كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا - بيان معنى الأنس بالله

بيان معنى الأنس بالله

قد ذكرنا أن الأنس والخوف والشوق من آثار المحبة، إلا أن هذه آثار مختلفة على المحب بحسب نظره وما يغلب عليه في وقته، فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال واستشعر قصوره عن الإطلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه، وتسمى هذه الحالة في الانزعاج شوقاً وهو بالإضافة إلى أمر غائب، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصوراً على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد؛ استبشر القلب بما يلاحظه فيسمى استبشاره أنساً، وإن كان نظره إلى صفات العز والاستغناء وعدم المبالاة وخطر إمكان الزول والبعد تألم القلب بهذا الاستشعار فيسمى تألمه خوفاً. وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات، والملاحظات تابعة لأسباب تقتضيها لا يمكن حصرها، فالأنس معناه استبشار القلب فرحه بمطالعة الجمال، حتى إنه إذا غلب وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال عظم نعيمه ولذته، ومن هنا نظر بعضهم حيث قيل له: أنت مشتاق؟ فقال: لا إنما الشوق إلى غائب، فإذا كان الغائب حاضراً فإلى من يشتاق؟ وهذا الكلام مستغرق بالفرح بما ناله غير ملتفت إلى ما بقي في الإمكان من مزايا الألطاف.

ومن غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، كما حكي أن إبراهيم بن أدهم نزل من الجبل فقيل له: من أين أقبلت؟ فقال: من الأنس بالله، وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كل ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب، كما روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهراً لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغثيان، لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره فيخرج من القلب عذوبة ما سواه، ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه: يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه، وقال الله عز وجل لداود عليه السلام: كن لي مشتاقاً وبي متأنساً ومن سواي مستوحشاً.

وقيل لرابعة: بم نلت هذه المنزلة؟ قالت: بتركي ما لا يعنيني وأنسي بمن لم يزل.

وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: يا راهب لقد أعجبتك الوحدة؟ فقال: يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة، فقلت: يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة؟ قال: الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم، قلت يا راهب: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود وخلصت المعاملة، قلت: ومتى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم فصار هماً واحداً في الطاعة.

وقال بعض الحكماء: عجباً للخلائق كيف أرادوا بك بدلاً؟ عجباً للقلوب كيف استأنست بسواك عنك؟.

فإن قلت: فما علامة الأنس؟ فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر، فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة وغائب في حضور، مخالط بالبدن منفرد بالقلب، مستغرق بعذوبة الذكر، كما قال علي كرم الله وجهه في وصفهم: هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده. وقد ذهب بعض المتكلمين إلى إنكار الأنس والشوق والحب لظنه أن ذلك يدل على التشبيه، وجهله بأن جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات، ولذة معرفتها أغلب على ذوي القلوب ومنهم أحمد بن غالب، يعرف بغلام الخليل أنكر على الجنيد وعلى أبي الحسن النوري والجماعة حديث الحب والشوق والعشق حتى أنكر بعضهم مقام الرضا، وقال: ليس إلا الصبر فأما الرضا فغير متصور. وهذا كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر، فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب، فمن لم يصل من الجوز إلا إلى قشره يظن أن الجوز خشب كله، ويستحيل عنده خروج الدهن منه لا محالة وهو معذور ولكن عذره غير مقبول وقد قيل:

الأنس بالله لا يحويه بطـال

 

وليس يدركه بالحول محتال

والآنسون رجال كلهم نجب

 

وكلهم صفوة لله عـمـال

بيان معنى الانبساط والإدلال الذي تثمره غلبة الأنس

اعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب فإنه يثمر نوعاً من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى، وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس، ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر.

ومثاله: مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل؛ بعد أن قحطوا سبع سنين وخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله عز وجل إليه: كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له برخ فقل له يخرج حتى أستجيب له، فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فمعرفة موسى عليه السلام بنور الله عز وجل فسلم عليه وقال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين أخرج فاستسق لنا. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك ولا هذا من حلمك؟ وما الذي بدا لك! أنقصت عليك عيونك أم عاندت الرياح عن طاعتك أم نفد ما عندك أم اشتد غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفاراً قبل خلق الخطائين؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطف، أم ترينا أنك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة، قال فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، قال: فرجع برخ فاستقبله موسى عليه السلام فقال: كيف رأيت حين خاصمت كيف أنصفني؟ فهم موسى عليه السلام به، فأوحى الله تعالى إليه: إن برخاً يضحكني كل يوم ثلاث مرات.

وعن الحسن قال: احترقت أخصاص بالبصرة فبقي في وسطها خص لم يحترق، وأبو موسى يومئذ أمير البصرة، فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص، قال: فأتي بشيخ فقال: يا شيخ ما بال خصك لم يحترق؟ قال: إني أقسمت على ربي عز وجل أن لا يحرقه، فقال أبو موسى رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون في أمتي قومشعثة رؤوسهم، دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم".

قال: ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة الخواص فجعل يتخطى النار، فقال له أمير البصرة: انظر لا تحترق بالنار، فقال: إني أقسمت على ربي عز وجل أن لا يحرقني بالنار، قال: فاعزم على النار أن تطفأ، قال: فعزم عليها فطفئت.

وكان أبو حفص يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي مدهوش فقال له أبو حفص: ما أصابك؟ فقال: ضل حماري ولا أملك غيره، قال: فوقف أبو حفص وقال: وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره، قال: فظهر حماره في الوقت ومر أبو حفص رحمه الله.

فهذا وأمثاله يجري لذوي الأنس وليس لغيرهم أن يتشبه بهم.

قال الجنيد رحمه الله: أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة، وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك. وذلك يحتمل منهم ويليق بهم وإليه أشار القائل:  

قوم تخالجهم زهو بـسـيدهـم

 

والعبد يزهو على مقدار مولاه

تاهوا برؤيته عمـا سـواه لـه

 

يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا

ولا تستبعدون رضاه عن العبد بما يغضب به على غيره مهما اختلف مقامهما، ففي القرآن تنبيهات على هذه المعاني لو فطنت وفهمت، فجميع قصص القرآن تنبيهات لأولي البصائر والأبصار حتى ينظروا إليها بعين الاعتبار، فإنما هي عند ذوي الاعتبار من الأسماء.

فأول القصص: قصة آدم عليه السلام وإبليس أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة ثم تباينا في الاجتباء والعصمة. أما إبليس فأبلس عن رحمته، وقيل إنه من المبعدين. وأما آدم عليه السلام فقيل فيه " وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ".

وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد، وهما في العبودية سيان ولكن في الحال مختلفان، فقال: " وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنده تلهى "، وقال في الآخر: " أما من استغنى فأنت له تصدى " وةكذلك أمره بالقعود مع طائفة، فقال عز وجل: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " وأمره بالإعراض عن غيرهم، فقال: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم " حتى قال: " فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " وقال تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ".

فكذلك الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض. فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " وقوله في التعليل والاعتذار لما قيل له: " اذهب إلى فرعون "، فقال: " ولهم على ذنب " وقوله: " إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني "، وقوله: " إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل، ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة، فعوقب بالسجن في بطن الحوت - في ظلمات ثلاث - ونودي عليه إلى يوم القيامة " لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ". قال الحسن: العراء هو القيامة. ونهى نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به وقيل له: " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ".

وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد، وقد قال تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض "، وقد قال: " منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " فكان عيسى عليه السلام من المفضلين ولإدلاله سلم على نفسه، فقال: " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس.

وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه، فقال: " وسلام عليه".

وانظر كيف احتمل لأخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء: قد عددت من أول قوله تعالى: " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم فيه نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض، وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع - فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزيز في مسألة واحدة سأل عنها في القدر، حتى قيل مُحِيَ من ديوان النبوة! وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك.

وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فعفا عنه. فقد روي أن الله تعالى أحوى إلى سليمان عليه السلام: يا رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فو عزتي وجلالي لئن أخذته عصفة من عصفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده، فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيباً من رمل، ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال: إلهي وسيدي أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب علي وكيف أستعصم؟ إن لم تعصمني لأعودن، فأوحى الله تعالى إليه: صدقت يا آصف أنت أنت وأنا أنا أستقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم، وهذا كلام مدل به عليه وهارب منه إليه وناظر به إليه. وفي الخبر: إن الله تعالى أوحى إلى عبد تداركه أن كان أشفى على الهلكة كم من ذنب واجهتني به غفرته لك وقد أهلكت في دونه أمة من الأمم، فهذه سنة الله تعالى في عباده بالتفضيل والتقديم والتأخير على ما سبقت به المشيئة الأزلية.

وهذه القصص وردت في القرآن لتعرف بها سنة الله في عباده الذي خلوا من قبل، فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور وتعرف من الله تعالى إلى خلقه، فتارة يتعرف إليهم بالتقديس فيقول: " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله فيقول: " الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة فيتلو عليهم سنته في أعدائه وفي أنبيائه فيقول: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد - ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل".

ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة وهي: الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه، أو معرفة صفاته وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده، ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن فقال: "من قرأ سورة الإخلاص فقد قرأ ثلث القرآن" لأن منتهى التقديس أن يكون واحداً في ثلاثة أمور، لا يكون حاصلاً منه من هو نظيره وشبهه، ودل عليه قوله " لم يلد " ولا يكون حاصلاً ممن هو نظيره وشبهه، ودل عليه قوله " ولم يولد " ولا يكون في درجته وإن لم يكن أصلاً له ولا فرعاً من هو مثله، ودل عليه قوله: " ولم يكن له كفواً أحد " ويجمع جميع ذلك قوله تعالى: " قل هو الله أحد " وجملته تفصيل قول " لا إله إلا الله " فهذه أسرار القرآن ولا تتناهى أمثال هذه الأسرار في القرآن " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: نوروا القرآن والتمسوا غرائب ففيه علم الأولين والآخرين، وهو كما قال، ولا يعرفه إلا من طال في آحاد كلماته فكره وصفا له فهمه حتى تشهد له كل كلمة منه بأنه كلام جبار قاهر مليك قادر وأنه خارج عن حد استطاعة البشر. وأكثر أسرار القرآن معبأة في طي القصص والأخبار، فكن حريصاً على استنباطها ليكشف لك فيه من العجائب ما تستحقر معه العلوم المزخرفة الخارجة عنه. فهذا ما أردنا ذكره من معنى الأنس والانبساط الذي هو ثمرته وبيان تفاوت عباد الله فيه والله سبحانه وتعالى أعلم.

القول في معنى الرضا بقضاء الله تعالى

وحقيقته وما ورد في فضيلته

اعلم أن الرضا ثمرة من ثمار المحبة وهو من أعلى مقامات المقربين وحقيقته غامضة على الأكثرين، وما يدخل عليه من التشابه والإبهام غير منكشف إلا لمن علمه الله تعالى التأويل وفهمه وفقهه في الدين، فقد أنكر منكرون تصور الرضا بما يخالف الهوى ثم قالوا: إن أمكن الرضا بكل شيء لأنه فعل الله فينبغي أن يرضى بالكفر والمعاصي وانخدع بذلك قوم فرأوا الرضا بالفجور والفسوق وترك الاعتراض والإنكار من باب التسليم لقضاء الله تعالى. ولو انكشفت هذه الأسرار لمن اقتصر على سماع ظواهر الشرع لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فلنبدأ ببيان فضيلة الرضا، ثم بحكايات أحوال الراضين، ثم تذكر حقيقة الرضا وكيفية تصوره فيما يخالف الهوى، ثم نذكر ما يظن أنه من تمام الرضا وليس منه كترك الدعاء والسكوت على المعاصي.

بيان فضيلة الرضا

أما من الآيات فقوله تعالى: " رضي الله عنهم ورضوا عنه "، وقد قال تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ومنتهى الإحسان رضا الله عن عبده وهو ثواب رضا العبد عن الله تعالى.

وقال تعالى: " ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر " فقد رفع الله الرضا فوق جنات عدن كما رفع ذكره الصلاة حيث قال: " إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " فكما أن مشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة بل هو غاية مطلب سكان الجنان. وفي الحديث: " إن الله تعالى يتجلى للمؤمنين فيقول سلوني فيقولون رضاك" فسؤالهم الرضا بعد النظر نهاية التفضيل. وأما رضا العبد فسنذكر حقيقته، وأما رضوان الله تعالى عن العبد فهو بمعنى آخر يقرب مما ذكرناه في حب الله للعبد، ولا يجوز أن يكشف إذ تقصر أفهام الخلق عن دركه ومن يقوى عليه فيستقل بإدراكه من نفسه. وعلى الجملة فلا رتبة فوق النظر إليه فإنما سألوه الرضا لأنه سبب دوام النظر، فكأنهم رأوه غاية الغايات وأقصى الأماني لما ظفروا بنعيم النظر، فلما أمروا بالسؤال لم يسألوا إلا دوامه وعلموا أن الرضا هو سبب دوام رفع الحجاب.

وقال الله تعالى: " ولدينا مزيد ". قال بعض المفسرين: يأتي أهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف من عند رب العالمين؛ أحداها: هدية من عند الله تعالى ليس عندهم في الجنان مثلها فذلك قوله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " والثانية: السلام عليهم من ربهم، فيزيد ذلك على الهدية فضلاً وهو قوله تعالى: " سلام قولاً من رب رحيم " والثالثة: يقول الله تعالى: إني عنكم راض فيكون ذلك أفضل من الهدية والتسليم فذلك قوله تعالى: "ورضوان من الله أكبر " أي من النعيم الذي هم فيه فهذا فضل رضا الله تعالى وهو ثمرة رضا العبد.

وأما من الأخبار: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل طائفة من أصحابه: " ما أنتم " فقالوا: مؤمنون، فقال: " ما علامة إيمانكم " فقالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال: " مؤمنون ورب الكعبة".

وفي خبر آخر أنه قال: " حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء".

وفي الخبر " طوبى لمن هدي للإسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به".

وقال صلى الله عليه وسلم: " من رضي من الله تعالى بالقليل من الرزق رضي الله تعالى منه بالقليل من العمل". وقال أيضاً: " إذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه " وقال أيضاً: " إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون فيها كيف شاؤوا، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فتقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فتقول لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتقول: ناشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا، فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا هذه المنزلة بفضل رحمة الله، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا".

وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا".

وفي أخبار موسى عليه السلام؛ إن بني إسرائيل قالوا له: سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فقال موسى عليه السلام: إلهي قد سمعت ما قالوا. فقال: يا موسى قل لهم يرضون عنهم. ويشهد لهذا ما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب أن يعلم ما له عند الله عز وجل فلينظر ما لله عز وجل عنده، فإن الله تبارك وتعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه".

وفي أخبار داود عليه السلام: ما لأوليائي والهم بالدنيا، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون.

وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب دلني على أمر فيه رضاك حتى أعمله، فأوحى الله تعالى إليه: إن رضاي في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره، قال: يا رب دلني عليه، قال: فإن رضاي في رضاك بقضائي.

وفي مناجاة موسى عليه السلام: أي رب أي خلقك أحب إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني، قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر فإذا قضيت له سخط قضائي.

وقد روي ما هو أشد من ذلك وهو أن الله تعالى قال: " أنا الله لا إله إلا أنا من لم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي" ومثله في الشدة قوله تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال الله تعالى: قدرت المقادير ودبرت التدبير وأحكمت الصنع، فمن رضي فله الرضا مني حتى يلقاني ومن سخط فله السخط مني حتى يلقاني".وفي الخبر المشهور " يقول الله تعالى: خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه، وويل لمن خلقته للشر وأجريت الشر على يديه، وويل ثم ويل لمن قال لم وكيف".

وفي الأخبار السالفة أن نبياً من الأنبياء شكا إلى الله عز وجل الجوع والفقر والقمل عشر سنين فما أجيب إلى ما أراد، ثم أوحى الله تعالى إليه كم تشكو، هكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات والأرض وهكذا سبق لك مني وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك أم تريد أن أبدل ما قدرته عليك فيكون ما تحب فوق ما أحب ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزتي وجلالي لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأمحونك من الديوان النبوة.

وروي أن آدم عليه السلام كان بعض أولاده الصغار يصعدون على بدنه وينزلون - يجعل أحدهم رجله على أضلاعه كهيئة الدرج فيصعد إلى رأسه، ثم ينزل على أضلاعه كذلك وهو مطرق إلى الأرض لا ينطق ولا يرفع رأسه - فقال له بعض ولده: يا أبت! أما ترى ما يصنع هذا بك لو نهيته عن هذا! فقال: يا بني إني رأيت ما لم تروا، وعلمت ما لم تعلموا، إني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان ومن دار النعيم إلى دار الشقاء، فأخاف أن أتحرك فيصيبني ما لا أعلم.

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته، ولا قال لشيء كان ليته لم يكن، ولا في شيء لم يكن ليتهم كان، وكان إذا خاصمني مخاصم من أهله يقول دعوه لو قضي شيء لكان.

ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود إنك تريد وأريد وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد.

وأما الآثار: فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذي يحمدون الله تعالى على كل حال.

وقال عمر بن عبد العزيز: ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر، وقيل له: ما تشتهي؟ فقال: ما يقضي الله.

وقال ميمون بن مهران: من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء.

وقال الفضيل: إن لم تصبر على تقدير الله لم تصبر على تقدير نفسك.

وقال عبد العزيز بن أبي رواد: ليس الشأن في أكل خبز الشعير والخل ولا في لبس الصوف والشعر، ولكن الشأن في الرضا عن الله عز وجل.

وقال عبد الله بن مسعود: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان.

ونظر رجل إلى قرحة في رجل محمد بن واسع. فقال: إني لأرحمك من هذه القرحة، فقال: إني لأشكرها منذ خرجت إذ لم تخرج في عيني.

وروي في الإسرائيليات: أن عابداً عبد الله دهراً طويلاً فأري في المنام، فلانة الراعية رفيقتك في الجنة؛ فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها، فكان يبيت قائماً وتبيت نائمة ويظل صائمة وتظل مفطرة. فقال: أما لك عمل غير ما رأيت؟ فقالت: ما هو والله إلا ما رأيت لا أعرف غيره. فلم يزل يقول: تذكري، حتى قالت: خصيلة واحدة هي في؛ إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمن أن أكون في الظل، فوضع العابد يده على رأسه وقال: أهذه خصيلة؟ هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.

وعن بعض السلف: إن الله تعالى إذا قضى في السماء قضاء أحب من أهل الأرض أن يرضوا بقضائه.

وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر.

وقال عمر رضي الله عنه: ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدة أو رخاء.

وقال الثوري يوماً عن رابعة: اللهم ارض عني، فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا وأنت غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقال جعفر بن سليمان الضبعي: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة.

وكان الفضيل يقول: إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي عن الله تعالى.

 وقال أحمد بن أبي الحواري: قال أبو سليمان الداراني إن الله عز وجل من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت: وكيف ذاك؟ قال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه قلت: نعم، قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه.

وقال سهل: حظ العبيد من اليقين على قدر حظهم من الرضا وحظهم من الرضا على قدر عيشهم مع الله عز وجل.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط".

بيان حقيقة الرضا وتصوره فيما يخالف الهوى

اعلم أن من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصور؟ فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة. فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب، ويكون ذلك من وجهين: أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها، ومثاله: الرجل المحارب فإنه غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه. بل الذي يحجم رأسه بحديدة كآلة يتألم به، فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به. وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرطه استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبيبه! فكيف إذا أصابه من حبيبه؟ وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم، فإن الحب أيضاً يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة، وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحث يدهش يغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه. فقد روي أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

وكان سهل رحمه الله تعالى به علة يعالج غيره منها ولا يعالج نفسه، فقيل له في ذلك فقال: يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع!.

وأما الوجه الثاني: فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه مريداً له - أعني بعقله - وإن كان كارهاً بطبعه، كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة فإنه يدرك ألم ذلك إلا انه راض به وراغب فيه ومتقلد من الفصاد به منة بفعله، فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم. وكذلك المسافر في طلبالربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضياً بها. ومهما أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه. هذا إن كان يلاحظ الثواب والإحسان الذي يجازى به عليه، ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه ورضاه لا لمعنى آخر وراءه، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوباً عنده ومطلوباً، وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم، ولا معنى له إلا ملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر، فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث بدايته من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وإن نظر إلى المدرك للجمال فهي العين الخسيسة التي تغلط فيما ترى كبيراً، فترى الصغير كبيراً والكبير صغيراً والبعيد قريباً والقبيح جميلاً، فإذا تصور استيلاء هذا الحب فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط ولا يدور بها الموت بل تبقى بعد الموت؟ حية عند الله فرحة برزق الله تعالى مستفيدة بالموت مزيد تنبيه واستكشاف؟ فهذا أمر واضح من حيث النظر بعين الاعتبار، ويشهد لذلك الوجود وحكايات أحوال المحبين وأقوالهم. فقد قال شقيق البلخي: من يرى ثواب الشدة لا يشتهي المخرج منها؟ وقال الجنيد: سألت سرياً السقطي هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا، قلت: وإن ضرب بالسيف! قال: نعم، وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة - ضربة على ضربة.

وقال بعضهم: أحببت كل شيء يحبه حتى لو أحب النار أحببت دخول النار.

وقال بشر بن الحارث: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: لأن معشوقي كان بحذائي ينظر إلي، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر! قال: فزعق زعقة خر ميتاً.

وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثلاثمائة سنة لا ترجع إليهم، فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله؟ إذا لاحظت جلاله هابت وإذا لاحظت جماله تاهت!.

وقال بشر: قصدت عبادان في بدايتي فإذا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع والنمل يأكل لحمه، فرفعت رأسه فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام، فلما أفاق قال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا حباً؟ قال بشر: فما رأيت بعد ذلك نقمة بين عبد وبين ربه فأنكرتها.

وقال أبو عمرو محمد بن الأشعث إن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام، كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه فشغلهم بجماله عن الإحساس بألم الجوع. بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك وهو قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك.

وقال سعيد بن يحيى: رأيت بالبصرة في خان عطاء بن مسلم شاباً وفي يده مدية وهو ينادي بأعلى صوته والناس حوله وهو يقول:  

يوم الفراق من القيامة أطـول

 

والموت من ألم الفراق أجمل

قالوا الرحيل فقلت لست براحل

 

لكن مهجتي التي تـتـرحـل

ثم بقر بالمدية بطنه وخر ميتاً، فسألت عنه وعن أمره فقيل لي إنه كان يهوى فتى لبعض الملوك حجب عنه يوماً واحداً.

ويروى أن يونس عليه السلام قال لجبريل: دلني على أعبد أهل الأرض؟ فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول.

ويروى عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه اشتكى له ابن فاشتد وجده عليه حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث، فمات الغلام فخرج ابن عمر في جنازته وما رجل أشد سروراً أبداً منه. فقيل له في ذلك، فقال ابن عمر: إنما كان حزني رحمة له، فلما وقع أمر الله رضينا به.

وقال مسروق: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم، والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحاً فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله، فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم. قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدره الله تعالى. فإذن من عرف خفي لطف الله تعالى رضي بفعله على كل حال.

ويروى أن عيسى عليه السلام مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به كثيراً من خلقه، فقال له عيسى: يا هذا أي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ فقال: يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته، فقال له: صدقت هات يدك، فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأفضلهم هيئة! وقد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه.

وقطع عروة بن الزبير رجله - من ركبته - من أكلة خرجت بها ثم قال: الحمد لله الذي أخذ مني واحدة وايمك لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت فقد عافيت، ثم لم يدع ورده تلك الليلة. وكان ابن مسعود يقول: الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيتهما ركبت؟ إن كان الفقر فإن فيه الصبر وإن كان الغنى فإن فيه البذل.

وقال أبو سليمان الداراني: قلت قد نلت من كل مقام حالاً إلا الرضا فما لي منه إلا مشام الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار كنت بذلك راضياً.

وقيل لعارف آخر: هل نلت غاية الرضا عنه؟ فقال: أما الغاية فلا، ولكن مقام الرضا قد نلته، لو جعلني جسراً على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم - تحلة لقسمه وبدلاً من خليقته - لأحببت ذلك من حكمه ورضيت به من قسمه.

وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه حتى منعه الإحساس بألم النار. فإن بقي إحساس فيغمره ما يحصل من لذته في استشعاره حصول رضا محبوبه بإلقائه إياه في النار. واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه وإن كان بعيداً من أحوالنا الضعيفة، ولكن لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم أحوال الأقوياء ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه الأولياء.

وقال الروذباري: قلت لأبي عبد الله بن الجلاء الدمشقي: قول فلان؛ وددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق أطاعوه؛ ما معناه؟ فقال: يا هذا إن كان هذا من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف وإن كان هذا من طريق الإشفاق والنصح للخلق فأعرف، قال: ثم غشي عليه.

وقد كان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد - قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته - فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء فجعل يبكي لما يراه من حاله، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة! قال: لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي! ثم قال: أحدثك شيئاً لعل الله أن ينفعك به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة! فمن يشاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضياً به؟ قال: ودخلنا على سويد بن متعبة نعوده، فرأينا ثوباً ملقى فما ظننا أن تحته شيئاً حتى كشف، فقالت له امرأته: أهلي فداؤك ما نطعمك ما نسقيك؟ فقال: طالت الضجعة ودبرت الحراقيف وأصبحت نضواً ولا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا، فذكر أياماً، وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر.

ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة - وقد كان كف بصره - جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعوا لهذا ولهذا - وكان مجاب الدعوة - قاله عبد الله بن السائب: فأتيته وأن غلام فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك! فتبسم وقال: يا بني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري! وضاع لبعض الصوفية ولد صغير من ثلاثة أيام لم يعرف له خبر، فقيل له: لو سألت الله تعالى أن يرده عليك، فقال: اعتراضي عليه فيما قضي أشد علي من ذهاب ولدي. وعن بعض العباد أنه قال: إني أذنبت ذنباً عظيماً فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة - وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب - فقيل له: وما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان، ليته لم يكن.

وقال بعض السلف: لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه.

وقيل لعبد الواحد بن زيد: ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة، فقصده فقال له: يا حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به؟ قال: لا، قال: أنست به؟ قال: لا، قال: فهل رضيت عنه؟ قال: لا، قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة؟ قال: نعم. قال: لولا أني أستحيي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة! ومعناه أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب، وإنما أنت تعد في طبقات أصحاب اليمين، لأن مزبدك منه في أعمال الجوارح التي هي مزبد أهل العموم.

ودخل جماعة من الناس على الشبلي رحمه الله تعالى في مارستان قد حبس فيه وقد جمع بين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي إن صدقتم فاصبروا على بلائي!.

وللشبلي رحمه الله تعالى:  

إن المحبة للرحمن أسكـرنـي

 

وهل رأيت محباً غير سكران؟

وقال بعض عباد أهل الشام: كلكم يلقى الله عز وجل مصدقاً ولعله قد كذبه، وذلك أن أحدكم لو كان له إصبع من ذهب ظل يشير بها، ولو كان بها شلل ظل يواريها؛ يعني بذلك أن الذهب مذموم عند الله والناس يتفاخرون به، والبلاء زينة أهل الآخرة وهم يستنكفون منه.

وقيل إنه وقع الحريق في السوق فقيل للسري: احترق السوق وما احترق دكانك! فقال: الحمد لله ، ثم قال: كيف قلت الحمد لله على سلامتي دون المسلمين! فتاب من التجارة وترك الحانوت بقية عمره توبة واستغفاراً من قوله الحمد لله.

فإذا تأملت هذه الحكايات عرفت قطعاً أن الرضا بما يخالف الهوى ليس مستحيلاً بل هو مقام عظيم من مقامات أهل الدين. ومهما كان ذلك ممكناً في حب الخلق وحظوظهم كان ممكناً في حق حب الله تعالى وحظوظ الآخرة قطعاً. وإمكانه من وجهين: أحدهما الرضا بالألم لما يتوقع من الثواب الموجود كالرضا بالفصد والحجامة وشرب الدواء انتظاراً للشفاء.

والثاني الرضا به لا لحظ وراءه بل لكونه مراد المحبوب ورضا له، فقد يغلب الحب بحيث ينغمر مراد الحب في مراد المحبوب، فيكون ألذ الأشياء عنده سرور قلب محبوبه ورضاه ونفوذ إرادته ولو في هلاك روحه. كما قيل:  

فما الجرح إذا أرضاكم ألم

وهذا ممكن مع الإحساس بالألم، وقد يستولي الحب بحيث يدهش عن إدراك الألم، فالقياس والتجربة والمشاهدة دالة على وجوده، فلا ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه! لأنه إنما فقده لفقد سببه وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه.

وقد روي عن عمر بن الحارث الرافعي قال: كنت في مجلس بالرقة عند صديق لي، وكان معنا فتى يتعشق جارية مغنية، وكانت معنا في المجلس فضربت بالقضيب وغنت:

علامة ذل الهـوى

 

على العاشقين البكا

ولا سيما عـاشـق

 

إذا لم يجد مشتكى

فقال لها الفتى: أحسنت والله يا سيدتي أفتأذنين لي أن أموت! فقالت: مت راشداً! قال: فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه، فحركناه فإذا هو ميت.

وقال الجنيد: رأيت رجلاً متعلقاً بكم صبي وهو يتضرع إليه ويظهر له المحبة، فالتفت إليه الصبي وقال له: إلى متى ذا النفاق الذي تظهر لي؟ فقال: قد علم الله أني صادق فيما أورده، حتى لو قلت لي مت لمت، فقال: إن كنت صادقاً فمت، قال: فتنحى الرجل وغمض عينيه فوجد ميتاً.

وقال سمنون المحب: كان في جيراننا رجل وله جارية يحبها غاية الحب، فاعتلت الجارية فجلس الرجل ليصلح لها حيساً، فبينما هو يحرك القدر إذ قالت الجارية آه! قال: فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى سقطت أصابعه! فقالت الجارية: ما هذا؟ قال: هذا مكان قولك آه.

