائلون البخيل هو الذي يستصعب العطية، وهو أيضاً قاصر، فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة وما يقرب منها، ويستصعب ما فوق ذلك؟ وإن أريد به أن يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا؟ وهو ما يستغرق جميع ماله أو المال العظيم. فهذا لا يوجب الحكم بالبخل. وكذلك تكلموا في الجود، فقيل الجور عطاء بلا منن وإسعاف من غير روية. وقيل: الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل. وقيل: الجود السرور بالسائل والفرح بالعطاء لما أمكن. وقيل: الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى والعبد لله عز وجل فيعطى عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر. وقيل: من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار، ومن لم يبذل شيئاً فهو صاحب بخل.

وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل، بل نقول: المال خلق لحكمة ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه، ويمكن التصرف فيه بالعدل، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل. فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير. وبينهما وسط وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه؛ إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء، وقد قيل له "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وقال تعالى "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين البسط والقبض، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيباً به غير منازع له فيه. فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يصابرها فهو متسخ وليس بسخي، بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه.

فإن قلت: فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله؟ فأقول: إن الواجب قسمان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة والعادة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحداً منهما فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة، أو يؤديها ولكنه يشق عليه، فإنه بخيل بالطبع، وإنما يتسخى بالتكلف، أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه، فهذا كله بخل. وأما واجب المروءة فهو ترك المضايقة والاستقصاء، فإن ذلك مستقبح، واستقباح ذلك يخلف بالأحوال والأشخاص. فمن كثر ماله استقبح منه مالا يستقبح مع العبد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة، فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب، إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة. وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي. وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير. فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة، وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره. ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال، فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال، فمانع الزكاة والنفقة بخيل. وصيانة المروءة أهم من حفظ المال، والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل. ثم تبقى درجة أخرى، وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين، فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة، وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق، وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً، وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال: قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها. ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقداره ما له، وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه. فمن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل. نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات، فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير. ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود، ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد، فإنه يشتري المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه، والجود هو بذل الشيء من غير عوض. هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى، أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض، ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة أو اكتساب فضيلة الجود وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جواداً، فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلاً أو من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه فكل ذلك ليس من الجود، لأنه مضطر إليه بهذه البواعث، وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد، كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حيان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت: هل فيكم من أسأله عن مسألة؟ فقالوا لها: سلي عما شئت -وأشاروا إلى حيان بن هلال- فقالت: ما السخاء عندكم؟ قالوا: العطاء والبذل والإيثار، قالت: هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين؟ قالوا: أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة، قالت: فتريدون على ذلك أجراً؟ قالوا: نعم، قالت ولم؟ قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثاله، قالت سبحان الله! فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه؟ قالوا لها فما السخاء عندك يرحمك الله؟ قالت السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته غير كارهين ولا تريدون على ذلك أجراً حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء! ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئاً بشيء؟ إن هذا في الدنيا لقبيح! وقالت بعض المتعبدات أتحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط؟ قيل ففيم؟ قالت السخاء عندي في المهج. وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخو بنفسك تتلفها لله عز وجل ويسخو قلبك ببذل مهجبتك وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه، ولا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً، وإن كنت غير مستغن عن الثواب ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله، حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك.