كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا - بيان أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ومذمتها لا يقدح في الرضا

بيان أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ومذمتها لا يقدح في الرضا

اعلم أن الضعيف قد يظن أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج من بلد ظهر به الطاعونيدل على النهي عن الخروج من بلد ظهرت فيه المعاصي، لأن كل واحد منهما فرار من قضاء الله تعالى وذلك محال؛ بل العلة في النهي عن مفارقة البلد بعد ظهور الطاعون أنه لو فتح هذا الباب لارتحل عنه الأصحاء وبقي فيه المرضى مهملين لا متعهد لهم فيهلكون هزالاً وضراً، ولذلك شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأخبار بالفرار من الزحفولو كان ذلك للفرار من القضاء لما أذن لمن قارب البلدة في الانصراف - وقد ذكرنا حكم ذلك في كتاب التوكل - وإذا عرف المعنى ظهر أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ليس فراراً من القضاء بل من القضاء الفرار مما لا بد من الفرار منه. وكذلك مذمة المواضع التي تدعو إلى المعاصي والأسباب التي تدعو إليها - لأجل التنفير عن المعصية - ليست مذمومة. فما زال السلف الصالح يعتادون ذلك حتى اتفق جماعة على ذم بغداد وإظهارهم ذلك وطلب الفرار منها، فقال ابن المبارك: قد طفت الشرق والغرب فما رأيت بلداً شراً من بغداد! قيل: وكيف؟ قال: هو بلد تزدري فيه نعمة الله وتستصغر فيه معصية الله. ولما قدم خراسان قيل له: كيف رأيت بغداد؟ قال: ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان أو تاجراً لهفان أو قارئاً حيران! ولا ينبغي أن تظن أن ذلك من الغيبة؛ لأنه لم يتعرض لشخص بعينه حتى يستضر ذلك الشخص به وإنما قصد بذلك تحذير الناس وكان يخرج إلى مكة -وقد كان مقامه ببغداد - يرقب استعداداً القافلة ستة عشر يوماً، فكان يتصدق بستة عشر دينار لكل يوم دينار كفارة مقامه. وقد ذم العراق جماعة: كعمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما لمولى له: أين تسكن؟ فقال: العراق، قال: فما تصنع به؟ بلغني أن ما من أحد يسكن العراق إلا قيض الله قريناً من البلاء.

وذكر كعب الأحبار يوماً العراق فقال: فيه تسعة أعشار الشر وفيه الداء العضال.

وقد قيل: قسم الخير عشرة أجزاء؛ فتسعة أعشاره بالشام وعشره بالعراق. وقسم الشر عشر أقسام؛ على العكس من ذلك.

وقال بعض أصحاب الحديث: كنا يوماً عند الفضيل بن عياض فجاءه صوفي متدرع بعباءة، فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه ثم قال: أين تسكن؟ فقال: بغداد، فأعرض عنه وقال: يأتينا أحدهم في زي الرهبان فإذا سألناه أين تسكن قال في عش الظلمة؟.

وكان بشر بن الحارث يقول: مثال المتعبد ببغداد مثال المتعبد في الحش. وكان يقول: لا تقتدوا بي في المقام بها! من أراد أن يخرج فليخرج. وكان أحمد بن حنبل يقول: لولا تعلق هؤلاء الصبيان بنا كان الخروج من هذا البلد آثر في نفسي! قيل: وأين تختار السكنى؟ قال: بالثغور.

وقال بعضهم وقد سئل عن أهل بغداد: زاهدهم زاهد وشريرهم شرير.

فهذا يدل على أن من بلي ببلدة تكثر فيها المعاصي ويقل فيها الخير فلا عذر له في المقام بها، بل ينبغي أن يهاجر قال الله تعالى " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " فإن منعه عن ذلك عيال أو علاقة فلا ينبغي أن يكون راضياً بحاله مطمئن النفس إليه، بل ينبغي أن يكون منزعج القلب منها قائلاً على الدوام " ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " وذلك لأن الظلم إذا عم نزل البلاء ودمر الجميع وشمل المطيعين، قال الله تعالى: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " فإذن ليس في شيء من أسباب نقص الدين البتة رضاً مطلق إلا من حيث إضافتها إلى فعل الله تعالى، فأما هي في نفسها فلا وجه للرضا بها بحال.

وقد اختلف العلماء في الأفضل من أهل المقامات الثلاث: رجل يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله تعالى، ورجل يحب البقاء لخدمة المولى، ورجل قال لا أختار شيئاً بل أرضى بما اختاره الله تعالى؛ ورفعت هذه المسألة إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضا أفضلهم لأنه أقلهم فضولاً.

واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط، فقال الثوري: كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، واليوم وددت أني مت، فقال له يوسف: لم؟ قال: لما أتخوف من الفتنة، فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء، فقال سفيان: لم؟ قال: لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً، فقيل لوهيب: إيش تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئاً، أحب ذلك إلي أحبه إلى الله سبحانه تعالى، فقبله الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة.

بيان جملة من حكايات المحبين وأقوالهم ومكاشفاتهم

قيل لبعض العارفين إنك محب فقال: لست محباً إنما أنا محبوب والمحب متعوب. وقيل له أيضاً: الناس يقولون إنك واحد من السبعة؟ فقال: أنا كل السبعة. وكان يقول: إذا رأيتموني فقد رأيتم أربعين بدلاً، قيل: وكيف وأنت شخص واحد؟ قال: لأني رأيت أربعين بدلاً وأخذت من كل بدل خلقاً من أخلاقه. وقيل له: بلغنا أنك ترى الخضر عليه السلام؟ فتبسم وقال: ليس العجب ممن يرى الخضر ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحتجب عنه! وحكي عن الخضر عليه السلام أنه قال: ما حدثت نفسي يوماً قط أنه لم يبق ولي لله تعالى إلا عرفته إلا ورأيت في ذلك اليوم ولياً لم أعرفه.

وقيل لأبي يزيد البسطامي مرة: حدثنا عن مشاهدتك من الله تعالى، فصاح ثم قال: ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك! قيل: فحدثنا بأشد مجاهدتك لنفسك في الله تعالى، فقال: وهذا أيضاً لا يجوز أن أطلعكم عليه، قيل: فحدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك، فقال: نعم، دعوت نفسي إلى الله فجمحت علي فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك. ويحكى عن يحيى بن معاذ أنه رأى أبا يزيد - في بعض مشاهداته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر - مستوفزاً على صدور قدميه رافعاً أخمصيه مع عقبيه عن الأرض ضارباً بذقنه على صدره شاخصاً بعينيه لا يطرف، قال: ثم سجد عند السحر فأطاله ثم قعد فقال: اللهم إن قوماً طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والمشي في الهواء فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم طي الأرض فرضوا بذلك وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض فرضوا بذلك وإني أعوذ بك من ذلك، حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من كرامات الأولياء، ثم التفت فرآني فقال: يحيى! قلت: نعم يا سيدي، فقال: مذ متى أنت ههنا؟ قلت: منذ حين، فسكت، فقلت: يا سيدي حدثني بشيء فقال: أحدثك بما يصلح لك، أدخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلى وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، أوقفني بين يديه فقال: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك؟ فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً استحسنته فأسألك إياه! فقال: أنت عبدي حقاً تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ولأفعلن فذكر أشياء. قال يحيى: فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت: يا سيدي لم لا سألته المعرفة به؟ وقد قال لك ملك الملوك: سلني ما شئت، قال: فصاح بي صيحة وقال: اسكت ويلك! غرت عليه مني حتى لا أحب أن يعرفه سواه.

وحكي أن أبا تراب التخشبي كان معجباً ببعض المريدين فكان يدنيه ويقوم بمصالحه والمريد مشغول بعبادته ومواجدته فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد؟ فقال: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هاج وجد المريد فقال: ويحك ما أصنع بأبي يزيد قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد؟ قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك تغتر بالله عز وجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة! قال: فبهت الفتى من قوله وأنكره فقال: وكيف ذلك؟ قال له: ويلك أما ترى الله تعالى عندك فيظهر لك على مقدارك وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره؟ فعرف ما قلت، فقال: احملني إليه، فذكر قصة قال في آخرها: فوقفنا على تل ننتظره ليخرج إلينا من الغيضة - وكان يأوي إلى غيضة فيها سباع - قال: فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره فقلت للفتى:هذا أبو يزيد فانظر إليه! فنظر إليه الفتى فصعق، فحركناه فإذا هو ميت، فتعاونا على دفنه فقلت لأبي يزيد: يا سيدي نظره إليك قتله، قال: لا ولكن كان صاحبكم صادقاً واستكن في قلبه سر لم ينكشف له بوصفه، فلما رآنا انكشف له سر قلبه فضاق عن حمله، لأنه في مقام الضعفاء المريدين، فقتله ذلك.

ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم؟ فسكت ثم قال: إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة؛ ولكن لا يفعلون، قيل: لم؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا يستطاع ذكرها، حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها. وهذه أمور ممكنة في أنفسها فمن لم يحظ بشيء منها، فلا ينبغي أن يخلو عن التصديق والإيمان بإمكانها، فإن القدرة واسعة والفضل عميم وعجائب الملك والملكوت كثيرة، ومقدورات الله تعالى لا نهاية لها وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له. ولذلك كان أبو يزيد يقول: إن أعطاك مناجاة موسى وروحانية عيسى وخلة إبراهيم فاطلب ما وراء ذلك، فإن عنده فوق ذلك أضعافاً مضاعفة، فإن سكت إلى ذلك حجبك به، وهذا بلاء مثلهم ومن هو في مثل حالهم لأنهم الأمثل فالأمثل.

وقد قال بعض العارفين: كوشفت بأربعين حوراء رأيتهن يتساعين في الهواء، عليهن ثياب من ذهب وفضة وجوهر يتخشخش ويتثنى معهن فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً، ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء فوقهن في الحسن والجمال، وقيل لي: انظر إليهن، قال: فسجدت وغمضت عيني في سجودي لئلا أنظر إليهن وقلت: أعوذ بك مما سواك! لا حاجة لي بهذا، فلم أزل أتضرع حتى صرفهن الله عني. فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي أن ينكرها المؤمن لإفلاسه عن مثلها، فلو لم يؤمن كل واحد إلا بما يشاهده من نفسه المظلمة وقلبه القاسي لضاق مجال الإيمان عليه، بل هذه أحوال تظهر بعد مجاوزة عقبات ونيل ومقامات كثيرة أدناها الإخلاص وإخراج حظوظ النفس وملاحظة الخلق عن جميع الأعمال ظاهراً وباطناً، ثم مكاتمة ذلك عن الخلق بستر الحال حتى يبقى متحصناً بحصن الخمول: فهذه أوائل سلوكهم وأقل مقاماتهم وهي أعز موجود في الأتقياء من الناس. وبعد تصفية القلب عن كدورة الالتفات إلى الخلق يفيض عليه نور اليقين وينكشف له مبادي الحق، وإنكار ذلك دون التجربة وسلوك الطريق يجري مجرى إنكار من أنكر إمكان انكشاف الصورة في الحديدة إذا شكلت ونقيت وصقلت وصورت بصورة المرأة، فنظر المنكر إلى ما في يده من زبرة حديد مظلم قد استولى عليه الصدأ والخبث وهو لا يحكي صورة من الصور فأنكر إمكان انكشاف المرئي فيها عند ظهور جوهرة، وإنكار ذلك غاية الجهل والضلال.

فهذا حكم كل من أنكر كرامات الأولياء إذ لا مستند له إلا قصوره عن ذلك وقصور من رآه، وبئس المستند ذلك في إنكار قدرة الله تعالى، بل إنما روائح المكاشفة من سلك شيئاً ولو من مبادي الطريق، كما قيل لبشر: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ قال: كنت أكاتم الله تعالى حالي. معناه: أسأله أن يكتم على ويخفي أمري. وروي أنه رأى الخضر عليه السلام فقال له: ادع الله تعالى لي، فقال: يسر الله عليك طاعته، قلت: زدني، قال: وسترها عليك. فقيل: معناه سترها عن الخلق، وقيل: معناه سترها عنك حتى لا تلتفت أنت إليها، وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته فما غلب علي همي ولا همتي إلا أن قلت له: يا أبا العباس علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة فلم يكن لي فيها قدر ولا يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة، فقال: قل اللهم أسبل علي كثيف سترك وحط علي سرادقات حجبك واجعلني في مكنون غيبك واحجبني عن قلوب خلقك، قال: ثم غاب فلم أره ولم أشتق إليه بعد ذلك، فما زلت أقول هذه الكلمات في كل يوم، فحكي أنه صار بحيث كان يستذل ويمتهن - حتى كان أهل الذمة يسخرون به ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم وكان الصبيان يلعبون به - فكانت راحته ركود قلبه، واستقامة حاله في ذله وخموله، فهكذا حال أولياء الله تعالى، ففي أمثال هؤلاء ينبغي أن يطلبوا، والمغرورين إنما يطلبونهم تحت المرقعات والطيالسة وفي المشهورين بين الخلق بالعلم والورع والرياسة. وغيرة الله تعالى على أوليائه تأبى إلا إخفاءهم كما قال تعالى: أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري.

وقال صلى الله عليه وسلم: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره".وبالجملة فأبعد القلوب عن مشام هذه المعاني القلوب المتكبرة المعجبة بأنفسها المستبشرة بعملها وعلمها. وأقرب القلوب إليها القلوب المنكسرة المستشعرة ذل أنفسها استشعاراً إذا ذل واهتضم لم يحس بالذل، كما لا يحس العبد بالذل مهما ترفع عليه مولاه، فإذا لم يحس بالذل ولم يشعر أيضاً بعدم التفاته إلى الذل، بل كان عند نفسه أخس منزلة من أن يرى جميع أنواع الذل ذلاً في حقه بل يرى نفسه دون ذلك، حتى صار التواضع بالطبع صفة ذاته. فمثل هذا القلب يرجى له أن يستنشق مبادئ هذه الروائح، فإن فقدنا مثل هذا القلب وحرمنا مثل هذا الروح فلا ينبغي أن يطرح الإيمان بإمكان ذلك لأهله، فمن لا يقدر أن يكون من أولياء الله فليكن محباً لأولياء الله مؤمناً بهم فعسى أن يحشر مع من أحب، ويشهد لهذا ما روي أن عيسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: أين ينبت الزرع؟ قالوا: في التراب، فقال: بحق أقول لكم لا تنبت الحكمة إلا في قلب مثل التراب. ولقد انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها بإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة، حتى روي أن ابن الكريبي وهو أستاذ الجنيد دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك، فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت. وعنه أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فتشتت علي قلبي، فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت، وجعلت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي.

فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس، فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى وشغله بنفسه حجاب له، فليس بين القلب وبين الله حجاب بعد وتخلل حائل، وإنما بعد القلوب شغلها بغيره أو بنفسها وأعظم الحجب شغل النفس. ولذلك حكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً وأنا أصدق به وأحبه، فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعمله، قال: لا تقبله، قال: فاذكره لي حتى أعمل، قال: اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله! تقول لي مثل هذا! فقال أبو زيد: قولك " سبحان الله " شرك، قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمتك نفسك فسبحتها وما سبحت ربك! فقال: هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره! فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه، قال: قد قلت لك إنك لا تقبل؟. فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه ومرض بنظر الناس إليه، ولا ينجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله، فمن لا يطيق الدواء فلا ينبغي أن ينكر إمكان الشفاء في حق من داوى نفسه بعد المرض أو لم يمرض بمثل هذا المرض أصلاً، فأقل درجات الصحة الإيمان بإمكانها، فويل لمن حرم هذا القدر القليل أيضاً.

وهذه أمور جلية في الشرع واضحة وهي مع ذلك مستبعدة عند من يعد نفسه من علماء الشرع فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يستكمل العبد الإيمان حتى تكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن لا يعرف أحب من أن يعرف".

وقد قال عليه السلام: " ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه: لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله وإذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر أمر الآخرة على الدنيا".

وقال عليه السلام: " لا يكمل إيمان عبد حتى يكون فيه ثلاث خصال: إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له".وفي حديث آخر " ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السر والعلانية" فهذه شروط ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأولى الإيمان فالعجب ممن يدعي علم الدين ولا يصادف في نفسه ذرة من هذه الشروط ثم يكون نصيبه من علمه وعقله أن يجحد ما لا يكون إلا بعد مجاوزة مقامات عظيمة علية وراء الإيمان؛ وفي الأخبار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: إنما اتخذ لخلتي من لا يفتر عن ذكري ولا يكون له هم غيري ولا يؤثر علي شيئاً من خلقي وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعاً وإن قطع بالمناشير لم يجد لمس الحديد ألماً. فمن لم يبلغ إلى أن يغلبه الحب إلى هذا الحد فمن أين يعرف ما وراء الحب من الكرامات والمكاشفات؟ وكل ذلك وراء الحب والحب وراء كمال الإيمان، ومقامات الإيمان وتفاوته في الزيادة والنقصان لا حصر له. ولذلك قال عليه السلام للصديق رضي الله تعالى عنه: " إن الله تعالى قد أعطاك مثل إيمان كل من آمن بي من أمتي وأعطاني مثل إيمان كل من آمن به من ولد آدم".

وفي حديث آخر: " إن لله تعالى ثلثمائة خلق من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة "، فقال أبو بكر: يا رسول الله هل فيّ منها خلق، فقال: " كلها فيك يا أبا بكر وحبها إلى الله تعالى السخاء".

وقال عليه السلام: " رأيت ميزاناً دلي من السماء فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجحت بهم، ووضع أبو بكر في كفة وجيء بأمتي فوضعت في كفة فرجحت بهم". ومع هذا كله فقد كان استغراق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى بحيث لم يتسع قلبه للخلة مع غيره فقال: " لو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله تعالى" يعني نفسه.

خاتمة الكتاب بكلمات متفرقة تتعلق بالمحبة

ينتفع بها

قال سفيان: المحبة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال غيره: دوام الذكر، وقال غيره: إيثار المحبوب. وقال بعضهم: كراهية البقاء في الدنيا. وهذا كله إشارة إلى ثمرات المحبة فأما نفس المحبة فلم يتعرضوا لها.

وقال بعضهم: المحبة معنى من المحبوب قاهر للقلوب عن إدراكه وتمتنع الألسن عن عبارته.

وقال الجنيد: حرم الله تعالى المحبة على صاحب العلاقة. وقال: كل محبة تكون بعوض فإذا زال العوض زالت المحبة.

وقال ذو النون: قل لمن أظهر حب الله احذر أن تذل لغير الله.

وقيل للشبلي رحمه الله: صف لنا العارف والمحب؟ فقال: العارف إن تكلم هلك، والمحب إن سكت هلك.

وقال الشبلي رحمه الله:  

يا أيها السـيد الـكـريم

 

حبك بين الحشا مـقـيم

يا رافع النوم عن جفوني

 

أنت بما مر بي علـيم

ولغيره:

عجبت يقول ذكـرت إلـفـي

 

وهل أنسى فأذكر ما نسـيت

أموت إذا ذكـرت ثـم أحـيا

 

ولولا حسن ظني مـا حـييت

فأحيا بالمنى وأمـوت شـوقـاً

 

فكم أحيا عليك وكـم أمـوت

شربت الحب كأساً بعد كـأس

 

فما نفد الشرب ومـا رويت؟

فليت خياله نصب لـعـينـي!

 

فإن قصرت في نظري عميت

وقالت رابعة العدوية يوماً: من يدلنا على حبيبنا، فقال خادمة لها: حبيبنا معنا ولكن الدنيا قطعتنا عنه.

وقال ابن الجلاء رحمه الله تعالى: أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: إني إذا اطلعت على سر عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي وتوليته بحفظي.

وقيل: تكلم سمنون يوماً في المحبة فإذا بطائر نزل بين يديه فلم يزل ينقر بمنقاره الأرض حتى سال الدم منه فمات.

