كتاب التوحيد والتوكل - الشطر الثاني: في أحوال التوكل وأعماله

الشطر الثاني

في أحوال التوكل وأعماله

وفيه بيان حال التوكل، وبيان ما قاله الشيوخ في حد التوكل، وبيان التوكل في الكسب للمنفرد والمعيل، وبيان التوكل بقدر الادخار وبيان التوكل في دفع المضار، وبيان التوكل في إزالة الضرر بالتداوي وغيره، والله الموفق برحمته.

بيان حال التوكل

قد ذكرنا أن مقام التوكل ينتظم من: علم، وحال، وعمل. وذكرنا العلم.

فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه، وإنما العلم أصله والعمل ثمرته، وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم، وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حده كما جردت عادة أهل التصوف به، ولا فائدة من النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه ونقول:  التوكل مشتق من الوكالة، يقال: وكَّل أمره إلى فلان أي فوضه واعتمد عليه فيه، ويسمى الموكول إليه وكيلاً، ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب وعلى الوكيل وحده. ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلاً فنقول: من ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس فوكل للخصومة من يكشف ذل التلبيس لم يكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور: منتهى الهداية، ومنتهى القوة، ومنتهى الفصاحة، ومنتهى الشفقة. أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً، وأما القدرة والقوة فليستجرئ على التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن، فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به، وأما الفصاحة فهي أيضاً من القدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه: فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس، وأما منتهى الشفقة فيكون باعثاً له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود، فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك، فإن كان شاكاً في الأربعة أو في واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله، بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه، والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت لا ينحصر، فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتاً لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى اليقين الذي لا ضعف فيه، كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله، فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية، فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعية، وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به، وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار بأنه أفصح الناس لساناً وأقدرهم بياناً على نصرة الحق بل على تصوير الحق بالباطل والباطل بالحق فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى، فإن ثبت في نفسك كشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله كما سبق واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العناية والعطف والرحمة بجملة العباد والآحاد وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة، اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقدرة، فإن الحول عبارة عن الحركة، والقوة عبارة عن القدرة، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين: إما ضعف اليقين بإحدى هذه الخصال الأربعة، وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه، فإن القلب قد ينزعج تبعاً للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين، فإن من يتناول عسلاً فشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله، ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقناً بكونه ميتاً وأنه جماد في الحال وأن سنة الله تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه وإن كان قادراً عليه، كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية ولا يقلب السنور أسداً وإن كان قادراً عليه، ومع أنه لا يشك في هذا اليقين ينفر طبعه عن مضاجعة الميت في فراش أو المبيت معه في البيت ولا ينفر عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب وهو نوع ضعيف قلما يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل، وقد يقوى فيصير مرضاً حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه، فإذن لا يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعاً، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته، فالسكون في القلب شيء واليقين شيء آخر فكم من يقين لا طمأنينة معه كما قال تعالىلإبراهيم عليه السلام: " أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " فالتمس أن يكون مشاهداً إحياء الميت بعينه ليثبت في خياله فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة؛ وذلك لا يكون في البداية أصلاً، وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب، فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده، وكذا النصراني ولا يقين لهم أصلاً، وإنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو سبب اليقين، إلا أنهم معرضون عنه، فإذن الجبن والجراءة غرائز ولا ينفع اليقين معها، فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل، كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة أحد الأسباب، وإذا اجتمعت هذه الأسباب حصلت الثقة بالله تعالى، وقد قيل: مكتوب في التوراة: ملعون من ثقته إنسان مثله. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من استعز بالعبيد أذله الله تعالى" وإذا انكشف لك معنى التوكل وعلمت الحالة التي سميت توكلاً فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات: الدرجة الأولى ما ذكرناه: وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.

الثانية وهي أقوى: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى أحد سواها ولا يعتمد إلا إياها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها ولم يخلها، وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه: يا أماه، وأول خاطر يخطر في قلبه فإنها مفزعة، فإنه قد وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له، ويظن أنه طبع من حيث إن الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلقين لفظه ولا على إحضاره مفصلاً في ذهنه، ولكن كل ذلك وراء الإدراك، فمن كان باله إلى الله عز وجل ونظره إليه واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلاً حقاً: فإن الطفل متوكل على أمه. والفرق بين هذا وبين الأول: أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن توكله، إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته، بل إلى المتوكل عليه فقط، فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه، وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب وليس فانياً عن توكله لأن له التفاتاً إلى توكله وشعوراً به، وذلك شغله صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده، وإلى هذه الدرجة أشار سهل حيث سئل عن التوكل: ما أدناه؟ قال: ترك الأماني. قيل: وأوسطه؟ قال ترك الاختيار، وهو إشارة إلى الدرجة الثانية. وسئل عن أعلاه فلم يذكره وقال: لا يعرفه إلا من بلغ أوسطه. الثالثة وهي أعلاها: أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتاً تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل الميت، وهو الذي قوي يقينه بأنه مجري للحركة والقدرة والإرادة والعلم وسائر الصفات، وأن كلاً يحدث جبراً فيكون بائناً عن الانتظار لما يجري عليه، ويفارق الصبي فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها، بل هو مثل صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه، وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسأل، فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال والدعاء وبغير الاستحقاق، والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال منه وإنما يقتضي ترك السؤال من غيره فقط.

فإن قلت: فهذه الأحوال هل يتصور وجودها، فاعلم أن ذلك ليس بمحال ولكنه عزيز نادر، والمقام الثاني والثالث أعزها، والأول أقرب إلى الإمكان، ثم إذا وجد الثالث والثاني فداومه أبعد منه، بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه إلا كصفرة الوجل، فإن انبساط القلب إلى ملاحظة الحول والقوة والأسباب طبع وانقباضه عارض، كما إن انبساط الدم إلى جميع الأطراف طبع وانقباضه عارض. والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر البشرة إلى الباطن حتى تنمحي عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق من ستر البشرة، فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم، وانقباضه يوجب الصفرة وذلك لا يدوم، وكذا انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر الأسباب الظاهرة لا يدوم، وأما المقام الثاني فيشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوماً يومين، والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ولا يبعد أن يزول. فإن قلت: فهل يبقى مع العبد تدبير وتعلق بالأسباب في هذه الأحوال؟ فاعلم إن المقام الثالث ينفي التدبير رأساً ما دامت الحالة باقية، بل يكون صاحبها كالمبهوت، والمقام الثاني ينفي كل تدبير إلا من حيث الفزع إلى الله بالدعاء والابتهال كتدبير الطفل في التعلق بأمه فقط. والمقام الأول لا ينفي أصل التدبير والاختيار ولكن ينفي بعض التدبيرات كالمتوكل على وكيله في الخصومة فإنه يترك تدبيره من جهة غير الوكيل ولكن لا يترك التدبير الذي أشار إليه وكيله به أو التدبير الذي عرفه من عادته وسننه دون صريح إشارته؛ فأما الذي يعرفه بإشارته بأن يقول له: لست أتكلم إلا في حضورك فيشتغل لا محالة بالتدبير للحضور، ولا يكون هذا مناقضاً توكله عليه، إذ ليس هو فزعاً منه إلى حول نفسه وقوته في إظهار الحجة ولا إلى حول غيره، بل من تمام توكله عليه أن يفعل ما رسمه له؛ إذ لو لم يكن متوكلاً عليه ولا معتمداً له في قوله لما حضر: فقوله وأما المعلوم من عادته واطراد سننه: فهو أن يعلم من عادته أن لا يحاج الخصم إلا من السجل، فتمام توكله إن كان متوكلاً عليه: أن لا يكون معولاً على سنته وعادته ووافياً بمقتضاها: وهو أن يحمل السجل مع نفسه إليه عند مخاصمته؛ فإذن لا يستغني عن التدبير في الحضور وعن التدبير في إحضار السجل؛ ولو ترك شيئاً من ذلك كان نقصاً في توكله فكيف يكون فعله نقصاً فيه، نعم بعد أن حضر وفاءً بإشارته وأحضر السجل وفاءً بسنته وعادته وقع ناظراً إلى محاجته فقد ينتهي إلى المقام الثاني والثالث في حضوره حتى يبقى كالمبهوت المنتظر لا يفزع إلى حوله وقوته إذ لم يبق له حول ولا قوة، وقد كان فزعه إلى حوله وقوته في الحضور وإحضار السجل بإشارة الوكيل وسنته، وقد انتهى نهايته فلم يبق إلا طمأنينة النفس والثقة بالوكيل والانتظار لما يجري، وإذا تأملت هذا اندفع عنك كل إشكال في التوكل وفهمت أنه ليس من شرط التوكل ترك كل تدبير وعمل لا يجوز أيضاً مع التوكل بل هو على الانقسام وسيأتي تفصيله في الأعمال، فإذا فزع المتوكل إلى حوله وقوته في الحضور والإحضار لا يناقض التوكل لأنه يعلم أنه لولا الوكيل لكان حضوره وإحضاره باطلاً وتعباً محضاً بلا جدوى، فإذن لا يصير مفيداً من حيث إنه حوله وقوته بل من حيث إن الوكيل جعله معتمداً لمحاجته، وعرفه ذلك بإشارته وسنته، فإذن لا حول ولا قوة إلا بالوكيل، إلا أن هذه الكلمة لا يكمل معناها في حق الوكيل لأنه ليس خالقاً حوله وقوته، بل هو جاعل لهما مفيدين في أنفسهما ولم يكونا مفيدين لولا فعله، وإنما يصدق ذلك في حق الوكيل الحق وهو الله تعالى إذ هو خالق الحول والقوة كما سبق في التوحيد وهو الذي جعلهما مفيدين إذ جعلهما شرطاً لما سيخلقه من بعدهما من الفوائد والمقاصد، فإذن لا حول ولا قوة إلا بالله حقاً وصدقاً، فمن شاهد هذا كله كان له الثواب العظيم الذي وردت به الأخبار فيمن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك قد يستبعد فيقال: كيف يعطى هذا الثواب كله بهذه الكلمة مع سهولتها على اللسان وسهولة اعتقاد القلب بمفهوم لفظها؟ وهيهات فإنما ذلك جزاء على هذه المشاهدة التي ذكرناها في التوحيد، ونسبة هذه الكلمة وثوابها إلى كلمة "لا إله إلا الله " وثوابها كنسبة معنى إحداهما إلى الأخرى، إذ في هذه الكلمة إضافة إلى شيئين إلى الله تعالى فقط وهما الحول والقوة، وأما كلمة لا إله إلا الله فهو نسبة الكل إليه، فانظر إلى التفاوت بين الكل وبين شيئين لتعرف به ثواب " لا إله إلا الله " بالإضافة إلى هذا، وكما ذكرنا من قبل أن للتوحيد قشرين ولبين، فكذلك لهذه الكلمة ولسائر الكلمات، وأكثر الخلق قيدوا بالقشرين وما طرقوا إلى اللبين، وإلى اللبين الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه مخلصاً وجبت له الجنة" وحيث أطلق من غير الصدق والإخلاص أراد بالمطلق هذا المقيد كما أضاف المغفرة إلى الإيمان والعمل الصالح في بعض المواضع، وأضافها إلى مجرد الإيمان في بعض المواضع، والمراد به المقيد بالعمل الصالح، فالملك لا ينال بالحديث وحركة اللسان حديث وعقد القلب أيضاً حديث ولكنه حديث نفس، وإنما الصدق والإخلاص وراءهما، ولا ينصب سرير الملك إلا للمقربين وهم المخلصون، نعم لمن يقرب منهم في الرتبة من أصحاب اليمين أيضاً درجات عند  الله تعالى وإن كانت لا تنتهي إلا بالملك، أما ترى أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في سورة الواقعة المقربين السابقين تعرض لسرير الملك فقال: " على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين " ولما انتهى إلى أصحاب اليمين ما زاد في ذكر الماء والظل والفواكه والأشجار والحور العين، وكل ذلك من لذات المنظور والمشروب والمأكول والمنكوح، ويتصور ذلك للبهائم على الدوام، وأين لذات البهائم من لذة الملك، والنزول في أعلى عليين في جوار العالمين، ولو كان لهذه اللذات قدر لما وسعت على البهائم ولما رفعت عليها درجة الملائكة، أفترى أن أحوال البهائم - وهي مسيبة في الرياض متنعمة بالماء والأشجار وأصناف المأكولات متمتعة بالنزوان والفساد - أعلى وألذ وأشرف وأجدر بأن تكون عند ذوي الكمال مغبوطة - من أحوال الملائكة في سرورهم بالقرب من جوار رب العالمين في أعلى عليين، هيهات هيهات ما أبعد عن التحصيل من إذا خير بين أن يكون حماراً أو يكون في درجة جبريل عليه السلام فيختار درجة الحمار على درجة جبريل عليه السلام! وليس يخفى أن شبه كل شيء منجذب إليه، وأن النفس التي نزوعها إلى صنعة الأساكفة أكثر من نزوعها إلى صنعة الكتابة، فهو بالأساكفة أشبه في جوهره منه بالكتاب، وكذلك من نزوع نفسه إلى نيل لذات البهائم أكثر من نزوعها إلى نيل لذات الملائكة، فهو بالبهائم أشبه منه بالملائكة لا محالة، وهؤلاء هم الذين يقال فيهم: " أولئك كالأنعام بل هم أضل " وإنما كانوا أضل لأن الأنعام ليس في قوتها طلب درجة الملائكة، فتركها الطلب للعجز، وأما الإنسان ففي قوته ذلك، والقادر على نيل الكمال أحرى بالذم وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن طلب الكمال، وإذا كان هذا كلاماً معترضاً فلنرجع إلى المقصود فقد بينا معنى قول " لا إله إلا الله " ومعنى قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " وإن من ليس قائلاً بهما عن مشاهدة فلا يتصور منه حال التوكل. فإن قلت: ليس في قولك " لا حول ولا قوة إلا بالله " إلا نسبة شيئين إلى الله، فلو قال قائل: السماء والأرض خلق الله فهل يكون ثوابه مثل ثوابه؟ فأقول: لا، لأن الثواب على قدر درجة المثاب عليه ولا مساواة بين الدرجتين ولا ينظر إلى عظم السماء والأرض وصغر الحول والقوة إن جاز وصفهما بالصغر تجاوزاً، فليست الأمور بعظم الأشخاص بل كل عامي يفهم أن الأرض والسماء ليستا من جهة الآدميين بل هما من خلق الله تعالى، فأما الحول والقوة فقد أشكل أمرهما على المعتزلة والفلاسفة وطوائف كثيرة ممن يدعي أنه يدقق النظر في الرأي والمعقول حتى يشق الشعر بحدة نظره، فهي مهلكة مخطرة ومزلة عظيمة هلك فيها الغافلون إذا أثبتوا لأنفسهم أمراً وهو شرك في التوحيد وإثبات خالق سوى الله تعالى، فمن جاوز هذه العقبة بتوفيق الله تعالى إياه فقد علت رتبته وعظمت درجته فهو الذي يصدق قول لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ذكرنا أنه ليس في التوحيد إلا عقبتان: إحداهما النظر إلى السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والغيم والمطر وسائر الجمادات، والثانية النظر إلى اختيار الحيوانات وهي أعظم العقبتين وأخطرهما وبقطعهما كمال سر التوحيد فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعني ثواب المشاهدة التي هذه الكلمة ترجمتها، فإذا رجع حال التوكل إلى التبري من الحول والقوة والتوكل على الواحد الحق، وسيتضح عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى.

بيان ما قاله الشيوخ في أحوال التوكل

ليتبين أن شيئاً منها لا يخرج عما ذكرنا ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال، فقد قال أبو موسى الديلي: قلت لأبي يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك. فقال أبو يزيد: نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ثم وقع بك تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل، فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل وهو المقام الثالث، وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذي هو من أصول التوكل وهو العلم بالحكمة، وأن ما فعله الله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل النار وأهل الجنة بالإضافة إلى أصل العدل والحكمة وهذا أغمض أنواع العلم ووراءه سر القدر، وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات وليس ترك الاحتراز عن الحيات شرطاً في المقام الأول من التوكل، فقد احترز أبو بكر رضي الله عنه في الغار إذ سد منافذ الحياتإلا أن يقال فعل ذلك برجله ولم يتغير بسببه سره، أو يقال: إنما فعل ذلك شفقة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في حق نفسه، وإنما يزول التوكل بتحرك سره وتغيره لأمر يرجع إلى نفسه، وللنظر في هذا مجال، ولكن سيأتي بيان أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل، فإن حركة السر من الحيات هو الخوف، وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات، إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله، فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته في الاحتراز بل على خالق الحول والقوة والتدبير.

وسئل ذو النون المصري عن التوكل؟ فقال: خلع الأرباب وقطع السباب، فخلع الأرباب إشارة إلى علم التوحيد، وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال وليس فيه تعرض صريح للحال وإن كان اللفظ يتضمنه فقيل له: زدنا! فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية، وهذا إشارة إلى التبري من الحول والقوة فقط.

وسئل حمدون القصار عن التوكل؟ فقال: إن كان لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك، ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك لها وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك، وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة القدرة، وأن في المقدورات أسباباً خفية سوى هذه الأسباب الظاهرة.

 وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل؟ فقال: التعلق بالله تعالى في كل حال، فقال السائل: زدني! فقال: ترك كل سبب يوصل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك، فالأول عام للمقامات الثلاث، والثاني إشارة إلى المقام الثالث خاصة، وهو مثل توكل إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، إذ كان سؤاله سبباً يفضي إلى سبب وهو حفظ جبريل له، فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن أراد سخر جبريل لذلك، فيكون هو المتولي لذلك، وهذا حال مبهوت غائب عن نفسه بالله تعالى فلم ير معه غيره، وهو حال عزيز في نفسه، ودوامه إن وجد أبعد منه وأعز.

وقال أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب، ولعله يشير إلى المقام الثاني، فسكونه بلا اضطراب: إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به، واضطراب بلا سكون: إشارة إلى فزعه إليه وابتهاله وتضرعه بين يديه كاضطراب الطفل بين يديه إلى أمه وسكون قلبه إلى تمام شفقتها.

وقال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده، والمسلم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه، وهذا إشارة إلى تفاوت درجات نظره بالإضافة إلى المنظور إليه، فإن العلم هو الأصل، والوعد يتبعه، والحكم يتبع الوعد، ولا يبعد أن يكون الغالب على قلب المتوكل ملاحظة شيء من ذلك، وللشيوخ في التوكل أقاويل سوى ما ذكرناه فلا نطول بها فإن الكشف أنفع من الرواية والنقل، فهذا ما يتعلق بحال التوكل، والله الموفق برحمته ولطفه.

بيان أعمال المتوكلين

اعلم أن العلم يورث الحال، والحال يثمر الأعمال، وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين، بل انكشف الغطاء ونقول إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده، وسعي العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عند كالادخار، أو لدفع ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع، أو لإزالة ضار قد نزل به كالتداوي من المرض، فمقصود حركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة وهو جلب النافع أو حفظه، أو دفع الضار أو قطعه، فلنذكر شروط التوكل ودرجاته في كل واحد منها مقروناً بشواهد الشرع.

الفن الأول: في جلب النافع فنقول فيه: الأسباب التي بها يجلب النافع على ثلاث درجات: مقطوع به، ومظنون ظناً يوثق به، وموهوم وهماً لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه.

الدرجة الأولى: المقطوع به، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، كما أن الطعام إذا كان موضوعاً بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي ومد اليد إليه سعي وحركة وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله، فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء، فإنك إن انتظرت أن يخلق الله تعالى فيك شبعاً دون الخبر، أو يخلق في الخبز حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله تعالى، وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام، فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه، أليس التوكل في هذا المقام بالعمل بل بالحال والعمل. أما العلم: فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة وأنه هو الذي يطعمك ويسقيك، وأما الحال فهو أن يكون سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام وكيف تعتمد على صحة يدك وبما تجف في الحال وتفلج؟ وكيف تعول على قدرتك وربما يطرأ عليك في الحال ما يزيل عقلك ويبطل قوة حركتك؟ وكيف تعول على حضور الطعام، وربما يسلط الله تعالى من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن مكانك وتفرق بينك وبين طعامك، وإذا احتمل أمثال ذلك ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله تعالى فبذلك فلتفرح وعليه فلتعول، فإذا كان حاله وعلمه فليمد اليد فإنه متوكل. الدرجة الثانية: الأسباب التي ليست متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها وكان احتمال حصولها دونها بعيداً، كالذي يفارق الأمصار والقوافل ويسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً ويكون سفره من غير استصحاب زاد، فهذا ليس شرطاً في التوكل، بل استصحاب الزاد في البوادي سنة الأولين، ولا يزول التوكل به بعد أن يكون الاعتماد على فضل الله تعالى لا على الزاد كما سبق، ولكن فعل ذلك جائز، وهو من أعلى مقامات التوكل ولذلك كان يفعله الخواص.

فإن قلت: فهذا سعي في الهلاك وإلقاء النفس في التهلكة، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراماً بشرطين: أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على الصبر عن الطعام أسبوعاً وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق قلب وتشوش خاطر وتعذر في ذكر الله تعالى.

والثاني أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء الخسيسة؛ فبعد هذين الشرطين لا يخلو في غالب الأمر في البوادي في كل أسبوع عن أن يلقاه آدمي أو ينتهي إلى حلة أو قرية أو إلى حشيش يجتزئ به فيحيا به مجاهداً نفسه. والمجاهدة عماد التوكل، وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين، والدليل عليه أن الخواص كان لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ويقول: هذا لا يقدح في التوكل، وسببه أنه علم أن البوادي لا يكون الماء فيها على وجه الأرض، وما جرت سنة الله تعالى بصعود الماء من البئر بغير دلو ولا حبل ولا يغلب وجود الحبل والدلو في البوادي كما يغلب وجود الحشيش، والماء يحتاج إليه لوضوئه كل يوم مرات ولعطشه في كل يوم أو يومين مرة؛ فإن المسافر مع حرارة الحركة لا يصبر عن الماء وإن صبر عن الطعام، وكذلك يكون له ثوب واحد وربما يتخرق فتنكشف عروته ولا يوجد المقراض والإبرة في البوادي غالباً عند كل صلاة، ولا يقوم مقامهما في الخياطة والقطع شيء مما يوجد في البوادي، فكل ما في معنى هذه الأربعة أيضاً يلتحق بالدرجة الثانية، لأنه مظنون ظناً ليس مقطوعاً به، لأنه يحتمل أن لا يتخرق الثوب أو يعطيه إنسان ثوباً أو يجد على رأس البئر من يسقيه، ولا يحتمل أن يتحرك الطعام ممضوغاً إلى فيه، فبين الدرجتين فرقان ولكن الثاني في معنى الأول، ولهذا نقول: لو انحاز إلى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلاً، فهو آثم به ساع في هلاك نفسه، كما روي أن زاهداً من الزهاد فارق الأمصار وأقام في سفح جبل سبعاً وقال: لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني ربي برزقي، فقعد سبعة فكاد يموت ولم يأته رزق، فقال: يا رب إن أحييتني فائتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك، فأوحى الله جل ذكره إليه: وعزتي لا أرزقنك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس. فدخل المصر وقعد، فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب، فأكل وشرب وأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا! أما علمت أني أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من أن أرزقه بيد قدرتي.

فإذن التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل كما ضربناه مثلاً في الوكيل بالخصومة من قبل، ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة وإلى خفية، فمعنى التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى السبب. فإن قلت: ما قولك في القعود في البلد بغير كسب، أهو حرام أو مباح أو مندوب؟ فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكاً نفسه فهذا كيف كان لم يكن مهلكاً نفسه حتى يكون فعله حراماً، بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه، والصبر ممكن إلى أن يتفق، ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام، وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له، ولكن ليس فعله حراماً إلا أن يشرف على الموت: فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب، وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس ولا متطلع إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزقه، بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله، فهو أفضل، وهو من مقامات التوكل؛ وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم برزقه، فإن الرزق يأتيه لا محالة؛ وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء: وهو أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه، كما لو هرب من الموت لأدركه، وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب وكان عاصياً، ولقال له: يا جاهل، كيف أخلقك ولا أرزقك؟ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: اختلف الناس في كل شيء إلا في الرزق والأجل، فإنهم أجمعوا على أن لا رزاق ولا مميت إلا الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم: " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاَ وتروح بطاناً ولزالت بدعائكم الجبال".

وقال عيسى عليه السلام: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله تعالى يرزقها يوماً بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطوناً فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الحق للرزق.

وقال أبو يعقوب السوسي: المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم وغيرهم مشغولون مكدودون.

وقال بعضهم: العبيد كلهم في رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال، وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار وبعضهم بامتهان كالصناع، وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة.

الدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها، وهو الذي فيه الناس كلهم: أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتساباً مباحاً لمال مباح، فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب، فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل وهذا مثل الأسباب التي نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطير والكي بالإضافة إلى إزالة الضار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المتوكلين بذلك ولم يصفهم بأنهم لا يكتسبون ولا يسكنون الأمصار ولا يأخذون من أحد شيئاً، بل وصفهم بأنهم يتعاطون هذه الأسباب، وأمثال هذه الأسباب التي يوثق بها في المسببات مما يكثر فلا يمكن إحصاؤها.

وقال سهل في التوكل: إنه ترك التدبير، وقال: إن الله خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه، وإنما حجابهم بتدبيرهم، ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهي التي تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية، فإذن قد ظهر أن الأسباب الجلية، فإذن قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل وإلى ما لا يخرج، وأن الذي يخرج ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون، وأن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه وهو الاتكال على مسبب الأسباب، فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل.

وأما المظنونات فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعاً، والمتوكلون في ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات: الأول: مقام الخواص ونظرائه، وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فوقه، أو تيسير حشيش له أو قوت، أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك، فإن الذي يحمل الزاد قد يفقد الزاد أو يضل بعيره ويموت جوعاً، فذلك ممكن مع الزاد كما أنه يمكن مع فقده. المقام الثاني: أن يقعد في بيته أو في مسجد ولكنه في القرى والأمصار، وهذا أضعف من الأول، لكنه أيضاً متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة، معول على فضل الله تعالى في تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية، ولكنه بالقعود في الأمصار متعرض لأسباب الرزق، فإن ذلك من الأسباب الجالبة، إلا أن ذلك لا يبطل توكله إذا كان نظره إلى الذي يسخر له سكان البلد لإيصال رزقه إليه لا إلى سكان البلد، إذ يتصور أن يغفل جميعهم عنه ويضيعوه لولا فضل الله تعالى بتعريفهم وتحريك دواعيهم.

