بيان كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا - حقيقة المحبة وأسبابها وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى

 بيان حقيقة المحبة وأسبابها

وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى

اعلم أن المطلب من هذا الفصل لا ينكشف إلا بمعرفة حقيقة المحبة في نفوسها، ثم معرفة شروطها وأسبابها، ثم النظر بعد ذلك في تحقيق معناها في حق الله تعالى: فأول ما ينبغي أن يتحقق؛ أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك، إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه، ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد بل هو من خاصية الحي المدرك، ثم المدركات في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه، وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه، وإلى ما لا يؤثر فيه بإيلام وإلذاذ. فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك، وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة لا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً، فإذن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به، ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه، ومعنى كونه مبغوضاً أن في الطبع نفرة عنه. فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب، فإذا قوي سمي مقتاً فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد من معرفته.

الأصل الثاني: أن الحب لما كان تابعاً للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب انقسام المدركات والحواس فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات، وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عن الطبع السليم. فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة، ولذة الأذن في النغمات الطيبة المورونة، ولذة الشم في الروائح الطيبة، ولذة الذوق في الطعوم، ولذة اللمس في اللين والنعومة. ولما كانت هذه المدركات بالحواس ملذة كانت محبوبة، أي كان للطبع السليم ميل إليها حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة" فسمى الطيب محبوباً ومعلوم أنه لاحظ للعين والسمع فيه؛ بل للشم فقط، وسمى النساء محبوبات ولا حظ فيهن إلا للبصر واللمس دون الشم والذوق والسمع، وسمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم أنه ليس تحظى بها الحواس الخمس، بل حس سادس مظنته القلب لا يدركه إلا من كان له قلب. ولذات الحواس الخمس تشارك فيها البهائم الإنسان، فإن كان الحب مقصوراً على مدركات الحواس الخمس - حتى يقال إن الله تعالى لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب - فإذن قد بطلت خاصية الإنسان وما تميز به من الحس السادس الذي يعبر عنه إما بالعقل أو بالنور أو بالقلب أو بما شئت من العبارات، فلا مشاحة فيه وهيهات، فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر، والقلب أشد إدراكاً من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار، فتكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ، فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة - كما سيأتي تفصيله - فلا ينكر إذن حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجاوز إدراك الحواس أصلاً.

الأصل الثالث: أن الإنسان لا يخفى أنه يحب نفسه ولا يخفى أنه قد يحب غيره لأجل نفسه، وهل يتصور أن يحب غيره لذاته لا لأجل نفسه؟ هذا مما قد يشكل على الضعفاء حتى يظنون أنه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته ما لم يرجع منه حظ إلى المحب سوى إدراك ذاته. والحق أن ذلك متصور وموجود، فلنبين أسباب المحبة وأقسامها، وبيانه أن المحبوب الأول عند كل حي: نفسه وذاته، ومعنى حبه لنفسه أن في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده، ونفرة عن عدمه وهلاكه، لأن المحبوب بالطبع هو الملائم للمحب، وأي شيء أتم ملاءمة من نفسه ودوام وجوده؟ وأي شيء أعظم مضادة ومنافرة له من عدمه وهلاكه؟ فلذلك يحب الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل، لا لمجرد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرد الحذر من سكرات الموت، بل لو اختطف من غير ألم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارهاً لذلك، ولا يحب الموت والعدم والمحض إلا لمقاساة ألم في الحياة. ومهما كان مبتلى ببلاء فمحبوبه زوال البلاء، فإن أحب العدم لم يحبه لأنه عدم بل لأن فيه زوال البلاء، فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب، وكما أن دوام الوجود محبوب فكمال الوجود أيضاً فاقد للكمال، والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود وهو هلاك بالنسبة إليه. والهلاك والعدم ممقوت في الصفات، وكمال الوجود كما أنه ممقوت في أصل الذات ووجود صفات الكمال محبوب، كما أن دوام أصل الوجود محبوب، وهذه غريزة في الطباع بحكم سنة الله تعالى "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ".

فإذن المحبوب الأول للإنسان ذاته، ثم سلامة أعضاءه، ثم ماله وولده وعشيرته وأصدقائه، فالأعضاء محبوبة وسلامتها مطلوبة لأن كمال الوجود ودوام الوجود موقوف عليها، والمال محبوب لأنه أيضاً آلة في دوام الوجود وكماله وكذا سائر الأسباب، فالإنسان يحب هذه الأشياء لا لأعيانها بل لارتباط حظه في دوام الوجود وكماله بها، حتى إنه ليحب ولده وإن كان لا يناله منه حظ بل يتحمل المشاق لأجله لأنه يخلفه في الوجود بعد عدمه، فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له، فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبداً، نعم لو خير بين قتله وقتل ولده - وكان طبعه باقياً على اعتداله- آثر بقاء نفسه على بقاء ولده، لأن بقاء ولده يشبه بقاءه من وجه وليس هو بقاءه المحقق، وكذلك حبه لأقاربه وعشيرته يرجع إلى حبه لكمال نفسه فإنه يرى نفسه كثيراً بهم قوياً بسببهم متجملاً بكمالهم، فإن العشيرة والمال والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للإنسان، وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا محالة فإذن المحبوب الأول عند كل حي ذاته وكمال ذاته ودوام ذلك كله، والمكروه عنده ضد ذلك فهذا هو أول الأسباب. السبب الثاني: الإحسان، فإن الإنسان عبد الإحسان، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل لفاجر علي يداً فيحبه قلبي" إشارة إلى أن حب القلب للمحسن اضطراراً لا يستطاع دفعه، وهو جبلة وفطرة لا سبيل إلى تغييرها، وبهذا السبب قد يحب الإنسان الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبينه ولا علاقة، وهذا إذا حقق رجع السبب الأول، فإن المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر الأسباب الموصلة إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود، إلا أن الفرق أن أعضاء الإنسان محبوبة لأن بها كمال وجوده وهي عين الكمال المطلوب، فأما المحسن فليس هو عين الكمال المطلوب ولكن قد يكون سبباً له كالطبيب يكون سبباً في دوام صحة الأعضاء، ففرق بين حب الصحة وبين حب الطبيب الذي هو سبب الصحة، إذ الصحة مطلوبة لذاتها والطبيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب الصحة وكذلك العلم محبوب والأستاذ محبوب، ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب. وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة، لكن الطعام محبوب لذاته والدنانير محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام. فإذن يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة، وإلا فكل واحد يرجع إلى محبة الإنسان نفسه، فكل من أحب المحسن لإحسانه فما أحب ذاته تحقيقاً بل أحب إحسانه وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقاً، ولو نقص نقص الحب ولو زاد زاد، ويتطرق إليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه.

السبب الثالث: أن يحب الشيء لذاته لا لحظ ينال منه وراء ذاته، بل تكون ذاته عين حظه، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامه، وذلك كحب الجمال والحسن، فإن كل جمال محبوب عند مدرك الجمال وذلك لعين الجمال، لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها، ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة فإن قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها، وإدراك نفس الجمال أيضاً لذيذ فيجوز أن يكون محبوباً لذاته، وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية؟ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الخضرة والماء الجاريوالطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل، حتى إن الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر. فهذه الأسباب ملذة وكل لذيذ محبوب، وكل حسن وجمال فلا يخلو إدراكه عن لذة، ولا أحد ينكر كون الجمال محبوباً بالطبع، فإن ثبت أن الله جميل كان لا محالة محبوباً عند من انكشف له جماله وجلاله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال".الأصل الرابع: في بيان معنى الحسن والجمال؛ اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون، وكون البياض مشرباً بالحمرة وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان، فإن الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار، وأكثر التفاتهم إلى صور الأشخاص فيظن أن ما ليس مبصراً ولا متخيلاً ولا متشكلاً ولا ملوناً مقدر فلا يتصور حسنه، وإذا لم يتصور حسنه لم يكن في إدراكه لذة فلم يكن محبوباً. وهذا خطأ ظاهر فإن الحسن ليس مقصوراً على مدركات البصر ولا على تناسب الخلقة وامتزاج البياض بالحمرة، فإنا نقول هذا خط حسن وهذا صوت حسن وهذا فرس حسن، بل نقول هذا ثوب حسن وهذا إناء حسن، فأي معنى لحسن الصوت والخط وسائر الأشياء إن لم يكن الحسن إلا في الصورة؟ ومعلوم أن العين تستلذ بالنظر إلى الخط الحسن، والأذن تستلذ استماع النغمات الحسنة الطيبة وما من شيء من المدركات إلا وهو منقسم إلى حسن وقبيح، فما معنى الحسن الذي تشترك فيه هذه الأشياء؟ فلا بد من البحث عنه. وهذا البحث يطول، ولا يليق بعلم المعاملة الإطناب فيه، فنصرح بالحق ونقول: كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كان جميع كمالاته حاضرة فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فله في الحسن والجمال بقدر ما حضر، فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل ولون وحسن عدو وتيسر كر وفر عليه، والخط الحسن كل ما جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها، ولكل شيء كمال يليق به وقد يليق بغيره ضده فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به. فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس، ولا يحسن الخط بما يحسن به الصوت، ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب، وكذلك سائر الأشياء. فإن قلت: فهذه الأشياء وإن لم تدرك جميعها بحس البصر مثل الأصوات والطعوم فإنها لا تنفك عن إدراك الحواس لها فهي محسوسات، وليس ينكر الحسن والجمال للمحسوسات، ولا ينكر حصول اللذة بإدراك حسنها، وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس؟ فاعلم أن الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه سيرة حسنة وهذه أخلاق جميلة، وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم وسائر خلال الخير، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة، وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته، وآية ذلك وأن الأمر كذلك أن الطباع مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع أنهم لم يشاهدوا، بل حب أرباب المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم، حتى أن الرجل قد يجاوز به حبه لصاحب مذهبه حد العشق فيحمله ذلك على أن تنفق جميع ماله في نصرة مذهبه والذب عنه ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه. فكم من دم أريق في نصرة أرباب المذاهب، وليت شعري من يحب الشافعي مثلاً فلم يحبه ولم يشاهد قط صورته؟ ولو شاهده ربما لم يستحسن صورته، فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة، فإن صورته الظاهرة قد انقلبت تراباً مع التراب، وإنما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والإحاطة بمدارك الدين وانتهاضه لإفادة علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم، وهذه أمور جميلة لا يدرك جمالها إلا بنور البصيرة، فأما الحواس فقاصرة عنها. وكذلك من يحب أبا بكر الصديق رضي الله عنه ويفضله على غيره، أو يحب علياً رضي الله تعالى عنه ويفضله ويتعصب له، فلا يحبهم إلا لاستحسان صورهم الباطنة من العلم والدين والتقوى والشجاعة والكرم وغيره. فمعلوم أن من يحب الصديق رضي الله تعالى عنه مثلاً ليس يحب عظمه ولحمه وجلده وأطرافه وشكله إذ كل ذلك زال وتبدل وانعدم، ولكن بقي ما كان الصديق به صديقاً وهي الصفات المحمودة التي هي مصادر السير الجميلة، فكان الحب باقياً ببقاء تلك الصفات مع زوال جميع الصور، وتلك الصفات ترجع جملتها إلى العلم والقدرة إذا علم حقائق الأمور وقدر على حمل نفسه عليها بقهر شهواته، فجميع خلال الخير يتشعب على هذين الوصفين، وهما غير مدركين بالحس، ومحلهما من جملة البدن جزء لا يتجزأ فهو المحبوب بالحقيقة. وليس للجزء الذي لا يتجزأ صورة وشكل ولون يظهر للبصر حتى يكون محبوباً لأجله فإذن الجمال موجود في السير، ولو صدرت السيرة الجميلة من غير علم وبصيرة لم يوجب ذلك حباً فالمحبوب مصدر السير الجميلة، وهي الأخلاق الحميدة والفضائل الشريفة، وترجع جملتها إلى كمال العلم والقدرة وهو محبوب بالطبع وغير مدرك بالحواس، حتى إن الصبي المخلى وطبعه إذ أردنا أن نحبب إليه غائباً أو حاضراً حياً أو ميتاً لم يكن لنا سبيل إلا بالإطناب في وصفه بالشجاعة والكرم والعلم وسائر الخصال الحميدة، فمهما اعتقد ذلك لم يتمالك في نفسه ولم يقدر أن لا يحبه، فهل غلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبغض أبي جهل وبغض إبليس لعنه الله إلا بالإطناب في وصف المحاسن والمقابح التي لا تدرك بالحواس؟ بل لما وصف الناس حاتماً بالسخاء ووصفوا خالداً بالشجاعة أحبتهم القلوب حباً ضرورياً، وليس ذلك عن نظر إلى صورة محسوسة ولا عن حظ يناله المحب منهم، بل إذا حكي من سيرة الملوك في بعض أقطار الأرض العدل والإحسان وإفاضة الخير غلب حبه على القلوب مع اليأس من انتشار إحسانه إلى المحبين لبعد المزار ونأي الديار. فإذن ليس حب الإنسان مقصوراً على من أحسن إليه، بل المحسن في نفسه محبوب وإن كان لا ينتهي قط إحسانه إلى المحب، لأن كل جمال وحسن فهو محبوب، والصورة ظاهرة وباطنة والحسن والجمال يشملهما، وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة؛ فمن حرم البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يلتذ بها ولا يحبها ولا يميل إليها، ومن كانت الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشاً مصوراً على الحائط لجمال صورته الظاهرة وبين من يحب نبياً من الأنبياء لجمال صورته الباطنة.

