كتاب ذم الجاه والرياء - الشطر الثاني من الكتاب: في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات

الشطر الثاني من الكتاب

في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات

وهو الرياء: وفيه بيان ذم الرياء، وبيان حقيقة الرياء وما يرائى، وبيان درجات الرياء؛ وبيان الرياء الخفي؛ وبيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط؛ وبيان دواء الرياء وعلاجه؛ وبيان الرخصة في إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب؛ وبيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء والآفات، وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق؛ وبيان ما يجب على المريد أن يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها. وهي عشرة فصول وبالله التوفيق.

بيان ذم الرياء

اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار.

أما الآيات: فقوله تعالى "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون" وقوله عز وجل "والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور" قال مجاهد هم أهل الرياء. وقال تعالى "إنما نعطمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" فمدح المخلصين ينفي كل إرادة سوى وجه الله، والرياء ضده وقال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله. وأما الأخبار: فقد قال صلى الله عليه وسلم حيث سأله رجل فقال: يا رسول الله فيم النجاة؟ فقال "أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس" وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة -المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله، كما أوردناه في كتاب الإخلاص-: وإن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع، كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به وفي حديث آخر طويل "إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين وقال صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ "قال الرياء" يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا عل تجدون عندهم الجزاء وقال صلى الله عليه وسلم "استعيذوا بالله عز وجل من جب الحزن، قيل وما هو يا رسول الله؟ قال "واد جهنم أعد للقراء المرائين وقال صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل: من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك وقال عيسى المسيح صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله عز وجل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن أدنى الرياء شرك وقال صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية وهي أيضاً ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال صلى الله عليه وسلم "إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله ولذلك ورد "أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفاً وقال صلى الله عليه وسلم "إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له وقال شداد بن أوس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله؟ قال "إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم وقال صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتاداً للأرض. فقالت الملائكة: ما خلق ربنا خلقاً هو أشد من الجبال" فخلق الله الحديد فقطع الجبال، ثم خلق النار فأذابت الحديد، ثم أمر الله الماء بإطفاء النار، وأمر الريح فكدرت الماء، فاختلفت الملائكة فقالت: نسأل الله تعالى، قالوا: يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك؟ قال الله تعالى لم أخلق خلقاً هو أشد على من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقاً خلقه وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال لي "يا معاذ" قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال "إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها قد جللها عظماً فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري" قال "ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع  عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة يعمل يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري له دوى من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها:قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به ظهره وبطنه، أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب في عمله" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى تجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة يحسدهم ويقع فيها أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد رفعة عن الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم لله خالصاً فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله" قال "فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلهم: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السماوات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا وتلعنه السماوات السبع والأرض ومن فيهن" قال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال "اقتد بي وإن كان في عملك نقص، يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلاً وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى "والناشاطات نشطاً" أتدري من هن يا معاذ"؟ قلت: ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال "كلاب في النار تنشط اللحم والعظم" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها؟ قال "يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث. وأما الآثار: فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته فقال: يا صاحب الرقبة ارفع ركبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو أمامة البلقلي رجلاً في المسجد يبكي في سجوده فقال: أنت أنت لو كان هذا في بيتك. وقال علي كرم الله وجهه: للمرائي ثلاث علامات؛ يكسل إذا كان وحده وينشط إلى كان في الناس يزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم. وقال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس، قال: لا شيء لك، فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول: لا شيء لك، ثم قال في الثالثة: إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك... الحديث. وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إن أحدثنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر، فقال له: أتحب أن تمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه. وقال الضحاك: لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم، فإن الله تعالى لا شريك له. وضرب عمر رجلاً بالدرة ثم قال له: اقتص مني! فقال: لا بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعت شيئاً إما أن تدعها لي فأعر فذلك أو تدعها لله وحده، فقال: ودعتها لله وحده، فقال: فنعم إذن. وقال الحسن: لقد صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال: إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا. وقال الفضيل بن عياض: كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. وقال عكرمة: إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها. وقال الحسن رضي الله: المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو رجل صالح، وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء؟ فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه. وقال قتادة: إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي. وقال مالك بن دينار الفراء: ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك، وأن محمد بن واسع من قراء الرحمن. وقال الفضل: من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي. وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين. وقال أبو سليمان: التوقي عن العمل أشد من العمل. وقال ابن المبارك: إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان، فقيل له وكيف ذاك؟ قال يحب أن لا يذكر أنه مجاور بمكة. وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أراد أن يشتهر.

بيان حقيقة الرياء وما يراءى به

اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإبراءهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمرائي به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك، والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهو: البدن، والزي والقول، والعمل والأتباع والأشياء الخارجة. وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة غلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات. "القسم الأول" الرياء في الدين بالبدن: وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين، وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر. وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم، فلذلك تدعوه النفس إلا إظهارها لنيل تلك الراحة. ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته. وعن هذا قال المسيح عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه. وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء؛ ولذلك قال ابن مسعود أصبحوا صياماً مدهنين. فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن.

فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها.

"الثاني" الرياء بالهيئة والزي: أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً، كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين، ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن. ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق، ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة. ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم.

والمراءون بالزي على طبقات: فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاة بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا، ولو كلب أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذبح، وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريق ورغب في الدنيا: وطبقة أخرى يطلبون القبول عن أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار، ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها، ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون القبول عند الفريقين، وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم الذبح خوفاً من السقوط من أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبسوا الديبقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم -وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم- لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا. وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليهم الانتقال إلى ما دونه وإن كان مباحاً خيفة من المذمة.

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة، وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة. "الثالث" الرياء بالقول: ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار، لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن، وادعاء حفظ لحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه، والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين. والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر.

وأما أخل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمال القلوب.

"الرابع" الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين، وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام، وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام، حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا طلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته، فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضر ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له، بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء، ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه، فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً، فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه.

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإدارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة.

"الخامس" المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه، أو ملكاً من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين. وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومباهاته ومراءاته تترشح منه عند مخاصمته، فيقول لغيره: من لقيت من الشيوخ وأنا قد لقيت فلاناً وفلاناً ودرت البلاد وخدمت الشيوخ؟ وما يجري مجراه. فهذه مجامع ما يرائي به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد. ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة؟ وكم من عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة، وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته، بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم، مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه -فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه- فإنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال، ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد. ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جاه عند العامة، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام، وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها. فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء. فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل؟ فأقول فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه، وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات، فإن كان بغير العبادات فهو طلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضاً محمود، وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال "إني حفيظ عليم" وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه، وكما أن كثير المال يلهي ويطغى وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضاً تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز. نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها، وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين، ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم، فعلى هذا نقول: تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا، وقس على هذا كل تجمل للناس وتزين لهم. والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت: أو تفعل ذلك يا رسول الله؟ قال "نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط من أعينهم لو يرغبوا في اتباعه، فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر، فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمراً مباحاً، إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان. ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم.

فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة، وقد تكون طاعة، وقد تكون مذمومة، وذلك بحسب الغرض المطلوب بها. ولذلك نقول: الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله.

أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان إحداهما: أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر، وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس بقصد العبادة، لا يقتصر، على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات.
والمعنى فيه أمران "أحدهما" يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك، والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضاً، حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر. "والثاني" يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله. ولذلك قال قتادة: إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي.

 ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه، فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبداً من عبيده، فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضراً ولا نفعاً؟ وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله؟ وأنه أولى بالتقريب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته؟ وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى؟ فهذا من كبائر المهلكات ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر .

نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض -كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى- ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية، فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله، ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياً، إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس، فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه، ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك، إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله، فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً، وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى، فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم، ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه، فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا؟ فكيف في يوم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي؟ فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس؟ فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص. وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص، ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت. إنه لا أجر له فيه أصلاً.

بيان درجات الرياء

اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض، واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه. وأركانه ثلاثة: المرائي به والمرائي لأجله ونفس قصد الرياء.

الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلوا إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً: "الأولى" وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عن الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو لا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.

"الثانية" أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل، فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.

"الثالثة" أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل؛ فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم، وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص.

"الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الريا وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قوله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك" فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.

الركن الثاني: المرائي به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.

القسم الأول وهو الأغلظ: الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات.

"الأولى" الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها" الآية وقال تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" وقال تعالى "يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك" والآيات فيهم كثيرة. وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض، وذلك مما يقل في زماننا، ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطناً فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلاً إلى قول الملحدة، أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلاً إلى أهل الإباحة، أو يعتقد كفراً أو بدعة وهو يظهر خلافه، فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار، وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين، فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.

"الثانية" الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير. ومثاله: أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجه، أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة، وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهى خلوة من الخلق ليفطر، وكذلك يحضر الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها، أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة ولكن خوفاً من الناس، أو يغزو أو يحج كذلك. فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه، ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل، ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب من منزلته عند الخالق، وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، ورغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله، وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد.

"الثالثة" لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تكرها لا يعصى، ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت، وكالتجهد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس. فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفاً من المذمة أو طلب للمحمدة، ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض. فهذا أيضاً عظيم ولكنه دون ما قبله، فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا أيضاً قد فعل ذلك واتق ذم الخلق دون ذم الخالق، فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله، وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقاباً على ترك النافلة لو تركها، وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه. فهذا هو الرياء بأصول العبادات.

القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهو أيضاً على ثلاثة درجات. الأولى" أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة، كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين، وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل؛ أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة، فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة، ومن جلس بين يدي إنسان متربعاً أو متكئاً فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديماً للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة، وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة. وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفاً من مذمته، وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالاً لعبادة الصوم خوفاً من المذمة، فهذا أيضاً من الرياء المحظور لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.

إن قال المرائي: إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة، فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود والكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة، وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية؟ فيقال له: هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس، وليس الأمر كذلك، فإنضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك، فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر، وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلاً وولاية يتقلدها، فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده، وإذا كان عند بعض غلمانه امتنع خوفاً من مذمة غلمانه، وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر.

نعم للمرائي فيه حالتان: إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعاً. والثانية: أن يقول ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع والسجود، ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم، فأستفيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو الله عليه ثواباً، فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفون الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر. والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق.

"الدرجة الثانية" أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة على السور المعتادة، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة. وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدر عليه.

"الثالثة" أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه. وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة؟ فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض. والكل مذموم.

الركن الثالث: المرائي لأجله، فإن للمرائي مقصوداً لا محالة، وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وله أيضاً ثلاث درجات:  "الأولى" وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية، كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصدة الفاسدة في المعاصي. وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان، أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام. وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصية واتخذوها آلة ومتجراً وبضاعة لهم في فسقهم، ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى.

"الثانية" أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة، كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة، وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته. فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه. "الثالثة" أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار، وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن يظهر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن، ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه، والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك، وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير، وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئاً من ذلك، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم، فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله، أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأن صائم ولكن يقول: لي عذر، وهو جمع بين خبيثين، فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته، ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم، أو يقول أفطرت تطييباً لقلب فلان، ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء، ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا؛ مثل أن يقول: إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بداً من تطييب قلبه. ومثل أن يقول: إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلى لرسوخ عرق الرياء في الباطن. أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه؟ فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبساً، وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه عنده، وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور - وسيأتي شرح ذلك وشروطه -.

فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر، يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.

بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل

اعلم أن الرياء جلي وخفي، فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه، وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده، إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضاً ولكنه مع ذلك مستطبن في القلب، ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يكن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك، ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهره سروره عند اطلاع الناس، فلقد كان الرياء مستكناً في القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور، ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتاً وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية، فيتقاضى تقاضياً خفياً أن يتكلف سبباً يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح، وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل، كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد، وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه، ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون. وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة، ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج. وفي الحديث "لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم" وقال عبد الله بن المبارك. روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلاً من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس، فقال السائح ما هذا؟ قيل هذا الملك قد أظللك، فقال للغلام ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً فقال المالك أين صاحبكم؟ فقالوا هذا، قال كيف أنت؟ قال كالناس، وفي حديث آخر: بخير، فقال الملك ما عند هذا من خير! فانصرف عنه، فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام. فلم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي مجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلص، إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزى والد عن ولده، ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد. نفسي نفسي! فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والبهرج، والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجى إلا الخالص من النقد، فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى. فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا، اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا، فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين، فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفضيل.

فإن قلت: فما نرى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم؟ فنقول: أولاً، كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم.

فأما المحمود فأربعة أقسام "الأول" أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره إليه وإلطافه به، فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة، ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل، فيكون فرحه بجميل نظر الله لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به.

"الثاني" أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليهفي الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلى ستره عليه في الآخرة فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل، وهذا التفات إلى المستقبل.

"الثالث" أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره، فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولاً، ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن يقنص من أجورهم شيء، وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة. "الرابع" أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع وبميل قلوبهم إلى الطاعة؛ إذاً من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه، فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله. وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهم إياه.

وأما المذموم وهو الخامس: فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجة ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه والله تعالى أعلم.

بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط

فنقول فيه: إذا عقد العباد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ، فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل، إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالماً عن الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره وبإظهار الله، ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه. نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به وأظهره فهذا مخوف.

وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلاً يقول قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظه منها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: صمت الدهر يا رسول الله. فقال له "ما صمت ولا أفطرت فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر. وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ابن مسعود استدلالاً على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه التحدث به، إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلاً لثواب العمل بل الأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها، بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاة ويحبط العمل. وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلاً وكان قد عقد على الإخلاص ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء، فلا يخلوا إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل وإما ان يكون رياء باعثاً على العمل، فإن كان باعثاً على العمل وختم العبادة به حبط أجره. ومثاله: أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة، أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليه، أو يذكر شيئاً نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه، ولولا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفاً من مذمة الناس، فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال صلى الله عليه وسلم "العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أي النظر إلى خاتمته. وروي "أن من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله وهذا منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من ذلك مفرد، فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي، والصوم والحج من قبيل الصلاة. وأما إذا كان وارد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضاً، فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثاً على الحركات، فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة مغموراً. فهذا أيضاً ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه، لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها أو يغمرها، ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظراً إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه. ولقد ذهب الحارق المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال: إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس - يعني سروراً هو كحب المنزلة والجاه - قال؛ قد اختلف الناس في هذا؛ فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزم الأول وركن إلى حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته، ثم قال ولا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلاف الناس، والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء ثم قال: فإن قيل قد قال الحسن رحمه الله تعالى؛ إنهما حالتان، فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية. وقد روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني قال "لك أجران أجر السر وأجر العلانية ثم تكلم على الخبر والأثر فقال: أما الحسن فإنه أراد بقوله: لا يضره، أي لا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله، ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره، وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه "أحدها" أن يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنه قبل الفراغ. "الثاني" أنه أراد أن يسر به للقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبل لا سروراً بسبب حب المحمدة والمنزلة، بدليل أنه جعل له به أجراً، ولا ذاهب من الأمة إلى أن للسرور بالمحمدة أجراً وغايته أن يعفى عنه، فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران؟ "والثالث" أنه قال: أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم يوقفه على أبي صالح، ومنهم من يرفعه، فالحكم بالعمومات الواردة في الرياء أولى. هذا ما ذكره ولم يقطع به بل أظهر ميلاً إلى الإحباط.

والأفيس عندنا: أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادراً عن باعث الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لأنه لم ينعدم به أصل نيته وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام.

وأما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق، وأما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساوياً لقصد الثواب أو أغلب منه، أما إذا كان ضعيفاً بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال، ولا ينبغي أن يفسد الصلاة، ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه الله - والخالص ما لا يشوبه شيء - فلا يكون مؤدياً للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله فيه. وقد ذكرنا في كتاب الإخلاص كلاماً أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه، فهذا حكم الرياء الطارئ بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعد الفراغ.

القسم الثالث: الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن استمر عليه سلم فلا خلاف في أن يقضى ولا يعتد بصلاته، وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه "قالت فرقة" لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف "وقالت فرقة" تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجود وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة لأن التحريم عقد، والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقداً "وقالت فرقة" لا يلزم إعادة شيء بل يستغفرالله بقلبه ويتم العبادة على الإخلاص والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عمله. وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل، فقالوا إن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافراً، ولكن اقترن به عارض الرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاته. ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جداً خصوصاً من قال يلزمه إعادة الركوع والسجود دون الافتتاح، لأن الركوع والسجود إن لم يصح صار أفعالاً زائدة في الصلاة فتفسد الصلاة. وكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صم نظراً إلى الآخر فهو أيضاً ضعيف، لأن الرياء يقدح في النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح، فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده، وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل ولما رأى الناس تحرم بالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجساً أيضاً كان يصلي لأجل الناس، فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين، وههنا لا باعث ولا إجابة. فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضاً لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضاً فاجتمع الباعثان، فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم أو في عقد صلاة وحج، فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث الثواب "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" فله ثواب بقدر قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر. وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلوا إما أن تكون فرضاً أو نفلاً، فإن كانت نفلاً فحكمها أيضاً حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع ومن وجه، إذ اجتمع في قلبه الباعثان، ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتى إن من صلى التراويح وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة، ولولا اجتماع الناس خلفه وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جداً، بل يظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضاً بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداء به، وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص، فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه، لأن الإيجاب لم ينتهض باعثاً في حقه بمجرده واستقلاله، وإن كان كل باعث مستقلاً حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدى الفرائض، ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعاً لأجل الرياء فهذا محل النظر، وهو محتمل جداً، فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم يؤد الواجب الخالص، ويحتمل أن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد، فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه، كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان عاصياً بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه، وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة، أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلاً دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة لو خلا لأخر إلى وسط الوقت، ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء فهذا مما يقطع بصحة صلاته وسقوط الفرض به، لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره بل من حيث تعيين الوقت، فهذا أبعد من القدح في النية، هذا في رياء يكون باعثاً على العمل وحاملاً عليه، وأما مجرد السرور باطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة. فهذا ما نراه لائقاً بقانون الفقه، والمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه، والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها، بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد االعبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه والعلم عند الله عز وجل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم.

بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب منه

قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات، وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الحد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق، فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة، وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم، إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق كثير الطمع فيهم؛ فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه، وإنما يشعر بكونه مهلكاً بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات. فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة، ولكنها تشق أولاً وتخف آخراً وفي علاجه مقامان "أحدهما" قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه "والثاني" دفع ما يخطر منه في الحال.

"المقام الأول" في قلع عروقه واستئصال أصوله: وأصله حب المنزلة والجاه. وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لذة المحمدة، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس. ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبوموسى أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حمية - ومعناه أن يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب - وقال: والرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب- والرجل يقاتل للذكر -وهذا هو الحمد باللسان - فقال صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقال ابن مسعود: إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم؛ فلان يقاتل للذكور وفلان يقاتل للملك، والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا. وقال عمر رضي الله عنه: يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً. وقال صلى الله عليه وسلم "من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى فهذا إشارة إلى الطمع. وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل بين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل، وهو ليس يطمع في الحمد وقد سبقه غيره، وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفاً من الذم وهو لا يطمع في الحمد وقد هجم غيره على صف القتال. ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم، وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد. وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم، ولذلك قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل، ويفتى بغير علم ويدعى العلم بالحديث وهو به جاهل، كل ذلك حذراً من الذم. فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء، وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة. ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ، إما في الحال وإما في المآل، فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه، كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سماً أعرض عنه؛ فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة. ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر. حيث ينادي على رؤوس الخلائق: يا فاجر يا غادر يا مرائي، أما استحييت إذ اشتريت بطاعة االله عرض الدنيا، وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله، وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله، وتزينت لهم بالشين عند الله، وتقربت إليهم بالبعد من الله، وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله، وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله، أما كان أحد أهون عليك من الله! فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط من ثواب الأعمال، مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص، فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به ويهوي إلى النار، فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين، وقد حط عنهم بسبب الرياء ورد إلى صف النعال من مراتب الأولياء، هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط بعضهم، ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه، ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم؟ ولا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة. وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته؟ وأما ذمهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه عليه الله، ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه، ولا يجعل من أهل النار إن كان من أهل الجنة، ولا يبغضه إلى الله إن كان محموداً عند الله، ولا يزيده مقتاً إن كان ممقوتاً عند الله، فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا. فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه، فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه، ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله، ولو أخلص لله لكشف اللهم لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه، مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم كما قال شاعر بني تميم: إن مدحي زين وإن ذمي شين??! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "كذبت؛ ذاك الله الذي لا إله إلا هوإذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه، فأي خير لك في مدح الناس. وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار؟ وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين؟ فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات، واجتمع همه وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق، وانعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة، وسقط محل الخلق من قلبه وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص. فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء. وأما الدواء العملي: فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به. وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال: أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه لا تجالسنا بعد هذا. فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها، فلا دواء للرياء مثل الإخفاء، وذلك يشق في بداية المجاهدة، وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد و"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب "والله لا يضيع أجر المحسنين؛ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً".

"المقام الثاني" في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضاً، فإن من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات، بل يعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية، فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء. وخواطر الرياء ثلاثة - قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج - فالأول: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم. ثم يتلوه هيجان الرغبة من النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم. ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه. فالأول: معرفة. والثاني: حالة تسمى الشهوة والرغبة. والثالث: فعل يسمى العزم وتصميم العقد. وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني، فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: ما لك وللخلق علموا أو لم يعلموا والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله، فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة، إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم، والشهوة تدعوه إلى القبول، والكراهة تدعوه إلى الإباء، والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما. فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور: المعرفة، والكراهة والإباء. وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص، ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطوياً عليها، وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره، فيعزب عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم، وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب، ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ قلبه غيظاً يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه، فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب. وإليه أشار جابر بقوله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين حتى نودي: يا أصحاب الشجرة فرجعوا. وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا، وأكثر الشهوات التي تهجم فجأة هكذا تكون، إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان. ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة. وقد يتذكر الإنسان فيعلم هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال، فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة، فكم من عالم يحضره كلام لا يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك، ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه أوكد؟ إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموماً عند الله، ولا تنفعه معرفته إذا خلت المعرفة عن الكراهة. وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة بالإضافة إلى قوة الشهوة، وهذا أيضاً لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف عن الفعل.
فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث: وهي المعرفة، والكراهة، والإباء. فالإباء ثمرة الكراهة، والكراهة ثمرة المعرفة، وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم، وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة، وبعض ذلك ينتج بعضاً ويثمره، وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب، لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب والسنة وأنوار العلوم.

فإن قلت: فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه، فهل يكون في زمرة المرائين؟ فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها، وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر، فإذا فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف به. ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه وقالوا: تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها، فقال عليه السلام "أو قد وجدتموه" قالوا: نعم قال "ذلك صريح الإيمان ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له، ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة، فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة، والرياء وإن كان عظيماً فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى، فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى، وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه قال "الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة وقال أبو حازم: ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك، وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه. فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة، والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان، والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس، والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل، إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب، لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصاناً في منزلته عند الله.

والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب "الأولى" أن يرده على الشيطان فيكذبه، ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه، وهو على التحقيق نقصان، لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق، والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك. "الثانية" أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته "الثالثة" أن لا يشتغل بتكذيبه أيضاً لأن ذلك وقفة وإن قلت؛ بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحباً للكراهة غير متشغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة. "الرابعة" أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جرايان أسباب الرياء، فيكون قد عزم على أنه مهما نزغ الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظاً للشيطان، وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع. يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له: إن فلاناً يذكرك، فقال، والله لأغيظن من أمره، قيل: ومن أمره؟ قال: الشيطان، اللهم اغفر له. أي لأغيظنه بأن أطع الله فيه. ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته. وقال إبراهيم التيمي: إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم، فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيراً، فإذا رآه كذلك تركه: وقال أيضاً: إذا رآك الشيطان متردداً طمع فيك، وإذا رآك مداوماً ملك وقلاك. وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالاً أحسن فيه فقال: مثالهم كأربعة قصدوا مجلساً من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلاً وهداية ورشداً، فحسدهم على ذلك ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق، فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى، فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك مصلحة له، وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره. فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه، فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتعل بالقتال واستعجل، ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه. ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله، بل استمر على ما كان، فخاب منه رجاؤه بالكلية. فمر الرابع فلم يتوقف له، وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي، فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله. فإن قلت: فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظاراً لوروده، أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له، أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه؟ قلنا: اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه: فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم - كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا- فصارت ملاذ الدنيا عندهم - وإن كانت مباحة - كالخمر والخنزير، فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر. وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ونقص توكله، فمن أين بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع، والعارف يستحيي منه أن يحذر غيره، فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر. وقالت فرقة من أهل العلم: لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان يكاد يكون غروراً، إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم؟ وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا، بل في صفات الله تعالى وأسمائه، وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك، ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله بآياته" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه ليغان على قلبي مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور، ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما "إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" ومع أنه لم ينه إلا عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار الدنيا وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها؟ وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه الله "هذا من عمل الشيطان" ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة" وقال عز وجل "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم" وقال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى. ولذلك قال ابن محيريز: صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به، وصيد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك. فأشار إلى الشيطان، فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم؟ فليس من الاشتغال بالله الأعراض عما حذر الله وبه يبطل مذهب الفرقة الثاني في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل، فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه؟ وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" لا يناقض امتثال التوكل، مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى، فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله، ويرى الأسباب وسائط مسخرة - كما ذكرناه في التوكل. وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم، وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم، ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد.

ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم: إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر منه والترصد له، فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا. وقال قوم: إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا، بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين، فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب، وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله، فالجمع أولى. وقال العلماء المحققون: غلط الفريقان؛ أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه، وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره اغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو؟ ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى، فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه، فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان، وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله، وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه - إبليس وغيره - فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته، فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان، فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له، وعند التنبيه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح؛ فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر، مع أنه بالنوم غافل عنه، فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه؟ ومثل هذا القلب هو الذي يقوي على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات، فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحضر، ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله، ودفعوا بالذكر شر العدو، واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو. فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي. فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر، والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله فقد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جارياً إليها من جانب آخر فيطول تعبه ولا تجف البئر من الماء القذر، والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سداً وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة تعب.

بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات

اعلم أن في الأسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء. قال الحسن: قد علم المسلمون أن السر أحرز العملين، ولكن في الإظهار أيضاً فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم".

والإظهار قسمان "أحدهما" في نفس العمل "والآخر" التحدث بما عمل. القسم الأول: إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب. نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضاً لهم على الحركة فذلك أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره، فالمبادرة إليه ليست من الإعلان بل هو تحريض مجرد، وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه جيرانه وأهله فيقتدى به. فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء، وأما ما يمكن إسراره كالصدقة والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل لأن الإيذاء حرام. فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم: السر أفضل من العلانية وإن كان في العلانية قدوة، وقال قوم: السر أفضل من علانية لا قدوة فيها، أما العلانية للقدوة فأفضل من السر. ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب النبوة، ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين. ويدل عليه قوله عليه السلام "فله أجرها وأجر من عمل بها" وقد روي في الحديث "عن عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفاً ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله على عمل السر سبعين ضعفا وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة، وإنما يخاف من ظهور الرياء، ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به، فلا خلاف في أن السر أفضل منه.

ولكن على من يظهر العمل وظيفتان "إحداهما" أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدي به أو يظن ذلك ظناً، ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه، وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق، وربما يقتدي به أهل محلته، وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة. فغير العالم إذا أظهر به الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة، وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به "والثانية" أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه الإظهار بعذر الاقتداء، وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدي به، وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم. فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر، فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك، والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله، لا بل عذابه دائم مدة مديدة، وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء، والتفطن لذلك غامض، ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف العمل حتى يقتدي الناس بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان، فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به ورغبتهم في الخير، فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع إسراره، فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم؟ فليحذر العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب، وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئاً والسلامة في الإخفاء، وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا، فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء. القسم الثاني: أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ، وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في هذا أشد لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان، وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة وللنفس لذة في إظهار الدعاوى عظيمة، إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها، فهو من هذا الوجه أهون، والحكم فيه أن من قوى قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم، وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز، بل هو مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات، لأن ترغيب في الخير، والترغيب في الخير خير، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء. قال سعد بن معاذ: ما صليت صلاة من أسلمت فحدثت نفسي بغيرها، ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها، وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولاً قط إلا علمت أنه حق. وقال عمر رضي الله عنه: ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي؟ وقال ابن مسعود: ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على عيرها. وقال عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال شداد بن أوس: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها، غير هذه! وكان قد قال لغلامه: ائتنا بالسفرة لنبعث بها حتى ندرك الغداء. وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت: لا تبكوا علي فإني ما أحدثت ذنباً منذ أسلمت وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون قضي لي بغيره، وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله.

فهذا كله إظهار لأحوال شريفة، وفيها غاية المراءاة إذا صدرت ممن يرائي بها، وفيها غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به. فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء، بل إظهار المرائي للعبادة إذ لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي. فكم منن مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله؟ وقد روي أنه كان يجتاز الإنسان في سكك البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت، فصنف بعضهم كتاباً في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه، فكانوا يقولون ليت ذلك الكتاب لم يصنف! فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه. وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدي به منهم والله تعالى أعلم.

بيان الرخصة في كتمان الذنوب وكراهة إطلاع الناس عليها وكراهة ذمهم له

اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل: عليك بعمل العلانية، قال: يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية؟ قال: ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه. وقال أبو مسلم الخولاني: ما علمت عملاً أبالي أن يطلع على الناس عليه إلا إتياني أهلي والبول والغائط، إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد. ولا يخلوا الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني، والله مطلع على جميع ذلك فإرادة العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر ذلك ليري الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي.

وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه، ويصح اغتمامه باطلاع الناس عليه في ثمانية أوجه: "الأول" أن يفرح بستر الله عليه، وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره في القيامة، إذ ورد في الخبر "أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنباً ستره الله عليه في الآخرة وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان.

"الثاني" أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب كتمانها كما قال صلى الله عليه وسلم "من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله. وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي، وأثر الصدق فيه أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضاً ويغتم بسببه. الثالث" أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى، فإن الطبع يتأذى بالذم وينازع العقل ويشغل عن الطاعة، وبهذه العلة أيضاً ينبغي أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر. وهذا أيضاً من قوة الإيمان إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان.

"الرابع" أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه، فإن الذم مؤلم للقلب كما أن الضرب مؤلم للبدن، وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ولا الإنسان به عاص وإنما يعصى إذا جزعت نفسه من ذم الناس ودعته إلى ما لا يجوز حذراً من ذمهم، وليس يجب على الإنسان لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به. نعم كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق فيستوي عنده ذامه ومادح لعلمه أن الضار والنافع هو الله وأن العباد كلهم عاجزون؛ وذلك قليل جداً، وأكثر الطباع تتألم بالذم لما فيه من الشعور بالنقصان، ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل البصيرة في الدين فإنهم شهداء الله، وذمهم يدل على ذم الله تعالى وعلى نقصان في الدين فكيف لا يغتم به؟ نعم الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع، كأنه يحب أن يحمد بالورع، ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله، فيكون قد طلب بطاعة الله ثواباً من غيره، فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد.

وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم فله الستر حذراً من ذلك، ويتصور أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ولكن يكره الذم. وإنما مراده أن يتركه الناس حمداً وذماً، فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم الذم؟ إذ الحمد بطلب اللذة، وعدم اللذة لا يؤلم، وأما الذم فإنه مؤلم؛ فحب الحمد على الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال، وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه إلا أمر واحد وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله فإن ذلك غاية النقصان في الدين، بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر.

"الخامس" أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به وهذا من الإيمان، وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضاً فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع من جهة الطبع.

"السادس" أن يستر ذلك كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه وهذا وراء ألم الذم، فإن الذم مؤلم من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته وإن كان ممن يؤمن شره، وقد يخاف شر من يطلع على ذنبه بسبب من الأسباب، فله أن يستر ذلك حذراً منه.

"السابع" مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم والقصد بالشر، وهو خلق كريم يحدث في أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحيي من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحياء خير كله وقال صلى الله عليه وسلم "الحياء شعبة من الإيمان وقال صلى الله عليه وسلم "الحياء لا يأتي إلا بخير وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الحيي الحليم" فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه للناس جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء، فهو أشد حالاً ممن يستر ويستحيي، إلا أن الحياء ممتزج بالرياء ومشتبه به اشتباهاً عظيماً قل من يتفطن له، ويدعي كل مراء أنه مستحي وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس، وذلك كذب، بل الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص، ويتصور أن يخلص معه ويتصور أن يرائي معه.

وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضاً ونفسه لا تسخو بإقراضه إلا أنه يستحيي من رده، وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحي ولا يقرض رياء ولا لطلب الثواب، فله عند ذلك أحوال؛ أحدها: أن يشافه بالرد الصريح ولا يبالي فينسب إلى قلة الحياء، وهذا فعل من لا حياء له. فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض.

فإن أعطي فيتصور له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يمزح بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد، فيهيج خاطر الرياء ويقول: ينبغي أن تعطى حتى يثنى عليك ويحمدك وينشر اسمك بالسخاء، أو ينبغي أن تعطى حتى لا يذمك ولا ينسبك إلى البخل، فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء.

 الثاني: أن يتعذر عليه الرد بالحياء ويبقى في نفسه البخل فيتعذر الإعطاء، فيهيج داعي الإخلاص ويقول له: إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم وإدخال سرور على قلب صديق وذلك محمود عند الله تعالى، فتسخو النفس بالإعطاء لذلك، فهذا مخلص هيج الحياء إخلاصه.

الثالث: أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ولا حب لمحمدته، لأنه لو طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه بمحض الحياء، وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء ولولا الحياء لرده، ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأرذال لكان يرده وإن كثر الحمد والثواب فيه، فهذا مجرد الحياء ولا يكون هذا إلا في القبائح كالبخل ومقارفة الذنوب. والمرائي يستحي من المباحات أيضاً، حتى إنه يرى مستعجلاً في المشي فيعود إلى الهدوء، أو ضاحكاً فيرجع إلى الانقباض، ويزعم أن ذلك حياء وهو عين الرياء. وقد قيل إن بعض الحياء ضعف وهو صحيح، والمراد به الحياء مما ليس بقبيح كالحياء من وعظ الناس وإمامة الناس في الصلاة، وهو في الصبيان والنساء محمود وفي العقلاء غير محمود. وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وهذا الحياء حسن وأحسن منه أن يستحي من الله فلا تضيع الأمر بالمعروف، فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس والضعيف قد لا يقدر عليه فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب.

"الثامن" أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدي به، وهذا العلة الواحدة فقط هي الجارية في إظهار الطاعة وهو القدوة، ويختص ذلك بالأئمة أو بمن يقتدي به، وبهذه العلة ينبغي أيضاً أن يخفي العاصي أيضاً معصيته من أهله وولده لأنهم يتعلمون منه.

ففي ستر الذنوب: هذه الأعذار الثمانية، وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر الواحد، ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائياً كما إذا قصد ذلك بإظهار الطاعة.

فإن قلت: فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح وحبهم إياه بسببه وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال "ازهد في الدنيا يحبك الله وانبذ إليهم هذا الحطام يحبوك؟ فنقول: حبك لحب الناس لك قد يكون مباحاً وقد يكون محموداً وقد يكون مذموماً فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك، فإنه تعالى إذا أحب عبداً حببه في قلوب عباده، والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغروك وصلاتك وعلى طاعة بعينها، فإن ذلك طلب عوض على طاعة الله عاجل سوى ثواب الله. والمباح أن تحب أن يحبوك لصفات محمود سوى الطاعات المحمودة المعينة؛ فحبك ذلك كحبك المال لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فلا فرق بينهما.

بيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء ودخول الآفات

اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفاً من أن يكون مرائياً به وذلك غلط وموافقة للشيطان، بل الحق فيما يترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره، وهو أن الطاعات تنقسم إلى: ما لا لذة في عينه؛ كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهات، إنما تصير لذيذة من حيث أنها توصل إلى حمد الناس، وحمد الناس لذيذ، وذلك عند اطلاع الناس عليه. وإلى: ما هو لذيذ؛ وهو أكثر ما لا يقتصر على البدن، بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء والولايات والحسبة وإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق، وغير ذلك مما تعظم الآفة فيه لتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة. القسم الأول: الطاعات اللازمة للبدن - التي لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها - كالصوم والصلاة والحج، فخطرات الرياء فيها ثلاث "إحداها" ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين، فهذا مما ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيها، فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب المنزلة، فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها: ألا تستحيين من مولاك لا تسخين بالعمل لأجله وتسخين بالعمل لأجل عباده؟ حتى يندفع باعث الرياء وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل. "الثانية" أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياء مع عقد العبادة وأولها، فلا ينبغي أن يترك العمل لأنه وجد باعثاً دينياً، فليشرع في العمل وليجاهد نفسه في دفع الرياء وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء والإباء عن القبول. "الثالثة" أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيه، فينبغي أن يجاهد في الدفع ولا يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليه قهراً حتى يتمم العمل، لأن الشيطان يدعوك أولاً إلى ترك العمل، فإذا لم تحب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء، إذا لم تجب ودفعت بقي يقول لك: هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائع فأي فائدة لك في عمل لا إخلاص؟ حتى يحملك بذلك على ترك العمل، فإذا تركته فقد حصلت غرضه. ومثال من يترك العمل لخوفه أن يكون مرائياً كمن سلم غليه مولاه حنطة فيها زؤان وقال: خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة، فيترك أصل العمل ويقول: أخاف إن اشتغلت به لم تخلص خلاصاً صافياً نقياً. فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل، فلا معنى له. ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفاً على الناس أن يقولوا أنه مراء فيعصمون الله به. فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولاً أساء الظن بالمسلمين، وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك، ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب العبادة، وترك العمل خوفاً من قولهم إنه مراء هو عين الرياء، فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فما له ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص؟ وأي فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال إنه مراء، وبين أن يحسن العمل خوفاً من أن يقال إنه غافل مقصر؟ بل ترك العمل أشد من ذلك. فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال، ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له: الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة. فيضطرك بذلك إلى أن تهرب، فإن هربت ودخلت سرباً تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه؟ بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك، وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي، وإن نزغ العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع، وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات. فما دمت تجد باعثاً دينياً على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء، وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين، وهو مطلع على قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك، بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل. فإن قال لك الشيطان: أنت مراء، فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى، وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفاً ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد، فمن شرع في العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب. فإن قلت: فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة. روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال: لا يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة. وقال إبراهيم التيمي: إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم. وقال الحسن: إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة، وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة. وقد ورد في ذلك آثار كثيرة؟ قلنا: هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى، وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه.

وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل. والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء، فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه، وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف، فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء. وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته، فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك. وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق، فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء. وأما قول التيمي: إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب، وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذراً من العجب. فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه، على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسم الثاني، وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات، ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا يدركون هذه الدقائق، وإنما ذكره تخويفاً للناس من آفة الشهرة وزجراً من طلبها.

القسم الثاني: ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار، وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال. أما الخلافة والإمارة: فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاماً فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة، وقال صلى الله عليه وسلم "أول من يدخل الجنة ثلاثة: الإمام المقسط أحدهم. وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل أحدهم. وقال صلى الله عليه وسلم "أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل رواه أبو سعيد الخدري. فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات، ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر، إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا؛ فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعياً في حظ نفسه، ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقاً، ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلاً، وعند ذلك يهلك ويكون يوم من سلطان جائر شراً من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه. ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول؛ من يأخذها بما فيها، وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه أطلقه عدله أو أوبقه جوره رواه معقل بن يسار، وولاه عمر ولاية فقال: يا أمير المؤمنين أشر على، قال: اجلس واكتم على. وروى الحسن "أن رجلاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي: خر لي قال "اجلس وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر: لا تأمر على اثنين، ولي هو الخلافة فقام بها فقال له رافع: ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله، يعني لعنة الله. ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضاً وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا، وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموا بها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم، فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات، ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات، ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ نفاذ الأمر فتكره العزل، فيداهن خيفة من العزل؛ فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية؟ فقال قائلون: لا يجب أن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذات النفس، والصحيح أن عليه الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير، فلو وعدت بالخير جزماً لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد؟ والامتناع عن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع، فالعزل مؤلم وهو كما قيل العزل طلاق الرجال، فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال الحق وتهوى به في قعر جهنم، ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهراً، وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية. ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إنا لا نولي أمرنا من سألنا فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي أبي بكر رافعاً عن الولاية ثم تقلده لها ليس بمتناقض. وأما القضاء: فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما. فإن كل ذي ولاية أمير -أي له أمر نافذ - والإمارة محبوبة بالطبع، والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق، والعقاب فيه أيضاً عظيم مع العدول عن الحق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة وقال عليه السلام "من استقضى فقد ذبح بغير سكين فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه، وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم، إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه، فليس له أن يتقلد القضاء، وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذراً مرخصاً له في الإهمال أصلاً، بل إذا عزل سقطت العهدة عنه، فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله، فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لأتباع الهوى والشيطان، فكيف يرتقب عليه ثواباً؟ وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار.

وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية - وكل ما يتسع بسببه الجاه ويعظم به القدر: فآفته أيضاً عظيمة مثل آفة الولايات، وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلاً، وكانوا يقولون: باب من أبواب الدنيا، ومن قال: حدثنا، فقد قال أوسعوا لي. ودفن بشر كذا وكذا قمطراً من الحديث وقال: يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت. والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة، فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً، ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقاً، ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم، فلا يسمع حديثاً وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولاً، ثم يقول: إذا أنعم الله علي بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون. فهذا أيضاً مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات، فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه، إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة، فعند ذلك يعود إليه. فإن قلت: مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وهم الجهل كافة الخلق؟ فنقول قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة وتوعد عليها حتى قال "إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها وقال "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعاً وثار القتال بين الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك؟ وضرب عمر رضي الله عنه أبي بن كعب - رأى قوماً يتبعونه وهو في ذلك يقول: أبي سيد المسلمين، وكان يقرأ عليه القرآن، فمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع، وعمر كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنع فقال: أتمنعني من نصح الناس؟ فقال: أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا، إذ رأى فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق. والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى، وفي كل واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما، فأما قول القائل: نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس العلم فهو غلط، إذ نه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل القضاء بل الرياسة وحبها يضطر الخلق إلى طلبها، وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس، بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها، وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن الله لا يضيعهم وانظر لنفسك، ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلاً فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم، وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعاً للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهد نفسك، فإن قال: لست أقدر على نفسي فنقول: اشتغل وجاهد، لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس كلهم إذ لا قائم به غيره، ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده، وسلامة دين الجميع أحب عندنا من سلامة دينه وحده، فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته. فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت، فيجب إخلاء البلاد منهم، فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان، وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب القبول ولا يقصد غيره، وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله. ولهذا قال المسيح عليه السلام يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون ما تأمرون، وتدرسون ما لا تعملون، فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى، وما يغنى عنكم ان تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، بحق أقول لكم: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته؟ بحق أقول لكم: إن قلوبكم تبكي من أعمالكم، جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم، بحق أقول لكم: أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم، فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة، فأي ناس أخس منكم لو تعلمون، ويلكم حتى متى تصفون الطريق للمدجلين، وتقيمون في محلة المتجبرين! كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً! ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم! كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة! يا عبيد الدنيا، لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام، توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم، ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم، ثم يدفعكم العلم من خلفكم، ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة  عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم، ثم يجزيكم بسوء أعمالكم. وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال: هؤلاء السوء شياطين الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا الدين للدنيا، فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم لخاسرون.

فإن قلت: فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن يهدي الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها وقال صلى الله عليه وسلم "أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه إلى غير ذلك من فضائل العلم، فينبغي أن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاة لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد نفسك؟ فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة، ولا نقول لأحد من عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدي للوعظ والتدريس ورواية الحديث، ولا نقول له أيضاً اتركه ما دام يجد في نفسه باعثاً دينياً ممزوجاً بباعث الرياء، أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار أنفع له وأسلم. وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها، أما إذا خطر له وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة، لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة، وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم.

وبالجملة فالمراتب ثلاث (الأولى) الولايات؛ والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفاً من الآفة (الثانية) الصوم والصلاة والحج والغزو؛ وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر عنهم الترك لخوف الآفة. وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة (الثالثة) وهي متوسطة بين الرتبتين؛ وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريس، والآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة، فالصلاة ينبغي أن لا يتركها الضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء، والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأساً دون الأقوياء، ومناصب العلم بينهما، ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة أشبه، وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم والله أعلم.

وهنا رتبة رابعة وهي: جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين، فإن في الإنفاق وإظهار السخاء استجلاباً للثناء، وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس، والآفات فيها أيضاً كثيرة.

ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك، وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال: القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا، وأن من الزهد تركها قربة إلى الله تعالى. وقال أبو الدرداء: ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين ديناراً أتصدق بها، أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

وقد اختلفت العلماء فقال قوم: إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل، وقال قوم: الجلوس في دوام ذكر الله أفضل، والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام: يا طالب الدنيا ليبر بها، تركك لها أبر؛ وقال. أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل. وهذا فيمن سلم من الآفات، فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل.

وبالجملة: ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات، والأحب أن يعمل ويدفع الآفات، فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفت قلبه، وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر، وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع.

وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه، لأن النفس لا تشير إلا بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه، وإن كان لا يبعد ذلك أيضاً في بعض الأحوال، وهذه أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر فيه لدينه ويدع ما يريبه إلا ما لا يريبه، ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك المال ولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل. ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلاً عن الصدقات أفضل من إمساكه، وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب: أن الأفضل الكسب والإنفاق، أو التجرد للذكر؟ وذلك لما في الكسب من الآفات، فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال.
فإن قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق في وعظه غير مريد رياء الناس؟ فاعلم أن لذلك علامات (إحداها) أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظاً أو أغزر منه علماً والناس له أشد قبولاً فرح به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل عمله (والأخرى) أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كان عليه، فينظر إلى الخلق بعين واحدة (والأخرى) أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشي خلفه في الأسواق. ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها. وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال: كنت جالساً إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر، فدخل المسجد على برذونه، فجعل يلتفت في المسجد فلم ير حلقه أحفل من حلقة الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها، ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن، فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه، قال سعيد: وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج، فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له - يتكلم في كل يوم - فما قطع الحسن كلامه قال سعيد: فقلت في نفسي؛ لأبلون الحسن اليوم ولأنظرن هل يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه، أو يحمل الحسن هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه؟ فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه، فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به، رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن ثم قال: صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملنا من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها، قال: ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته، فلما فرغ طفق فقام، فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن - حين قام الحجاج - فقال: عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ كبير، وأني أغزوا فأكلف فرساً وبغلاً، وأكلف فسطاطاً، وأن لي ثلثمائة درهم من العطاء وأن لي سبع بنات من العيال؟ فشكا من حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه، والحسن مكب، فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم، فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة، وإذا أغزى أخاه أغزاه طاوياً راجلاً؟ فما فترة الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده، فقام رجل من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه، فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج فقالوا: أجب الأمير، فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به، فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم، وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك إنما كان يتبسم، فأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال: إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بناء إلى شرارة من نار! إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك من لسانك وقولك: إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا، وإذا أغزى أخاه: أغزاه كذا! لا أبا لك! تحرض علينا الناس؟ أما إنا على ذلك لا نتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك، قال: فدفعه الله عني. وركب الحسن حماراً يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوماً يتبعونه فوقف فقال: هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد؟ فبهذه العلامات وأمثالها تتبين سريرة الباطن. ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون. اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين.

بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح

اعلم أن الرجل قد بيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد، أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه، وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلاً، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع فينبعث له نشاط في الصوم ولولاهم لما انبعث هذا النشاط، فهذا ربما بظن أنه رياء وأن الواجب ترك الموافقة، وليس كذلك على الإطلاق بل له تفصيل، لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى وفي قيام الليل وصيام النهار، ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ويغلبه التمكن من الشهوات أو تستهويه الغفلة، فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع فينبعث له النشاط، فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب عن التهجد مثل تمكنه من النوم على فراش وثير، أو تمكنه من التمتع بزوجته، أو المحادثة مع أهله وأقاربه، أو الاشتغال بأولاده أو مطالعة حساب له مع معامليه، فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتر رغبته عن الخير وحصلت له أسباب باعثة على الخير، كمشاهدته إياهم وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا، فإنه ينظر إليهم فينافسهم ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله فتتحرك داعيته للدين لا للرياء، أو ربما يفارقه النم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم، وفي منزله ربما يغلبه النوم وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام، والنفس لا تسمح بالتهجد دائماً وتسمح بالتهجد وقتاً قليلاً فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق، وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ويشق عليه الصبر عنها، فإذا أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه فتنبعث داعية الدين للصوم، فإن الشهوات الحاضرة عوائق ودوافع تغلب باعث الدين، فإذا سلم منها قوي الباعث. فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ويكون السبب فيه مشاهدة الناس وكونه معهم، والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول: لا تعمل فإنك تكون مرائياً إذا كنت لا تعمل في بيتك ولا تزد على صلاتك المعتادة، وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم وخوفاً من ذمهم ونسبتهم إياه إلى الكسل، لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل، فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم فيريد أن يحفظ منزلته، وعند ذلك قد يقول الشيطان: صل فإنك مخلص ولست تصلى لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم. وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر، فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة، لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة الله، وإن كان انبعاثه لدفع العوائق وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق. وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه؟ فإن سخت نفسه فليصل فإن باعثه الحق، وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك، فإن باعثه الرياء. وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم، ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى، وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد، فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية ويشتغل بالعبادة. وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفاً من الله تعالى لا من الرياء، ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى، ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب، وقد لا يحضره البكاء فيتباكى - تارة رياء وتارة مع الصدق - إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفاً، وذلك محمود. وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا؟ إن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي. قال لقمان عليه السلام لابنه: لا ترى الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك  فاجر. وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال، تارة تكون من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه، فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود، وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على أنه كثير الحزن ليعرف بذلك، فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء، وإن اقترنت بداعية الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه، وإن قبل ذلك وركن غليه بقلبه حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به، وقد يكون أصل الأنين عن الحزن، ولكن يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء، وهو محظور لأنها في حكم الابتداء لمجرد الرياء، فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه، ولكن يسبقه خاطر الرياء فيقبله، فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر بعد أن استرسلت لخشية الله، ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء. وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط، ثم يستحي أن يقال له إنه سقط من غير زوال عقل وحالة شديدة، فيزعق ويتواجد تكلفاً ليرى أنه لكونه مغشياً عليه وقد كان ابتداء السقطة عن صدق، وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعاً فتجزع نفسه أن يقال حالته غير ثابتة، وإنما هي كبرق خاطف، فيستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله، وكذلك قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه، فيستديم إظهار الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه، فيستديم إظهار الضعف والأنين فيتكئ على غيره يرى أنه يضعف عن القيام ويتمايل في المشي ويقرب الخطا ليظهر أنه ضعيف عن سرعة المشي. فهذه كلها مكايد الشيطان ونزغات النفس. فإذا خطرت فعلاجها أن يتذكر أن الناس لو عرفوا نفاقه في الباطن واطلعوا على ضميره لمقتوه، وإن الله مطلع على ضميره وهو له أشد مقتاً، كما روي عن ذي النون رحمه الله أنه قام وزعق، فقام معه شيخ آخر رأى فيه أثر التكلف فقال يا شيخ! الذي يراك حين تقوم؟ فجلس الشيخ وكل ذلك من أعمال المنافقين. وقد جاء في الخبر "تعوذوا بالله من خشوع النفاق وإنما خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع، ومن ذلك الاستغفار والاستعاذة بالله من عذابه وغضبه، فإن ذلك قد يكون لخاطر خوف وتذكر ذنب وتندم عليه وقد يكون للمراءاة. فهذه خواطر ترد على القلب متضادة مترادفة متقاربة، وهي مع تقاربها متشابهة، فراقب قلبك في كل ما يخطر لك وانظر ما هو ومن أين هو؟ فإن كان لله فامضه واحذر مع ذلك أن يكون قد خفي عليك شيء من الرياء الذي هو كدبيب النمل، وكن على وجل من عبادتك أهي مقبولة أم لا؟ أخوفك على الإخلاص فيها، واحذر أن يتجدد لك خاطر الركون إلى حمدهم بعد الشروع بالإخلاص فإن ذلك مما يكثر جداً، فإن خطر لك فتفكر في اطلاع الله عليك ومقته لك. وتذكر ما قاله أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب عليه السلام إذ قال: يا أيوب أما علمت أن العبد تضل عنه علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزى بسريرته. وقول بعضهم: أعوذ بك أن يرى الناس أني أخشاك وأنت لي ماقت. وكان من دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما. اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي، محافظاً على رياء الناس من نفسي مضيعاً لما أنت مطلع عليه مني، أبدي للناس أحسن أمري وأفضي إليك بأسوأ عملي، تقرباً إلى الناس بحسناتي وفراراً منهم إليك بسيآتي، فيحل بي مقتك ويجب علي غضبك، أعذني من ذلك يا رب العالمين. وقد قال أحد الثلاثة نفر لأيوب عليه السلام: يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا علانيتهم وأضاعوا سرائرهم عند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوههم فهذه جمل آفات الرياء. فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر "إن للرياء سبعين بابا وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض، حتى إن بعضه مثل دبيب النمل، وبعضه أخفى من دبيب النمل، وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة؟ وليته أدرك بعد بذل المجهود فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن خدعها؟ نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه.