المقام الثالث: أن يخرج ويكتسب اكتساباً على الوجه الذي ذكرناه في الباب الثالث والرابع من كتاب آداب الكسب، وهذا السعي لا يخرجه أيضاً عن مقامات التوكل إذا لم يكن إذا لم يكن طمأنينة نفسه إلى كفايته وقوته وجاهه وبضاعته، فإن ذلك ربما يهلكه الله تعالى جميعه في لحظة، بل يكون نظره إلى الكفيل الحق بحفظ جميع ذلك وتيسير أسبابه له، بل يرى كسبه وبضاعته وكفايته بالإضافة إلى قدرة الله تعالى كما يرى القلم في يد الملك الموقع، فلا يكون نظره إلى القلم بل إلى قلب الملك أنه بماذا يتحرك؟ وإلى ماذا يميل؟ وبم يحكم؟ ثم إن كان هذا المكتسب مكتسباً لعياله أو ليفرق على المساكين فهو ببدنه مكتسب وبقلبه عنه منقطع؛ فحال هذا أشرف من حال القاعد في بيته، والدليل على أن الكسب لا ينافي حال التوكل إذا روعيت فيه الشروط وانضاف إليه الحال والمعرفة كما سبق أن الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة أصبح آخذاً لأثواب تحت حضنه والذراع بيده ودخل السوق ينادي، حتى كرهه المسلمون وقالوا: كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة؟ فقال: لا تشغلوني عن عيالي فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، فلما رضوا بذلك رأى مساعدتهم وتطييب قلوبهم واستغراق الوقت بمصالح المسلمين أولى، ويستحيل أن يقال: لم يكن الصديق في مقام التوكل! فمن أولى بهذا المقام منه؟ فدل على أنه كان متوكلاً لا باعتبار ترك الكسب والسعي بل باعتبار قطع الالتفات إلى قوته وكفايته والعلم بأن الله هو ميسر الاكتساب ومدبر الأسباب وبشروط كان يراعيها في طريق الكسب من الاكتفاء بقدر الحاجة من غير استكثار وتفاخر وادخار ومن غير أن يكون درهمه أحب إليه من درهم غيره، فمن دخل السوق ودرهمه أحب إليه من درهم غيره فهو حريص على الدنيا ومحب لها، ولا يصح التوكل إلا مع الزهد في الدنيا، نعم يصح الزهد دون التوكل فإن التوكل مقام وراء الزهد.

وقال أبو جعفر الحداد - وهو شيخ الجنيد رحمة الله عليهما - وكان من المتوكلين: أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت السوق: كنت أكتسب في كل يوم ديناراً ولا أبيت منه دانقاً ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام، بل أخرجه كله قبل الليل. وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرته وكان يقول: أستحي أن أتكلم في مقامه وهو حاضر عندي، واعلم أن الجلوس في رباطات الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل، فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف، ولكن يقوى بالحال والعلم، كتوكل المكتسب؛ وإن لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل إليهم فهذا أقوى في توكلهم، لكنه بعد اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقاً، فهو كدخول السوق، ولا يكون داخل السوق متوكلاً إلا بشروط كثيرة كما سبق. فإن قلت: فما الأفضل أن يقعد في بيته، أو يخرج ويكتسب؟ فاعلم أنه إن كان يتفرغ بترك الكسب لفكر وذكر وإخلاص واستغراق وقت بالعبادة وكان الكسب يشوش عليه ذلك وهو مع هذا لا تستشرف نفسه إلى الناس في انتظار من يدخل عليه فيحمل إليه شيئاً بل يكون قوي القلب في الصبر والاتكال على الله تعالى، فالقعود له أولى. وإن كان يضطرب قلبه في البيت ويستشرف إلى الناس فالكسب أولى، لأن استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب، وتركه أهم من ترك الكسب، وما كان المتوكلون يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم: كان أحمد بن حنبل قد أمر أبا بكر المروزي أن يعطي بعض الفقراء شيئاً فضلاً عما كان استأجره عليه، فرده، فلما ولى قال له أحمد: الحقه وأعطه فإنه يقبل، فلحقه وأعطاه فأخذه، فسأل أحمد عن ذلك؟ فقال: كان قد استشرفت نفسه فرد، فلما خرج انقطع طمعه وأيس فأخذ، وكان الخواص رحمه الله إذا نظر إلى عبد في العطاء أو خاف اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه شيئاً، وقال الخواص بعد أن سئل عن أعجب ما رآه في أسفاره: رأيت الخضر ورضي بصحبتي ولكني فارقته خيفة أن تسكن نفسي إليه فيكون نقصاً في توكلي، فإذن المكتسب إذا راعى آداب الكسب وشروط نيته كما سبق في كتاب الكسب وهو أن لا يقصد به الاستكثار ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلاً.

فإن قلت: فما علامة عدم اتكاله على البضاعة والكفاية؟ فأقول: علامته أنه إن سرقت بضاعته أو خسرت تجارته أو تعوق أمر من أموره كان راضياً به ولم تبطل طمأنينته ولم يضطرب قلبه، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحداً، فإن لم يسكن إلى شيء لم يضطرب لفقده، ومن اضطرب لفقد شيء فقد سكن إليه، وكان بشر يعمل المغازل فتركها، وذلك لأن البعادي كاتبه قال: بلغني أنك استعنت على رزقك بالمغازل، أرأيت إن أخذ الله سمعك وبصرك الرزق على من؟ فوقع ذلك في قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها. وقيل: تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها. وقيل: فعل ذلك لما مات عياله، كما كان لسفيان خمسون ديناراً يتجر فيها، فلما مات عياله فرقها.

فإن قلت: فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن إليها وهو يعلم أن الكسب بغير بضاعة لا يمكن؟ فأقول: بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة، وأن الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة، وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل به إلا ما فيه صلاحه، فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سبباً لفساد دينه وقد لطف الله تعالى به، وغايته أن يموت جوعاً، فينبغي أن يعتقد أن الموت جوعاً خير له في الآخرة مهما قضى الله تعالى بذلك من غير تقصير من جهته، فإذا اعتقد جميع ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها، ففي الخبر " إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه كئيباً حزيناً يتطير بجاره وابن عمه: من سبقني؟ من دهاني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها" ولذلك قال عمر رضي الله عنه: لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً، فإني لا أدري أيهما خير لي، ومن لم يتكامل يقينه بهذه الأمور لم يتصور منه التوكل؛ ولذلك قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: لي من كل مقام نصيب إلا من هذا التوكل المبارك فإني ما شممت منه رائحة، هذا كلامه مع علو قدره، ولم ينكر كونه من المقامات الممكنة ولكنه قال: ما أدركته، ولعله أراد إدراك أقصاه، وما لم يكمل الإيمان بأن لا فاعل إلا الله ولا رازق سواه وأن كل ما يقدره على العبد من فقر وغنى وموت وحياة فهو خير له مما يتمناه العبد: لم يكمل حال التوكل على قوة الإيمان بهذه الأمور - كما سبق - وكذا سائر مقامات الدين من الأقوال والأعمال تنبني على أصولها من الإيمان. وبالجملة التوكل مقام مفهوم ولكن يستدعي قوة القلب وقوة اليقين، ولذل قال سهل: من طعن على التكسب فقد طعن على السنة، ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد. فإن قلت: فهل من دواء ينتفع به في صرف القلب عن الركون إلى الأسباب الظاهرة وحسن الظن بالله تعالى في تيسير الأسباب الخفية؟ فأقول: نعم هو أن تعرف أن سوء الظن تلقين الشيطان، وحسن الظن تلقين الله تعالى: قال الله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " فإن الإنسان بطبعه مشغوف بسماع تخويف الشيطان، ولذلك قيل: الشفيق بسوء الظن مولع، وإذا انضم إليه الجبن وضعف القلب ومشاهدة المتكلين على الأسباب الظاهرة والباعثين عليها غلب سوء الظن وبطل التوكل بالكلية، بل رؤية الرزق من الأسباب الخفية أيضاً تبطل التوكل، فقد حكي عن عابد أنه عكف في مسجد ولم يكن له معلوم، فقال له الإمام: لو اكتسبت لكان أفضل لك، فلم يجبه حتى أعاد عليه ثلاثاً، فقال في الرابعة: يهودي في جوار المسجد قد ضمن لي كل يوم رغيفين، فقال: إن كان صادقاً في ضمانه فعكوفك في المسجد خير لك، فقال: يا هذا لو لم تكن إماماً تقف بين يدي الله وبين العباد مع هذا النقص في التوحيد كان خيراً لك إذ فضلت وعد يهودي على ضمان الله تعالى بالرزق.

وقال إمام المسجد لبعض المصلين: من أين تأكل؟ فقال: يا شيخ اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك.

وينفع حسن الظن بمجيء الرزق من فضل الله تعالى بواسطة الأسباب الخفية: أن تسمع الحكايات التي فيها عجائب صنع الله تعالى في وصول الرزق إلى صاحبه، وفيها عجائب قهر الله تعالى في إهلاك أموال التجار والأغنياء وقتلهم جوعاً، كما روي عن حذيفة المرعشي وقد كان خدم إبراهيم بن أدهم، فقيل له: ما أعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة فأوينا إلى مسجد خراب، فنظر إلي إبراهيم وقال: يا حذيفة، أرى بك الجوع، فقلت: هو ما رأى الشيخ، فقال: علي بدواة وقرطاس، فجئت به إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود إليه بكل حال، والمشار إليه بكل معنى، وكتب شعراً:  

أنا حامد أنا شاكر أنـا ذاكـر

 

أنا جائع أنا ضائع أنا عـاري

هي ستة وأنا الضمين لنصفها

 

فكن الضمين لنصفها يا باري

مدحي لغيرك لهب نار خضتها

 

فأجر عبيدك من دخول النار

ثم دفع إلي الرقعة فقال: اخرج ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك، فخرجت فأول من لقيني كان رجلاً على بغلة. فناولته الرقعة فأخذها، فلما وقف عليها بكى وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني، فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار، ثم لقيت رجلاً آخر فسألته عن راكب البغلة فقال: هذا نصراني، فجئت إلى إبراهيم وأخبرته بالقصة فقال: لا تمسه فإنه يجيء الساعة، فلما كان بعد ساعة دخل النصراني وأكب على رأس إبراهيم يقبله وأسلم.

وقال أبو يعقوب الأقطع البصري: جمعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً، فحدثتني نفسي بالخروج فخرجت إلى الوادي لعلي أجد شيئاً يسكن ضعفي، فرأيت سلجمة مطروحة فأخذتها، فوجدت في قلبي منها وحشة وكأن قائلاً يقول لي: جعت عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة متغيرة، فرميت بها ودخلت المسجد وقعدت، فإذا أنا برجل أعجمي قد أقبل حتى جلس بين يدي ووضع قمطرة وقال: هذه لك، فقلت: كيف خصصتني بها؟ قال: اعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة أيام وأشرفت السفينة على الغرق، فنذرت إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على أول من يقع عليه بصري من المجاورين، وأنت أول من لقيته، فقلت: افتحها، ففتحها فإذا فيها سميد مصري ولوز مقشور وسكر كعاب، فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت: رد الباقي إلى أصحابك هدية مني إليكم، وقد قبلتها، ثم قلت في نفسي: رزقك يسير إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي.

وقال ممشاد الدينوري: كان علي دين فاشتغل قلبي بسببه، فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول: يا بخيل، أخذت علينا هذا المقدار من الدين، خذ عليك الأخذ وعلينا العطاء، فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصاباً ولا غيرهما. وحكي عن بنان الحمال قال: كنت في طريق مكة أجيء من مصر ومعي زاد؛ فجاءتني امرأة وقالت لي: يا بنان، أنت حمال نحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك، قال: فرميت بزادي ثم أتى علي ثلاث لم آكل، فوجدت خلخالاً في الطريق فقلت في نفسي: أحمله حتى يجيء صاحبه فربما يعطيني شيئاً فأرده عليه، فإذا أنا بتلك المرأة فقالت لي: أنت تاجر تقول عسى يجيء صاحبه فآخذ منه شيئاً! ثم رمت لي شيئاً من الدراهم وقالت: أنفقها، فاكتفيت بها إلى قريب مكة.

وحكي أن بناناً احتاج إلى جارية تخدمه، فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها وقالوا: هو ذا يجيء النفير فنشتري ما يوافق، فلما ورد النفير اجتمع رأيهم على واحدة وقالوا: إنها تصلح له، فقالوا لصاحبها: بكم هذه؟ فقال: إنها ليست للبيع، فألحوا عليه فقال: إنها لبنان الحمال أهدتها إليه امرأة من سمرقند، فحملت إلى بنان وذكرت له القصة.

وقيل: كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص فقال: إن أكلته مت، فوكل الله عز وجل به ملكاً وقال: إن أكله فارزقه وإن لم يأكله فلا تعطه غيره، فلم يزل القرص معه إلى أن مات ولم يأكله وبقي القرص عنده.

وقال أبو سعيد الخراز: دخلت البادية بغير زاد فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت ثم فكرت في نفسي أني سكنت واتكلت على غيره وآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها، فحفرت لنفسي في الرمل حفرة واريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعت صوتاً في نصف الليل عالياً: يا أهل المرحلة، إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فألحقوه، فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية.

وروي أن رجلاً لازم باب عمر رضي الله عنه فإذا هو بقائل يقول: يا هذا هاجرت إلى عمر أو إلى الله تعالى؟ اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل وغاب حتى افتقده عمر، فإذا هو قد اعتزل واشتغل بالعبادة، فجاءه عمر فقال له: إني قد اشتقت إليك فما الذي شغلك عني؟ فقال: إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر وآل عمر، فقال عمر: رحمك الله فما الذي وجدت فيه؟ فقال: وجدت فيه " وفي السماء رزقكم وما توعدون " فقلت رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فبكى عمر وقال: صدقت، فكان عمر بعد ذلك يأتيه ويجلس إليه.