وقال إبراهيم بن أدهم: إلهي إنك تلعم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني بذكرك وفرغتني للتفكر في عظمتك.

وقال السري رحمه الله: من أحب الله عاش، ومن مال إلى الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، والعاقل عن عيوبه فتاش.

وقيل لرابعة: كيف حبك للرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله إني لأحبه حباً شديداً ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين.

وسئل عليه السلام عن أفضل الأعمال فقال: " الرضا عن الله تعالى والحب له ".

وقال أبو يزيد: المحب لا يحب الدنيا ولا الآخرة، إنما يحب من مولاه مولاه. وقال الشبلي: الحب دهش في لذة وحيرة في تعظيم.

وقيل: المحبة أن تمحو أثرك عنك حتى لا يبقى فيك شيء راجع منك إليك.

وقيل: المحبة قرب القلب من المحبوب بالاستبشار والفرح.

وقال الخواص: المحبة محو الإرادات واحتراق الصفات والحاجات.

وسئل سهل عن المحبة فقال: عطف الله بقلب عبده لمشاهدته بعد الفهم للمراد منه.

وقيل: معاملة المحب على أربع منازل؛ على المحبة والهيبة والحياء والتعظيم، وأفضلها التعظيم والمحبة لأن هاتين المنزلتين يبقيان مع أهل الجنة في الجنة ويرفع عنهم غيرهما.

وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه، وإذا أحبه أقبل عليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال عليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة، وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.

وقال عبد الله بن محمد سمعت امرأة من المتعبدات تقول - وهي باكية والدموع على خدها جارية -: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى وحباً للقائه، قال: فقلت لها: فعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟ وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود هذه إرادتي في المدبرين علي فكيف إرادتي في المقبلين علي، يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني وأجل ما يكون عبدي إذا رجع إلي.

وقال أبو خالد الصفار: لقي نبي من الأنبياء عابداً فقال له: إنكم معاشر العباد تعملون على أمر لسنا معشر الأنبياء نعمل عليه، أنتم تعملون على الخوف والرجاء ونحن نعمل على المحبة والشوق.

وقال الشبلي رحمه الله: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود ذكري للذاكرين، وجنتي للمطيعين، وزيارتي للمشتاقين، وأنا خاصة للمحبين.

وأوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: يا آدم من أحب حبيباً صدق قوله، من أنس بحبيبه رضي فعله ومن اشتاق إليه جد في مسيره.

وكان الخواص رحمه الله يضرب على صدره ويقول: وا شوقاه لمن يراني ولا أراه.

وقال الجنيد رحمه الله: بكى يونس عليه السلام حتى عمي، وقام حتى انحنى، وصلى حتى أقعد، وقال: وعزتك وجلالك لو كان بيني وبينك بحر من نار لخضته إليك شوقاً مني إليك.

وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته فقال: " المعرفة رأس مالي والعقل أصل ديني والحب أساسي والشوق مركبي وذكر الله أنيسي والثقة كنزي والحزن رفيقي والعلم سلاحي والصبر ردائي والرضا غنيمتي والعجز فخري والزهد حرفتي واليقين قوتي والصدق شفيعي والطاعة حبي والجهاد خلقي وقرة عيني في الصلاة".

وقال ذو النون: سبحان من جعل الأرواح جنود مجندة فأرواح العارفين جلالية قدسية فلذلك اشتاقوا إلى الله تعالى، وأرواح المؤمنين روحانية فلذلك حنوا إلى الجنة، وأرواح الغافلين هوائية فلذلك مالوا إلى الدنيا.

وقال بعض المشايخ: رأيت في جبل اللكام رجلاً أسمر اللون ضعيف البدن وهو يقفز من حجر إلى حجر ويقول:  

الشوق والـهـوى

 

صيراني كما ترى

ويقال الشوق نار الله أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات، فهذا القدر كاف في شرح المحبة والأنس والشوق والرضا، فلنقتصر عليه والله الموفق للصواب.

تم كتاب المحبة والشوق والأنس، يتلوه كتاب النية والإخلاص والصدق.