وحكي عن محمد بن عبد الله البغدادي قال: رأيت بالبصرة شاباً على سطح مرتفع وقد أشرف على الناس وهو يقول:

من مات عشقاً فليمت هكذا

 

لا خير في عشق بلا موت!

ثم رمى بنفسه الأرض، فحملوه ميتاً. فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق والتصديق به في حب الخالق أولى، لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر، وجمال الحضرة الربانية أوفى من كل جمال، بل كل جمال في العالم فهو حسنة من حسنات ذلك الجمال. نعم الذي فقد البصر ينكر جمال الصور، والذي فقد السمع ينكر لذة الألحان والنغمات الموزونة، فالذي فقد القلب لا بد وأن ينكر أيضاً هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب.

بيان أن الدعاء غير مناقض للرضا

ولا يخرج صاحبه عن مقام الرضا، وكذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها ومقت أسبابها والسعي في إزالتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يناقضه أيضاً. وقد غلط في ذلك بعض البطالين المغترين وزعم أن المعاصي والفجور والكفر من قضاء الله وقدره عز وجل فيجب الرضا به، وهذا جهل بالتأويل وغفلة عن أسرار الشرع.

 فأما الدعاء فقد تعبدنا به، وكثرت دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام - على ما نقلناه في كتاب الدعوات - تدل عليه. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات من الرضا. وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله "ويدعوننا رغباً رهباً " وأما إنكار المعاصي وكراهتها وعدم الرضا بها فقد تعبد الله به عباده وذمهم على الرضا به فقال: " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها "، وقال تعالى: " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم ".

وفي الخبر المشهور " من شهد منكراً فرضي به فكأنه قد فعله ".

وفي الحديث " الدال على الشر كفاعله".

وعن ابن مسعود: إن العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر صاحبه وقيل: وكيف ذلك؟ قال: يبلغه فيرضى به.

وفي الخبر " لو أن عبداً قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب كان شريكاً في قتله".


وقد أمر الله تعالى بالحسد والمنافسة في الخيرات وتوقي الشرور فقال تعالى: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ".

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله حكمة فهو يبثها في الناس ويعلمها ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق". وفي لفظ آخر " ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار فيقول الرجل لو آتاني الله مثل هذا لفعلت مثل ما يفعل".

وأما بغض الكفار والإنكار عليهم ومقتهم فما ورد فيه من شواهد القرآن والأخبار لا يحصى مثل قوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ".

وقال تعالى: " يا أيها الذي آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ".

وقال تعالى: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً ".

وفي الخبر: " إن الله تعالى أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل منافق وعلى كل منافق أن يبغض كل مؤمن".

وقال عليه السلام: " المرء مع من أحب" وقال: " من أحب قوماً ووالاهم حشر معهم يوم القيامة".

وقال عليه السلام: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله". وشواهد هذا قد ذكرناها في بيان الحب والبغض في الله تعالى من كتاب آداب الصحبة، وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا نعيده.

فإن قلت: فقد وردت الآيات والأخبار بالرضا بقضاء الله تعالىفإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى فهو محال وهو قادح في التوحيد، وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى، وكيف السبيل إلى الجمع وهو متناقض على هذا الوجه وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد؟ فاعلم أن هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين عن الوقوف على أسرار العلوم، وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت عن المنكر مقاماً من مقامات الرضا وسموه حسن الخلق وهو جهل محض، بل نقول الرضا والكراهة يتضادان إذا تواردا على شيء واحد من جهة واحدة على وجه واحد، فليس من التضاد في شيء واحد أن يكرهه من وجه ويرضى به من وجه؛ إذ قد يموت عدوك الذي هو أيضاً عدو بعض أعدائك وساع في إهلاكه، فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك وترضاه من حيث إنه مات عدوك. وكذلك المعصية لها وجهان وجه إلى الله تعالى من حيث إنه فعله واختياره وإرادته، فيرضى به من هذا الوجه تسليماً لذلك للملك إلى مالك الملك ورضا بما يفعله فيه، ووجه إلى العبد من حيث إنه كسبه ووصفه وعلامة كونه ممقوتاً عند الله وبغيضاً عنده حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم. ولا ينكشف هذا لك إلا بمثال:  فلنفرض محبوباً من الخلق قال بين يدي محبيه: إني أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني، وأنصب فيه معياراً صاجقاً وميزناً ناطقاً وهو أني أقصد إلى فلان فأؤذيه وأضربه ضرباً يضطره ذلك إلى الشتم لي. حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدواً لي، فكل من أحبه أعلم أيضاً أنه عدوي، وكل من أبغضه أعلم أنه صديقي ومحبي. ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض وحصل البغض الذي هو سبب العداوة. فحق على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول: أما تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة - فأنا محب له وراض به فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك! وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم، ولكنه كان مرادك منه؛ فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب للمقت، فهو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبرته فأنا راض به، ولو لم يحصل لكان ذلك نقصاناً في تدبيرك وتعويقاً في مرادك، وأنا كاره لفوات مرادك، ولكنه من حيث إنه وصف لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب ولا يقابل بالشتم، فأنا كاره له من حيث نسبته إليه ومن حيث هو وصف له لا من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له لأنه مرادك وأنا على موافقتك أيضاً مبغض له، لأن شرط المحب أن يكون لحبيب المحبوب حبيباً ولعدوه عدواً. وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك إذ أبعدته عن نفسك وسلطت عليه دواعي البغض، ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض وكسبه وفعله وأمقته لذلك، فهو ممقوت عندي لمقته إياك، وبغضه ومقته لك أيضاً عندي مكروه من حيث أنه وصفه وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرضي. وإنما التناقض أن يقول: هو من حيث إنه مرادك مرضي ومن حيث إنه مرادك مكروه، وأما إذا كان مكروهاً لا من حيث إنه فعله ومراده بل من حيث إنه وصف غيره وكسبه فهذا لا تناقض فيه، ويشهد لذلك كل ما يكره من وجه ويرضى به من وجه، ونظائر ذلك لا تحصى.