وقال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت لا والله لا أستغيث، فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان، فقال أحدهما للآخر تعال حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه أحد، فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر، فهممت أن أصيح فقلت في نفسي: إلى من أصيح هو أقرب منهما وسكنت فبينا أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك، فتعلقت به فأخرجني، فإذا هو سبع، فمر بي وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة أليس هذا أحسن، نجيناك من التلف بالتلف، فمشيت وأنا أقول:  

نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى

 

وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهـدي

 

إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

تراءيت لي بالمغيب حتى كأنـمـا

 

تبشرني بالغيب أنك في الـكـف

أراك وبي من هيبتي لك وحـشة

 

فتؤنسني باللطف منك وبالعطـف

وتحيي محباً أنت في الحب حتفـه

 

وذا عجب كون الحياة مع الحتف

وأمثال هذه الوقائع مما يكثر، وإذا قوي الإيمان به وانضم إليه القدرة على الجوع قدر أسبوع من غير ضيق صدر، وقوي الإيمان بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير له عند الله عز وجل ولذلك حبسه عنه، ثم التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات، وإلا فلا يتم أصلاً.

بيان توكل المعيل

اعلم أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد، لأن المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين: أحدهما قدرته على الجوع أسبوعاً من غير استشراف وضيق نفس، والآخر أبواب من الإيمان ذكرناها من جملتها: أن يطيب نفساً بالموت إن لم يأته رزقه، علماً بأن رزقه الموت والجوع، وهو إن كان نقصاً في الدنيا فهو زيادة في الآخرة، فيرى أنه سيق إليه خير الرزقين له: وهو رزق الآخرة، وأن هذا هو المرض الذي به يموت ويكون راضياً بذلك وأنه كذا قضي وقدر له، فبهذا يتم التوكل للمنفرد، ولا يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع، ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادراً، وكذا سائر أبواب الإيمان، فإذن لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب وهو المقام الثالث، كتوكل أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذا خرج للكسب، فأما دخول البوادي وترك العيال توكلاً في حقهم أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلاً في حقهم فهذا حرام، وقد يفضي إلى هلاكهم ويكون هو مؤاخذاً بهم، بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله، فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقاً وغنيمة في الآخرة، فله أن يتوكل في حقهم ونفسه أيضاً عيال عنده، ولا يجوز له أن يضيعها إلا أن تساعده على الصبر على الجوع مدة، فإن كان لا يطيقه ويضطرب عليه قلبه وتتشوش عليه عبادة لم يجز له التوكل، ولذلك روي أن أبا تراب النخشي نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام، فقال له: لا يصلح لك التصوف الزم السوق. أي لا تصوف إلا مع التوكل. ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام أكثر من ثلاثة أيام، وقال أبو علي الروذباري: إذا قال الفقير بعد خمسة أيام: أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالعمل والكسب، فإذن بدنه عياله وتوكله فيما يضر ببدنه كتوكله في عياله: وإنما يفارقهم في شيء واحد وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع وليس له ذلك في عياله، وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعاً عن الأسباب بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادراً وملازمة البلاد والأمصار أو ملازمة البوادي التي لا تخلو عن حشيش وما يجري مجراه، فهذه كلها أسباب البقاء ولكن مع نوع من الأذى، إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر، والتوكل في الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي، وكل ذلك من الأسباب إلا أن الناس عدلوا إلى أسباب أظهر منها فلم يعدوا تلك أسباباً، وذلك لضعف إيمانهم وشدة حرصهم وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة واستيلاء الجبن على قلوبهم بإساءة الظن وطول الأمل، ومن نظر في ملكوت السموات والأرض انكشف له تحقيقاً أن الله تعالى دبر الملك والملكوت تدبيراً لا يجاوز العبد رزقه وإن ترك الاضطراب. فإن العاجز عن الاضطراب لم يجاوزه رزقه، أما ترى الجنين في بطن أمه لما أن كان عاجزاً عن الاضطراب كيف وصل سرته بالأم حتى تنتهي إليه فضلات غذاء الأم بواسطة السرة ولم يكن ذلك بحيلة الجنين، ثم لما انفصل سلط الحب والشفقة على الأم لتتكفل به شاءت أم أبت اضطراراً من الله تعالى إليه بما أشعل في قلبها من نار الحب، ثم لما لم يكن له سن يمضغ به الطعام جعل رزقه من اللبن الذي لا يحتاج إلى المضغ، ولأنه لرخاوة مزاجه كان لا يحتمل الغذاء الكثيف فأدر له اللبن اللطيف في ثدي الأم عند انفصاله على حسب حاجته، أفكان هذا بحيلة الطفل أو بحيلة الأم! إذ صار بحيث يوافقه الغذاء الكثيف أنبت له أسناناً قواطع وطواحين لأجل المضغ، فإذا كبر واستقل يسر له أسباب التعلم وسلوك سبيل الآخرة، فجبنه بعد البلوغ جهل محض لأنه ما نقصت أسباب معيشته ببلوغه بل زادت، فإنه لم يكن قادراً على الاكتساب، فالآن قد قدر فزادت قدرته، نعم كان المشفق عليه شخصاً واحداً وهي الأم أو الأب وكانت شفقته مفرطة جداً فكان يطعمه ويسقيه في اليوم مرتين وكان إطعامه بتسليط الله تعالى الحب والشفقة على قلبه، فكذلك قد سلط الله الشفقة والمودة والرحمة والرقة على قلوب المسلمين بل أهل البلد كافة، حتى إن كل واحد منهم إذا أحس بمحتاج تألم قلبه ورق عليه وانبعثت له داعية إلى إزالة حاجته، فقد كان المشفق عليه واحداً والآن المشفق عليه ألف وزيادة، وقد كانوا لا يشفقون عليهم لأنهم رأوه في كفالة الأم والأب وهو مشفق خاص فما رأوه محتاجاً، ولو رأوه يتيماً لسلط الله داعية الرحمة على واحد من المسلمين أو على جماعة حتى يأخذونه ويكفلونه، فما رؤي إلى الآن في سني الخصب يتيم قد مات جوعاً مع أنه عاجز عن الاضطراب وليس له كافل خاص، والله تعالى كافله بواسطة الشفقة التي خلقها في قلوب عباده فلماذا ينبغي أن يشتغل قلبه برزقه بعد البلوغ ولم يشتغل في الصبا وقد كان المشفق واحداً والمشفق الآن ألف، نعم كانت شفقة الأم أقوى وأحظى ولكنها واحدة، وشفقة آحاد الناس وإن ضعفت فيخرج من مجموعها ما يفيد الغرض، فكم من يتيم قد يسر الله تعالى له حالاً هو أحسن من حال من له أب وأم! فينجبر ضعف شفقة الآحاد بكثرة المشفقين وبترك التنعم والاقتصار على قدر الضرورة، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:  

جرى قلم القضاء بما يكون

 

فسان التحرك والسكـون

جنون منك أن تسعى لرزقٍ

 

ويرزق في غشاوته الجنين

فإن قلت: الناس يكفلون اليتيم لأنهم يرونه عاجزاً بصباه، وأما هذا فبالغ قادر على الكسب فلا يلتفتون إليه ويقولون: هو مثلنا فليجتهد لنفسه؟ فأقول: إن كان هذا القادر بطالاً فقد صدقوا فعليه الكسب ولا معنى للتوكل في حقه فإن التوكل من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى، فما للبطال والتوكل؟ وإن كان مشتغلاً بالله ملازماً لمسجد أو بيت وهو مواظب على العلم والعبادة فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ولا يكلفونه ذلك، بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملون إليه فوق كفايته، وإنما عليه أن لا يغلق الباب ولا يهرب إلى جبل من بين الناس، وما رؤي إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً ولا يرى قط، بل لو أراد أن يطعم جماعة من الناس بقوله لقدر عليه، فإن من كان لله تعالى كان الله عز وجل له، ومن اشتغل بالله عز وجل ألقى الله حبه في قلوب الناس وسخر له القلوب كما سخر قلب الأم لولدها، فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهل الملك والملكوت، فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب، نعم ما دبره تدبيراً يصل إلى المشتغل به الحلو والطيور السمان والثياب الرقيقة والخيول النفيسة على الدوام لا محالة، وقد يقع ذلك أيضاً في بعض الأحوال لكن دبره تدبيراً يصل إلى كل مشتغل بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش يتناوله لا محالة، والغالب أنه يصل أكثر منه بل يصل ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية، فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام ولبس الثياب الناعمة وتناول الأغذية اللطيفة، وليس ذلك من طريق الآخرة، وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب، وهو في الغالب أيضاً ليس يحصل مع الاضطراب، وإنما يحصل نادراً، وفي النادر قد يحصل بغير اضطراب: فأثر الاضطراب ضعف عند من انفتحت بصيرته، فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيراً لا يجاوز عبداً من عباده رزقه وإن سكن إلا نادراً ندوراً عظيماً يتصور مثله في حق المضطرب: فإذا انكشفت هذه الأمور وكان معه قوة في القلب وشجاعة في النفس أثمر ما قاله الحسن البصري رحمه الله إذ قال: وددت أن أهل البصرة في عيالي، وأن حبة بدينار.

وقال وهيب بن الورد: لو كانت السماء نحاساً والأرض رصاصاً واهتممت برزقي لظننت أني مشرك، فإذا فهمت هذه الأمور فهمت أن التوكل مقام مفهوم في نفسه ويمكن الوصول إليه لمن قهر نفسه، وعلمت أن من أنكر أصل التوكل وإمكانه أنكره عن جهل، فإياك أن تجمع بين الإفلاسين: الإفلاس عن وجود المقام ذوقاً، والإفلاس عن الإيمان به علماً؛ فإذن عليك بالقناعة بالنزر القليل والرضا بالقوت فإنه يأتيك لا محالة وإن فررت منه، وعند ذلك على الله أن يبعث إليك رزقك على يدي من لا تحتسب، فإن اشتغلت بالتقوى شاهدت بالتجربة مصداق قوله تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " الآية، إلا أنه لم يتكفل له أن يرزقه لحم الطير ولذائذ الأطعمة، فما ضمن إلا الرزق الذي تدوم به حياته، وهذا المضمون مبذول كل من اشتغل بالضامن واطمأن إلى ضمانه؛ فإن الذي أحاط به تدبير الله من الأسباب الخفية للرزق أعظم مما ظهر للخلق، بل مداخل الرزق لا تحصى ومجاريه لا يهتدى إليها، وذلك لأن ظهوره على الأرض وسببه في السماء، قال الله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " وأسرار السماء لا يطلع عليها، ولهذا دخل جماعة على الجنيد فقال: ماذا تطلبون؟ قالوا: نطلب الرزق، فقال: إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه. قالوا: نسأل الله. قال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا: ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون. فقال: التوكل على التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.

وقال أحمد بن عيسى الخراز: كنت في البادية فنالني جوع شديد فغلبتني نفسي أن أسأل الله تعالى طعاماً، فقلت: ليس هذا من أفعال المتوكلين، فطالبتني أن أسأل الله صيراً، فلما هممت بذلك سمعت هاتفاً يهتف بي ويقول:  

ويزعم أنه منـا قـريب

 

وأنا لا نضيع من أتانـا

ويسألنا على الإقتار جهداً

 

كأنا لا نراه ولا يرانـا

فقد فهمت أن من انكسرت نفسه وقوي قلبه ولم يضعف بالجبن باطنه وقوي إيمانه بتدبير الله تعالى؛ كان مطمئن النفس أبداً واثقاً بالله عز وجل؛ فإن أسوأ حاله أن يموت، ولا بد أن يأتيه الموت كما يأتي من ليس مطمئناً فإذن تمام التوكل بقناعة من جانب ووفاء بالمضمون من جانب، والذي ضمن رزق القانعين بهذه الأسباب التي دبرها صادق، فاقنع وجرب تشاهد صدق الوعد تحقيقاً بما يرد عليك من الأرزاق العجيبة التي لم تكن في ظنك وحسابك، ولا تكن في توكلك منتظراً للأسباب بل لمسبب الأسباب، كما لا تكون منتظراً لقلم الكاتب فإنه أصل حركة القلم، والمحرك الأول واحد فلا ينبغي أن يكون النظر إلا إليه، وهذا شرط توكل من يخوض البوادي بلا زاد أو يقعد في الأمصار وهو خامل. وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ، وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب ولا يحتسب على الدوام، بل يأتيه أضعافه، فتركه التوكل واهتمامه بالرزق غاية الضعف والقصور، فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب، فالاهتمام بالرزق قبيح بدوي الدين وهو بالعلماء أقبح لأن شرطهم القناعة والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل من كسبه فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن: فإن الكسب يمنع عن السير بالفكر الباطن، فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى لأنه تفرغ لله عز وجل وإعانة للمعطي على نيل الثواب، ومن نظر إلى مجاري سنة الله تعالى علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب، ولذلك سأل بعض الأكاسرة حكيماً عن الأحمق المرزوق والعاقل المحروم فقال: أراد الصانع أن يدل على نفسه، إذ لو رزق كل عاقل وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه، فلما رأوا خلافه علموا أن الرازق غيرهم ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم، قال الشاعر:  

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا

 

هلكن إذن من جهلهـن الـبـهـائم

بيان أحوال المتوكلين في التعلق بالأسباب بضرب مثال

اعلم أن مثال الخلق مع الله تعالى مثل طائفة من السؤال وقفوا في ميدان على باب قصر الملك وهم محتاجون إلى الطعام فأخرج إليهم غلماناً كثيرة ومعهم أرغفة من الخبز وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين رغيفين وبعضهم رغيفاً رغيفاً ويجتهدوا في أن لا يغفلوا عن واحد منهم، وأمر منادياً حتى نادى فيهم أن اسكنوا ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا إليكم، بل ينبغي أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه فإن الغلمان مسخرون وهم مأمورون بأن يوصلوا إليكم طعامكم: فمن تعلق بالغلمان وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا فتح باب الميدان وخرج اتبعته بغلام يكون موكلاً به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم عندي وأخفيه، ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد أتاه من يد الغلام وهو ساكن فإني أختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر، ومن ثبت في مكانه ولكنه أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه ولا خلعة له، ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئاً فبات الليلة جائعاً غير متسخط للغلمان ولا قائلاً: ليته أوصل إلي رغيفاً فإني غداً أستوزره وأفوض ملكي إليه فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام: قسم غلبت عليهم بطونهم فلم يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة، وقالوا: من اليوم إلى غد فرج! ونحن الآن جائعون فبادروا إلى الغلمان فآذوهم وأخذوا الرغيفين، فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد المذكور فندموا ولم ينفعهم الندم، وقسم تركوا التعلق بالغلمان خوف العقوبة ولكن أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة وما فازوا بالخلعة، وقسم قالوا: إنا نجلس بمرأى من الغلمان حتى لا يخطئونا ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفاً واحداً نقنع به، فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة؛ وقسم رابع اختفوا في زوايا الميدان وانحرفوا عن مرأى أعين الغلمان وقالوا: إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد، وإن أخطأونا قاسينا شدة الجوع الليلة، فلعلنا نقوى على ترك التسخط فننال رتبة الوزراة ودرجة القرب عند الملك، فما نفعهم ذلك، إذ اتبعهم الغلمان في كل زاوية وأعطوا كل واحد رغيفاً واحداً، وجرى مثل ذلك أياماً حتى اتفق على الندور أن اختفى ثلاثة في زاوية ولم تقع عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش، فباتوا في جوع شديد، فقال اثنان منهم: ليتنا تعرضنا للغلمان وأخذنا طعامنا فلسنا نطيق الصبر، وسكت الثالث إلى الصباح فنال درجة القرب والوزارة، فهذا مثال الخلق، والميدان هو الحياة في الدنيا، وباب الميدان الموت، والميعاد المجهول يوم القيامة، والوعد بالوزراة هو الوعد بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعاً راضياً من غير تأخير ذلك إلى ميعاد القيامة، لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، والمتعلق بالغلمان هو المعتدي في الأسباب، والغلمان المسخرون هم الأسباب، والجالس في ظاهر الميدان بمرأى الغلمان هم المقيمون في الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون، والمختفون في الزوايا هم السائحون في البوادي على هيئة التوكل والأسباب تتبعهم والرزق يأتيهم إلا على سبيل الندور، فإن مات واحد منهم جائعاً راضياً فله الشهادة والقرب من الله تعالى، وقد انقسم الخلق إلى هذه الأقسام الأربعة، ولعل من كل مائة تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة الباقية في الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم واشتهارهم، وساح في البوادي ثلاثة، وتسخط اثنان، وفاز بالقرب الواحد، ولعله كان كذلك في الأعصار السالفة، وأما الآن فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف.

الفن الثاني في التعرض لأسباب الادخار: فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب، فله في الادخار ثلاثة أحوال: الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت فيأكل إن كان جائعاً، ويلبس إن كان عارياً، ويشتري مسكناً مختصراً إن كان محتاجاً، ويفرق الباقي في الحال، ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به يستحقه إليه فيدخره على هذه النية، فهذا هو الوفي بموجب التوكل تحقيقاً وهي الدرجة العليا.

الحالة الثانية: المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكل: أن يدخر لسنة فما فوقها، فهذا ليس من المتوكلين أصلاً؛ وقد قيل: لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة: الفأرة، والنملة، وابن آدم. الحالة الثالثة: أن يدخر لأربعين يوماً فما دونها، فهذا: هل يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين؟ اختلفوا فيه: فذهب سهل إلى أنه يخرج عن حد التوكل. وذهب الخواص إلى أنه لا يخرج بأربعين يوماً ويخرج بما يزيد على الأربعين. وقال أبو طالب المكي: لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضاً، وهذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار، نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض التوكل، فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له، وكل ثواب موعود على رتبة فإنه يتوزع على تلك الرتبة، وتلك الرتبة لها بداية ونهاية، ويسمى أصحاب النهايات: السابقين، وأصحاب البدايات: أصحاب اليمين، ثم أصحاب اليمين أيضاً على درجات، وكذلك السابقون، وأعالي درجات أصحاب اليمين تلاصق أسافل درجات السابقين، فلا معنى للتقدير في مثل هذا؛ بل التحقيق أن التوكل بترك الادخار لا يتم إلا بقصر الأمل، وأما عدم آمال البقاء فيبعد اشتراطه ولو في نفس، فإن ذلك كالممتنع وجوده؛ أما الناس فمتفاوتون في طول الأمل وقصره، وأقل درجات الأمل يوم وليلة فما دونه من الساعات، وأقصاه ما يتصور أن يكون عمر الإنسان، وبينهما درجات لا حصر لها، فمن يؤمل أكثر من شهر أقرب إلى المقصود ممن يؤمل سنة، وتقييده بأربعين لأجل ميعاد موسى عليه السلام: بعيد؛ فإن تلك الواقعة ما قصد بها بيان مقدار ما رخص الأمل فيه، ولكن استحقاق موسى لنيل الموعود كان لا يتم إلا بعد أربعين يوماً لسر جرت به وبأمثاله سنة الله تعالى في تدريج الأمور، كما قال عليه السلام: "إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً" لآن استحقاق تلك الطينة التخمر كان موقوفاً على مدة مبلغها ما ذكر، فإذن ما وراء السنة لا يدخر له إلا بحكم ضعف القلب والركون إلى ظاهر الأسباب، فهو خارج عن مقام التوكل غير واثق بإحاطة التدبير من الوكيل الحق بخفايا الأسباب، فإن أسباب الدخل في الارتفاعات والزكوات تتكرر بتكرر السنين غالباً، ومن ادخر لأقل من سنة فله درجة بحسب قصر أمله ومن كان أمله شهرين لم تكن درجته كدرجة من أمل شهراً ولا درجة من أمل ثلاثة أشهر، بل هو بينهما في الرتبة، ولا يمنع من الادخار إلا قصر الأمل، فالأفضل أن لا يدخر أصلاً، وإن ضعف قلبه فكلما قل ادخاره كان فضله أكثر، وقد روي في الفقير الذي أمر صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه وأسامة أن يغسلاه فغسلاه وكفناه ببردته، فلما دفنه قال لأصحابه: "إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، لولا خصلة كانت فيه لبعث ووجهه كالشمس الضاحية " قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: " كان صواماً قواماً كثير الذكر لله تعالى غير أنه كان إذا جاء الشتاء ادخر حلة الصيف لصيفه، وإذا جاء الصيف ادخر حلة الشتاء لشتائه "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " بل أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر" الحديث، وليس الكوز والشفرة وما يحتاج إليه على الدوام في معنى ذلك، فإن ادخاره لا ينقص الدرجة، وأما ثوب الشتاء فلا يحتاج إليه في الصيف، وهذا في حق من لا ينزعج قلبه بترك الادخار ولا تستشرف نفسه إلى أيدي الخلق بل لا يلتفت قلبه إلا إلى الوكيل الحق، فإن كان يستشعر في نفسه اضطراباً يشغل قلبه عن العبادة والذكر والفكر فالادخار له أولى، بل لو أمسك ضيعة يكون دخلها وافياً بقدر كفايته وكان لا يتفرغ قلبه إلا به فذلك له أولى، لأن المقصود إصلاح القلب ليتجرد لذكر الله، ورب شخص يشغله وجود المال ورب شخص يشغله عدمه، والمحذور ما يشغل عن الله عز وجل، وإلا فالدنيا في عينها غير محذورة لا وجودها ولا عدمها، ولذلك بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى أصناف الخلق وفيهم التجار والمحترفون وأهل الحرف والصناعات، فلم يأمر التجار بترك تجارته ولا المحترف بترك حرفته ولا أمر التارك لهما بالاشتغال بهما، بل دعا الكل إلى الله تعالى وأرشدهم إلى أن فوزهم ونجاتهم في انصراف قلوبهم عن الدنيا إلى الله تعالى، وعمدة الاشتغال بالله عز وجل القلب، فصواب الضعيف ادخار قدر حاجته، كما أن صواب القوي ترك الادخار وهذا كله حكم المنفرد؛ فأما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبراً لضعفهم وتسكيناً لقلوبهم، وادخار أكثر من ذلك مبطل للتوكل، لأن الأسباب تتكرر عند تكرر السنين، فادخاره ما يزيد عليهسببه ضعف قلبه، وذلك يناقض قوة التوكل، فالمتوكل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله تعالى، واثق بتدبيره دون وجود الأسباب الظاهرة. وقد ادخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعياله قوت سنة، ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر له شيئاً لغد، ونهى بلالاً عن الادخار في كسرة خبز ادخرها ليفطر عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".

وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ" إقتداء بسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم، وقد كان قصر أمله بحيث كان إذا بال تيمم مع قرب الماء ويقول: " ما يدريني لعلي لا أبلغه".

وكان صلى الله تعالى عليه وسلم لو أخر لم ينقص ذلك من توكله إذ كان لا يثق بما ادخره، ولكنه عليه السلام ترك ذلك تعليماً للأقوياء من أمته، فإن أقوياء أمته ضعفاء بالإضافة إلى قوته، وادخر عليه السلام لعياله سنة لا لضعف قلب فيه وفي عياله، ولكن ليس ذلك للضعفاء في أمته، بل أخبر: " إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" تطييباً لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات، فما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين كلهم على اختلاف أصنافهم ودرجاتهم، وإذا فهمت هذا علمت أن الادخار قد يضر بعض الناس وقد لا يضر، ويدل على ما روى أبو أمامة الباهلي: أن بعض أصحاب الصفة توفي فما وجد له كفن، فقال صلى الله عليه وسلم: " فتشوا ثوبه، فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره فقال صلى الله عليه وسلم: " كيتان"، وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالاً ولا يقول ذلك في حقه، وهذا يحتمل وجهين لأن حاله يحتمل حالين: أحدهما: أنه أراد كيتين من النار، كما قال تعالى " تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم " وذلك إذا كان حاله إظهار الزهد والفقر مع الإفلاس عنه فهو نوع تلبيس.

والثاني: أن لا يكون ذلك عن تلبيس، فيكون المعنى به النقصان عن درجة كماله كما ينقص من جمال الوجه أثر كيتين في الوجه، وذلك لا يكون عن تلبيس، فإن كل ما يخلفه الرجل فهو نقصان عن درجته في الآخرة، إذ لا يؤتى أحد من شيئاً إلا نقص بقدره من الآخرة، وأما بيان أن الادخار مع فراغ القلب عن المدخر ليس من ضرورته بطلان التوكل، فيشهد له ما روي عن بشر، قال الحسين المغازلي من أصحابه: كنت عنده ضحوة من النهار، فدخل عليه رجل كهل أسمر خفيف العارضين، فقام إليه بشر، قال: وما رأيته قام لأحد غيره، قال: ودفع إلي كفاً من دراهم وقال: اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام الطيب، وما قال لي قط مثل ذلك، قال: فجئت بالطعام فوضعته فأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، قال: فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير، فأخذه الرجل وجمعه في ثوبه وحمله معه وانصرف، فعجبت من ذلك وكرهته له، فقال لي بشر: لعلك أنكرت فعله؟ قلت: نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن، فقال: ذلك أخونا فتح الموصلي زارنا اليوم من الموصل فإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار. الفن الثالث في مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف: اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأساً، أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو في مجاري السيل من الوادي أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر، فكل ذلك منهي عنه، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة، نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها، ومظنونة، وإلى موهومة فترك الموهوم منها من شرط التوكل وهي التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة السكن والرقية، فإن الكي والرقية قد تقدم به على المحذور دفعاً لما يتوقع، وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة، ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة، والجبة تلبس دفعاً للبرد المتوقع، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب، نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلاً عند الخروج إلى السفر في الشتاء تهييجاً لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل عليها فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة، ولترك الأسباب الدافعة وإن كانت مقطوعة وجه إذا ناله الضرر من إنسان، فإنه إذا أمكنه الصبر وأمكنه الدفع والتشفي فشرط التوكل الاحتمال والصبر، قال الله تعالى: "فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون".

وقال تعالى: "ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون".

وقال عز وجل: " ودع أذاهم وتوكل على الله ".

وقال سبحانه وتعالى: " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ".

وقال تعالى: " نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " وهذا في أذى الناس، وأما الصبر على أذى الحيات والسباع والعقارب، فترك دفعها ليس من التوكل في شيء إذ لا فائدة فيه، ولا يراد السعي ولا يترك السعي لعينه بل لإعانته على الدين، وترتب الأسباب ههنا كترتبها في الكسب وجلب المنافع فلا نطول بالإعادة، وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال، فلا ينقص التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير، لأن هذه أسباب عرفت سنة الله تعالى إما قطعاً وإما ظناً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما أن أهمل البعير وقال توكلت على الله " اعقلها وتوكل".

وقال تعالى: " خذوا حذركم ".

وقال في كيفية صلاة الخوف: " وليأخذوا أسلحتهم ".

وقال سبحانه: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ".

وقال تعالى لموسى عليه السلام: " فأسر بعبادي ليلاً " والتحصن بالليل اختفاءً عن أعين الأعداء ونوع تسبب، واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار اختفاء عن أعين الأعداء دفعاً للضرر، وأخذ السلاح في الصلاة فليس دافعاً قطعاً كقتل الحية والعقرب فإنه دافع قطعاً، ولكن أخذ السلاح سبب مظنون، وقد بينا أن المظنون كالمقطوع، وإنما الموهوم هو الذي يقتضي التوكل تركه.

فإن قلت: فقد حكي عن جماعة أن منهم من وضع الأسد يده على كتفه ولم يتحرك. فأقول: وقد حكي عن جماعة أنهم ركبوا الأسد وسخروه فلا ينبغي أن يغرك ذلك المقام، فإنه وإن كان صحيحاً في نفسه فلا يصلح للإقتداء بطريق التعلم من الغير، بل ذلك مقام رفيع في الكرامات وليس ذلك شرطاً في التوكل، وفيه أسرار لا يقف عليها من لم ينته إليها.

فإن قلت: وهل من علامة أعلم بها أني قد وصلت إليها؟ فأقول: الواصل لا يحتاج إلى طلب العلامات ولكن من العلامات على ذلك المقام السابقة عليه: أن يسخر لك كلب هو معك في إهابك يسمى الغضب، فلا يزال يعضك ويعض غيرك، فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج وأشلى لم يستشل إلا بإشارتك وكان مسخراً لك، فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد الذي هو ملك السباع، وكلب دارك أولى أن يكون مسخراً لك من كلب البوادي، وكلب إهابك أولى بأن يتسخر من كلب دارك، فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن فلا تطمع في استسخار الكلب الظاهر. فإن قلت: فإذا أخذ المتوكل سلاحه حذراً من العدو وأغلق بابه حذراً من اللص وعقل بعيره حذراً من أن ينطلق، فبأي اعتبار يكون متوكلاً فأقول: يكون متوكلاً بالعلم والحال؛ فأما العلم فهو أن اللص إن اندفع لم يندفع بكفايته في إغلاق الباب، بل لم يندفع إلا بدفع الله تعالى إياه؛ فكم من باب يغلق ولا ينفع، وكم من بعير يعقل ويموت أو يفلت، وكم من آخذ سلاحه يقتل أو يغلب، فلا تتكل على هذه الأسباب أصلاً بل على مسبب الأسباب، كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل على نفسه وسجله بل يتكل على كفاية الوكيل وقوته، وأما الحال فهو أن يكون راضياً بما يقضي الله تعالى به في بيته ونفسه ويقول: اللهم إن سلطت علي ما في البيت من يأخذه في سبيلك وأنا راض بحكمك، فإني لا أدري ما أعطيتني هبة فلا تسترجعها، أو عارية ووديعة فتستردها، ولا أدري أنه رزقي أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيري، وكيفما قضيت فأنا راض به، وما أغلقت الباب تحصناً من قضائك وتسخطاً له، بل جرياً على مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب، فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب؛ فإذا كان هذا حاله وذلك الذي ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير وأخذ السلاح وإغلاق الباب، ثم إذا عاد فوجد متاعه في البيت فينبغي أن يكون لك عنده جديدة من الله تعالى، وإن لم يجده بل وجده مسروقاً فانظر إلى قلبه، فإن وجده راضياً أو فرحاً بذلك عالماً أنه ما أخذ الله تعالى ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة فقد صح مقامه في التوكل وظهر له صدقه، وإن تألم قلبه به ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقاً في دعوى التوكل، لأن التوكل مقام بعد الزهد، ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات من الدنيا ولا يفرح بما يأتي، بل يكون على العكس منه، فكيف يصح له التوكل؟ نعم قد يصح له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس، وإن لم يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه وأظهر الشكوى بلسانه واستقصى الطلب ببدنه، فقد كانت السرقة مزيداً له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات وكذبه في جميع الدعاوي، فبعد هذا ينبغي أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل غرورها؛ فإنها خداعة أمارة بالسوء مدعية للخير.

فإن قلت: فكيف للمتوكل مال حتى يؤخذ؟ فأقول: المتوكل لا يخلو بيته من متاع بيته كقصعة يأكل فيها وكوز يشرب منه وإناء يتوضأ منه وجراب يحفظ به زاده وعصا يدفع بها عدوه وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت، وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه ليجد محتاجاً فيصرفه إليه، فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلاً لتوكله، وليس من شرط التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه والجراب الذي فيه زاده، وإنما ذلك في المأكول وفي كل مال زائد على قدر الضرورة؛ لأن سنة الله جارية بوصول الخير إلى الفقراء المتوكلين في زوايا المساجد، وما جرت السنة بتفرقة الكيزان والأمتعة في كل يوم ولا في كل أسبوع، والخروج عن سنة الله عز وجل ليس شرطاً في التوكل، ولذلك كان الخواص يأخذ في السفر الحبل والركوة والمقراض والإبرة دون الزاد، لكن سنة الله تعالى جارية بالفرق بين الأمرين. فإن قلت: فكيف يتصور أن لا يحزن إذا أخذ متاعه الذي هو محتاج إليه ولا يتأسف عليه، فإن كان لا يشتهيه فلم أمسكه وأغلق الباب عليه، وإن كان أمسكه لأنه يشتهيه لحاجته إليه فكيف لا يتأذى قلبه ولا يحزن وقد حيل بينه وبين ما يشتهيه؟ فأقول: إنما كان يحفظه ليستعين به على دينه إذ كان يظن أن الخيرة له في أن يكون له ذلك المتاع، ولولا أن الخيرة له فيه لما رزقه الله تعالى ولما أعطاه إياه، فاستدل على ذلك بتيسير الله عز وجل وحسن الظن بالله تعالى مع ظنه أن ذلك معين له على أسباب دينه ولم يكن ذلك عنده مقطوعاً به، إذ يحتمل أن تكون خيرته في أن يبتلى بفقده ذلك حتى ينصب في تحصيل غرضه ويكون ثوابه في النصب والتعب أكثر؛ فلما أخذه الله تعالى منه بتسليط اللص تغير ظنه، لأنه في جميع الأحوال واثق بالله حسن الظن به، فيقول: لولا أن الله عز وجل علم أن الخيرة كانت لي في وجودها إلى الآن والخيرة لي الآن في عدمها لما أخذها مني، فيمثل هذا الظن يتصور أن يندفع عنه الحزن، إذ به يخرج عن أن يكون فرحه بأسباب من حيث إنها أسباب، بل من حيث إنه يسرها مسبب الأسباب عناية وتلطفاً، وهو كالمريض بين يدي الطبيب الشفيق يرضى بما يفعله، فإن قدم إليه الغذاء فرح وقال: لولا أنه يعرف أن الغذاء ينفعني وقد قويت على احتماله لما قربه إلي. وإن أخر عنه الغذاء بعد ذلك أيضاً فرح وقال: لولا أن الغذاء يضرني ويسوقني إلى الموت لما حال بيني وبينه، وكل من لا يعتقد لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الوالد المشفق الحاذق لعلم الطب فلا يصح منه التوكل أصلاً. ومن عرف الله تعالى وعرف أفعاله وعرف سنته في إصلاح عباده لم يكن فرحه بالأسباب، فإنه لا يدري أي الأسباب خير له، كما قال عمر رضي الله عنه: لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً فإني لا أدري أيهما خير لي، فكذلك ينبغي أن لا يبالي المتوكل يسرق متاعه أو لا يسرق فإنه لا يدري أيهما خير له في الدنيا أو في الآخرة، فكم من متاع في الدنيا يكون سبب هلاك الإنسان! وكم من غني يبتلى بواقعة لأجل غناه يقول: يا ليتني كنت فقيراً.

بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم

للمتوكل آداب في متاع بيته إذا خرج عنه: الأول: أن يغلق الباب ولا يستقصي في أسباب الحفظ كالتماسك من الجيران الحفظ مع الغلق، وكجمعه أغلاقاً كثيرة؛ فقد كان مالك بن دينار لا يغلق بابه ولكن يشده بشريط ويقول: لولا الكلاب ما شددته أيضاً.

الثاني: أن لا يترك في البيت متاعاً يحرض عليه السراق فيكون هو سبب معصيته أو إمساكه يكون سبب هيجان رغبتهم، ولذلك لما أهدى المغيرة إلى مالك بن ينار ركوة قال: خذها لا حاجة لي إليها. قال: لم؟ قال: يوسوس إلي العدو أن اللص يأخذها، فكأنه احترز من أن يعصي السارق، ومن شغل قلبه بوسواس الشيطان بسرقتها، ولذلك قال أبو سليمان: هذا من ضعف قلوب الصوفية هذا قد زهد في الدنيا فما عليه من أخذها. الثالث: أن ما يضطر إلى تركه في البيت ينبغي أن ينوي عند خروجه الرضا بما يقضي الله فيه من تسليط سارق عليه ويقول: ما يأخذه السارق فهو منه في حل أو في سبيل الله تعالى، وإن كان فقيراً فهو عليه صدقة، وإن لم يشترط الفقر فهو أولى، فيكون له نيتان لو أخذه غني أو فقير إحداهما أن يكون ماله مانعاً من المعصية، فإنه ربما يستغني به فيتوانى عن السرقة بعده وقد زال عصيانه بأكل الحرام لما أن جعله في حل، والثانية أن لا يظلم مسلماً آخر فيكون ماله فداءً لمال مسلم آخر، ومهما ينوي حراسة مال غيره بمال نفسه أو ينوي دفع المعصية عن السارق أو تخفيفها عليه فقد نصح للمسلمين وامتثل قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ونصر الظالم: أن تمنعه عن الظلم، وعفوه عنه إعدام للظلم ومنع له، وليتحقق أن هذه النية لا تضره بوجه من الوجوه إذ ليس فيها ما يسلط السارق ويغير القضاء الأزلي، ولكن يتحقق بالزهد نيته، فإن أخذ ماله كان له بكل درهم سبعمائة درهم لأنه نواه وقصده، وإن لم يؤخذ حصل له الأجر أيضاً، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها أن له أجر غلام ولد له من ذلك الجماع وعاش فقتل في سبيل الله تعالى وإن لم يولد له، لأنه ليس أمر الولد إلا الوقاع، فأما الخلق والحياة والرزق والبقاء فليس إليه، فلو خلق لكان ثوابه على ما فعله، وفعله لم ينعدم، فكذلك أمر السرقة.

الرابع: أنه إذا وجد المال مسروقاً فينبغي أن لا يحزن بل يفرح إن أمكنه ويقول: لولا أن الخيرة كانت فيه لما سلبه الله تعالى، ثم إن لم يكن قد جعله في سبيل الله عز وجل، فلا يبالغ في طلبه وفي إساءة الظن بالمسلمين، وإن كان قد جعله في سبيل الله فيترك طلبه، فإنه قد قدمه ذخيرة لنفسه إلى الآخرة، فإن أعيد عليه، فالأولى أن لا يقبله بعد أن كان قد جعله في سبيل الله عز وجل، وإن قبله فهو في ملكه في ظاهر العلم، لأن الملك لا يزول بمجرد تلك النية، ولكنه غير محبوب عند المتوكلين.

وقد روي أن ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا، ثم قال: في سبيل الله تعالى، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن ناقتك في مكان كذا فلبس نعله وقام، ثم قال: أستغفر الله وجلس، فقيل له: ألا تذهب فتأخذها! فقال: إني كنت قلت في سبيل الله.

وقال بعض الشيوخ: رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة وعرض علي منازلي فيها فرأيتها، قال: وهو مع ذلك كئيب حزين! فقلت: قد غفر لك ودخلت الجنة وأنت حزين! فتنفس الصعداء ثم قال: نعم إني لا أزال حزيناً إلى يوم القيامة. قلت: ولم؟ قال: إني لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما رأيت مثلها فيما رأيت، ففرحت بها، فلما هممت بدخولها نادى منادي من فوقها: اصرفوه عنها فليست هذه له إنما هي لمن أمضى السبيل، فقلت: وما إمضاء السبيل؟ فقيل لي: كنت تقول للشيء إنه في سبيل الله ثم ترجع فيه، فلو كنت أمضيت السبيل لأمضينا لك.

وحكي عن بعض العباد بمكة أنه كان نائماً إلى جنب رجل معه هميانه، فانتبه الرجل ففقد هميانه فاتهمه به، فقال له: كم كان في هميانك؟ فذكر له، فحمله من البيت ووزنه من عنده، ثم بعد ذلك أعلمه أصحابه أنهم كانوا أخذوا الهميان مزحاً معه، فجاء هو وأصحابه معه وردوا الذهب، فأبى وقال: خذه حلالاً طيباً، فما كنت لأعود في مال أخرجته في سبيل الله عز وجل، فلم يقبل، فألحوا عليه، فدعا ابنه وجعل يصره صرراً ويبعث به إلى الفقراء حتى لم يبق منه شيء.

فهكذا كانت أخلاق السلف، وكذلك من أخذ رغيفاً ليعطيه فقيراً فغاب عنه كان يكره رده إلى البيت بعد إخراجه فيعطيه فقيراً آخر، وكذلك يفعل في الدراهم والدنانير وسائر الصدقات.

الخامس: وهو أقل الدرجات أن لا يدعو على السارق الذي ظلمه بالأخذ، فإن فعل بطل توكله ودل ذلك على كراهته وتأسفه على ما فات، وبطل زهده، ولو بالغ بطل أجره أيضاً فيما أصيب به؛ ففي الخبر: " من دعا على ظالمه فقد انتصر".وحكي أن الربيع بن خثيم سرق فرس له وكان قيمته عشرين ألفاً وكان قائماً يصلي، فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه، فجاءه قوم يعزونه فقال: أما إني قد كنت رأيته وهو يحله، قيل: وما منعك أن تزجره؟ قال: كنت فيما هو أحب إلي من ذلك - يعني الصلاة - فجعلوا يدعون عليه فقال: لا تفعلوا وقولوا خيراً فإني قد جعلتها صدقة عليه.

وقيل لبعضهم في شيء قد كان سرق له: ألا تدعو على ظالمك! قال: ما أحب أن أكون عوناً للشيطان عليه، قيل: أرأيت لو رد عليك؟ قال: لا آخذه ولا أنظر إليه لأني كنت قد أحللته له.

وقيل لآخر: ادع الله على ظالمك، فقال: ما ظلمني أحد، ثم قال: إنما ظلم نفسه، ألا يكفيه المسكين ظلم نفسه حتى أزيده شراً.

وأكثر بعضهم شتم الحجاج عند بعض السلف في ظلمه، فقال: لا تغرق في شتمه، فإن الله تعالى ينتصف للحجاج ممن انتهك عرضه كما ينتصف منه لمن أخذ ماله ودمه.

وفي الخبر: " إن العبد ليظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتص له من المظلوم".

السادس: أن يغتم لأجل السارق وعصيانه وتعرضه لعذاب الله تعالى، ويشكر الله تعالى إذ جعله مظلوماً ولم يجعله ظالماً وجعل ذلك نقصاً في دنياه لا نقصاً في دينه فقد شكا بعض الناس إلى عالم أنه قطع عليه الطريق وأخذ ماله فقال: إن لم يكن لك غم أنه قد صار في المسلمين من يستحل هذا أكثر من غمك بمالك فما نصحت للمسلمين.

وسرق من علي بن الفضيل دنانير وهو يطوف بالبيت، فرآه أبوه وهو يبكي ويحزن، فقال: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا والله ولكن على المسكين أن يسأل يوم القيامة ولا تكون له حجة.

وقيل لبعضهم: ادع على من ظلمك، فقال: إني مشغول بالحزن عليه عن الدعاء عليه.

فهذه أخلاق السلف رضي الله عنهم أجمعين.

الفن الرابع في السعي في إزالة الضرر كمداواة المرض وأمثاله: اعلم أن الأسباب المزيلة للمرض أيضاً تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع، وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء المسهل وسائر أبواب الطب، أعني معالجة البرودة بالحرارة والحرارة بالبرودة وهي الأسباب الظاهرة في الطب، وإلى موهوم كالكي والرقية. أما المقطوع فليس من التوكل تركه، بل تركه حرام عند خوف الموت. وأما الموهوم فشرط التوكل تركه إذ به وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكلين، وأقواها الكي، ويليه الرقية، والطيرة آخر درجاتها، والاعتماد عليها والاتكال إليها غاية التعمق في ملاحظة الأسباب، وأما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم، وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع، بل قد يكون أفضل من فعله في بعض الأحوال وفي بعض الأشخاص فهي على درجة بين الدرجتين، ويدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به؛ أما قوله فقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام" يعني الموت.

وقال عليه السلام: " تداووا عباد الله فإن الله خلق الداء والدواء".

وسئل عن الدواء والرقي هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله".

وفي الخبر المشهور " ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا مر أمتك بالحجامة".

وفي الحديث أنه أمر بها وقال: " احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم"، فذكر أن تبيغ الدم سبب الموت وأنه قاتل بإذن الله تعالى، وبين أن إخراج الدم خلاص منه، إذ لا فرق بين إخراج الدم المهلك من الإهاب وبين إخراج العقرب من تحت الثياب وإخراج الحية من البيت، وليس من شرط التوكل ترك ذلك، بل هو كصب الماء على النار لإطفائها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت، وليس التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلاً.

وفي خبر مقطوع: " من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء السنة".

وأما أمره صلى الله عليه وسلم فقد أمر غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية، وقطع لسعد بن معاذ عرقاًأي فصده، وكوى سعد بن زرارة.

وقال لعلي رضي الله تعالى عنه وكان رمد العين: " لا تأكل من هذا " يعني الرطب " وكل من هذا فإنه أوفق لك" يعني سلقاً قد طبخ بدقيق شعير. وقال لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين: " تأكل تمراً وأنت أرمد" فقال: إني آكل من الجانب الآخر، فتبسم صلى الله عليه وسلم.

وأما فعله عليه الصلاة والسلام فقد روي في حديث من طريق أهل البيت أنه كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنةقيل: السنا المكي.

وتداوى صلى الله عليه وسلم غير مرة من العقرب وغيرها.

وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء.

وفي خبر: أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء، وقد جعل على قرحة خرجت به تراباً.

وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر، وقد صنف في ذلك كتاب وسمي طب النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر بعض العلماء في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام اعتل بعلة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علته؛ فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، فطالت علته فقالوا له: إن دواء هذه العلة معروف مجرب، وإنا نتداوى به فنبرأ، فقال: لا أتداوى، وأقامت علته، فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي وجلالي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك، فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟.

وروي في خبر آخر أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام شكا علة يجدها، فأوحى الله تعالى: كل البيض، وشكا نبي آخر الضعف، فأوحى الله تعالى إليه: كل اللحم باللبن فإن فيهما القوة، قيل هو الضعف عن الجماع.

وقد روي أن قوماً شكوا إلى نبيهم قبح أولادهم، فأوحى الله تعالى إليه: مرهم أن يطعموا نساءهم الحبالى السفرجل فإنه يحسن الولد ويفعل ذلك في الشهر الثالث والرابع، إذ فيه يصور الله تعالى الولد، وقد كانوا يطعمون الحبلى السفرجل، والنفساء الرطب.

فبهذا تبين أن مسبب الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهاراً للحكمة، والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب، فكما أن الخبز دواء الجوع والماء دواء العطش فالسكنجين دواء الصفراء، والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد أمرين: أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جلي واضح يدركه كافة الناس، ومعالجة الصفراء بالسكنجين يدركه بعض الخواص، فمن أدرك ذلك بالتجربة التحق في حقه بالأول.

والثاني أن الدواء يسهل، والسكنجين يسكن الصفراء بشروط أخر في الباطن وأسباب في المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها، وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال، وأما زوال العطش فلا يستدعي سوى الماء شروطاً كثيرة، وقد يتفق من العوارض ما يوجب داء العطش مع كثرة شرب الماء ولكنه نادر واختلال الأسباب أبداً ينحصر في هذين الشيئين، وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب، وكل ذلك بتدبير مسبب الأسباب وتسخيره، وترتيبه بحكم حكمته وكمال قدرته، فلا يضر المتوكل استعماله مع النظر إلى مسبب الأسباب دون الطبيب والدواء؛ فقد روي عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رب، ممن الداء والدواء؟ فقال تعالى: مني، قال: فما يصنع الأطباء؟ قال: يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي، فإذن معنى التوكل مع التداوي التوكل بالعلم والحال، كما سبق في فنون الأعمال الدافعة للضرر الجالبة للنفع، فأما ترك التداوي رأساً فليس شرطاً فيه.

فإن قلت: فالكي أيضاً من الأسباب الظاهرة النفع. فأقول: ليس كذلك، إذ الأسباب الظاهرة مثل الفصد والحجامة وشرب المسهل وسقي المبردات للمحرور، وأما الكي فلو كان مثلها في الظهور لما خلت البلاد الكثيرة عنه، وقلما يعتاد الكي في أكثر البلاد، وإنما ذلك عادة بعض الأتراك والأعراب؛ فهذا من الأسباب الموهومة كالرقي، إلا أنه يتميز عنها بأمر وهو أنه إحراق النار في الحال مع الاستغناء عنه فإنه ما من وجع يعالج بالكي إلا وله دواء يغني عنه ليس فيه إحراق، فالإحراق بالنار جرح مخرب للبنية محذور السراية مع الاستغناء عنه، بخلاف الفصد والحجامة فإن سرايتهما بعيدة ولا يسد مسدهما غيرهما، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي دون الرقي. وكل واحد منهما بعيد عن التوكل. وروي أن عمران بن الحصين اعتل فأشاروا عليه بالكي فامتنع، فلم يزالوا به وعزم عليه الأمر حتى اكتوى، فكان يقول: كنت أرى نوراً وأسمع صوتاً وتسلم علي الملائكة، فلما اكتويت انقطع ذلك عني، وكان يقول: اكتوينا كيات فوالله ما أفلحت ولا أنجحت، ثم تاب من ذلك وأناب إلى الله تعالى، فرد الله تعالى عليه ما كان يجد من أمر الملائكة. وقال لمطرف ابن عبد الله: ألم تر إلى الملائكة التي كان أكرمني الله بها قد ردها الله تعالى علي! بعد أن كان أخبره بفقدها، فإذن الكي وما يجري مجراه هو الذي لا يليق بالمتوكل لأنه يحتاج في استنباطه إلى تدبير، ثم هو مذموم، ويدل ذلك على شدة ملاحظة الأسباب وعلى التعمق فيها. والله أعلم.

بيان أن ترك التداوي قد يحمد في بعض الأحوال ويدل على قوة التوكل وأن ذلك لا يناقض فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون، ولكنه قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر، فربما يظن أن ذلك نقصان، لأنه لو كان كمالاً لتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله.

وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قيل له: لو دعونا لك طبيباً؟ فقال: الطبيب قد نظر إلي وقال: إني فعال لما أريد.

وقيل لأبي الدرداء في مرضه: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قيل: فما تشتهي؟ قال: مغفرة ربي، قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني.

وقيل لأبي ذر وقد رمدت عيناه: لو داويتهما؟ قال: إني عنهما مشغول؛ فقيل: لو سألت الله تعالى أن يعافيك؟ فقال: أسأله فيما هو أهم علي منهما.

وكان الربيع بن خثيم أصابه فالج، فقيل له: لو تداويت؟ فقال: قد هممت ثم ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً وكان فيهم الأطباء، فهلك المداوي والمداوى، ولم تغن الرقي شيئاً.

وكان أحمد بن حنبل يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره وإن كان به علل فلا يخبر المتطبب بها أيضاً إذا سأله.

وقيل لسهل: متى يصح للعبد التوكل؟ قال: إذا دخل عليه الضرر في جسمه والنقص في ماله فلم يلتفت إليه شغلاً بحاله وينظر إلى قيام الله تعالى عليه.

فإذا منهم من ترك التداوي وراءه، ومنهم من كرهه، ولا يتضح وجه الجمع بين فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعالهم إلا بحصر الصوارف عن التداوي. فنقول: إن لترك التداوي أسباباً: السبب الأول: أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه، ويكون ذلك معلوماً عنده تارة برؤيا صادقة، وتارة بحدس وظن، وتارة بكشف محقق، ويشبه أن يكون ترك الصديق رضي الله عنه التداوي من هذا السبب، فإنه كان من المكاشفين، فإنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة ولكن كانت امرأته حاملاً فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى، فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضاً بانتهاء أجله، وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.

السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولاً بحاله وبخوف عاقبته وإطلاع الله تعالى عليه، فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرغ قلبه للتداوي شغلاً بحاله، وعليه يدل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول. وكلام أبي الدرداء إذ قال: إنما أشتكي ذنوبي، فكان تألم قلبه خوفاً من ذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض، ويكون هذا كالمصاب بموت عزيز من أعزته، أو كالخائف الذي يحمل إلى ملك من الملوك ليقتل إذا قيل له: ألا تأكل وأنت جائع؟ فيقول: أنا مشغول عن ألم الجوع، فلا يكون ذلك إنكاراً لكون الأكل نافعاً من الجوع ولا طعناً فيما أكل، ويقرب من هذا اشتغال سهل حيث قيل له: ما القوت؟ فقال: هو ذكر الحي القيوم، فقيل: إنما سألناك عن القوام؟ فقال: القوام هو العلم. قيل: سألناك عن الغذاء؟ قال: الغذاء هو الذكر. قيل: سألناك عن طعمة الجسد؟ قال: مالك وللجسد. دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً إذا دخل عليه علة فرده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الذي يؤمر به بالإضافة إلى علته موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركه المتوكل؛ وإليه يشير قول الربيع بن خثيم إذ قال: ذكرت عاداً وثمود وفيه الأطباء فهلك المداوي والمداوى. أي أن الدواء غير موثوق به، وهذا قد يكون كذلك في نفسه، وقد يكون عند المريض كذلك لقلة ممارسته للطب وقلة تجربته له، فلا يغلب على ظنه كونه نافعاً، ولا شك في أن الطبيب المجرب أشد اعتقاداً في الأدوية من غيره، فتكون الثقة والظن بحسب الاعتقاد، والاعتقاد بحسب التجربة، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد، هذا مستندهم لأنه يبقى الدواء عنده شيئاً موهوماً لا أصل له، وذلك صحيح في بعض الأدوية عند من عرف صناعة الطب، غير صحيح في البعض، ولكن غير الطبيب قد ينظر إلى الكل نظراً واحداً، فيرى التداوي تعسقاً في الأسباب كالكي والرقي، فيتركه.

السبب الرابع: أن يقصد العبد بترك التداوي استبقاء المرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر. فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره. فقد قال صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على قدر إيمانه فإن كان صلب الإيمان شدد عليه بالبلاء. وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء".

وفي الخبر " إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز، لا يزبد ومنهم دون ذلك، ومنهم من يخرج أسود محترقاً".

وفي حديث من طريق أهل البيت " إن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه".

وقال صلى الله عليه وسلم: " تحبون أن تكونوا كالحمر الضالة لا تمرضون ولا تسقمون".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: تجد المؤمن أصح شيء قلباً وأمرضه جسماً، وتجد المنافق أصح شيء جسماً وأمرضه قلباً، فلما عظم الثناء على المرض والبلاء أحب قوم المرض واغتنموه لينالوا ثواب الصبر عليه، فكان منهم من له علة يخفيها ولا يذكرها للطبيب ويقاسي العلة ويرضى بحكم الله تعالى ويعلم أن الحق أغلب على قلبه من أن يشغله المرض عنه، وإنما يمنع المرض جوارحه، وعلموا أن صلاتهم قعوداً مثلاً مع الصبر على قضاء الله تعالى أفضل من الصلاة قياماً مع العافية والصحة، ففي الخبر " إن الله تعالى يقول لملائكته: اكتبوا لعبدي صالح ما كان يعمله فإنه في وثاقي وإن أطلقته أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه، وإن توفيته توفيته إلى رحمتي".

وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس". فقيل: معناه ما دخل عليه من الأمراض والمصائب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ".

وكان سهل يقول: ترك التداوي وإن ضعف عن الطاعات وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات، وكانت به علة عظيمة فلم يكن يتداوى منها، وكان يداوي الناس منها، وكان إذا رأى العبد يصلي من قعود ولا يستطيع أعمال البر من الأمراض، فيتداوى للقيام إلى الصلاة والنهوض إلى الطاعات يعجب من ذلك ويقول: صلاته من قعود مع الرضا بحاله أفضل من التداوي للقوة والصلاة قائماً، وسئل عن شرب الدواء فقال: كل من دخل في شيء من الدواء فإنما هو سعة الله تعالى لأهل الضعف، ومن لم يدخل في شيء فهو أفضل، لأنه إن أخذ شيئاً من الدواء ولو كان هو الماء يسأل عنه لم أخذه؟ ومن لم يأخذ فلا سؤال عليه. وكان مذهبه ومذهب البصريين تضعيف النفس بالجوع وكسر الشهوات لعلمهم بأن ذرة من أعمال القلوب: مثل الصبر والرضا والتوكل أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمه غالباً مدهشاً.

وقال سهل رحمه الله: علل الأجسام رحمة الله وعلل القلوب عقوبة.

السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها، فيرى المرض إذا طال تكفيراً فيترك خوفاً من أن يسرع زوال المرض فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال الحمى والمليلة بالعبد حتى يمشي على الأرض كالبردة ما عليه من ذنب ولا خطيئة".

وفي الخبر " حمى يوم كفارة سنة" فقيل لأنها تهد قوة سنة، وقيل للإنسان ثلثمائة وستون مفصلاً فتدخل الحمى جميعها ويجد من كل واحد ألماً فيكون كل ألم كفارة يوم. ولما ذكر صلى الله عليه وسلم كفارة الذنوب بالحمى؛ سأل زيد بن ثابت ربه عز وجل أن لا يزال محموماً فلم تكن الحمى تفارقه حتى مات رحمه الله، وسأل ذلك طائفة من الأنصار فكانت الحمى لا تزايلهمولما قال صلى الله عليه وسلم: " من أذهب الله كريمتيه لم يرض له ثواباً دون الجنة" قال فلقد كان من الأنصار من يتمنى العمى.

وقال عيسى عليه السلام: لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لما يرجو في ذلك من كفارة خطاياه.

وروي أن موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال: يا رب ارحمه فقال تعالى: كيف أرحمه فيما به أرحمه - أي به أكفر ذنوبه - وأزيد في درجاته.

السبب السادس: أن يستشعر العبد مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة فيترك التداوي خوفاً من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان، أو طول الأمل والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات، فإن الصحة عبارة عن قوة الصفات وبها ينبعث الهوى وتتحرك الشهوات وتدعو إلى المعاصي، وأقلها أن تدعو إلى التنعم في المباحات، وهو تضييع الأوقات وإهمال للربح العظيم في مخالفة النفس وملازمة الطاعات، وإذا أراد الله بعبد خيراً لم يخله عن التنبه بالأمراض والمصائب، ولذلك قيل: لا يخلو المؤمن من علة أو قلة أو زلة.

وقد روي أن الله تعالى يقول: الفقر سجني والمرض قيدي أحبس به من أحب من خلقي. فإذا كان في المرض حبس عن الطغيان وركوب المعاصي فأي خير يزيد عليه؟ ولم ينبع أن يشتغل بعلاجه من يخاف ذلك على نفسه فالعافية في ترك المعاصي، فقد قال بعض العارفين لإنسان: كيف كنت بعدي؟ قال: في عافية، قال: إن كنت لم تعص الله عز وجل فأنت في عافية وإن كنت قد عصيته فأي داء أدوأ من المعصية؟ ما عوفي من عصى الله.

وقال علي كرم الله وجهه لما رأى زينة النبط بالعراق في يوم عيد: ما هذا الذي أظهروه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يوم عيد لهم، فقال: كل يوم لا يعصى الله عز وجل فيه فهو لنا عيد.

وقال تعالى: " من بعد ما أراكم ما تحبون " قيل العوافي " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " وكذلك إذا استغنى بالعافية.

قال بعضهم: إنما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى لطول العافية، لأنه لبث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس ولم يحم له جسم ولم يضرب عليه عرق فادعى الربوبية - لعنه الله - ولو أخذته الشقيقة يوماً لشغلته عن الفضول فضلاً عن دعوى الربوبية.

وقال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هاذم اللذات".

وقيل: الحمى رائد الموت فهو مذكر له ودافع للتسويف.

وقال تعالى: " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون " قيل يفتنون بأمراض يختبرون بها.

ويقال: إن العبد إذا مرض مرضتين ثم لم يتب قال له ملك الموت: يا غافل جاءك مني رسول بعد رسول فلم تجب.

وقد كان السلف لذلك يستوحشون إذا خرج عام ولم يصابوا فيه بنقص في نفس أو مال. وقالوا: لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوماً أن يروع روعة أو يصاب ببلية حتى روي أن عمار بن ياسر تزوج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه امرأة فحكي من وصفها حتى هم أن يتزوجها، فقيل: وإنها ما مرضت قط، فقال: " لا حاجة لي فيها".

وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراض والأوجاع كالصداع وغيره، فقال رجل: وما الصداع ما أعرفه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إليك عني من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا وهذا" لأنه ورد في الخبر " الحمى حظ كل مؤمن من النار".

وفي حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما قيل: يا رسول الله هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم؟ فقال: " نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين مرة" وفي لفظ آخر " الذي يذكر ذنوبه فتحزنه " ولا شك في أن ذكر الموت على المريض أغلب، فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها إذ رأوا لأنفسهم مزيداً فيها لا من حيث رأوا التداوي نقصاناً؟ وكيف يكون نقصاناً وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم؟.

بيان الرد على من قال ترك التداوي أفضل كل حال

فلو قال قائل: إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسن لغيره وإلا فهو حال الضعفاء، ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء؟ فيقال: ينبغي أن يكون من شروط التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبيغ الدم.

فإن قيل: إن ذلك أيضاً شرط فليكن من شرطه أن تلدغه العقرب أو الحية فلا ينحيها عن نفسه، إذ الدم يلدغ الباطن والعقرب تلدغ الظاهر فأي فرق بينهما؟ فإن قال: وذلك أيضاً شرط التوكل؟ فيقال: ينبغي أن لايزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز ولدغ البرد بالجبة وهذا لا قائل به.

ولا فرق بين هذه الدرجات فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه تعالى وأجرى بها سنته. ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في قصة الطاعون، فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً، فافترق الناس فرقتين، فقال بعضهم: لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة، وقالت طائفة أخرى: بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله تعالى ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه، فقال: نرجع ولا ندخل على الوباء، فقال له المخالفون في رأيه: أنفر من قدر الله تعالى، قال عمر: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب لهم مثلاً فقال: أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط وادياً له شعبتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى؟ فقالوا: نعم، ثم طلب عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن رأيه - وكان غائباً - فلما أصبحوا جاء عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك، فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: الله أكبر، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم الوباء في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وحمد الله تعالى إذ وافق رأيه، ورجع من الجابية بالناس. فإذن كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل وهو من أعلى المقامات إن كان أمثال هذا من شروط التوكل؟.فإن قلت: فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء، وسبب الوباء في الطب الهواء، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر، والهواء هو المضر وترك التوكل في أمثال هذا مباح، وهذا لا يدل على المقصود، ولكن الذي ينقدح فيه - والعلم عند الله تعالى - أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له، فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن، فالخروج من البلد لا يخلص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل، ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقي والطيرة وغيرهما، ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضاً للتوكل ولم يكن منهياً عنه، ولكن صار منهياً عنه لأنه انضاف إليه أمر آخر وهو أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين، ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزن عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً، وخلاصهم منتظر كما أن خلاص الأصحاء منتظر؛ فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت، ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين، والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضاً والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر أعضائه. فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد فإنه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم. نعم لو لم يبق بالبلد إلا مطعونون وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة، ولا ينهي عن الدخول لأنه تعرض لضرر على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين، وبهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحفلأن فيه كسراً لقلوب بقية المسلمين وسعياً في إهلاكهم. فهذه أمور دقيقة فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر مما سمعه، وغلط العباد والزهاد في مثل هذا كثير وإنما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك. فإن قلت: ففي ترك التداوي فضل كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي لينال الفضل؟ فنقول: فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها، أو خاف على نفسه طغيان العافية وغلبة الشهوات، أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة، أو احتاج إلى نيل ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين، أو قصرت بصيرته عن الإطلاع على ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوماً كالرقي، أو كان شغله بحاله يمنعه عن التداوي وكان التداوي يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع، فإلى هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي، وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كان مقامه أعلى من هذه المقامات كلها إذ كان حاله يقتضي أن تكون مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها، فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب، ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب كما أن الرغبة نقص، والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالاً فهي أيضاً نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه، فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر، وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده، وكان لا يمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه، فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلهافكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثل هذه المشاهدة، وإنما لم يترك استعمال الدواء جرياً على سنة الله تعالى وترخيصاً لأمته فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال فإن ذلك يعظم ضرره. نعم التداوي لا يضر إلا من حيث رؤية الدواء نافعاً دون خالق الدواء قد نهي عنه، ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي وذلك منهي عنه، والمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك، وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعاً بنفسه بل من حيث إنه جعله الله تعالى سبباً للنفع كما لا يرى الماء مروياً ولا الخبز مشبعاً، فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب، فإنه إن اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها، وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه، فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال، وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات، وأن واحداً من الفعل والترك ليس شرطاً في التوكل إلا ترك الموهومات كالكي والرقي فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين.

بيان أحوال المتوكلين في إظهار المرض وكتمانه

اعلم أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر وهو من أعلى المقامات، لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله عز وجل فكتمانه أسلم عن الآفات.

ومع هذا فالإظهار لا بأس به إذا صحت فيه النية والمقصد. ومقاصد الإظهار ثلاثة: الأول: أن يكون غرضه التداوي فيحتاج إلى ذكره للطبيب، فيذكره لا في معرض الشكاية بل في معرض الحكاية لما ظهر عليه قدرة الله تعالى. فقد كان بشر يصف لعبد الرحمن المطبب أوجاعه، وكان أحمد بن حنبل يخبر بأمراض يجدها ويقول: إنما أصف قدرة الله تعالى في.

الثاني: أن يصف لغير الطبيب وكان ممن يقتدى به وكان مكيناً في المعرفة، فأراد من ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى أن المرض نعمة فيشكر عليها، فيتحدث به كما يتحدث بالنعم.

قال الحسن البصري: إذا حمد المريض الله تعالى وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى.

الثالث: أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى، وذلك يحسن ممن تليق به القوة والشجاعة ويستبعد منه العجز، كما روي أنه قيل لعلي في مرضه رضي الله عنه: كيف أنت؟ قال: بشر، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك وظنوا أنه شكاية، فقال: أتجلد على الله؟ فأحب أن يظهر عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة وتأدب فيه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم إياه حيث مرض علي كرم الله وجهه فسمعه عليه السلام وهو يقول: اللهم صبرني على البلاء، فقال له صلى الله عليه وسلم: " لقد سألت الله تعالى البلاء فسل الله العافية".فبهذه النيات يرخص في ذكر المرض، وإنما يشترط ذلك لأن ذكره شكاية والشكوى من الله تعالى حرام - كما ذكرته في تحريم السؤال على الفقراء إلا بضرورة - ويصير الإظهار شكاية بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله تعالى، فإن خلا عن قرينة السخط وعن النيات التي ذكرناها فلا يوصف بالتحريم ولكن يحكم فيه بأن الأولى تركه، لإنه ربما يوهم الشكاية، ولأنه ربما يكون فيه تصنع ومزيد في الوصف على الموجود من العلة، ومن ترك التداوي توكلاً فلا وجه في حقه للإظهار لأن الاستراحة إلى الدواء أفضل من الاستراحة إلى الإفشاء، وقد قال بعضهم: من بث لم يصبر، وقيل في معنى قوله " فصبر جميل " لا شكوى فيه.

وقيل ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ قال: مر الزمان وطول الأحزان! فأوحى الله تعالى إليه. تفرغت لشكواي إلى عبادي، فقال: يا رب أتوب إليك.

وروي عن طاوس ومجاهد أنهما قالا: يكتب على المريض أنينه في مرضه، وكانوا يكرهون أنين المرض لأنه إظهار معنى يقتضي الشكوى حتى قيل: ما أصاب إبليس لعنه الله من أيوب عليه السلام إلا أنينه في مرضه، فجعل الأنين حظه منه.

وفي الخبر " إذا مرض العبد أوحى الله تعالى إلى الملكين: انظرا ما يقول لعواده فإن حمد الله وأثنى بخير دعوا له وإن شكا وذكر شراً قالا: كذلك تكون" وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية وخوف الزيادة في الكلام، فكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ فيخرج إليهم، منهم: فضيل ووهيب وبشر، وكان فضيل يقول: أشتهي أن أمرض بلا عواد، وقال: لا أكره العلة إلا لأجل العواد رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

كمل كتاب التوحيد والتوكل بعون الله وحسن توفيقه، يتلوه إن شاء الله تعالى: كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا. والله سبحانه وتعالى الموفق.