بيان ما ينبغي للمريد أن يلزم نفسه قبل العمل وبعده وفيه

اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع طاعاته، ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله، فأما من خاف غيره وارتجاه اشتهى إطلاعه على محاسن أحواله، فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت، وليراقب نفسه عند الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره، فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصاً على الإفشاء وتقول: مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه الخلق منك لسجدوا لك! فما في الخلق من يقدر على مثله فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك؟ ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه، ويتذكر في مقابلة عظم عمله: عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد وعظم غضب الله ومقته على من طلب بطاعته ثواباً من عباده، ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول: وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل؟ فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول: إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلصون فليس ذلك من شأنهم، فيترك المجاهدة في الإخلاص، لأن المخلص إلى ذلك أحوج من المتقي، لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت فرائضه كاملة تامة، والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجبران بالنوافل فإن لم تسلم صار مأخوذاً بالفرائض وهلك به، فالمخلط إلى الإخلاص أحوج. وقد روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يحاسب العبد يوم القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكمل به فرضه وإن لم يكن له تطوع أخذ بطرفيه فألقي في النار فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل، وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة. فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله، ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به، وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلاً من عمله خائفاً أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه، فيكون شاكاً في قبوله ورده مجوزاً أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها، ويكون هذا الشك والخوف في دوام عمله وبعده إلا في ابتداء العقد، بل ينبغي أن يكون متيقناً في الابتداء أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله، فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به، ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء؟ فيكون رجاء القبول أغلب، وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات.

فالإخلاص: يقين، والرياء: شك. وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه. والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة لعلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط، ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط، دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه، فإن ذلك يحبط الأجر. فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة، أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر باستتباعه، أو تردداً منه في حاجة فقد أخذ أجره فلا ثواب له غيره. نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره، ولكن خدمة التلميذ بنفسه فقبل خدمته، فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذ كان لا ينتظره ولا يريد منه، ولا يستبعده منه لو قطعه. ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا، حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلاً ليرفعوه فخلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثاً، خيفة أن يحبط أجره. وقال شقيق البلخي: أهديت لسفيان الثوري ثوباً فرده علي، فقلت له: يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال: علمت ذاك ولكن أخوك يسمع مني الحديث فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره. وجاء رجل إلى سفيان بيدرة أو بدرتين وكان أبو صديقاً لسفيان وكان سفيان يأتيه كثيراً، فقال له: يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء؟ فقال: يرحم الله أباك - كان وكان وأثنى عليه - فقال: يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إلي، فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك "قال" فقبل سفيان ذلك "قال" لما خرج قال لولده: يا مبارك الحقه فرده علي، فرجع فقال: أحب أن تأخذ مالك، فلم يزل به حتى رده عليه. وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك. قال ولده: فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه فقلت: ويلك أي شيء قلبك هذا! حجارة؟ عد أنه ليس لك عيال! أما ترحمني؟ أما ترحم إخوتك؟ أما ترحم عيالنا؟ فأكثرت عليه فقال لي: يا مبارك تأكلها أنت هنيئاً مريئاً وأسأل عنها أنا. فإذن يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط، ويحب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله وطلب ثوابه ونيل المنزلة عنده، لا عند المعلم وعند الخلق. وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته، فيتعلم منه، وهو خطأ لأن إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال، والعلم ربما يفيد وربما لا يفيد؟ فكيف يخسر في الحال عملاً نقداً على توهم علم! وذلك غير جائز، بل ينبغي أن يتعلم الله ويعبد الله ويخدم المعلم لله، لا ليكون له في قلبه منزله، إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة، فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ولا يريدوا بطاعتهم غيره. وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما إلا من حيث أن رضا الله عن في رضا الوالدين، ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين، فإن ذلك معصية في الحال وسيكشف الله عن ريائه وتسقط منزلته من قلوب الوالدين أيضاً. وأما الزهد المعتزل عن الناس فينبغي له أن يلزم قلبه ذكر الله والقناعة بعلمه، ولا يخطر بقلبه معرفة الناس زهده واستعظامهم محله، فإن ذلك يغرس الرياء في صدره حتى تتيسر عليه العبادات في خلوته به. وإنما سكوته لمعرفة الناس باعتزاله واستعظامهم لمحله وهو لا يدري أنه المخفف للعمل عليه.

قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت: يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك؟ قال: منذ سبعين سنة، قلت: فما طعامك؟ قال: يا حنيفي وما دعاك إلى هذا؟ قلت: أحببت أن أعلم، قال: في كل ليلة حمصة قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قال: ترى الدير الذي بحذائك؟ قلت: نعم، قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها ويعظموني، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها عز تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة! فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: حسبك أو أزيدك؟ قلت: بلى، قال: أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي: ادخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا: يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: من وقته قالوا: فما تصنع به ونحن أحق به؟ ثم قالوا: ساوم! قلت: عشرون ديناراً فأعطوني عشرين ديناراً فرجعت إلى الشيخ فقال: يا حنيفي ما الذي صنعت؟ قلت: بعته منهم، قال: بكم؟ قلت: بعشرين ديناراً، قال: أخطأت! لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده؟ يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب والجيئة. والمقصود أن استشعار النفس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً في الخلوة وقد لا يشعر العبد به، فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة، فلو تغيروا عن اعتقادهم له لم يجزع ولم يضق به ذرعاً إلا كراهة ضعيفة، إن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه، فإنه لو كان في عبادة واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعاً ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه، فإن دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه؛ إلا أن يزيد عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه، فذلك لا بأس به ولكن فيه غرور، إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ، وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما حصل بأن يعدو كثيراً أو يضحك كثيراً أو يأكل كثيراً فتسمح نفسه بذلك؟ فإذا لم تسمح وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم، ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله، فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق. ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عند إقبال الغني زيادة هزة في نفسه، لا كرامة إلا إذا كان في الغنى زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرماً له بذلك الوصف لا بالغنى، فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويجب إلى القلب المسكنة، والنظر إلى الأغنياء بخلافه، فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير؟ وقد حكي أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري، كان يجلسهم وراء الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه. نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة، ولكن يكون بحيث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام وتوقير البتة. فإن الفقير أكرم على الله من الغني، فإيثارك لا يكون إلا طمعاً في غناه ورياء له، ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني أكثر مما تظهره للفقير، وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي، كما قال ابن السماك لجارية له ما لي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة؟ فقال: الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت! فإن اللسان ينطق عند الغني لما لا ينطق به عند الفقير، وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا يحضره عند الفقير. ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى الله من قلبك، وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات منغصة في أيام متقاربة، وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات وساعدته اللذات، ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في الشهوات، وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه، فلما عرف ذلك جالس الأطباء وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات وصبر على مفارقتها، فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم نقصاناً لشدة احتمائه، فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ، فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة المكروهات، فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف، وترك المؤانسة بالخلق خوفاً من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذاب فخف ذلك كله عليه شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم في رضوان الله أبد الآباد، ثم علم أن الله كريم  رحيم لم يزل لعباده المريدين لمرضاته عوناً وبهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً ولو شاء لأغناهم عن التعب، ولكن أراد أن يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلاً، ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر، وحبب إليه الطاعة ورزقه فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى سياسته وتقويته وأمده بمعونته، فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب وهو الذي يقول "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" ويقول تعالى "لقد طالل شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقاً" فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته.

تم كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده