كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا - بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى

بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى

اعلم أن أسعد الخلق حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه، وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه! وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص ومكدر ومن غير رقيب ومزاحم ومن غير خوف انقطاع! إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة، وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه حتى ينتهي إلى الاستهتار الذي يسمى عشقاً فذلك ينفك عنه الأكثرون، وإنما يحصل ذلك بسببين:  أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب، فإن القلب مثل الإناء لا يتسع للخل مثلاً ما لم يخرج منه الماء " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " وكمال الحب في أن يحب الله عز وجل بكل قلبه. وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره. فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله، وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه. وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى: " قل الله ثم ذرهم في خوضهم"، وبقوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " بل هو معنى قولك " لا إله إلا الله " أي معبود ولا محبوب سواه، فكل محبوب فإنه معبود، فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به، وكل محب مقيد بما يحبه. ولذلك قال الله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه " وقال صلى الله عليه وسلم: " أبغض إله عبد في الأرض الهوى " ولذلك قال عليه السلام: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله، فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط، ومن هذا حاله فالدنيا سجنه لأنها مانعة من مشاهدة محبوبه وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب، فما حال من ليس له إلا محبوب واحد وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه فخلى من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد، فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنتزهات حتى إن المنفرح بطيب أصوات الطيور وروح نسم الأسحار ملتفت إلى نعيم الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله تعالى بسببه، فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله، ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئاً بقدره من الآخرة بالضرورة، كما أنه لا يقرب الإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة من المغرب بقدره، ولا يطيب قلب امرأته إلا ويضيق به قلبه ضرتها، فالدنيا والآخرة ضرتان وهما كالمشرق والمغرب، وقد انكشف ذلك لذوي القلوب انكشافاً أوضح من الإبصار بالعين، وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرجاء. فما ذكرناها من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة وهو تخلية القلب عن غير الله، وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار، ثم يتشعب منه الخوف والرجاء، ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما. ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا وفي المال والجاه وكل حظوظ الدنيا حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط، حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه فكل ذلك مقدمات تطهير القلب وهو أحد ركني المحبة. وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " الطهور شطر الإيمان" كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة.

السبب الثاني: لقوة المحبة، قوة معرفة الله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب، وذلك بعد تطهير القلب من جميع شواغل الدنيا وعلائقها يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها من الحشيش وهو الشطر الثاني.

ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلاً حيث قال: " ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء " وإليها الإشارة بقوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب "، أي المعرفة " والعمل الصالح يرفعه " فالعمل الصالح كالجمال لهذه المعرفة وكالخادم وإنما العمل الصالح كله في تطهير القلب أولاً من الدنيا ثم إدامة طهارته، فلا يراد العمل إلا لهذه المعرفة، وأما العلم بكيفية العمل فيراد للعمل، فالعلم هو الأول وهو الآخر، وإنما الأول علم المعاملة وغرضه العمل، وغرض المعاملة صفاء القلب وطهارته ليتضح فيه جلية الحق ويتزين بعلم المعرفة وهو علم المكاشفة ومهما حصلت هذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة، كما أن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه ومال إليه، ومهما أحبه حصلت اللذة، فاللذة تبع المحبة بالضرورة، والمحبة تبع المعرفة بالضرورة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله تعالى وفي صفاته وفي ملكوت سمواته وسائر مخلوقاته. والواصلون إلى هذه الرتبة ينقسمون إلى الأقوياء ويكون أول معرفتهم بالله تعالى، ثم به يعرفون غيره. وإلى الضعفاء ويكون أول معرفتهم بالأفعال ثم يترقون منها إلى الفاعل. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " وبقوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ومنه نظر بعضهم حيث قيل له: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي ولولا ربي لما عرفت ربي، وإلى الثاني بقوله تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " الآية.

وبقوله عز وجل: " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض " وبقوله تعالى: " قل انظروا ماذا في السموات والأرض " وبقوله تعالى: " الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير " وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين وهو الأوسع على السالكين، وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبر والتفكر والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر.

فإن قلت: كلا الطريقين مشكل فأوضح لنا منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل به إلى المحبة فاعلم أن الطريق الأعلى هو الاستشهاد بالحق سبحانه على سائر الخلق فهو غامض، والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق فلا فائدة في إيراده في الكتب، وأما الطريق الأسهل الأدنى فأكثره غير خارج عن حد الأفهام؛ وإنما قصرت الأفهام عنه لإعراضها عن التدبر واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس، والمانع من ذكر هذا اتساعه وكثرته وانشعاب أبوابه الخارجة عن الحصر والنهاية، إذ ما من ذرة من أعلى السموات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته، وذلك مما لا يتناهى " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " فالخوض فيه انغماس في بحار علوم المكاشفة ولا يمكن أن يتطفل به على علوم المعاملة، ولكن يمكن الرمز إلى مثال واحد على الإيجاز ليقع التنبيه لجنسه، فنقول:  أسهل الطريقين النظر إلى الأفعال فلنتكلم فيها ولنترك الأعلى، ثم الأفعال الإلهية كثيرة فنطلب أقلها وأحقرها وأصغرها ولننظر في عجائبها، فأقل المخلوقات هو الأرض وما عليها - أعني بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات - فإنك إن نظرت فيها من حيث الجسم والعظم في الشخص فالشمس على ما ترى من صغر حجمها هي مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه، فإنه لا نسبة لها إليه وهي في السماء الرابعة، وهي صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها من السموات السبع، ثم السموات في الكرسي كخلقة في فلاة، والكرسي في العرش كذلك، فهذا نظر إلى ظاهر الأشخاص من حيث المقادير، وما أحقر الأرض كلها بالإضافة إليها! بل ما أصغر الأرض بالإضافة إلى البحار! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض" ومصداق هذا عرف بالمشاهدة والتجبرة، وعلم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض، ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب - الذي هو جزء من الأرض - وإلى سائر الحيوانات وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض، ودع عنك جميع ذلك، فأصغر ما نعرفه من الحيوانات البعوض والنحل وما يجري مجراه، فانظر في البعوض على قدر صغره وتأمله بعقل حاضر وفكر صاف، فانظر كيف خلقه الله تعالى على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات! إذ خلق له خرطوماً مثل خرطومه، وخلق له شكله الصغير سائر الأعضاء كما خلقه للفيل بزيادة جناحين، وانظر كيف قسم أعضاءه الظاهرة فأنبت جناحه، وأخرج يده ورجله، وشق سمعه وبصره؟ ودبر في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته ما دبره في سائر الحيوانات، وركب فيها من القوى الغاذية والجاذبة والدافعة والماسكة والهاضمة ما ركب في سائر الحيوانات، هذا في شكله وصفاته، ثم انظر إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه وعرفه أن غذاءه دم الإنسان ثم انظر كيف أنبت له آلة الطيران إلى الإنسان! وكيف خلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس! وكيف هداه إلى مسام بشرة الإنسان حتى يضع خرطومه في واحد منها! ثم كيف قواه حتى يغرز فيه الخرطوم! وكيف علمه المص والتجرع للدم! وكيف خلق الخرطوم مع دقته مجوفاً حتى يجري فيه الدم الرقيق وينتهي إلى باطنه وينتشر في سائر أجزائه ويغذيه! ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب واستعداد آلته! وخلق له السمع الذي يسمع به خفيف حركة اليد وهي بعد بعيدة منه فيترك المص ويهرب! ثم إذا سكنت اليد يعود! ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه. وانظر إلى أن حدقة كل حيوان صغير لما لم تحمل حدقته الأجفان لصغره وكانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار - خلق للبعوض والذباب فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه. وأما الإنسان والحيوان الكبير فخلق لحدقتيه الأجفان حتى ينطبق أحدهما على الآخر، وأطرافهما حادة فيجمع الغبار الذي يلحق الحدقة ويرميه إلى أطراف الأهداب، وخلق الأهداب السود لتجمع ضوء العين وتعين على الإبصار وتحسن صورة العين وتشبكها عند هيجان الغبار فينظر من وراء شباك الأهداب، واشتباكها يمنع دخول الغبار ولا يمنع الإبصار. وأما البعوض فخلق لها حدقتين مصقلتين من غير أجفان وعلمها كيفية التصقيل باليدين، ولأجل ضعف أبصارها تراها تتهافت على السراج لأن بصره ضعيف فهي تطلب ضوء النهار، فإذا رأى المسكين ضوء السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم وأن السراج كوة من البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فلا يزال يطلب الضوء ويرمي بنفسه إليه فإذا جاوزه ورأى الظلام ظن أنه لم يصب الكوة ولم يقصدها على السداد فيعود إليه مرة أخرى إلى أن يحترق ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها، فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الآدمي في الإكباب على الشهوات الدنيا صورة الفراش في التهافت على النار، إذ تلوح للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل، فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك هلاكاً مؤبداً، فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش! فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال والآدمي يبقى في النار أبد الآباد أو مدة مديدة، ولذلك كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: " إني ممسك بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش" فهذه لمعة عجيبة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات، وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته، فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى.

ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره، فانظر إلى النحل وعجائبها وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياءً وجعل الآخر شفاءً، ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاحات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصاً وهو أميرها، ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها - حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة - لقضيت منها عجباً آخر العجب إن كنت بصيراً في نفسك وفارغاً من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع، واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتاً مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً بل مسدساً، لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها: المستديرة وما يقرب منها، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة وشكل النحل مستدير مستطيل فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة، ولا شكل في الأشكال ذات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، وهذه خاصية هذه الشكل، فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفاً به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه، فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه!.

فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات، فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار دون إيضاحه، ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء، ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه، بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علماً في جنب علم الله تعالى، فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين، وبزيادة المعرفة تزداد المحبة، فإن كنت طالباً سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك، واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر يسير، ولكن تنال بذلك اليسير ملكاً عظيماً لا آخر له.

بيان السبب في تفاوت الناس في الحب

اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة، ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا، إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابه، وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسماء التي قرعت سمعهم فتلقنوها وحفظوها، وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب، وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسداً بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث، وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين، والمتخيلون هم الضالون، والعارفون بالحقائق هم المقربون. وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم"الآية. فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالاً فنقول: أصحاب الشافعي مثلاً يشتركون في حب الشافعي - رحمه الله - الفقهاء منهم والعوام، لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله، ولكن العامي يعرف علمه مجملاً والفقيه يعرفه مفصلاً، فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد، فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه، فإن رأى تصنيفاً آخراً أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه لأنه تضاعفت معرفته بعلمه، وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه، فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حباً. وكذا سائر الصناعات والفضائل. والعامي قد يسمع أن فلاناً مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدرى ما في التصنيف فيكون له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل، والبصير إذا فتش عن التصانيف على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة، لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه، والعامي يعلم ذلك ويعتقده: وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه، حتى يرى في البعوض - مثلاً - من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه فيزداد له حباً، وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله إطلاعاً استدل على عظمة الله الصانع وجلاله، وازداد به معرفة وله حباً. وبحر هذه المعرفة - أعني معرفة العجائب صنع الله تعالى - بحر لا ساحل له، فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له، ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب، فإنه من يحب الله مثلاً لكونه محسناً إليه منعماً عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته، إذ تتغير بتغير الإحسان فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء. وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه. فهذا وأمثاله وهو سبب تفاوت الناس في المحبة. والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة. ولذلك قال تعالى " وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ".

بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله سبحانه

اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى، وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول، وترى الأمر بالضد من ذلك، فلا بد من بيان السبب فيه. وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها لمعنى لا تفهمه إلا بمثال: وهو أنا إذا رأينا إنساناً يكتب أو يخيط مثلاً كان كونه حياً عندنا من أظهر الموجودات، فحياته وعلمه وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة، إذ صفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه وكل ذلك لا نعرفه، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته. أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيواناً فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته، فإن هذه الصفات لا نحس بشيء من الحواس الخمس، ثم لا يمكن أن نعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته، فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفته، فما عليه إلا دليل واحد وهو مع ذلك جلي واضح، ووجود الله تعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض، بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأوصافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا، وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس ثم مدركاتنا بالعقل والبصيرة - وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة علمه وقدرته ولطفه وحكمته، والموجودات المدركة لا حصر لها، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس لها يشهد إلا شاهد واحد وهو ما أحسسنا به من حركة يده؛ فكيف لا يظهر ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله؟ إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها، يشهد بذلك أولاً تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ومنابت شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة، فإنه نعلم أنها لم تأتلف بأنفسها كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها، ولكن لما لم يبق في الوجود شيء مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه.

فإن ما تقصر عن فهمه عقولنا فله سببان: أحدهما خفاؤه نفسه وغموضه وذلك لا يخفى مثاله، والآخر ما يتناهى وضوحه، وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، لا لخفاء النهار واستتاره ولكن لشدة ظهوره فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرقت، فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سبباً لامتناع إبصاره فلا نرى شيئاً إلا إذا امتزج الضوء بالظلام وضعف ظهوره. فكذلك عقولنا ضعيفة وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر بظهوره، ولا يتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تستبان بأضدادها وما عم وجوده حتى أنه لا ضد له عسر إدراكه، فلو اختلفت الأشياء فدل بعضها دون بعض أدركت التفرقة على قرب، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر، ومثاله: نور الشمس المشرق على الأرض، فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أنه لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها وهي السواد والبياض وغيرهما، فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد وفي الأبيض إلا البياض، فأما الضوء فلا ندركه وحده، ولكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالين، فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء واتصفت بصفة فارقتها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه، وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد، وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور، هذا مع أن النور أظهر المحسوسات إذ به تدرك سائر المحسوسات، فما هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره، انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده؟ فالله تعالى هو أظهر الأمور وبه ظهرت الأشياء كلها، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدت السموات والأرض وبطل الملك والملكوت، ولأدرك بذلك التفرقة بين الحالين، ولو كان بعض الأشياء موجوداً به وبعضها موجوداً بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين الدلالة، ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه، فلا جرم أورثت شدة الظهور خفاء، فهذا هو السبب في قصور الأفهام.

وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى ولا يعرف غيره، يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله. وأفعاله أثر من الآثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة ودونه، وإنما الوجود للواحد الذي به وجود الأفعال كلها. ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر، بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزاً له إلى غيره، كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ورأى فيها الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث أثره لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف، وكل العالم تصنيف الله تعالى، فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله وعرفه من حيث إنه فعل الله وأحبه من حيث إنه فعل الله لم يكن ناظراً إلا في الله ولا عارفاً إلا بالله ولا محباً إلا له، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبد الله، فهذا الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد وإنه فني عن نفسه. وإليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن. فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر، أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام، أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى، وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبا عند فقد العقل، ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً وهو مستغرق الهم بشهواته وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس، ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيواناً غريباً أو نباتاً غريباً أو فعلاً من أفعال الله تعالى خارقاً للعادة عجيباً انطلق لسانه بالمعرفة طبعاً فقال: "سبحان الله " وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاؤه وسائر الحيوانات المألوفة وكلها شواهد قاطعة لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها، ولو فرض أكمه بلغ عاقلاً ثم انقشعت غشاوة عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة لخيف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة العجائب لخالقها. فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات هو الذي سد على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة، فالناس في طلبهم معرفة الله كالمدهوش الذي يضرب به المثل إذا كان راكباً لحماره وهو يطلب حماره، والجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة. فهذا سر هذا الأمر فليحقق. ولذلك قيل:  

فقد ظهرت فما تخفى علـى أحـد

 

إلا على أكمه لا يعرف القـمـرا

لكن بطنت بما أظهرت محتجـبـاً

 

فكيف يعرف من بالعرف قد سترا

بيان معنى الشوق إلى الله تعالى

اعلم أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ونحن نثبت وجود الشوق إلى الله تعالى، وكون العارف مضطراً إليه بطريق الاعتبار والنظر بأنوار البصائر وبطريق الأخبار والآثار أما الاعتبار فيكفي في إثباته ما سبق في إثبات الحب، فكل محبوب يشتاق إليه في غيبته لا محالة، فأما الحاصل فلا يشتاق إليه، فإن الشوق طلب وتشوف إلى أمر والموجود لا يطلب. ولكن بيانه أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، فأما ما لا يدرك أصلاً فلا يشتاق إليه، فإن من لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه ولا يتصور أن يشتاق إليه، وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه، وكمال الإدراك بالرؤية فمن كان في مشاهدة محبوبه مداوماً للنظر إليه لا يتصور أن يكون له شوق، ولكن الشوق إنما يتعلق بما أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، وهو من وجهين لا ينكشف إلا بمثال من المشاهدات.

فنقول مثلاً: من غاب عنه معشوقه وبقي في قلبه خياله فيشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية، فلو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يتصور أن يشتاق إليه، ولو رآه لم يتصور أن يشتاق في وقت الرؤية، فمعنى شوقه تشوق نفسه إلى استكمال خياله، فكذلك قد يراه في ظلمة بحيث لا ينكشف له حقيقة صورته فيشتاق إلى استكمال رؤيته، وتمام الانكشاف في صورته بإشراق الضوء عليه.

والثاني أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره مثلاً ولا سائر محاسنه فيشتاق لرؤيته، وإن لم يرها قط ولم يثبت في نفسه خيال صادر عن الرؤية ولكنه يعلم أن له عضواً وأعضاء جميلة ولم يدرك تفصيل جمالها بالرؤية فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط.

والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين، فإن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية - وإن كان في غاية الوضوح - فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يكون متضحاً غاية الاتضاح، بل يكون مشوباً بشوائب التخيلات، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات، وهي مكدرات للمعارف ومنغصات، وكذلك ينضاف إليها شواغل الدنيا، فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلي ولا يكون ذلك إلا في الآخرة، وذلك بالضرورة يوجب الشوق فإنه منتهى محبوب العارفين. فهذا أحد نوعي الشوق وهو استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحاً ما.

الثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة؟ والعارف يعلم وجودها وكونها معلومة لله تعالى. ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال متشوقاً إلى أن يحصل له أصل المعرفة فيما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلاً، لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة.

والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة، ولا يتصور أن يسكن في الدنيا. وقد كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال: قلت ذات يوم؛ يا رب إن أعطيت أحداً من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضر بي القلق، قال: فرأيت في النوم أنه أوقفني بين يديه وقال: يا إبراهيم أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه، فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول، فقال: قل اللهم رضني بقضائك وصبرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك. فإن هذا الشوق يسكن في الآخرة. وأما الشوق الثاني فيشبه: أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما هو معلوم لله تعالى وهو محال لأن ذلك لا نهاية له.

ولا يزال العبد عالماً بأنه بقي من الجمال والجلال ما لم يتضح له فلا يسكن قط شوقه، لا سيما من يرى فوق درجته درجات كثيرة، إلا أنه تشوق إلى استكمال الوصال مع حصول أصل الوصال، فهو يجد لذلك شوقاً لذيذاً لا يظهر فيه ألم ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر متوالية إلى غير نهاية، فلا يزال النعيم واللذة متزايداً أبد الآباد، وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلة عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل، وهذا بشرط أن يمكن حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا أصلاً، فإن كان ذلك غير مبذول فيكون النعيم واقفاً على حد لا يتضاعف ولكن يكون مستمراً على الدوام، وقوله سبحانه وتعالى: "نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " محتمل لهذا المعنى، وهو أن ينعم عليه بإتمام النور مهما تزود من الدنيا أصل النور، ويحتمل أن يكون المراد به إتمام النور في غير ما استنار في الدنيا استنارة محتاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق، فيكون هو المراد بتمامه. وقوله تعالى: " انظرونا نقتبس من نوركم - قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً" يدل على أن الأنوار لا بد وأن يتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقاً. فأما أن يتجدد نور فلا، والحكم في هذا برجم الظنون مخطر، ولم ينكشف لنا فيه بعد ما يوثق به، فنسأل الله تعالى أن يزيدنا علماً ورشداً ويرينا الحق حقاً. فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه.

وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى، فمما اشتهر من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك".

وقال أبو الدرداء لكعب: أخبرني عن أخص آية - يعني في التوراة - فقال: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً. قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني. فقال أبو الدرداء: أشهد إني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.

وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى قال: يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني وجليس لمن جالسني ومؤنس لمن أنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني؛ فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ومصاحبتي ومجالستي، وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم، فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي.

وروي عن بعض السلف: أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين: إن لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشتكون من حبي، أول ما أعطيهم ثلاث: أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم. والثانية: لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم. والثالثة: أقبل بوجهي عليهم؛ فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه؟.وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي، قال: يا رب من المشتاقون إليك؟ قال: إن المشتاقين إلى الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقاً ينظرون إلي، وإني لأحمل قلوبهم فأضعها على سمائي، ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا اجتمعوا سجدوا لي، فأقول: إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكني دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي كما تضيء الشمس لأهل الأرض، يا داود إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي فاتخذتهم لنفسي محدثي، وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقاً، قال داود: يا رب أرني أهل محبتك، فقال: يا داود ائت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفساً فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول، فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم: إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم. فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عن عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل، فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه، فقال داود: إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم، فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض، فقال داود: إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة؟ ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة؟ قال: فجرت الدموع على خدودهم، فقال شيخهم: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا. وقال الآخر: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك. وقال الآخر: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك أفنجترئ على الدعاء وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا. وقال الآخر: نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا علينا بجودك. وقال الآخر: من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترئ على الكلام من هو مشغل بعظمتك متفكر في جلالك؟ وطلبتنا الدنو من نورك. وقال الآخر: كلت ألسنتنا عن دعائك؛ لعظم شأنك، وقربك من أوليائك، وكثرة منتك على أهل محبتك. وقال الآخر: أنت هديت قلوبنا لذكرك؛ وفرغتنا للاشتغال بك، فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك. وقال الآخر: قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك. وقال الآخر: كيف يجترئ العبد على سيده؟ إذ أمرتنا بالدعاء بجودك - فهب لنا نوراً نهتدي به في الظلمات من أطباق السموات؟ وقال آخر: ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا. وقال الآخر: نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا. وقال الآخر: لا حاجة لنا في شيء من خلقك فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك. وقال الآخر: أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة. وقال الآخر: قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك. فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سرباً فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالي. فقال داود: يا رب بم نالوا هذا منك؟ قال: بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله إلا من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي، فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي، إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها، وإن عطش أرويته وأذيقه طعم ذكري، فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه لا يفتر عن الاشتغال بي، يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته لأنه موضع نظري من بين خلقي لا يرى غيري ولا أرى غيره فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت  أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكرى أباهي به ملائكتي وأهل سمواتي يزداد خوفاً وعبادة، وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدرهمن النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا.

وفي أخبار داود أيضاً: قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم، وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم، وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي.

وفي أخبار داود أيضاً: إن الله تعالى أوحى إليه: تزعم أنك تحبني، فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب، يا داود خالص حبيبي مخالصة وخالط أهل الدنيا مخالطة ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال، أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به، وأما ما أشكل عليك فقلدنيه حقاً على أني أسارع إلى سياستك وتقويمك وأكن قائدك ودليلك، أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد وإني قد حلفت على نفسي أني لا أثيب إلا عبداً قد عرفت من طلبته وإرادته إلفاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني. فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك فإني قد حلفت على نفسي أنه لا يطمئن عبد لي إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها، أضف الأشياء إلي لا تضاد عملك فتكون متعنياً ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حداً فليس لها غاية، ومتى طلبت مني الزيادة أعطك ولا تجد للزيادة مني حداً، ثم اعلم بين إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب، فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر قلبك ولا تنظر بعينك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم فأمرجوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف، تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين، فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضاً يمشون عليها. يا داود لأن تخرج مريداً من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيداً، ومن كتبته عندي جهيداً لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين، يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك لا تؤتين منها فأحجب عنك محنتي لا تؤيس عبادي من رحمتي، اقطع شهوتك لي فإنما أبحت الشهوات لضعفة خلقي ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات فإنها تنقص حلاوة مناجاتي، وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول أدنى ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها. يا داود لا تجعل بين وبينك عالماً يحجبك بسكره عن محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين، استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم، وإياك والتجربة في الإفطار فإن محبتي للصوم إدمانه. يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك امنعها الشهوات أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة إنما أداريك مداراة لتقوى على ثوابي إذا مننت عليك به وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي.

 أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود هذه إرادتي في المدبرين فكيف إرادتي في المقبلين علي، يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي، فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على إثبات المحبة والشوق والأنس، وإنما تحقيق معناها ينكشف بما سبق.