السبب الخامس: المناسبة الخفية بين المحب والمحبوب، إذ رب شخصين تأكد المحبة بينهما لا بسبب جمال أو حظ ولكن بمجرد تناسب الأراوح كما قال صلى الله عليه وسلم: " فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". وقد حققنا ذلك في كتاب آداب الصحبة عند ذكر الحب في الله فليطلب منه لأنه أيضاً من عجائب أسباب الحب فإذن ترجع أقسام الحب إلى خمسة أسباب: وهو حبالإنسان وجود نفسه وكماله وبقائه. وحبه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه. وحبه من كان محسناً في نفسه إلى الناس وإن لم يكن محسناً إليه. وحبه لكل ما هو جميل في ذاته؛ سواء كان من الصور الظاهرة أو الباطنة. وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن. فلو اجتمعت هذه الأسباب في شخص واحد تضاعف الحب لا محالة، كما لو كان الإنسان ولد جميل الصورة حسن الخلق كامل العلم حسن التدبير محسن إلى الخلق ومحسن إلى الوالد كان محبوباً لا محالة غاية الحب، وتكون قوة الحب بعد اجتماع هذه الخصال بحسب قوة هذه الخلال في نفسها، فإن كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات. فلقبين الآن أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.

بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده

وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ومحب المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه، وإيضاحه بأن نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بجملتها ولا يوجد في غيره إلا آحادها، وأنها حقيقة في حق الله تعالى، ووجودها في حق غيره وهم وتخيل وهو مجاز محض لا حقيقة له، ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذي بصيرة ضد ما تخيله ضعفاء العقول والقلوب من استحالة حب الله تعالى تحقيقاً، وبان أن التحقيق يقتضي أن لا تحب أحداً غير الله تعالى. فأما السبب الأول: وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده، وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله فهذه جبلة كل حي، ولا يتصور أن ينفك عنها، وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى فإن من عرف نفسه وعرف ربه عرف قطعاً أنه لا وجود له من ذاته وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله، فهو المخترع الموجد له وهو المبقي له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه ذو خلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد، وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به فإن أحب العارف ذاته ووجود ذاته مستفاد من غيره، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقاً موجداً ومخترعاً مبقياً وقيوماً بنفسه ومقوماً لغيره، فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، والمحبة ثمرة المعرفة فتنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها. وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟ ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل، وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإن الكل من آثار قدرته، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر، بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها وموجود بها، وهو خطأ محض إذا انكشف لأرباب القلوب انكشافاً أظهر من مشاهدة الأبصار أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعاً عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة، كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضاً حاصل من قدرة الله تعالى، ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق. فإذن إن كان حب الإنسان نفسه ضرورياً فحبه لمن به قوامه أولاً ودوامه ثانياً في أصله وصفاته وظاهره وباطنه وجواهره وأعراضه أيضاً ضروري، إن عرف ذلك كذلك ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته، وهو عالم الشهادة الذي يشاركه البهائم في التنعم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة، فينظر فيه بقدر قربه في الصفات من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم. وأما السبب الثاني: وهو حبه من أحسن عليه فواساه بماله ولاطفه بكلامه وأمده بمعونته وانتدب لنصرته وقمع أعدائه وقام بدفع شر الأشرار عنه وانتهض وسيلة إلى جميع حظوظه وأغراضه في نفسه وأولاده وأقاربه فإنه محبوب لا محالة عنده. وهذا بعينه يقتضي أن لا يحب إلا الله تعالى فإنه لو عرف حق المعرفة لعلم أن المحسن إليه هو الله تعالى فقط، فأما أنواع إحسانه إلى كل عبيده فلست أعدها إذ ليس يحيط بها حصر حاصر كما قال تعالى: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وقد أشرنا إلى طرف منه في كتاب الشكر. ولكنا نقتصر الآن على بيان أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز، وإنما المحسن هو الله تعالى. ولنفرض ذلك فيمن أنعم عليك بجميع خزائنه ومكنك منها لتتصرف فيها كيف تشاء فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهو غلط فإنه إنما تم إحسانه به وبماله وبقدرته وبداعيته الباعثة له على صرف المال إليك، فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق قدرته وخلق إرادته وداعيته ومن الذي حببك إليه وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في الإحسان إليك؟ ولولا كل ذلك لما أعطاك حبة من ماله، ومهما سلط الله عليه الدواعي وقرر في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في أن يسلم إليك ماله كان مقهوراً مضطراً في التسليم لا يستطيع مخالفته، فالمحسن هو الذي اضطره لك وسخره وسلط عليه الدواعي الباعثة المرهقة إلى الفعل، وأما يده فواسطة يصل بها إحسان الله إليك وصاحب اليد مضطر في ذلك اضطراراً مجرى الماء في جريان الماء فيه، فإن اعتقدته محسناً أو شكرته من حيث هو بنفسه لا من حيث هو واسطة كنت جاهلاً بحقيقة الأمر، فإنه لا يتصور الإحسان من الإنسان إلا إلى نفسه، أما الإحسان إلى غيره فمحال من المخلوقين، لأنه لا يبذل ماله إلا لغرض له البذل إما آجل وهو الثواب وإما عاجل وهو المنة والاستسخار أو الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء والكرم أو جذب قلوب الخلق إلى الطاعة والمحبة، وكما أن الإنسان لا يلقي ماله في البحر إذ لا غرض له فيه فلا يلقيه في يد إنسان إلا لغرض له فيه، وذلك الغرض هو مطلوبه ومقصده، وأما أنت فلست مقصوداً بل يدك آلة له في القبض حتى يحصل غرضه من الذكر والثناء أو الشكر أو الثواب بسبب قبضك المال، فقد استسخرك في القبض للتوصل إلى غرض نفسه فهو إذن محسن إلى نفسه ومعتاض عما بذله من ماله عوضاً هو أرجح عنده من ماله، ولولا رجحان ذلك الحظ عنده لما نزل عن ماله لأجلك أصلاً البتة، فإذن هو غير مستحق للشكر والحب من وجهين.

أحدهما أنه مضطر بتسليط الله الدواعي عليه فلا قدرة له على المخالفة، فهو جار مجرى خازن الأمير فإنه لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير إلى من خلع عليه، لأنه من جهة الأمير مضطر إلى الطاعة والامتثال لما يرسمه ولا يقدر على مخالفته، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك. فكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله حتى سلط الله الدواعي عليه وألقى في نفسه أن حظه ديناً ودنيا في بذله فبذله لذلك.

والثاني أنه معتاض عما بذله حظاً أوفى عنده وأحب مما بذله، فكما لا يعد البائع محسناً لأنه بذل بعوض هو أحب عنده مما بذله، فكذلك الواهب اعتاض الثواب أو الحمد والثناء أو عوضاً آخر، وليس من شرط العوض أن يكون عيناً متمولاً بل الحظوظ كلها أعواض تستحقر الأموال والأعيان بالإضافة إليها، فالإحسان في الجود، والجود هو بذل المال من غير عوض وحظ يرجع إلى الباذل، وذلك محال من غير الله سبحانه فهو الذي أنعم على العالمين إحساناً إليهم ولأجلهم لا لحظ وغرض يرجع إليه فإنه يتعالى عن الأغراض فلفظ الجود والإحسان في حق غيره كذب أو مجاز، ومعناه في حق غيره محال وممتنع امتناع الجمع بين السواد والبياض، فهو المنفرد بالجود والإحسان والطول والامتنان، فإن كان في الطبع حب المحسن فينبغي أن لا يحب العارف إلا الله تعالى، إذ الإحسان من غيره محال فهو المستحق لهذه المحبة وحده، وأما غيره فيستحق المحبة على الإنسان بشرط الجهل بمعنى الإحسان وحقيقته. وأما السبب الثالث: وهو حبك المحسن في نفسه وإلى لم يصل إليك إحسانه، وهذا أيضاً موجود في الطباع، فإنه إذا بلغك خبر ملك عابد عادل عالم رفيق بالناس متلطف بهم متواضع لهم وهو في قطر من أقطار الأرض بعيد عنك وبلغك خبر ملك آخر ظالم متكبر فاسق متهتك شرير وهو أيضاً بعيد عنك؛ فإنك تجد في قلبك تفرقة بينهما إذ تجد في القلب ميلاً إلى الأول وهو الحب، ونفرة عن الثاني وهو البغض، مع أنك آيس من خير الأول وآمن من شر الثاني لانقطاع طمعك عن التوغل إلى بلادهما؛ فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن فقط لا من حيث إنه محسن إليك، وهذا أيضاً يقتضي حب الله تعالى بل يقتضي أن لا يحب غيره أصلاً إلا من حيث يتعلق منه بسبب، فإن الله هو المحسن إلى الكافة والمتفضل على جميع أصناف الخلائق، أولاً: بإيجادهم، وثانياً: بتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم، وثالثاً: بترفيههم وتنعيمهم بخلق الأسباب التي هي في مظان حاجاتهم وإن لم تكن في مظان الضرورة، ورابعاً: بتجميلهم بالمزايا والزوائد التي هي في مظنة زينتهم وهي خارجة عن ضروراتهم وحاجاتهم.

ومثال الضروري من الأعضاء: الرأس والقلب والكبد، ومثال المحتاج إليه: العين واليد والرجل. ومثال الزينة: استقواس الحاجبين وحمرة الشفتين وتلوين العينين إلى غير ذلك مما لو فات لم تنخرم به حاجة ولا ضرورة.

ومثال الضروري من النعم الخارجة عن بدن الإنسان: الماء والغذاء. ومثال الحاجة: الدواء واللحم والفواكه ومثال المزايا والزوائد: خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار ولذائذ الفواكه والأطعمة التي لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة.

وهذه الأقسام الثلاثة موجودة لكل حيوان بل لكل نبات بل لكل صنف من أصناف الخلق من ذروة العرش إلى منتهى الفرش. فإذن هو المحسن فكيف يكون غيره محسناً وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته؟ فإنه خالق الحسن وخالق المحسن وخالق الإحسان وخالق أسباب الإحسان، فالحب بهذه العلة لغيره أيضاً جهل محض ومن عرف ذلك لم يحب بهذه العلة إلا الله تعالى.

وأما السبب الرابع: وهو حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال: فقد بينا أن ذلك مجبول في الطباع، وأن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة، والأول يدركه الصبيان والبهائم، والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا. وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال، فإن كان مدركاً بالقلب فهو محبوب القلب ومثال هذا في المشاهدة حب الأنبياء والعلماء وذوي المكارم السنية والأخلاق المرضية، فإن ذلك متصور مع تشوش صورة الوجه وسائر الأعضاء وهو المراد بحسن الصورة الباطنة والحس لا يدرك. نعم يدرك بحسن آثاره الصادرة منه الدالة عليه، حتى إذا دل القلب عليه مال القلب إليه فأحبه، فمن يحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الصديق رضي الله تعالى عنه أو الشافعي رحمة الله عليه فلا يحبهم إلا لحسن ما ظهر منهم، وليس ذلك لحسن صورهم ولا لحسن أفعالهم، بل دل حسن أفعالهم على حسن الصفات التي هي مصدر الأفعال إذ الأفعال آثار صادرة عنها ودالة عليها فمن رأى حسن تصنيف المصنف وحسن شعر الشاعر بل حسن نقش النقش وبناء البناء انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الباطنة التي يرجع حاصلها عند البحث إلى العلم والمقدرة، ثم كلما كان المعلوم أشرف وأتم رجالاً وعظمة كان العلم أشرف وأجمل، وكذا المقدور كلما كان أعظم رتبة وأجل منزلة كانت القدرة عليه أجل رتبة وأشرف قدراً. وأجل المعلومات هو الله تعالى، فلا جرم أحسن العلوم وأشرفها معرفة الله تعالى، وكذلك ما يقاربه ويختص به فشرفه على قدر تعلقه به.

فإذن جمال صفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى ثلاثة أمور: أحدها علمهم بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه.

والثاني: قدرتهم على إصلاح أنفسهم وإصلاح عباد الله بالإرشاد والسياسة.

والثالث: تنزههم عن الرذائل والخبائث والشهوات الغالبة الصارفة عن سنن الخير الجاذبة إلى طريق الشر، وبمثل هذا يحب الأنبياء والعلماء والخلفاء والملوك الذين هم أهل العدل والكرم فأنسب هذه الصفات إلى صفات الله تعالى. أما العلم: فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؟ وقد خاطب الخلق كلهم فقال عز وجل " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيط بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة أو بعوضة لم يطلعوا على عشر عشير ذلك " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " والقدر اليسير الذي علمه الخلائق كلهم فبتعليمه علموه كما قال تعالى: " خلق الإنسان علمه البيان " فإن كان جمال العالم وشرفه أمراً محبوباً وكان هو في نفسه زينة وكمالاً الموصوف به فلا ينبغي أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى. فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه، بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم وإن كان الأجهل لا يخلو عن علم ما تتقاضاه معيشته. والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم، لأن الأعلم لا يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور في الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية.

وأما صفة القدرة: فهي أيضاً كمال والعجز نقص، فكل كمال وبهاء وعظمة ومجد واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ، حتى إن الإنسان ليسمع في الحكاية شجاعة علي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما من الشجعان وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف في قلبه اهتزازاً وفرحاً وارتياحاً ضرورياً بمجرد لذة السماع فضلاً عن المشاهدة ويورث ذلك حباً في القلب ضرورياً للمتصف به فإنه نوع كمال، فانسب الآن قدرة الخلق إلى قدرة الله تعالى، فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكاً وأقواهم بطشاً وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره - ما منتهى قدرته؟ وإنما غايته على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا ضراً ولا نفعاً، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم وبدنه من المرض، ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته، فضلاً عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها، فلا قدرة له على ذرة منها. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضاً على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين إذ قال " إنا مكنا له في الأرض" فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض، والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم وجميع الولايات التي يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة، ثم تلك الغبرة أيضاً من فضل الله تعالى وتمكينه، فيستحيل أن يحب عبداً من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته ولا يحب الله تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو الجبار القاهر والعليم القادر، السموات مطويات بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته وناصية جميع المخلوقات في قبضة قدرته إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة. وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقها ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء، فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلاً.

وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث فهو أحد موجبات الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة، والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك والقدوس ذي الجلال والإكرام. وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص بل كونه عاجزاً مخلوقاً مسخراً مضطراً هو عين العيب والنقص فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله، وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبداً مسخراً لغيره قائماً بغيره وذلك محال في حق غيره، فهو المنفرد بالكمال المنزه عن النقص المقدس عن العيوب، وشرح وجوه التقدس والتنزه في حقه عن النقائض يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره. فهذا الوصف أيضاً إن كان كمالاً وجمالاً محبوباً فلا تتم حقيقته إلا له، وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقاً بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصاناً، كما أن للفرس بالإضافة إلى الحمار وللإنسان كمالاً بالإضافة إلى الفرس، وأصل النقص شامل للكل وإنما يتفاوتون في درجات النقصان.

فإذن الجميل محبوب والجميل المطلق هو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض، القاهر الذي لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة، الأزلي الذي لا أول لوجوده، الأبدي الذي لا آخر لبقائه، الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به، جبار السموات والأرض، خالق الجماد والحيوان والنبات، المنفرد بالعزة والجبروت، والمتوحد بالملك والملكوت، ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال، الذي تتحير في معرفة جلاله العقول وتخرس في وصفه الأسنة، الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه، كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين: " ولا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".

وقال سيد الصديقين رضي الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك. سبحان من لم يجعل للخلق طريقاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فليت شعري من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقاً ويجعله مجازاً؟ أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ينكر كون الله تعالى موصوفاً بها أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوباً بالطبع عند من أدركه؟ فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون، وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون؛ يعملون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.

فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان لأن الإحسان يزيد وينقص. ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: إن أود الأوداء إلي م عبدني بغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها.

وفي الزبور: من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً أن أطاع.

ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا: نخاف النار ونرجو الجنة فقال لهم: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم، ومر بقوم آخرين كذلك فقالوا: نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله، فقال: أنتم أولياء الله حقاً معكم أمرت أن أقيم.

وقال أبو حازم: إني لأستحي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل، وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل.

وفي الخبر: " لا يكون أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجراً لم يعمل، ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل".وأما السبب الخامس للحب فهو المناسبة والمشاكلة لأن شبه الشيء منجذب إليه والشكل إلى الشكل أميل. ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير، ويألف الطير نوعه وينفر من غير نوعه، وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف، وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه بالفلاح. وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار كما استقصيناه في باب الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه. وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي للصبي في معنى الصبا، وقد يكون خفياً حتى لا يطلع عليه كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال أو طمع في مال أو غيره كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " فالتعارف هو التناسب، والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضاً يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال بل إلى معادن باطنة، يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر بل يترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك.

فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية، حتى قيل تخلقوا بأخلاق الله، وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشاداهم إلى الحق ومنعهم من الباطل، إلى غير ذلك من مكارم الشريعة. فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان بل بالصفات.

وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي فهي التي يومئ إليها قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق. وأوضح من ذلك قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي" ولذلك أسجد له ملائكته، ويشير إليه قوله تعالى: " إنا جعلنا خليفة في الأرض " إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته" حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا، تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون علواً كبيراً. وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام: " مرضت فلم تعدني، فقال: يا رب وكيف ذلك؟ قال: مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته وجدتني عنده" وهذه المناسبة لا تظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى: " لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به". وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد وقالوا بالحلول، حتى قال بعضهم: أنا الحق. وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا: هو الإله، وقال آخرون منهم تذرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون: اتحد به. وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الاتحاد والحلول واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر فيهم الأقلون. ولعل أبا الحسن النوري عن هذا المقام كان ينظر إذا غلبه الوجد في قول القائل:  

لا زلت أنزل من ودادك منزلاً

 

تتحير الألباب عند نـزولـه

فلم يزل يعدو في وجده على أجمة قد قطع قصبها وبقي أصوله حتى تشققت قدماه وتورمتا ومات من ذلك. وهذا هو أعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجوداً. فهذه هي المعلومة من أسباب الحب وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقاً لا مجازاً وفي أعلى الدرجات لا في أدناها، فكان المعقول المقبول عند ذوي البصائر حب الله تعالى فقط كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط، ثم كل من يحب من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور أن يحب غير لمشاركته إياه في السبب، والشركة نقصان في الحب وغض من كماله. ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه، فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد، إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التي هي نهاية الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجوداً، ولا يتصور أن يكون ذلك إمكاناً، فلا جرم لا يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته، فهو المستحق - إذاً لأصل المحبة - ولكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً.

بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى

والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن لا يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة

اعلم أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة ولذتها في نيلها المقتضي طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع. فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها. وغريزة شهوة الطعام مثلاً خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم لذتها في نيل هذا الغذاء الذي هو مقتضى طبعها، وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار والاستماع والشم، فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها. فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي لقوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور ربه " وقد تسمى العقل وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى نور الإيمان واليقين، ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة، والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعاني لأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب، فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة، كإدراك خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية، ولتسم تلك الغريزة عقلاً بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة، فقد اشتهر اسم العقل بهذا ولهذا ذمه بعض الصوفية، وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك معرفة الله تعالى أعز الصفات فلا ينبغي أن تذم، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها فمقتضى طبعها المعرفة والعلم وهي لذتها، كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها. وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى إن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به، والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به، وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة. فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه، وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به، فإن العلم من أخص صفات الربوبية وهي منتهى الكمال، ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به، ثم ليست لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، حتى إن الذي يعلم بواطن أحوال الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه، فإن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من عمله بباطن حال الفلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس، فإن كان خبيراً بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولي كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن أسرار الوزير، وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم. فبهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها. وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها؟ وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين؟ فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الإطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها؟ وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها، وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار وبهذا تبين أن العلم لذيذ، وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته - من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين - فينبغي أن يعلم أن لذةالمعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس، فإن اللذات مختلفة بالنوع أولاً، كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع، ولذة المعرفة للذة الرياسة، وهي مختلفة بالضعف والقوة، كمخالفة لذة الشبق المغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة، وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال. وإنما تعرف أقوى اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها، فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة، وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل، فيعلم به أن لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل فهذا معيار صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول: اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس، وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها، إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا للأذن ولا للمس ولا للذوق، والمعاني الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة، فلو خير الرجل بين لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء، فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة، وإن كان على الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياماً كثيرة؛ فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من المطعومات الطيبة، نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي، أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبا والعته فلذة معرفة الله تعالى ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق، وغاية العبارة عنه أن يقال " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " وأنه أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكونه مشوباً بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها، وكونه مقطوعاً بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله ومطالعة صفاته وأفعاله ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فإنها خالية من المزاحمات والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكبرها، وإنما عرضها من حيث التقدير السموات والأرض، وإذا خرج النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع من حياضها وهو آمن من انقطاعها، إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي، ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي، وإنما الموت يغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها فأما أن يعدمها فلا " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " الآية. ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد وفي الخبر " إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة وإن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء".فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم، وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم، فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها، وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه، وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة ولكن يؤثرون الرياسة، فأما معنى كون معرفة الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأسرار ملكه أعظم لذة من الرياسة فهذا يختص بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها، ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له لأن القلب معدن هذه القوة، كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان، ولا رجحانه على لذة شم البنفسج عند العينين، لأنه فقد الصفة التي بها تدرك هذه اللذة، ولكن من سلم من آفة العنة وسلم حاسة شمه أدرك التفاوت بين اللذتين، وعند هذا لا يبقى إلا أن يقال من ذاق عرف، ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبهم، فإنها أيضاً معارف وعلوم وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية، فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشيء اليسير فإنه يصادف قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به، ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره، وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق، والحكاية فيه قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها.

ولهذا قال أبو سليمان الداراني: إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟ ولذلك قال بعض أخوان معروف الكرخي له: أخبرني يا أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق. فسكت فقال: ذكر الموت، فقال: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كان بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.

وفي أخبار عيسى عليه السلام: إذا رأيت الفتى مشغوفاً بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه.

ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال: ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق؟ فقال: تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان، قلت: فأنت؟ قال: علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه.

وعن علي بن الموفق قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفح وجوه الناس فيدخل بعضاً ويرد بعضاً، قال: ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ قال: معروف الكرخي عبد الله لا خوفاً من ناره، ولا شوقاً إلى جنته بل حباً له فأباحه النظر إليه يوم القيامة. وذكر أن الآخرين: بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.

ولذلك قال أبو سليمان: من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربه.