فإذن تسليط الله دواعي الشهوة والمعصية عليه حتى يجره ذلك إلى حب المعصية ويجره الحب إلى فعل المعصية يضاهي ضرب المحبوب للشخص الذي ضربناه مثلاً، ليجره الضرب إلى الغضب والغضب إلى الشتم. ومقت الله تعالى لمن عصاه وإن كانت معصيته بتدبيره، يشبه بغض المشتوم لمن شتمه وإن كان شتمه إنما يحصل بتدبيره واختياره لأسبابه وفعل الله تعالى ذلك بكل عبد من عبيده - أعني تسليط دواعي المعصية عليه - يدل على أنه سبقت مشيئته بإبعاده ومقته. فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله ويمقت من مقته الله ويعادي من أبعده الله عن حضرته - وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته - فإنه بعيد مطرود ملعون عن الحضرة، وإن كان بعيداً بإبعاده قهراً ومطروداً بطرده واضطراره. والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون مقيتاً بغيضاً إلى جميع المحبين - موافقة للمحبوب بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده.

بهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم والمبالغة في مقتهم مع الرضا بقضاء الله تعالى من حيث إنه قضاء الله عز وجل. وهذا كله يستمد من سر القدر - الذي لا رخصة في إفشاءه - وهو أن الشر والخير كلاهما داخلان في المشيئة والإرادة، ولكن الشر مراد مكروه والخير مراد مرضي به. فمن قال: ليس الشر من الله، فهو جاهل وكذا من قال: إنهما جميعاً منه - من غير افتراق في الرضا والكراهة - فهو أيضاً مقصر. وكشف الغطاء عنه غير مأذون فيه؛ فالأولى السكوت والتأدب بأدب الشرع فقد قال صلى الله عليه وسلم: " القدر سر الله فلا تفشوه" وذلك يتعلق بعلم المكاشفة. وغرضنا الآن بيان الإمكان فيما تعبد به الخلق من الجمع بين الرضا بقضاء الله تعالى ومقت المعاصي مع أنها من قضاء الله تعالى، وقد ظهر الغرض من غير حاجة إلى كشف السر فيه. وبهذا يعرف أيضاً أن الدعاء بالمغفرة والعصمة من المعاصي وسائر الأسباب المعينة على الدين غير مناقض للرضا بقضاء الله تعالى، فإن الله تعبد العباد بالدعاء ليستخرج الدعاء منهم صفاء الذكر وخشوع القلب ورقة التضرع، ويكون ذلك جلاء للقلب ومفتاحاً للكشف وسبباً لتواتر مزايا اللطف. كما أن حمل الكوز وشرب الماء ليس مناقضاً للرضا بقضاء الله تعالى في العطش، وشرب الماء طلباً لإزالة العطش مباشرة سبب رتبه مسبب الأسباب فكذلك الدعاء سبب رتبه الله تعالى وأمر به. وقد ذكرنا أن التمسك بالأسباب جرياً على سنة الله تعالى لا يناقض التوكل - واستقصيناه في كتاب التوكل - فهو أيضاً لا يناقض الرضا لأن الرضا ملاصق للتوكل ويتصل به نعم إظهار البلاء في معرض الشكوى، وإنكاره بالقلب على الله تعالى مناقض للرضا، وإظهار البلاء على سبيل الشكر والكشف عن قدرة الله تعالى لا يناقض. وقد قال بعض السلف: من حسن الرضا بقضاء الله تعالى أن لا يقول هذا يوم حار، أي في معرض الشكاية، وذلك في الصيف فأما الشتاء فهو شكر، والشكوى تناقض الرضا بكل حال وذم الأطعمة وعيبها يناقض الرضا بقضاء الله تعالى لأن مذمة الصنعة مذمة للصانع، والكل من صنع الله تعالى. وقول القائل: الفقر بلاء ومحنة والعيال هم وتعب والاحتراف كد ومشقة، كل ذلك قادح في الرضا، بل ينبغي أن يسلم التدبير لمدبره والمملكة لمالكها ويقول ما قاله عمر رضي الله عنه: لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً فإني لا أدري أيهما خير لي.