وقال الثوري لرابعة: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه وقالت في معنى المحبة نظماً:  

أحبك حبـين حـب الـهـوى

 

وحبـاً لأنـك أهـل لـذاكـا

فأما الذي هو حـب الـهـوى

 

فشغلي بذكرك عمن سواكـا

وأما الـذي أنـت أهـل لـه

 

فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لـي

 

ولكن لك الحد في ذا وذاكـا

ولعلها أرادت بحب الهوى: حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وبحبه لما هو أهل له: الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها؛ وهو أعلى الجبين وأقواهما، ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال حاكياً عن ربه تعالى: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية، ولذلك قال بعضهم: إني أقول يا رب يا الله فأجد ذلك على قلبي أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب؛ وهل رأيت جليساً ينادي جليسه؟ وقال: إذا بلغ الرجل في هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة؛ أي يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنوناً أو كفراً، فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط، فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفى لهم منها، وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها وصار القلب مستغرقاً بنعيمها، فلو ألقي في النار لم يحس بها لاستغراقه ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية، وليت شعر من لم يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة النظر إلى وجه الله تعالى وماله صورة ولا شكل؟ وأي معنى لوعد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم؟ بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة كما قال بعضهم: 

كانـت لـقـلـبـي أهـواء مـفـرقة

 

فاستجمعت مذ رأتك الـعـين أهـوائي

فصار يحسدني مـن كـنـت أحـسـده

 

وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي

تركت لـلـنـاس دنـياهـم ودينـهـم

 

شغـلاً بـذكـرك يا دينـي ودنــيائي

ولذلك قال بعضهم:

وهجره أعظم من ناره

 

ووصله أطيب من جنته

وما أرادوا بهذا إلا إيثار القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، فأما القلب فلذته لقاء الله فقط.

ومثال أطوار الخلق في لذتهم ما نذكره: وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو، حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء، ثم يظهر بعده لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب فيستحقر معها لذة اللعب، ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول إليها، ثم تظهر لذة الرياسة والعلو والتكاثر، وهي آخر لذات الدنيا وأعلاها وأقواها كما قال تعالى: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر " الآية. ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله فيستحقر معها جميع ما قبلها، فكل متأخر فهو أقوى، وهذا هو الأخير، إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز، وحب النساء والزينة في سن البلوغ، وحب الرياسة بعد العشرين، وحب العلوم بقرب الأربعين، وهي الغاية العليا وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة؛ فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى. والعارفون يقولون: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون ".

بيان السبب في زيادة النظر في لذة الآخرة

على المعرفة في الدنيا

اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال، كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة والمتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات، وإلى ما لا يدخل في الخيال، كذات الله تعالى وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها. ومن رأى إنساناً ثم غض بصره وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها، ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما، ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف، فإن صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافاً ووضوحاً، وهو كشخص يرى في وقت الإسفار قبل انتشار ضوء النهار ثم عند تمام الضوء، فإنه لا تفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف. فإذن الخيال أول الإدراك والرؤية هو الاستكمال لإدراك الخيال وهو غاية الكشف، وسمي ذلك رؤية لأنه غاية الكشف لا لأنه في العين، بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المكشوف في الجبهة أو الصدر مثلاً استحق أن يسمى رؤية. وإذا فهمت هذا في المتخيلات فاعلم أن المعلومات التي لا تتشكل أيضاً في الخيال لمعرفتها وإدراكها درجتان أحدهما أولى، والثانية استكمال لها. وبين الأولى والثانية من التفاوت في مزيد الكشف والإيضاح ما بين المتخيل والمرئي، فيسمى الثاني أيضاً بالإضافة إلى الأول مشاهدة ولقاء ورؤية. وهذه التسمية حتى لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف، وكما أن سنة الله تعالى جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجاباً بين البصر والمرئي، ولا بد من ارتفاع الحجب لحصول الرؤية. وما لم ترتفع كان الإدراك الحاصل مجرد التخيل فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية، فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجة عن الخيال، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار. والقول في سبب كونها حجاباً يطول ولا يليق بهذا العلم. ولذلك قال تعالى لموسى عليه السلام: " لن تراني " وقال تعالى " لا تدركه الأبصار " أي في الدنيا والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج. فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا، غير منفكة عنها بالكلية وإن كانت متفاوتة، فمنها ما تراكم عليه الخبث والصدأ فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها فلا تقبل الإصلاح والتصقيل، وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد - نعوذ بالله من ذلك - ومنا ما لم ينته إلى حد الرين والطبع ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل فيعرض على النار عرضاً يقمع منه الخبث الذي هو متدنس به، ويكون العرض على النار بقدر الحاجة إلى التزكية، وأقلها لحظة خفيفة وأقصاها حق المؤمنين - كما وردت به الأخبار- سبعة آلاف سنةولن ترتحل نفس عن هذا العالم إلا ويصحبها غبرة وكدورة ما، وإن قلت: ولذلك قال الله تعالى: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقتضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فكل نفس مستيقنة للورود على النار وغير مستيقنة للصدور عنها، فإذا أكمل الله تطهيرها وتزكيتها وبلغ الكتاب أجله ووقع الفراغ عن جملة ما وعد به الشرع من الحساب والعرض وغيره، ووافى استحقاق الجنة - وذلك وقت مبهم لم يطلع الله عليه أحداً من خلقه فإنه واقع بعد القيامة؛ ووقت القيامة مجهول - فعند ذلك يشتغل بصفائه ونقائه عن الكدورات حيث لا يرهق وجهه غبرة ولا قترة لأن فيه يتجلى الحق سبحانه وتعالى، فيتجلى له تجلياً يكون انكشاف تجليه بالإضافة إلى ما علمه كانكشاف تجلي المرآة بالإضافة إلى ما تخيله. وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية، فإذن الرؤية حق، بشرط أن لا يفهم من الرؤية استكمال الخيال في متخيل متصور مخصوص بجهة ومكان؛ فإن ذلك مما يتعالى عنه رب الأرباب علواً كبيراً، بل كما عرفته في الدنيا معرفة حقيقية تامة من غير تخيل وتصور وتقدير شكل وصورة، فتراه في الآخرة كذلك. بل أقول: المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينها هي التي تستكمل فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة، والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح كما ضربناه من المثال في استكمال الخيال بالرؤية. فإذا لم يكن في معرفة الله تعالى إثبات صورة وجهه فلا يكون في استكمال تلك المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف أيضاً جهة وصورة لأنها هي بعينها لا تفترق منها إلا في زيادة الكشف، كما أن الصورة المرئية هي المتخيلة بعينها إلا في زيادة الكشف، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " إذ تمام النور لا يؤثر إلا في زيادة التكشف، ولهذا لا يفوز بدرجة النظر والرؤية إلا العارفون في الدنيا، لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة شجرة والحب زرعاً، ومن لا نواة في أرضه كيف يحصل له نخل؟ ومن لم يزرع الحب فكيف يحصد الزرع؟ فكذلك من لم يعرف الله تعالى في الدنيا فكيف يراه في الآخرة؟ ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي أيضاً على درجات متفاوتة، فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذر، إذ تختلف لا محالةبكثرتها وقلتها وحسنها وقوتها وضعفها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة" فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر ممن هو دونه يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر، بل لا يجد إلا عشر عشيره إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشيره، ولما فضل من الناس بسر وقر في صدره فضل لا محالة بتجل انفرد به، وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح، وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعاً؛ فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة، إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح، وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والإطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب؛ وسائر الخلق مشغولون به. ولذلك لما قيل لرابعة: ما تقولين في الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار. فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة بل إلى رب الجنة. وكل من يعرف الله في الدنيا فلا يراه في الآخرة، وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة، إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا، ولا يحصد إلا ما زرع، ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه فقط، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به؛ كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته، وإنما طيبة الجنة لكل أحد فيها ما يشتهي، فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره، بل ربما يتأذى به، فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر محبته، فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان. فإن قلت: فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهي قليلة وإن كان أضعافها، لأن لذة المعرفة في الدنيا ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها؟ فاعلم أن هذا الاستحقار للذة المعرفة صدر من الخلو عن المعرفة، فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها؟ وإن انطوى على معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا فكيف يدرك لذتها؟ فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة، ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلاً إلى لذة اللقاء والمشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته، ولا لذة استنشاق روائح الأطعمة الشهية إلى ذوقها، ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع.

وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال فنقول: لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب: أحدها كمال جمال المعشوق ونقصانه، فإن اللذة في النظر إلى الأجمل أكمل لا محالة.

والثاني كمال قوة الحب والشهوة والعشق، فليس التذاذ من اشتد عشقه كالتذاذ من ضعفت شهوته وحبه.

والثالث كمال الإدراك، فليس التذاذ برؤية المعشوق في ظلمة أو من وراء ستر رقيق أو من بعده كالتذاذ بإدراكه على قرب من غير ستر وعند كمال الضوء، ولا إدراك لذة المضاجعة مع ثوب حائل كإدراكها مع التجرد.

والرابع اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب، فليس التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم أو المشغول قلبه بمهم من المهمات.

فقدر عاشقاً ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه، فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة معشوقه، فلو طرأت على الفجأة حالة انتهك بها الستر وأشرق بها الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجمت عليه الشهوة القوية والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات، فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليها نسبة يعتد بها، فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة فالستر الرقيق مثال البدن والاشتغال به، والعقارب والزنابير مثال الشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن، وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاتها إلى أسفل السافلين وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرياسة والتفاته إلى اللعب بالعصفور، والعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه المشوشات ولا يتصور أن يخلو عنها البتة، نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم، فلا جرم يلوح من جمال المعرفة ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته، ولكن يكون ذلك كالبرق في الخاطف وقلما يدوم؛ بل يعرض من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينغصه، وهذه ضرورة دائمة في هذه الحياة الفانية فلا تزال هذه اللذة منغصة إلى الموت، وإنما الحياة الطيبة بعد الموت وإنما العيش عيش الآخرة " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وكل من انتهى إلى هذه الرتبة فإنه يحب لقاء الله تعالى فيحب الموت، ولا يكره إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال في المعرفة فإن المعرفة كالبذر وبحر المعرفة لا ساحل له، فالإحاطة بكنه جلال الله محال، فكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله وبأسرار مملكته وقويت، كثر النعيم في الآخرة وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن، كثر الزرع وحسن، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا، ولا يزرع إلا في صعيد القلب، ولا حصاد إلا في الآخرة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله" لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والمواظبة على المجاهدة والانقطاع عن علائق الدنيا والتجرد للطلب، ويستدعي ذلك زماناً لا محالة، فمن أحب الموت أحبه لأنه رأى نفسه واقفاً في المعرفة بالغاً إلى منتهى ما يسر له، ومن كره الموت كرهه لأنه كان يؤمل مزيد معرفة تحصل له بطول العمر ورأى نفسه مقصراً عما تحتمله قوته لو عمر، فهذا سبب كراهة الموت وحبه عند أهل المعرفة. وأما سائر الخلق فنظرهم مقصور على شهوات الدنيا إن اتسعت أحبوا البقاء وإن ضاقت تمنوا الموت، وكل ذلك حرمان وخسران مصدره الجهل والغفلة، فالجهل والغفلة مغرس كل شقاوة، والعلم والمعرفة أساس كل سعادة فقد عرفت بما ذكرناه معنى المحبة، ومعنى العشق فإنه المحبة المفرطة القوية، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية، ومعنى لذة الرؤية، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند ذوي العقول والكمال وإن لم تكن كذلك عند ذوي النقصان، كما لم تكن الرياسة ألذ المطعومات عند الصبيان.

فإن قلت: فهذه الرؤيا محلها القلب أو العين في الآخرة؟ فاعلم أن الناس قد اختلفوا في ذلك وأرباب البصائر لا يلتفتون إلى هذا الخلاف ولا ينظرون فيه، بل العاقل يأكل البقل ولا يسأل عن المبقلة، ومن يشتهي رؤية معشوقه يشغله عشقه عن أن يلتفت إلى أن رؤيته تخلق في عينه أو جبهته، بل يقصد الرؤيا ولذتها سواء كان ذلك بالعين أو غيرها، فإن العين محل وظرف لا نظر إليه ولا حكم له، والحق فيه أن القدرة الأزلية واسعة فلا يجوز أن نحكم عليها بالقصور عن أحد الأمرين، هذا في حكم الجواز، فأما الواقع في الآخرة من الجائزين فلا يدرك إلا بالسمعوالحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر، وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجري على ظاهره، إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة والله تعالى أعلم.